المنظومة النحويّة

الخليل بن أحمد الفراهيدي

المنظومة النحويّة

المؤلف:

الخليل بن أحمد الفراهيدي


المحقق: الدكتور أحمد عفيفي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

الخليل في كتابه (الجمل) (١) عما ورد في المنظومة أو الكتاب ، وقليلا جدا ما كان يستخدم الخليل (النصب) في حالة البناء ، فقد تمّ في المنظومة ونقله عنه سيبويه ، ففي المنظومة (٢) عند ما يصف حركة نون المثنى ونون الجمع ، وصف نون الجمع بأنها في حالة (نصب) مع أن كسرتها كسرة بناء ، كذلك في كتاب سيبويه استخدم النصب ويقصد فتحة البناء وهذا قليل جدا (٣) وكذلك في كتابه (الجمل) عند ما قال (٤) : «والنصب على البنية ، ما كان بناء بنته العرب ، مما لا يزول إلى غيره مثل : الفعل الماضي ومثل حروف إن وليت ولعل ، وسوف ، وأين وما أشبهه» ، وهذه حالة ذكر فيها النصب وقصد البناء يقابلها خمسون حالة ذكر فيها النصب في حالة الإعراب ، وهي كل حالات النصب الواردة في الجمل ، ومن ناحية أخرى فإن الخليل كان يستخدم الفتح في حالة البناء (٥).

الجزم :

استخدم الخليل مصطلح (الجزم) في منظومته بمعنى الوقف أو السكون سواء أكان الفعل في حالة البناء أم كان في حالة الإعراب ، ففي حالة البناء يقول عن فعل التعجب (٦) :

لا تفصلن بين التعجب واسمه

فيعيبه يوما عليك معيّب

وتقول أظرف بالفتى أحسن به

أكرم بأحمد إنه لمهذّب

فجزمته لما أتيت بلفظه

بالأمر والمعنى لما يتعجّب

__________________

(١) ص ٣٣ حيث يقول : وإنما بدأنا بالنصب لأنه أكثر الإعراب طرقا ووجوها.

(٢) البيت ٣١.

(٣) الكتاب ٢ / ٢٠٢ ، ٢٠٤.

(٤) الجمل ٨٥ وهي حالة وحيدة من إحدى خمسين حالة.

(٥) الكتاب ٢ / ٢٢١.

(٦) الأبيات من ٩٩ ـ ١٠١.

٨١

وفي حالة أخرى من حالات الإعراب يقول (١) :

والجزم سهل بابه وحروفه

في النحو خمسة أحرف إذ تحسب

فتقول لم يرني أخوك ولم يزر

زيدا أخوه ولا بنوه ولا الأب

إذن ؛ كان الخليل يستخدم (الجزم) في حالة سكون الحرف الأخير من الكلمة سواء أكانت فعلا في حالة إعراب أم في حالة بناء أو حتى مع الحروف وقد جاء على لسان سيبويه نقلا عن الخليل ما يثبت ذلك حيث يقول (٢) :

«وسألت الخليل ... فقال ... لأن الفعل إذا كان مجزوما فحرّك لالتقاء الساكنين كسر. وذلك قولك : اضرب الرّجل واضرب ابنك»

والفعل المجزوم عند الخليل هو (اضرب) حيث سكّن آخره ، والمعروف عند النحويين الآن بأنه مبني لا مجزوم ، ولكنه استخدام الخليل!

وفي موضع آخر من الكتاب (٣) يقول سيبويه : «وقال الخليل ـ رحمه الله ـ : «اللهم نداء ... فالميم في هذا الاسم حرفان أولهما مجزوم ، والهاء مرتفعة لأنه وقع عليها الإعراب» والميم الأولى المجزومة لدى الخليل هي حرف ساكن في غير الوقف.

لم يبتعد الخليل فيما ورد عنه في كتاب سيبويه عما قاله في منظومته النحوية ، وكذلك لم يبتعد في كتابه (الجمل في النحو العربي) عما جاء في (الكتاب) أو (المنظومة) ، فالجزم يمكن أن يكون بالوقف مثل قولهم : رأيت (زيد) ، وركبت (فرس) حيث لا يلزمون الكلمة حركة ، لأن الإعراب حادث وأصل الكلام السكون. هكذا يقول في الجمل (٤) ، والجزم يكون بالبنية مثل : من ، وما ولم وأشباهها لا يتغير إلى حركة (٥).

__________________

(١) البيت ١١٦.

(٢) الكتاب ٣ / ٥٣٢ ، ٥٣٣ (بتصرّف).

(٣) ٢ / ١٩٦ (بتصرّف)

(٤) الجمل ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٥) الجمل ٢٠٥.

