المنظومة النحويّة

الخليل بن أحمد الفراهيدي

المنظومة النحويّة

المؤلف:

الخليل بن أحمد الفراهيدي


المحقق: الدكتور أحمد عفيفي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

الرُّؤْيا) معناه : ناديناه والواو حشو على ما ذكر سيبويه النحوي» هكذا ذكر الخليل تلميذه سيبويه (١) ونسب رأيا له ولا ضير في أن يذكر الأستاذ تلميذه ، ولهذا فذكر الخليل لقطرب لا يدعو إلى الدهشة إذا تأكد لنا حرص قطرب على العلم والتبكير إليه وشغفه به ، فليس من المعقول أن يعيش بالبصرة في تلك الفترة ولا يقابل الخليل أو لا يأخذ منه شفاهة ولهذا نجد ابن خلكان يقول عن قطرب إنه «أخذ الأدب عن سيبويه وعن جماعة من العلماء البصريين» (٢) ترى من هم هؤلاء العلماء؟ لا ندري!!! وأيضا لا ندري لم سرّ هذا التجاهل لتلك العلاقة العلمية المنطقية؟ وإذا كان أبو محمد اليزيدي بن المغيرة العدوي قد توفي متزامنا مع قطرب كما يذكر ابن خلكان سنة ٢٠٢ ه‍ (٣) ولكنه «أخذ عن الخليل من اللغة أمرا عظيما وكتب عنه العروض في ابتداء وضعه له» (٤) ، أقول إذا كان «اليزيدي» تتلمذ على يد الخليل وأخذ عنه من اللغة أمرا عظيما ، بل عاش معه فترة اكتشافه لعلم العروض ، وكانت وفاته متزامنة مع قطرب. أفلا يكون الأمر مثيرا إن تجاهلت كتب التراجم شأن تلك العلاقة المفترضة بين الخليل وقطرب؟!

(ج) من الملاحظ أن قطربا قد اهتم ببعض الموضوعات التي اهتم بها الخليل ، فتذكر كتب التراجم (٥) أن له كتاب القوافي وكتاب العلل في النحو ، والخليل كان من أوائل النحاة الذين اهتموا باللغة إن لم يكن أولهم على الإطلاق. يقول أبو القاسم الزجاجي (٦) : «وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد ـ رحمه الله ـ سئل عن العلل التي يعتلّ بها في النحو ،

__________________

(١) وانظر رأي سيبويه في الكتاب ٣ / ١٦٣ وقد علق سيبويه على الآية : وناديناه أن ... قائلا : كأنه قال جلّ وعزّ : ناديناه أنّك قد صدقت الرؤيا يا إبراهيم».

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢.

(٣) السابق ٧ / ١٨٩.

(٤) السابق ٧ / ١٨٤.

(٥) الأعلام ٧ / ٩٥ وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢.

(٦) الإيضاح في علل النحو تحقيق الدكتور مازن المبارك انظر ص ٦٥.

١٠١

فقيل له : عن العرب أخذتها أم أخترعتها من نفسك؟ فقال : إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها ، وعرفت مواقع كلامها ، وقام في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها ، اعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست ، وإن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام وقد صحت عنده حكمة بانيها ...»

وعلق الزجاجي في نهاية نص الخليل قائلا : «وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه».

وإذا كان ـ على ما يبدو ومن الخبر السابق ـ أن الخليل أول من تحدث عن العلة ، وقطرب أول من ألف عنها كتابا مستقلا. ألا يمكن أن يكون هذا تأثيرا مباشرا من أستاذه الخليل؟ ومثل هذا أيضا يقال عن علم القوافي الذي كان الخليل أول من تحدث عنه ، وكان قطرب من أوائل ـ إن لم يكن أول ـ من ألّف كتابا عنه. ألا يكون الأمر منطقيا عند ما نقول إنه تأثير من الخليل مباشر على قطرب؟

ونضيف إلى ما سبق أن كثرة مؤلفات قطرب إلى حد لافت للنظر يمكن أن تؤدي إلى التأكيد على وجود سرّ ما في تجاهل كتب التراجم لعرض حياة قطرب تفصيلا ، فقطرب «له من التصانيف كتاب معاني القرآن وكتاب الاشتقاق وكتاب القوافي وكتاب النوادر وكتاب الأزمنة وكتاب الفرق وكتاب الأصوات وكتاب الصفات وكتاب العلل في النحو وكتاب الأضداد وكتاب خلق الفرس ، وكتاب خلق الإنسان وكتاب غريب الحديث وكتاب الهمز ، وفعل وأفعل والردّ على الملحدين في تشابه القرآن وغير ذلك» (١).

ولعل فيما مضى أدلة على عدم الغرابة في أن يذكر الخليل قطربا وينسب رأيا ما له ، مما يؤدي ـ في نهاية الأمر ـ إلى القول بأن ذكر قطرب في

__________________

(١) الأعلام ٧ / ٩٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢.

١٠٢

المنظومة النحوية للخليل لا يمثل مشكلة ما في نسبتها إليه أو التشكك في تلك النسبة.

ثالثا : ملاحظة أخرى بالنسبة للأعلام الواردة في المنظومة النحوية للخليل وهي أن العلمين (زيدا وعمرا) أخذا نصيب الأسد بين الأعلام. فقد تكرر (زيد) سبع عشرة مرة و (عمرو) ثلاث عشرة مرة ، بل إن الخليل ذكر (زيدا) مرتين في البيت الواحد (١) ، بل والغريب أن (زيدا) هو أول علم ورد عند ما احتاج الخليل للتمثيل (٢) وأيضا جاء هو نفسه آخر علم وارد في المنظومة للتمثيل (٣) ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تكرر في آخر بيت للتمثيل.