٨٢

إن مما لفت نظري في كتاب (الجمل) هذا النص الذي يقول فيه (١) : «فاعلم أن علامات الجزم بالضم ، والوقف ، والفتحة ، وإسقاط النون والكسرة ، فالوقف مثل قولك : لم يخرج ، ولم يبرح وهو السكون ، والجزم بالضم : لم يدع ، ولم يغز ، والجزم بالكسر : لم يرم ، ولم يقض ، والجزم بالفتح : لم يلق ، ولم يرض ، وإسقاط النون : لم يخرجا ، ولم يخرجوا ، وربما تركت الواو والياء في موضع الجزم استخفافا. قال الله عزّ وجل (٢) (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أثبت الواو ومحله الجزم لأنه مخاطبة الواحد فيما ذكر لي بعض أهل المعرفة قال الشاعر (٣) :

هجوت زبّان ثم جئت معتذرا

من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

والملاحظ أن علامات الجزم لدى الخليل تعتمد على الشكل النطقي لآخر الفعل ، وكأنه كان يميل إلى أن يقدم لنا (نحوا وصفيا) يعتمد على وصف الواقع اللغوي ، وهو يمثل الآن اتجاها لبعض الدارسين.

ما لم يسم فاعله :

في منظومة الخليل باب يسمّى : ما لم يسمّ فاعله يقول فيه (٤) :

والفاعلون ولم يسمّوا حدّهم

رفع وبعد الرفع نصب يلحب

فتقول قد عزل الأمير وزوّجت

دعد وقد ضرب العشيّة شوزب

ومن الواضح أن الخليل يقصد نائب الفاعل مع الفعل المبني للمجهول وأمثلته دالة على ذلك : (عزل الأمير ـ زوجت دعد ـ ضرب شوزب) ، وقريب

__________________

(١) الجمل ٢٠٢ ، ٢٣.

(٢) سورة الجن الآية ١٨.

(٣) قائل هذا البيت أبو عمرو بن العلاء فقد قيل ان اسمه (زبّان) وأنه قال هذا البيت للفرزدق ؛ انظر الإنصاف ١ / ٢٤ شرح الأشموني ١ / ١٠٣ شرح المفصل ١٠ / ١٠٤ ، ١٠٥ شرح شواهد العيني ١ / ١٠٣. والمعروف ان أبا عمرو بن العلاء كان أستاذ الخليل ، وربما كان هو المقصود بقول الخليل «فيما ذكر بعض أهل المعرفة» أليس ذلك دليلا على أن هذه النصوص الواردة كلها للخليل؟!

(٤) البيتان ١٤٥ ، ١٤٦.

٨٣

من هذا ما أورده الخليل في كتابه الجمل عند ما كان يتكلم عن وجوه الرفع قائلا (١) : «وما لم يذكر فاعله : ضرب زيد وكسي عمرو».

وإذا ظهر لنا هذا الأمر واستبان فلنا أن نعترض على ما قاله صاحب المدارس النحوية (٢) عند ما يقول تحت عنوان : ما لم يسمّ فاعله : «وهو من مصطلحات الكوفيين ، وهو عند البصريين جملة مواد هي المفعول الذي لم يتعده فعله ، ولم يتعد إليه فعل فاعل والمفعول الذي لا يذكر فاعله والفعل الذي بني للمفعول ولم يذكر من فعل به» (٣).

والملاحظ أن صاحب المدارس النحوية ينفي في بداية الأمر أن يكون المصطلح بصريّا قائلا : (وهو من مصطلحات الكوفيين) ، ثم يذكر أن البصريين قد استخدموه مشيرا إلى ثلاثة مصادر منها استخدام المبرد (المفعول الذي لا يذكر فاعله) واستخدام ابن السراج (الفعل الذي بني للمفعول) والقصد هنا أن الفاعل محذوف سواء كان فاعل الفعل ، إو الفاعل في المفعول ، والمصطلح الذي أتى به (ما لم يسمّ فاعله) يمكن أن يؤدي الدلالتين السابقتين ، وهذا ما استخدمه الخليل (ما لم يذكر فاعله) مرة ، ومرة أخرى (ما لم يسمّ فاعله) والمبرد وابن السراج من أقطاب المدرسة البصرية ، أوفياء لمصطلحهم ، وسيبويه عند ما يقول (المفعول الذي لم يتعده فعله) (٤) فإنما لم يبعد عن المعنى المراد ، ويبقى للخليل السبق في استخدام المصطلح بناء على ما ورد في (منظومته) وفي كتابه (الجمل).

هذه جملة مصطلحات توقفنا أمامها بالتفصيل نظرا لما أشيع عنها أنها كوفية ، مع أن البصريين ـ وعلى رأسهم الخليل ـ كانوا سباقين في استخدامها ، وهي ألفاظ شاعت ليس فقط عند الكوفيين ، بل ظلت شائعة حتى عصرنا الحاضر فالكثير منها يتردد كل يوم على ألسنة الدارسين ، هذا على

__________________

(١) الجمل ١١٨.

(٢) المدارس النحوية ١٢١ ، ١٢٢.

(٣) أشار المؤلف إلى الكتاب ١ / ٢٤ والصحيح ١ / ٤٢ ، والمقتضب ٤ / ٥١ ، والأصول ٢ / ٢٨٧.

(٤) الكتاب ١ / ٤٢ ، ٤٣.

٨٤

العكس من تلك المصطلحات الكوفية التي اندثرت ولم تتجاوز ألسنة الكوفيين مثل : المكنى والكناية (الضمير) ، نون العماد (نون الوقاية) ، حروف المثل (أسماء الاشارة) ، الدائم (المضارع) ، الاستيتاء (الإغراء) ، المصدر (المفعول المطلق) ، التفسير (المفعول به) ، المترجم (التمييز) ، الإيجاب (الاستثناء المفرّغ) ، الترجمة ، التبيين ، التكرير ، التفسير ، العبارة (كلها تعني البدل) ، التكرير (التوكيد). كل هذه المصطلحات استخدمت فقط على ألسنة الكوفيين ثم اندثرت ، فلم تعد تستخدم.

وإذا تتبعنا بقية المصطلحات الواردة في منظومة الخليل فإننا سنجدها الأكثر شيوعا واستخداما حتى يومنا هذا ، وذلك دليل على الحس اللغوي لدى الخليل ـ إن كان هو صاحبها ـ وإلا فلدى البصريين عامة ، وها هي ذي بقية المصطلحات الواردة في المنظومة قيد الدراسة :

الفاعل (الفاعلون) (١) المعرفة (المعارف) (٢) النكرة ـ النكرات (٣) المبتدأ (٤) الخبر (الأخبار (٥) الاسم (الاسماء ـ الأسامي) (٦) الفعل (الأفعال) (٧) المذكر (٨) المؤنث (٩) التعجب (١٠) المدح (امتدحت) (١١) الذم (ذممت) (١٢).

__________________

(١) البيتان ٤٥ ، ١٤٥.

(٢) الأبيات ١٧٠ ، ٢١٥ ، ٢١٩ ، ٢٢٢ ، ٢٤٥ ، ٢٦٧ ، ٢٧١.

(٣) الأبيات ١٧٠ ، ٢٢٠ ، ٢٧٦ ، ٢٤٥ ، ٢٧١.

(٤) البيت ١٣٠.

(٥) البيتان ٧٤ ، ١٢٩.

(٦) الأبيات ٤٥ ، ٦٢ ، ٧٤ ، ١٠٣ ، ٢١٥ ، ٢٥٠.

(٧) الأبيات ٧٠ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ٢٤٣ ، ٢٤٧.

(٨) البيت ٢٤٣.

(٩) البيت ٢٤٣.

(١٠) البيت ٩٩.

(١١) البيت ٩٢.

(١٢) البيت ٩٢.

٨٥

حروف الرفع (١) حروف كان وليس (٢) حروف إن (٣) الإعراب تعرب (٤) الرفع (ترفع ـ ارفع) (٥) النصب ـ انصب ـ نصبت (٦) الخفض (تخفض ـ اخفض) (٧) الجزم (٨) المجازاة (جازيت) (٩) النداء (دعوت) (١٠) المفرد (١١) الإضافة (أضفت) (١٢) الترخيم (١٣) الأمر (أمرت) النهي (نهيت) (١٤) الإضمار (أضمرت) (١٥) الإغراء (أغريت) (١٦) التحذير (١٧) التمني (١٨) الاستفهام مستفهما (١٩) التبرئة (التبرّي) (٢٠) ما يجري وما لا يجري (٢١)

__________________

(١) البيت ٥١.

(٢) البيت ٦٢.

(٣) البيت ٧٢.

(٤) الأبيات ٤٣ ، ٢٠٣ ، ٢٧٣.

(٥) الأبيات ٢٩ ، ٣٣ ، ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٦ ، ٦٠ ، ٦٣ ، ٨١ ، ٨٣ ، ٩٢ ، ٩٦ ، ١٠٣ ، ١٢٩ .. إلخ.

(٦) الأبيات ٣٠ ، ١٠٩ ، ١١١ ، ١٤٠ ، ١٤٧ ، ٢١٩ ، ٢٣٠ ، ٢٧٦ ، ٢٤١ ، ٢٨٥ .. الخ.

(٧) الأبيات ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٨٦ ، ١٢١ ، ١٢٤ ، ١٣٥ ، ١٧٠ ، ١٨٥ ، ١٩٨ ، ٢٠٦ ، ٢٧٦ ، ٢٥٢

(٨) البيتان ١٠١ ، ١١٦.

(٩) البيتان ١٩٤ ، ٢٣٦.

(١٠) عنوان للباب مع البيت ١٠٢.

(١١) ويقصد به ما ليس مضافا ولا شبيها بالمضاف البيت ١٠٢ ، ١١١.

(١٢) البيتان ١٠٦ ، ٢٧٠.

(١٣) البيتان ١١٣ ، ١١٥.

(١٤) البيتان ١٢٧ ، ٢٣٢ والعنوان.

(١٥) ويقصد به استتار الضمير في مثل : أعطيت درهما البيت ١٥٠.

(١٦) البيت ١٦٦ بالإضافة إلى العنوان.

(١٧) البيت ١٦٨.

(١٨) البيت ٢٣٢.

(١٩) البيت ٢٣٢.

(٢٠) البيت ٢٥٧ والعنوان قبله.

(٢١) البيت ٢٦٢ والعنوان قبله ، البيت ٢٦٤.