ومن اللافت للنظر أن النحويين المتأخريين عن الخليل قد اكثروا من التمثيل بالعلمين (زيد وعمرو) حتى صار (زيد وعمرو) مضرب المثل عند غير المتخصصين من المثقفين أو أنصاف المثقفين ، أو حتى عند عوام الناس ، ترى هل كان كل ذلك بتأثير من استخدام الخليل لهذين العلمين باعتبار أن هذه المنظومة النحوية هي أول منظومة في النحو العربي؟ أو أن ذلك جاء عن طريق المصادفة.

فالمتأمل لكتاب سيبويه يجد أنه أكثر من التمثيل بزيد وعمرو أيضا ، وسيبويه كان التلميذ النابه للخليل. هل يمكن أن يكون ذلك دليلا على العلاقة الوطيدة بين الخليل وسيبويه؟ وإن ذلك تأثير مباشر من الخليل على سيبويه حتى في طريقة التمثيل!! وخاصة أننا نعلم مدى إفادة سيبويه من أستاذه الخليل. ربما كانت الإجابة بنعم ، ويعد ذلك دليلا آخر على صحة نسبة هذه المنظومة النحوية إلى الخليل.

أما بقية الأعلام التي مثّل بها الخليل فلم نتوقف أمامها ، فهي أعلام كثيرة ، منها ما هو شائع ومنها ما هو غير شائع ، وذلك كله في حيّز التمثيل.

__________________

(١) البيت رقم ٢٨٩.

(٢) البيت رقم ٢٨.

(٣) البيت رقم ٢٨٩.

١٠٣

فكلمة (أحمد) وهو اسم والد الخليل لم ترد إلا مرتين (١) و (عبد الله) تسع مرات و (محمد) خمس مرات. وهذه من الأعلام التي كانت بدأت تشيع في تلك الفترة ، أما (شوزب والنضير ومعمّر وقعنب وجندب والزبرقان وأشعب وعمران ... إلخ) فهي من الأسماء غير الشائعة اليوم ، وربما كانت شائعة في زمانها وبيئتها مما أدى إلى استخدام الخليل لها ، وكل ذلك لا يؤدي إلى شيء يستحق التوقف أمامه.

بيان بالأعلام الواردة في منظومة الخليل (٢)

رقم البيت

الوارد من الأعلام

٢٨

٣٠

٣٤

٣٦

٣٧

٣٩

٤٠

٤٣

٤٧

٤٨

٤٩

٥٠

٥٢

زيد ـ عمرو

حوشب

عامر ـ سعيد ـ عمرو

عبد الله ـ محمد

الوليد

عامر ـ خالد ـ سالم

عبد الله ـ عمرو

عبد الله

عمرو

عبد الله ـ خالد ـ أبو المغيرة

زيد

محمد

عمرو

__________________

(١) البيت ١٠٠ ، البيت ٢٧٥.

(٢) هذه الأعلام وردت على سبيل التمثيل فيما عدا (قطرب) ، وهو العلم الوحيد الذي جاء لإسناد رأي له كما أوضحنا سابقا.

١٠٤

رقم البيت

الوارد من الأعلام

٥٣

٥٥

٥٧

٥٩

٦١

٦٤

٦٥

٧٤

٧٥

٧٧

٧٩

٨٠

٩١

٩٨

١٠٠

١٠٤

١٠٥

١٠٦

١٠٨

١١٠

١١٣

١١٥

١١٧

١١٨

١٢٢

خالد

مصعب

عمرو

زيد

عبد المهيمن ـ معمّر

زيد

عمرو

معتب

عمرو

زيد ـ عمرو

معتب

محمد

قطرب

زيد

أحمد

زيد ـ داود ـ مالك ـ يزيد ـ زينب

بكر ـ عمّار ـ عمرو ـ وهب ـ حماد

جندب

المهلّب

زيد ـ الضحّاك

حارث ورخمت (حار)

زينب

زيد

مقنب

زيد ـ تغلب

١٠٥

رقم البيت

الوارد من الأعلام

١٢٣

١٣١

١٣٢

١٣٤

١٤٢

١٤٤

١٤٦

١٤٨

١٥١

١٥٣

١٥٩

١٦٠

١٦١

١٦٢

١٦٦

١٧١

١٧٣

١٧٤

١٨١

١٨٢

١٩١

١٩٦

٢٠٥

٢١١

٢١٣

نصير ـ مرحب

محمد ـ يزيد

عبد الله ـ محمد

عبد الله

محمد

جابر

دعد ـ شوزب

نصير ـ زيد

النّضير

ابن مساور

هشام ـ عوف ـ حسين

زيد

عمّار ـ بكر ـ عبد السّلام

معبد ـ زرارة ـ الزبرقان

عامر ـ زيد

الوليد

عمرو

عبد الله

عبد الله

زيد ـ المغيرة

زيد

عبد الله

محمد ـ الوليد

أشعب

مروان

١٠٦

رقم البيت

الوارد من الأعلام

٢١٥

٢٢٤

٢٢٧

٢٣٦

٢٦٥

٢٦٦

٢٦٧

٢٦٨

٢٩٩

٢٧٥

٢٧٨

٢٧٩

٢٨٩

زيد ـ عمرو ـ مهلّب

حوشب

عمرو

قعنب

حسان ـ عامر ـ أبو عثمان

أبو عمران

عمران

عليّ

سنان

أحمد

هند ـ دعد ـ كلثم ـ سعاد ـ مخلب

كلثم ـ سعاد

خالد ـ زيد

__________________

(١) ذكر (زيد) في البيت ٢٨٩ مرتين ، وختمت به الأعلام ، والملاحظ أن الخليل بدأ به في البيت رقم ٢٨ وانتهى به أيضا ، ترى هل تكون شهرة التمثيل بزيد وعمرو عند النحاة لأن الخليل أكثر من استخدامه لهما ، فقد ورد (زيد) سبع عشرة مرة ، وورد عمرو ثلاث عشرة مرة ، وهما أكثر علمين استخداما في المنظومة.

١٠٧

خامسا : عناوين الخليل في المنظومة النحوية

يستطيع المتأمل لعناوين الخليل في هذه المنظومة التي وصلت إلى سبعة وأربعين عنوانا أن يلاحظ ما يلي :

أولا : قصر عناوين الخليل نسبيا ، وذلك إذا قيست بعناوين الكتب النحوية التي جاءت بعده مثل كتاب سيبويه الذي كان للخليل دور كبير فيه بآرائه المذكورة ، والخليل ـ في ذلك ـ متسق مع نفسه حيث كتب هذه المنظومة النحوية ـ في غالب الأمر ـ للشادين في حقل النحو ، ومن هنا لا بد من التيسير ، فوجدناه في عناوينه ، كما وجدناه في كفية تناول القضايا النّحوية التي طرحها ؛ حيث جاء كل ذلك سهلا وميسرا دون إسراف في الطول أو تعقيد في الأداء ، ويبدو أن هذه كانت هي سمة الخليل بشكل عام ، حيث اتسم كتاب (الجمل في النحو العربي) بهذه السمة أيضا ، ولم يبتعد الخليل في (العين) عن هذا التناول في الكلام عن معاني الكلمات ، فالملاحظ أنه كان يصل إليها من أقصر طريق ، وإن كنا لسنا على وجه اليقين من أن الخليل هو الذي وضع هذه العناوين إلا أن هذا الاتساق ، وهذا المنهج التسهيلي الذي اتسم بقرب التناول يرجح أن هذه العناوين من وضع الخليل لا من وضع غيره.

وهذه العناوين التي وصلت إلى سبعة وأربعين عنوانا ، جاء منها أربعة وثلاثون عنوانا ما بين كلمة واحدة أو اثنتين أو ثلاث بعد حذف كلمة باب ، وتسعة عناوين ، كلماتها من أربع إلى ست ، والباقي وهو عبارة عن أربعة عناوين وصلت كلماتها إلى سبع كلمات أو أكثر ، هذه العناوين الأربعة هي :

باب (أي) إذا ذهبت مذهب ما لم يسمّ فاعله

باب (أي) إذا ذهبت مذهب الفاعل والمفعول به

١٠٨

باب (الذي ومن) وما اتصلا بها وهي المعرفة

باب (إذا) قدّمت الأسماء على الأخبار تقديم الفعل

ومقارنة بعناوين سيبويه نجد أن الخليل كان مقتصدا إلى حد كبير ، وفيما يلي نموذجان من عناوين سيبويه :

يقول سيبويه : «هذا باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل المتروك اظهاره ، لأنه يصير في الأخبار والاستفهام بدلا من اللفظ بالفعل ؛ كما كان (الحذر) بدلا من (احذر) في الأمر» ، وكان يمكن اختصار كل هذا بقوله : (مواضع حذف عامل المفعول المطلق) إلا أنه كان يميل إلى العناوين التفصيلية.

النموذج الثاني لعناوين سيبويه هو قوله (١) هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما أشبهها من الصفات التي ليست بعمل ، وما أشبه ذلك مجرى الفعل إذا أظهرت بعده الأسماء أو أضمرتها»

وكان يمكن اختصار كل هذا بقوله : (باب الأسماء العاملة عمل الأفعال) ..

ويبدو أن سيبويه كان يحب هذه العناوين التي تفصل للقارئ المراد ، فكل عناوين (الكتاب) على هذا النمط إلا قليلا ، وهذا على العكس مما كان يفعله الخليل ، الذي جاءت عناوينه في المنظومة معبّرة ، حتى العناوين التي اتسمت بالطول ـ إلى حد ما ـ تعد قصيرة إذا قيست بعناوين سيبويه ، ومثال ذلك النماذج الأربعة المذكورة منذ قليل ومثال العناوين القصيرة لدى الخليل قوله :

باب رفع الاثنين ـ باب حرف الجر ـ باب الفاعل والمفعول ـ باب الترخيم ـ باب الجزم ... الخ.

ثانيا : مزج الخليل بين العناوين الكلية التي تضم بابا نحويا كاملا ، والعناوين الجزئية التي تغطي جانبا محدودا في باب نحوي كبير ، إلا أن السمة الغالبة لديه هي تلك العناوين الجزئية.

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٣٥.

١٠٩

فأمثلة العناوين الكلية : باب حروف كان وأخواتها ، باب حروف إن وأخواتها ، باب الترخيم ، باب الاستثناء ، باب المعرف ، باب النكرة ، باب ما يجري وما لا يجري (المنصرف وغير المنصرف).