٨٦

الصرف (لم أصرفه) (١) المنقوص (٢) التنوين (نوّنت) (٣) الفروع (٤) الكنية (الكنى) (٥) المفعول (٦).

الاثنين (٧) الجمع (٨) الاستثناء (٩) تنسب (١٠).

__________________

(١) بمعنى لم ينون البيت ٢٦٣.

(٢) بمعنى غير المنوّن (الذي انتقص منه التنوين).

(٣) البيت ٢٩٠.

(٤) البيت ٢٩٠.

(٥) وهي ما بدئت بأب أو أم ، البيت ٤٦.

(٦) البيت ٤٦ ، كذلك العنوان السابق للبيت رقم ١٦٣ من المنظومة.

(٧) يقصد المثنى ، البيتان ٢٩ ، ٣١.

(٨) البيت ٣١.

(٩) البيت ٢٠١ والعنوان قبله.

(١٠) البيت ٢٢٢.

٨٧

ثالثا : الخليل مصدر المصطلحات النحوية

ليس من المغالاة في الأمر إذا ما ذهبنا إلى أن الخليل بن أحمد يعدّ مؤسس المدرسة البصرية التي شاع أمرها ، وانتشرت مصطلحاتها إلى يومنا هذا ، بل وكانت مسائلها وقضاياها النحوية وآراء أساتذتها هي الأكثر شيوعا في حقل الدراسات النحوية واللغوية ، وعند ما نبحث عن مصادر الدراسة الكوفية بقضاياها النحوية ومصطلحاتها نجد أن الخليل بن أحمد كان مقصد كل من رغب من الكوفيين في تعلّم النحو من منابعه. وها هو ذا الكسائي رئيس مدرسة الكوفة يتعلم على يد الخليل بن أحمد.

يقول الدكتور مهدي المخزومي (١) : «إذا أردنا أن نؤرخ لمدرسة الكوفة ، فينبغي أن نؤرخ للكسائي لأنه فيما نذهب إليه هو النحوي الأول الذي رسم للكوفيين رسوما يعملون عليها ، كما قال أبو الفرج (يقصد الأصفهاني) ؛ ولأنه عالم أهل الكوفة وإمامهم ـ كما قال السيوطي ـ وإذا كان لا بد من النص على المصدر الأول الذي استقى منه الكسائي علمه ، وفتح السبيل أمامه ليكون إماما في النحو ورئيسا لمدرسة ، فإننا نزعم أن الخليل بن أحمد هو ذلك المصدر الذي لقن الكسائي صناعة الإعراب ، وليس كثيرا على الخليل صاحب العقل المبتكر أن ينتمي إليه أعظم مدرستين للغة وقواعدها شهدها تاريخ العربية» ، ولهذا فقد جعل الباحث الخليل بن أحمد مبعث مدرستين اصطنعت كل واحدة منهما منهجا خاصا ، تولّى رئاسة الأولى سيبويه وتولى رئاسة الثانية علي بن حمزة الكسائي.

إذن ؛ كان الخليل واضع اصول النحو العربي بمدرستيه ، وكان نبعا فياضا استقى منه القاضي والداني إلى حدّ أن المدرستين البصرية والكوفية

__________________

(١) مدرسة الكوفة ٧٩.

٨٨

انتميتا إليه ، فالكسائي وهو رأس المدرسة الكوفية يوافق الخليل في بعض آرائه مخالفا الكوفيين وكأن الكسائي ، وقد قرأ (الكتاب) وتأثر به فذهب في مسائل عدة مذهب الخليل بن أحمد» (١) ومثال ذلك موافقة الكسائي للخليل في تركيب (لن) الناصبة للمضارع من (لا) و (أن) كما أشار إلى ذلك الأشموني (٢) والصبان (٣) ومن أمثلة ذلك أيضا ما رواه الأشموني عند ما قال إن (نعم وبئس) فعلان غير متصرفين عند البصريين والكسائي بدليل ؛ فبها ونعمت واسمان عند الكوفيين (٤) ... إلخ.

يحكي بعض المؤرخين (٥) أن الكسائي دخل على بعض أهل الفضل فتكلم فأخطأ فردّوا عليه خطأه ، فأخذ يتنقل بين حلقات الدرس حتى سمع عن استاذ العربية الخليل بن أحمد الفراهيدي فشدّ إليه الرحال ليأخذ عنه العربية «واستغرب الجالسون إلى الخليل أن يقصد الكسائي إلى البصرة يطلب لغات الأعراب فيها ، وفي الكوفة بنو تميم وبنو أسد ، وعندهم الفصاحة ، ولكنه جلس إلى الخليل مبهورا بما سمع منه ، ولم يلتفت إلى هؤلاء بجواب ، ثم تقدم إلى الخليل يسأله عن مصادر علمه هذا ، فقال له الخليل بوادي الحجاز ونجد وتهامة ... إلخ.».