وأمثلة العناوين الجزئية : باب التاء الأصلية وغير الأصلية (عمّات وأبيات) باب النداء المفرد ، باب النداء المضاف ، باب كم إذا كنت مستفهما بها. الخ.

ولم يكن الخليل يحبذ الاتيان بالعنوان الكلي ، ثم يأتي تحته بالعناوين الجزئية ، فالعنوان الكلي تندرج جميع جزئياته تحته ويأتي بالجزئي بعده لموضوع آخر.

ثالثا : غرابة بعض العناوين لديه

ترد عند الخليل بعض العناوين التي لا تعطي معناها ، ولا يفهم المقصود منها إلا إذا قرئت المادة النحوية المدرجة تحتها.

ومن أمثلة ذلك : باب ضاربين ، وهو يقصد الأسماء العاملة عمل الأفعال إن أضيفت وجرّ ما بعدها ، أو نونت ونصب ما بعدها ، حيث يقول الخليل تحت هذا العنوان.

فتقول ضارب خالد أو ضارب

زيدا ، وزيد خائف يترقب

إن أنت نونّت الكلام نصبته

فتصح منه فروعه والمنصب

رابعا : نجد أحيانا بعض العناوين المحيّرة ، التي يصعب الربط بينها وبين ما يندرج تحتها من قواعد ، ومثال ذلك عنوان أطلق عليه الخليل : (باب مررت) قال تحت هذا العنوان (١) :

ومررت بالرجل المحدث جالسا

وبعبد سوء جالسا لا ينسب

وإذا جمعت مذكرا ومؤنثا

فالفعل للذكران منهم يغلب

ثم ذكر بيتين يشير فيهما إلى أن المعرفة تغلّب على النكرة ، وأتى بمثال دال على ذلك وقع حالا لصاحبه المتنوع بين التعريف والتنكير ولا أدري ما سرّ الربط بين تغليب المذكر على المؤنث ، وتغليب المعرفة على النكرة وباب مررت.

__________________

(١) انظر الأبيات ٢٤٢ إلى ٢١٤٦.

١١٠

وما انطبق على باب (مررت) ينطبق على باب أطلق عليه الخليل :

باب (كل شيء حسنت فيه التاء) ، ويقول فيه (١) :

وتقول لا حول لنا ولا ناصر

للمرء إلا الواحد المترقب

فإذا تقدمت الصفات فرفعها

لا عندنا رجل يصيد مكلّب

ولا أدري ما سرّ العلاقة بين الشيء الذي حسنت فيه التاء وبين (لا) النافية المهملة أو العاملة عمل ليس وكذلك الصفات التي جاءت بمعنى الأخبار ، وقد سبق الكلام عليها عند الكلام عن مصطلحات الخليل.

وقد جاء عنوان : باب (النداء المضاف) غير مطابق لما بعده أيضا حيث تكلم تحت هذا العنوان عن العطف على النداء المفرد بالكلمات المقترنة بأل قائلا (٢) :

يا زيد والضحاك سيرا نحونا

فكلاهما عبل الذراع مجرّب

إن تفسيري لهذه الظاهرة هو أن هذه العناوين وضعت خطأ لهذه الأبيات حيث حدث سقط لبعض الأبيات وبعض العناوين ، فجاء هذا الاضطراب من النساخ ، وخاصة أنه ليس بين أيدينا النسخة الأصلية ، وربما نجد نسخة ، أخرى فيما بعد تستقيم بها العناوين مع القواعد المدرجة تحتها ، تكون أقدم تاريخا وأصح رواية ، وأكثر استقامة.

خامسا : يطلق الخليل ـ أحيانا ـ الباب على الكلمات التي تحتاج إلى معالجات خاصة ، وفي هذه الحالة يكون العنوان منسوبا إلى تلك الكلمات ، لا منسوبا إلى القضية النحوية التي يعالجها مثل باب (حسب) (قطك وقدك) باب (ويح وويل) في الدعاء ، باب (رب وكم) ، باب (مذ ومنذ) ، باب (كم إذا كنت مستفهما بها) ، باب (إذا أردت أمس بعينه).

وهذه الأبواب عبارة عن معالجات خاصة لبعض الكلمات لا تحتمل بابا نحويا مستقلا ، ولكن الخليل سمّاها أبوابا ، هذه الطريقة وجدت فيما بعد عند سيبويه في (الكتاب) وعند السيرافي في شرحه لكتاب سيبويه ، ويبدو أن ذلك كان من تأثير الخليل.

__________________

(١) البيتان ٢٦٠ ، ٢٦١.

(٢) البيت ١١٠.

١١١

سادسا : قضايا نحوية للمناقشة

هذه مجموعة من القضايا النحوية التي تستحق التوقف أمامها لما لها من طبيعة خاصة في تناول الخليل لها ، إما من ناحية كيفية معالجة الخليل لها ، أو من ناحية وضعها تحت عنوان له طابع خاص أو كيفية تعامل الخليل مع قضايا النحو العربي دلاليا من خلال ظاهرة الاكتمال أو النقصان الدلالي ـ وسوف تأتي ـ أو ما يمكن أن يوحي به رأي الخليل في وجود تعارض بين رأيه الوارد في المنظومة ورأيه الوارد في كتاب سيبويه أو ما أشبه ذلك ، وهذه القضايا استحقت منا التوقف لسببين :

الأول : هذا التناول يكشف أمرها ويستجلي حقيقتها.

الثاني : ما يمكن أن يضيفه تناول هذه القضايا من وجود تشابه قوي بين آراء الخليل في المنظومة وآرائه الواردة في مصادر أخرى مثل : العين ـ الكتاب ـ الجمل ـ ولعل ذلك يكشف أيضا صحة نسبة هذه المنظومة إلى الخليل ، وفيما يلي نفرد لكل قضية حديثا مستقلا :

١ ـ أمس بين الإعراب والبناء عند الخليل

يقول الخليل في باب «إذا أردت أمس بعينه» (١) :

فإذا قصدت تريد أمس بعينه

فالخفض حليته الذي يستوجب

يشير الخليل إلى بناء «أمس» إذا كانت للدلالة على يوم معين ، وهو اليوم الذي قبل يومنا مباشرة ، وبناؤها على الكسر (الخفض) ، وشرطها الثاني ألا تقترن بالألف واللام ، فإن اقترنت أعربت ، يقول الخليل :

فتقول كنت أسير أمس فعنّ لي

شخص فأقبلت الدموع تحلّب

وتقول إن دخلته لام قبلها

ألف مضى الأمس البعيد الأخيب

__________________

(١) المنظومة البيت رقم ٢٥٢ واقرأ بقية الأبيات حتى ٢٥٦.

١١٢

ولقد رأيت الأمس خيلك كالقطا

وعلى فوارسهن برد مذهب

فأمثلة الخليل (مضى الأمس) (بالرفع) ، (ورأيت الأمس) (بالنصب) تشير إلى إعرابها في هذه الحالة ، وما قاله الخليل كان عليه معظم النحاة (١).

ف (أمس) تبنى مع التعريف بدون أل ، إذا أريد بها اليوم الذي قبل يوم التكلم ، وتعرب إذا أريد بها التنكير ، ذلك البناء بشرط ألا تقترن بها (أل) أو تجمع أو تضاف أو تصغّر (٢).

ويضيف الخليل شرطا آخر ورد في الكتاب وهو ألا يسمّى بها (٣) ويظهر ذلك من النص التالي :

يقول سيبويه (٤) : «وسألته (أي الخليل) عن (أمس) اسم رجل؟ فقال مصروف ؛ لأن (أمس) ليس هنا على الحدّ (٥) ولكنه لما كثر في كلامهم وكان من الظروف تركوه على حال واحدة ، كما فعلوا ذلك ب (أين) ، وكسروه كما كسروا (غاق) إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب ، كما أن حركة (غاق) لغير إعراب ، فإذا صار اسما لرجل انصرف ؛ لأنك قد نقلته إلى غير ذلك الموضع ، كما أنك إذا سمّيت ب (غاق) صرفته ومن الواضح الذي لا شك فيه أن كلام الخليل صريح في أن كسرة (أمس) إنما هي «حركة تدخله لغير إعراب».

وناقل الكلام عن الخليل سيبويه نفسه الذي قال في موضع آخر من الكتاب (٦) «وزعم الخليل أن قولهم : لاه أبوك و (لقيته أمس) ، إنما هو على :

(لله أبوك) ، و (لقيته بالأمس) ، ولكنهم حذفوا الجار والألف واللام تخفيفا على اللسان». ويبدو أن سيبويه فهم من كلام أستاذه واحدا من المعنيين التاليين :

__________________

(١) لكاتب هذه السطور حديث طويل عن (أمس) في كتاب التعريف والتنكير في النحو العربي من ص ١٧٥ إلى ص ١٨٣.

(٢) حاشية الصبان ١ / ٦٣ ، شرح الأشموني ٣ / ٢٦٧.

(٣) الكتاب ٣ / ٢٨٣.

(٤) الكتاب ٣ / ٢٨٣.

(٥) أي في الدلالة على معين من الأيام.

(٦) الكتاب ٢ / ١٦٢ ، ١٦٣.

١١٣

الأول : أن التعريف أو التعيين أو القصد إلى (أمس) بعينه إنما جاء من قبيل تضمن (أمس) معنى لام التعريف التي حذفت تخفيفا وذلك سبب بناء الكلمة.

الثاني : وهو معنى ـ أظنه مستبعدا ـ أن يكون سيبويه قد فهم من كلام الخليل أن حرف الجر جرّ الكلمة ، وعلى هذا تكون الكلمة معربة ، وسبب الحذف ـ كما قال الخليل ـ نقلا عن سيبويه (١) «أن المجرور داخل في الجار فصارا عندهم بمنزلة حرف واحد ، فمن ثمّ قبح ، ولكنهم قد يضمرونه ويحذفونه فيما كثر من كلامهم ، لأنهم إلى تخفيف ما أكثروا استعماله أحوج».

وقد أدى فهم أحد المعنيين ، أو ربما كليهما أن يقول سيبويه (٢) تعليقا على كلام الخليل «ولا يقوي قول الخليل في أمس ، لأنك : (تقول ذهب أمس بما فيه) ؛ أي أن كلمة (أمس) جاء بالبناء على الكسر وهي فاعل ، ولا يصح تقدير ذهب بالأمس لاختلال الدلالة ف (أمس) فاعل ولا يصح هذا التقدير مع الفاعل.