هذا هو الكسائي (إمام مدرسة الكوفة) يتتلمذ على يد الخليل بن أحمد ويتشرب علم الاعراب منه ومن بيئة البصرة ، ثم يأتي تلاميذ الكسائي ليأخذوا منه فيكون منبعهم بصريا خليليا ، وأبرز نحاة الكوفة ممن تتلمذوا على يد الكسائي هو الفرّاء ، وإن كان قد تأثر مباشرة بكتاب سيبويه قبل أن يتتلمذ على يد الكسائي ، فقد «عكف على كتاب سيبويه يقرؤه فيقف على مسائل

__________________

(١) المدارس النحوية ٣٧.

(٢) شرح الأشموني على الألفية ٣ / ٢٧٨.

(٣) حاشية الصبان ٣ / ٢٧٨.

(٤) شرح الأشمواني ٣ / ٢٦.

(٥) نزهة الألبا ٨٢. ٨٣ ، معجم الأدباء ١٣ / ١٦٨.

٨٩

الخليل فيه وهي كثيرة تبلغ عدة مئين» (١).

وبالتالي فقد تأثر الفرّاء بآراء الخليل مباشرة من خلال قراءته لكتاب سيبويه الذي يحمل الكثير من آراء الخليل.

إذا كانت البصرة قد سبقت الكوفة إلى الدراسة اللغوية زمنا طويلا ، شهدت نحوا اصطلاحيا قبل أن تشهده الكوفة كما شهدت نحاة كان لهم أثر كبير في النهوض بهذه الدراسة (٢) ، وإذا كان الخليل نبعا ثريا للمدرستين فلا شك أن للخليل دوره الكبير في وضع كثير من المصطلحات ، حفظها عنه عالم العربية الكبير سيبويه ونقلها إلى التاريخ العربي من خلال (الكتاب).

صحيح أن المصطلحات النحوية لم تكن قد استقرّ معناها وتحدد بشكل نهائي إلا أن الفضل يرجع لمن ذكرها لأول مرّة ، وليس بين أيدينا مصدر يدل على أن وضع هذه المصطلحات النحوية غير المستقرة قبل الخليل. لهذا يكون الخليل المصدر الأول في وضع هذه المصطلحات من خلال ما نقله عنه تلميذه الوفيّ سيبويه في كتابه ، وما أثر عنه مكتوبا في منظومته وكذلك في كتابه «الجمل» بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك ، فها هو ذا باحث محدث (٣) يذكر تلاميذ الخليل جميعهم ثم يقول : «وهل نكون مغالين إذا قلنا : إن الخليل أنشأ مدارس بعدد هؤلاء التلاميذ؟ كلا ، فهذا هو الحق لا مرية فيه ، لأن كل واحد منهم كوّن بمجهوده الشخصي مدرسة قوية الدعائم ، ظاهرة الأثر ، لها خصائصها ومميزاتها ، وطابعها الذي مهّد لها الانتشار والذيوع فيما بعد ، مما كان له أكبر الأثر في المناظرات بين البصرة والكوفة ، ولا جرم أن هذه المدارس ـ وليدة مدرسة الخليل ـ سهرت على تنمية العلم النافع ، وإذاعة المعارف ، وإنارة العقول وتحريرها من ربقة الجهالة ، ونير الذل ،

__________________

(١) المدارس النحوية ٣٨.

(٢) مدرسة الكوفة ٣٢٩.

(٣) الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود في كتابه (الخليل بن أحمد) ص ٣٧ ، ٣٨.

٩٠

ودياجير الظلمة ، فكانت عاملا قويا من عوامل الرقيّ والتقدم ، والنهوض في الدولة الإسلامية إلى يومنا هذا».

نعم ، كل من يقترب من شخصية الخليل وفكره وعلمه يحسّ إحساسا قويا بعظمة الرجل وتأثيره في كل من حوله سلوكا وعلما ، بعقليته الناضجة الواعية الدقيقة الخلاقة المبدعة ، ورجل بمثل هذه العقلية ليس كثيرا عليه أن يكون مصدر علم النحو في البصرة والكوفة ، وكذلك لا يعجزه وضع مصطلحات هذا العلم ، فإذا كان قد اكتشف علمي العروض والقافية دون سابق تمهيد ، ألا يكون قادرا على وضع مصطلحات لعلم النحو؟!

من أين للكوفيين وضع مصطلحات تؤصل علم النحو ، مع أنهم لم يعرفوا النحو إلا بعد أن راج وانتشر في البصرة «أجل فلم تعرف الكوفة قبل عصر الخليل نحوا ولا صرفا ، ولم يكن بها أحد من النحاة ، وظلت البصرة مستأثرة بالعلماء دون غيرها ، ليس في النحو فحسب ، وإنما في كل فن ، إلى أن انتقل منها إلى الكوفة عبد الرحمن التميمي المتوفى سنة ١٦٤ ه‍ وسكن الكوفة ، ونشر فيها علم النحو ، وبذر بذوره» (١).

في نهاية الأمر لا نستطيع إلا أن نعترف بأهمية مصطلحات الخليل التي وضعها هو وأخذها عنه تلاميذه ، فقد استفاد الخليل من علم من سبقوه دون أن يتركوا شيئا مكتوبا ولهذا يبقى للخليل أسبقية استخدام المصطلحات ووضعها على الصورة التي عرضناها.