أما عن المعنى الأول فالقصد فيه بيان كيف جاء التعريف والتعيين في كلمة (أمس) هذا التعيين كان سببا في البناء ، ويبدو أن هذا رأي لبعض النحويين جاءوا بعد الخليل.

فالسيوطي ينقل عن ابن القواس في شرح الدرة قوله (٣) : «أمس مبنيّ لتضمنه معنى لام التعريف ، فإنه معرفة بدليل أمس الدابر وليس بعلم ولا مبهم ولا مضاف ولا مضمر ولا بلام ظاهرة فتعين تقديرها».

وقول صاحب البسيط (٤) : «ولو لا أنه معرفة بتقدير اللام لما وصف بالمعرفة ، لأنه ليس أحد المعارف ، وهذا مما وقعت معرفته قبل نكرته».

والخليل ربط ربطا قويا بين بناء (أمس) ودلالتها على معين ولم يشر إلى كيفية ذلك في المنظومة ، وإن كان واضحا أن القصد والتعريف هما سبب

__________________

(١) الكتاب ٢ / ١٦٣.

(٢) الكتاب ٣ / ١٦٤.

(٣) الأشباه والنظائر ١ / ١٢٦.

(٤) الأشباه والنظائر ١ / ١٢٦.

١١٤

البناء مشترطا عدم وجود (ال) ظاهرة في السياق ، هذا من خلال أبيات المنظومة وكذلك مما ورد عنه صراحة في كتاب الجمل حيث يقول (١) تحت عنوان «الخفض بالبنية» : «و (أمس) أيضا مخفوض في الفاعل والمفعول به تقول : (أتيته أمس) ، و (ذهب أمس بما فيه) ، و (كان أمس يوما مباركا) ، وإن أمس يوم مبارك). فإذا أدخلت عليه الألف واللام ، أو أضفته إلى شيء أو جعلته نكرة أجريته. تقول : (كان الأمس يوما مباركا) ، وإن الأمس الماضي يوم مبارك ، و (كان أمسكم يوما طيبا). قال الشاعر :

ولا يدرك الأمس القريب إذا مضى

بمرّ قطاميّ من الطير أجدلا (٢)

وقال زهير :

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عمي

فأجراه».

من خلال القول السابق للخليل يظهر لنا الربط الواضح بين البناء والدلالة على معين والإعراب (الإجراء) على حد القول السابق للخليل : «فإن جعلته نكرة أجريته» ويشترط لبنائه أيضا عدم دخول (ال) عليه أو إضافته.

يبدو مما سبق التوافق واضحا بين رأي الخليل الوارد في المنظومة وفي كتابه الجمل ، وفي كتاب سيبويه (٣) عند ما أشار إلى أن الحركة في (أمس) لغير الإعراب. من هنا فلا تناقض بين المواضع الثلاثة.

وعلى هذا يمكن القول : إذا كان اعتراض سيبويه على الخليل من ناحية أن معنى التعريف كامن في كلمة «أمس» بالبناء والدلالة على معين دون تقدير (ال) ؛ أقول : إذا كان القصد كذلك فإن سيبويه محق كل الحق ، ويكون اعتراضه جيدا وفي مكانه الصحيح ، لأن الارتباط بين الشكل والمعنى في كلمة (أمس) بالبناء ملموس ، بل ومؤكد ، فهي معرفة بالبناء على الكسر إذا

__________________

(١) الجمل للخليل ١٨١.

(٢) البيت من قول الشاعر القطامي الجمل ٣٦٠.

القطامي : الصقر ، والأجدل الشديد.

(٣) الكتاب ٣ / ٢٨٣.

١١٥

قصد بها يوم معين ، فإذا دلت على ماض غير محدد فإنها تنون وتتحول من البناء إلى الإعراب ، فالشكل ارتبط بالدلالة دون احتياج لتقدير (ال) مما جعل ابن يعيش يقول (١) عن (أمس) بالبناء : «إن (أمس) قد حضر وشوهد فحصلت معرفته بالمشاهدة وأغنى ذلك عن العلامة» أي عن تقدير (ال) ، ويكون رأي سيبويه معبرا بقوة عن هذه الحالة.

أما إذا كان المعنى الثاني هو المقصود ، وهو إعراب كلمة (أمس) بالجر فإن الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية مع سيبويه ، ويتضح الأمر فيما يلي :

أولا : ما صرّح به الخليل أكثر من مرّة أن حركة (أمس) حركة دخلته لغير الإعراب (٢) ويؤكد من أنه يقصد بغير الإعراب البناء ما رواه الأصمعي المتوفى سنة ٢١٦ هجرية من أنه سأل الخليل : لم خفض أمس؟ فقال الخليل (٣) : «بني ك (حذام وقطام) لأنه لم يتمكن تمكّن الأسماء» والبناء هنا ضد الإعراب.

ثانيا : إذا كان قصد سيبويه صحيحا واستقام فهمه للخليل على أنه يقصد إعراب (أمس) فإن ذلك لا يعني رأي الخليل ، لأن سيبويه نفسه نقل عن الخليل في آخر كلامه عبارة تقول : «سمعنا ذلك ممن يرويه عن العرب» (٤) ، بل إن سيبويه نفسه يقول في بداية الكلام عن هذا الموضع «وزعم الخليل» فيتوافق أول الكلام (زعما) مع آخره (سماعا) عن العرب ، ولعل ذلك إشارة إلى أن هذا القصد ليس من رأي الخليل.

ثالثا : ربما كان كلام الخليل عن موضع خاص ، انه يتحدث عن التشابه بين (لاه أبوك) و (لقيته أمس) قائلا : (٥) «إنما هو على : (لله أبوك ولقيته

__________________

(١) شرح المفصل ٤ / ١٠٧.

(٢) الكتاب ٣ / ٢٨٣.

(٣) مراتب النحويين ص ٦٣.

(٤) الكتاب ٢ / ١٦٤.

(٥) الكتاب ٢ / ١٦٢.

١١٦

بالأمس) ، ولكنهم حذفوا الجار والألف واللام تخفيفا على اللسان ، وليس كل جار يضمر ، لأن المجرور داخل في الجار» فالمثال «لقيته بالأمس» مختلف عن المثال الذي أورده سيبويه وهو «ذهب أمس بما فيه».

والمثال الأخير يتوافق تماما ، بل وتتوافق آراء سيبويه والخليل حتى في الأمثلة فيما ورد في كتاب الجمل (١) ويبدو أن كلام الخليل ارتبط بموقف خاص مقارنة بالمثال (لاه أبوك) ولم يكن الكلام على سبيل العموم ، ولعل المثال التالي الذي ورد عند الخليل في كتاب الجمل يثبت ذلك. يقول الخليل ويقال (صمام) أيضا ، كما قال الشاعر (٢) :

غدرت يهود وأسلمت جيرانها

صمّا لما فعلت يهود صمام

ترك التنوين في (يهود) ونوى الألف واللام فيه ولو لا ذلك لنوّن».

وربما كان قصد الخليل من تحليل (لقيته أمس) على مثال (غدرت يهود) فليست الكسرة كسرة بناء ويكون المعنى على أن الأمس ليس معينا ، وتكون (ال) المقدرة للعهد ، و (الأمس) معناه اليوم الماضي المعهود بين المتخاطبين وليه يومنا أم لا ، وأيضا ليست الضمة في (يهود) ضمة بناء لأن الكلمة ليست مبينة ، ولهذا فمن رأيي أن يكون كلام الخليل مرتبطا بهذا الموقف الخاص ، ومما قاله الخليل يؤكد هذا الرأي قوله : وليس كل جار يضمر» (٣).

رابعا : لعل عدم ثبات معنى المصطلحات النحوية هو الذي صنع هذا الموقف ، فربما كان استخدام الخليل للكلمات (الجار) (الجر) (المجرور) (٤) مع كلمة (أمس) وغالبا ما يستخدم (الجر والمجرور) في حالة الإعراب ـ أقول ربما كان استخدام الخليل لهذه المصطلحات في الحديث عن كلمة (أمس) عاملا على فهم سيبويه على أن الخليل يقصد الإعراب ، فقد جاء في مجالس

__________________

(١) الجمل ١٨١.

(٢) الأسود بن يعفر شرح الأشموني ٣ / ٨١ شرح الشواهد للعيني ٤ / ١١٢ اللسان (صمم) وصما ، أي صمّى صما والمعنى : زيدي ، وصمام : الداهية.

(٣) الكتاب ٢ / ١٦٣.

(٤) الكتاب ٢ / ١٦٣.

١١٧

العلماء (١) «أن الخليل سأل الأصمعي أن يفرّق بين مصطلحي الخفض والجر» فقد ظل التناوب بين المصطلحين للمعرب والمبني قائما لدى الخليل فيما ورد عنه ، ففي (الجمل) (٢) : قال «تفسير وجوه الخفض ، وهي تسعة : خفض بعن وأخوتها ، وخفض بالإضافة وخفض بالجوار ... إلخ» ثم قال (٣) «فالجر بعن وأخوتها قولك عن محمد ولعبد الله ... إلخ» والملاحظ أن ذلك في حالة الإعراب ، وعند ما تكلم عن حالة بناء (أمس) على الكسر قال (٤) «وأمس أيضا مخفوض في الفاعل والمفعول به. تقول : أتيته أمس» إذن لم يكن هناك تفريق بين الخفض والجر ، وإن كان هناك تفريق بين الإعراب والبناء غالبا لدى الخليل كما رأينا منذ قليل.

خامسا : فهم السيرافي للخليل على أنه يقصد في (أمس) البناء ؛ فعندما قال سيبويه (٥) : «وسألت الخليل عن قوله : (فداء لك) ، فقال : بمنزلة (أمس) ؛ لأنها كثرت في كلامهم ؛ والجرّ كان أخف عليهم من الرفع ، إذا أكثروا استعمالهم إياه وشبهوه بأمس ، ونوّن لأنه نكرة ، فمن كلامهم أن يشبهوا الشيء بالشيء ، وإن كان ليس مثله في جميع الأشياء». يعلق السيرافي على قول الخليل «بمنزلة أمس» قائلا (٦) يعني أنه مبني. وإنما بني لأنه وضع موضع الأمر : كأنه قال : (ليفدك أبي وأمّي) فبناء كلمة «أمس» عند الخليل كان واضحا لدى السيرافي وهو ضد الإعراب.

لم يبق إذا في نهاية الأمر إلا أن نقول : لعل سيبويه كان يقصد المعنى الأول وهو تعريف (أمس) ودلالتها على معين عن طريق تقدير (ال) ولهذا اعترض عليه ، وفي اعتراضه وجاهة ومنطق ، ويبقى القول : بأنه لا تناقض بين الوارد عن الخليل في (الكتاب) أو (المنظومة) أو (الجمل) ، فاتسقت الأقوال دون تعارض أو مخالفة إلا في محاولة تفسير أو فهم ، دون أن يمسّ جوهر الموضوع أو يظهر نوع من التناقض فيما روي عنه.