__________________

(١) (الخليل بن أحمد) عبد الحفيظ أبو السعود ص ٢٨.

٩١

رابعا : الأعلام الواردة بين التمثيل والحقيقة

إن المتأمل لقصيدة الخليل النحوية يلاحظ كثرة الأعلام الواردة فيها ، هذه الأعلام تربو عن مائة وثلاثين علما ، وهذا ليس بمستغرب ، فمادام الأمر في نطاق النحو والتمثيل للقضايا النحوية المختلفة ، فإنّ الحاجة تكون ملحة في استخدام الأعلام التي لا يكون القصد من وجودها سوى التمثيل فقط ، دون أن يمثّل العلم شيئا من الدلالات الأخرى ؛ أي أنه لا يوجد ربط بين الحدث الحاصل من العلم والواقع كائنا أو يكون. إلا إذا قصد طرح وجهة نظر أو اعتراض أو رأي ما لواحد من النحاة أو الصرفيين ، فإن الامر يكون مختلفا في هذه الحالة ، إذ ليس الأمر في نطاق التمثيل بل تغيّر إلى مرحلة أخرى ، يكون المقصود علما بعينه وشخصا بعينه قال شيئا أو نقل رأيا ما. والمتتبع لأعلام الخليل يستطيع ملاحظة ما يلي :

أولا : وجود أعلام حديثة ـ أو هكذا تبدو ـ مثل عبد السّلام أو أعلام غريبة ليس هناك تعوّد على التمثيل بها مثل : عبد المهيمن ، مهلّب ، جندب ، حوشب ... الخ.

لكن الذي كان مثيرا بالنسبة لي هو العلم (عبد السّلام) بشكل خاص ، فالقارئ ـ منذ وقوع عينه على (عبد السّلام) ـ يوشك أن يذهب إلى القول بأن هذه القصيدة ليست للخليل لأن العلم (عبد السّلام) ليس قديما إلى هذه الدرجة ، هكذا كان إحساسي في بادئ الأمر.

أما الأعلام الأخرى التي تثير نوعا من الدهشة للتمثيل بها مثل : حوشب ، عبد المهيمن ... إلخ. فهي قديمة ، ولعل قدمها كان دليلا على كتابة هذه القصيدة في حياة الخليل ، بل وقد يكون قبل ذلك. وكان لا بد من العودة إلى كتب التراجم والتاريخ للتحقق حتى نرى هل وجد من سمّي (عبد السّلام) في عصر الخليل أو قبله؟ فإذا وجد من سمي بهذا الاسم في حياة الخليل أو

٩٢

قبله زال الشك في تلك الرواية وإلا فإن الشك في نسبة تلك القصيدة ربما كان سيجبرنا على التوقف عن تحقيقها لعدم التأكد من نسبتها إلى الخليل.

وتوجهت إلى كتاب «الأعلام» كنموذج من كتب التراجم والسير فوجدت الزركلي (١) يترجم لعلم يسمّى : عبد السّلام بن حرب النهدي الملائي أبو بكر البصري ثم الكوفي من حفاظ الحديث ولد عام ٩١ ه‍ ومات عام ١٨٧ ه‍.

والملاحظ أن عبد السّلام بن حرب النهدي ولد قبل ولادة الخليل بتسع سنوات وعاش معظم حياته في البصرة وتوفي بعد الخليل باثنتي عشرة سنة وربما كان صديقا للخليل ، فهو معاصر له ، وكان يعيش بمدينة البصرة نفسها.

وهناك علم آخر أشار إليه الزركلي (٢) وهو : عبد السّلام بن هاشل اليشكري ، خرج في الجزيرة أيام المهدي ، واشتدت شوكته وكثر أتباعه ، وقاتله عدد من قوّاد المهدي فهزمهم ، مات سنة ١٦٢ هجرية ٧٧٩ م.

والملاحظ أنه ولد ومات قبل موت الخليل ـ حسب الرأي القائل بأن وفاة الخليل كانت عام ١٧٥ ه‍ بالإضافة إلى خروجه واشتداد شوكته ومحاربة المهدي له ، كل هذا يجعله علما بارزا في تلك الفترة ، ولا أظن الا أن الخليل كان قد سمع به كما سمع به أهل البصرة جميعهم.

وهناك عبد السّلام بن سعد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون (٣) الذي كانت ولادته قبل موت الخليل بخمسة عشر عاما (عام ١٦٠ ه‍) إذن لم يكن هذا العلم غريبا على أسماع الناس في تلك الفترة ، أو سمي به بعد هذا التاريخ ، وما مضى دليل على أن هذا العلم متداول قبل مجئ الخليل إلى البصرة ، بل قبل ولادته ، وليس معنى استخدام الخليل لهذا العلم أنه يقصد واحدا من هؤلاء ، وإنما كان استخدامه على سبيل التمثيل فقط ، غير أن الاحساس بحداثة هذا العلم هو الذي جعلنا نتوقف أمامه هذا التوقف اليسير ، حتى ننفي حداثته أو الظن بأن استخدام هذا العلم وشهرته بدأ مع العصر المملوكي بالزاهد العالم : العز بن عبد السّلام ـ رحمه الله ـ.

__________________

(١) الأعلام الزركلي ٣ / ١٥٥.

(٢) الأعلام ٤ / ١٠.

(٣) الأعلام ٤ / ٥.

٩٣

ولعل الناظر في الأعلام السابقة التي أشرنا إلى غرابة التمثيل بها يجد أن هذه الأسماء وأشباهها قريبة من تراث الخليل الذي نسب إليه أو الذي حكي عنه.

وسأكتفي بالتعليق على ثلاثة من تلك الأعلام الواردة في منظومة الخليل.

ففي إحدى المخطوطات ورد على لسان العالم الشيخ أبو الحسن سليمان أبو عبد الله البحراني أثناء ترجمته للخليل ، ومن ضمن ما قاله : «ومن محاسن شعر الخليل قوله في الرد على المنجمين : (١)

أبلغا عني المنجم أني

كافر بالذي قضته الكواكب

عالما أن ما يكون وما كا

ن قضاء من المهيمن واجب

ولو أن هذه الأبيات صحيحة النسبة إلى الخليل ـ وما اعتقادنا بصحة نسبة هذين البيتين إلى الخليل بن احمد الفراهيدي واللذين يدلان دلالة واضحة على ارتباطه بالقرآن الكريم كان له ابلغ الاثر في استخدام تلك الاعلام الواردة في منظومته ، وبالتالي يأتي العلم «عبد المهيمن» في نطاق هذا السياق مثل (الله) و (عبد الله) و (عبد السّلام) .. إلخ. كما يدل ذلك أيضا على أن كثيرا مما ينسب إلى الخليل يكون في نسق واحد من استخدامه للألفاظ والمصطلحات أو حتى الأفكار ، فرجل مثل الخليل تقي ورع مؤمن زاهد لا يؤمن بأقوال المنجمين ، وهذا متفق مع طبيعة ما روي عن حياة الخليل.

أما (حوشب) الذي ورد ذكره أكثر من مرة في قصيدة الخليل (٢) النحوية ، فليس المقصود منه إلا التمثيل ، وإن كانت كتب التراجم تشير إلى أن الخليل درس الحديث وفقه اللغة على أيوب السختياني وعاصم الأحول والعوام بن حوشب (٣) كما روى الحديث عن عثمان بن حاضر عن ابن عباس وغالب

__________________

(١) هذا المخطوط عبارة عن رسالة بعنوان واضع علم النحو للشيخ (أبو الحسن سليمان أبو عبد الله البحراني) ، وهو مخطوط محفوظ بمكتبة معالي السيد محمد أحمد البوسعيدي الخاصة تحت رقم (١٦٦) ص ٣٨٦.

(٢) البيتان رقم ٣٠ ، ٢٢٤.

(٣) دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ٤٣٦ ، مكانة الخليل بن أحمد في النحو العربي ص ٢٦.

٩٤

القطان (١) ، وكذلك وجدت أعلام كثيرة في عصر الخليل وقبله ممن يحملون اسم (حوشب) ، ومن هؤلاء «حوشب بن طخمة» الألهاني الحميري الذي توفي عام ٣٧ هجرية يقول عنه صاحب الأعلام (٢) «تابعيّ يمانيّ ، كان رئيس بني ألهان في الجاهلية والإسلام ، أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به ، ولم يره ، وقدم إلى الحجاز في أيام أبي بكر ، وكان أميرا على كردوس في وقعة اليرموك ، وسكن الشام فكان من أعيان أهلها وفرسانهم وشهد صفين مع معاوية فقتل فيها».

إذن لم يكن التمثيل بهذا العلم من الغرابة في شيء ، فحوشب هذا من أعيان الشام ، والعوام بن حوشب من رواة الحديث بل إنه ممن روى عنهم الخليل ، وبهذا كان الاسم قريبا من فكره إن لم يكن قريبا من قلبه أيضا وهو المتوقع مع العوام بن حوشب.

أما «مهلب» الوارد ثلاث مرات (٣) في قصيدة الخليل فيبدو هذا العلم مرتبطا بتراث الخليل ارتباطا وثيقا. مع المهلب بن أبي صفرة وابنه سليمان والي الأهواز الذي قال عنه الخليل أبياته المعروفة التي أجمعت كل الكتب على نسبتها إليه (٤) والتي كانت ردا على قطع راتبه المخصص له ، يقول :

أبلغ سليمان أنى عنه في سعة

وفي غنى غير أني لست ذا مال

إذن ؛ فالأمر متعلق براتبه الذي قطعه ، وهو إذن متعلق بحياة الخليل ، ومع ذلك يرفض الانتهازية ـ حسب دلالة الرواية المشهورة ـ وإذا أمعنّا النظر في مثال الخليل نجده متعلقا أيضا بشئ قريب من هذا يقول الخليل (٥) :

ومعارف الأسماء أسماء الورى

زيد وعمرو ذو الندى ومهلّب

__________________

(١) مكانة الخليل بن أحمد في النحو العربي ص ٢٦.