__________________

(١) مجالس العلماء ٢٥٣.

(٢) الجمل ١٧٢.

(٣) السابق نفسه.

(٤) السابق ١٨١.

(٥) الكتاب ٣ / ٣٠٢.

(٦) الكتاب ٣ / ٣٠٢ (هامش) نقلا عن شرح كتاب سيبويه للسيرافي.

١١٨

٢ ـ حتى وعملها

يقول الخليل تحت باب (حتى) إذا كانت غاية (١) :

وإذا أتت حتى وكانت غاية

فاخفض وإن كثروا عليك وألّبوا

فتقول قد خاصمت قومك كلهم

حتى أخيك لأن قومك أذنبوا

واستمر الخليل في التمثيل ليؤكد أن (حتى) لا تجر الاسم بعدها إلا إذا كان معناها للغاية ، فإذا لم يكن كذلك فقد يرفع ما بعدها على الابتداء أو الفاعل أو نائبه ، أو ينصب على المفعولية ، وذلك إذا جاء فعلها بعدها؟ هذا الفعل الذي لا يكذب في عمله رفعا أو نصبا أو على حدّ قول الخليل (٢).

لما أتيت بفعلها من بعدها

أجريت بالفعل الذي لا يكذب

وهذا المعنى نفسه يؤكده الخليل في كتابه (الجمل) (٣) عند ما يقول :

«والخفض بحتى إذا كان على الغاية قولهم : كلمت القوم حتى زيد معناه :

(حتى بلغت إلى زيد ومع زيد). وقال الله جل ذكره : (٤) (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). معناه إلى مطلع الفجر.

و (حتى) فيه ثلاث لغات ، تقول : (أكلت السمكة حتى رأسها) و (حتى رأسها) ، (وحتى رأسها).

النصب : (حتى أكلت رأسها) [على أنها مفعول به].

والرفع : (حتى بقي رأسها) [فاعل].

والخفض : (حتى وصلت إلى رأسها) ، وأكلت السمكة مع رأسها [على الغاية] وإن شئت قلت : (رأسها) على الابتداء. قال الشاعر (٥).

__________________

(١) المنظومة البيت ١٣٥ وما بعده.

(٢) المنظومة البيت ١٣٩.

(٣) الجمل في النحو العربي ١٨٤.

(٤) سورة القدر الآية ٦.

(٥) البيت نسب في الكتاب لابن مروان النحوي ١ / ٩٧ وقد علق الأستاذ عبد السّلام هارون محقق الكتاب قائلا : والصواب : أنه مروان النحوي الكتاب ١ / ٩٧ (هامش) وانظر معجم الأدباء ١٩ / ١٤٦ ، شرح المفصل ٨ / ١٩ شرح الأشموني ٣ / ٩٧ شرح الشواهد للعيني ٣ / ٩٧ بغية الوعاة ٢٩٠.

١١٩

ألقى الحقيبة كي يخفف رحله

والزاد حتى نعله ألقاها

و: حتى نعله ألقاها [بالنصب]. النصب حتى ألقى نعله ، والرفع حتى ألقي نعله [نائب فاعل] ، وإن شئت رفعه بالابتداء».

والملاحظ أن هذا الكلام يتوافق مع ما جاء في منظومته وفي كتاب الجمل ، حتى في تمثيله عند ما قال : (أكلت السمكة حتى رأسها) في الجمل ، وفي المنظومة : (أكلت الحوت حتى رأسه) [وكلمة (رأسه) ضبطت بالرفع والنصب والجر] ولم يفترق المثال إلا في كلمة الحوت والخليل نفسه يقول عنها في معجم العين : (١).

«الحوت معروف ، والجميع الحيتان ، وهو السمك»

ألا يدل هذا الترابط بين مصادر الخليل الثلاثة [المنظومة ـ الجمل ـ العين] على اتساق في الكلام وأداء دلالي موحد. وربما ما ورد في (العين) قرينة على أن الكلام إنما هو للخليل نصا ـ بل قارئ (الكتاب) لسيبويه يكاد يجزم بأن الرأي الوارد فيه للخليل ؛ فسيبويه يعرض لكل الآراء التي مضت لدى الخليل ثم يقول (٢) : «وقد يحسن الجر في هذا كله ، وهو عربي. وذلك قولك : (لقيت القوم حتى عبد الله لقيته) ، فإنما جاء ب (لقيته) توكيدا بعد أن جعله غاية ، كما نقول : (مررت بزيد وعبد الله مررت به).

قال الشاعر ، وهو ابن مروان النحوي :

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

والزاد حتى نعله ألقاها

والرفع جائز ، كما جاز في (الواو وثمّ) ، وذلك قولك : (لقيت القوم حتى عبد الله لقيته) ، جعلت (عبد الله) مبتدأ ، وجعلت لقيته مبنيا عليه ، كما جاز في الابتداء».

واللافت للنظر هنا هو ذلك البيت الوارد عند سيبويه في نصّه ، فقد ورد من قبل لدى الخليل ، ليس من زاوية التكرار فقط ، بل من زاوية أخرى وهي

__________________

(١) ٣ / ٢٨٢.

(٢) الكتاب ١ / ٩٧.

١٢٠