(٢) الأعلام ٢ / ٢٨٨.

(٣) انظر البيتين ١٠٨ ، ٢١٥ من قصيدة الخليل.

(٤) وفيات الأعيان ٢ / ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، معجم الأدباء لياقوت ١١ / ٧٦ إتحاف الأعيان ١ / ٦١ وانظر القصة كاملة في المراجع السابقة.

(٥) البيت ٢١٥ من المنظومة.

٩٥

هل ارتبطت كلمة (مهلّب) بالندى في شطر واحد ارتباطا عشوائيا؟ ربما وهو الأكثر ترجيحا بالنسبة لي ، مع أن الندى والكرم له علاقة براتب الخليل.

وربما كان من المثال الآخر للخليل ما يثير شبهة للربط بين المثال والواقع حيث يخاطب المهلب في قوله (١) :

فإذا كنيت نصبت من كنيته

يابا المهلب قد أتاك مهلّب

أيمكن أن يكون المقصود بذلك الخطاب الواقعي؟ لا أظن ذلك إذ لو كان الأمر على سبيل الحقيقة لقال يا ابن المهلب ولم تشر نسخة واحدة من مخطوطات القصيدة العشر إلى وجود هذه القراءة ، ولعل ذلك يؤكد عدم الربط بين الأعلام الواردة والواقع ، حتى لو كانت تلك الأعلام لها دور في حياة الخليل فالوارد للتمثيل فقط.

ثانيا : ذكر الخليل (قطربا) (٢) لا على سبيل التمثيل ، بل إنه تجاوز ذلك فذكر رأيا له ففي باب «التاء الأصلية وغير الأصلية» أي ما آخره ألف وتاء دالا على الجمع يشير الخليل إلى أنه إذا كانت التاء زائدة فإنها تنصب بالخفض (بالكسرة) وهو المعروف لدينا بجمع المؤنث مثل : عمات جمع عمّة ، أما إذا كانت التاء غير زائدة ، فإن نصبها يكون بالفتحة ، وقد عبّر الخليل عن الأول بقوله : فخفض نصبها في قوله (٣) :

والتاء إن زادت فخفض نصبها

ما عن طريق الخفض عنها مهرب

فتقول إن بنات عمّك خرّد

بيض الوجوه كأنهن الربرب

أما الثانية ـ وهي التاء غير الزائدة ـ فقد عبّر عنها بالنصب فقط مشيرا إلى أن «قطربا» ـ كذلك ـ ينصبها. يقول الخليل (٤) :

__________________

(١) البيت ١٠٨ من المنظومة.

(٢) قال الخليل في العين ٥ / ٢٥٧ القطرب هو الذكر من السعالي ، وفي القاموس المحيط ١ / ١٢٣ هو دويبة لا تستريح سعيا ، ولقب به محمد بن المستنير ، وستأتي بعد قليل.

(٣) البيتان ٨٦ ، ٨٧ من قصيدة الخليل.

(٤) الأبيات من ٨٩ ـ ٩١.

٩٦

ودخلت أبيات الكرام فأكرموا

زورى وبشوا في الحديث وقرّبوا

وسمعت أصواتا فجئت مبادرا

والقوم قد شهروا السيوف وأجلبوا

فنصبت لما أن أتت أصلية

وكذاك ينصبها أخونا قطرب

ويمكن أن يكون الأمر لا إشكال فيه لو أنه ذكر «قطربا» في تمثيل لقاعدة ما ، أما وأن الأمر هو نسبة رأي إليه فإن الإشكال يقع من هذه الزاوية ، وهنا تثور في الذهن أسئلة كثيرة ، إذ كيف يذكر الخليل (قطربا) وهو ـ أي قطرب ـ لم يتتلمذ على يديه؟ بل إنه تتلمذ على يد أحد تلاميذ الخليل وهو سيبويه ، ألا يمكن أن يكون ذكر الخليل قطربا مدعاة لأن نشك في نسبة هذه القصيدة للخليل وأنها منحولة عليه؟ فلم تذكر كتب التراجم والسير والتاريخ أية علاقة بين الخليل وقطرب ، إضافة إلى ذلك أن الخليل مات قبل موت قطرب بإحدى وثلاثين سنة. هذا على شهرة تلك الرواية التي تذكر أن وفاة الخليل كانت عام ١٧٥ ه‍ (١) ، ووفاة قطرب كانت عام ٢٠٦ ه‍ (٢) ، فكيف يذكر الخليل «قطربا» ـ مع وجود هذا الفارق الزمني بينهما؟! ـ ويظل يقين نسبة القصيدة إلى الخليل قائما ، وهذا موطن التشكك الذي يهدم فكرة أن تكون هذه القصيدة من عمل الخليل.

ساورتني شكوك كثيرة ، وأنا في بادئ أمر تحقيق نسبة هذه القصيدة عند ما كنت أعيد قراءة هذا البيت وأسترجع تواريخ الوفاة بشكل خاص لكل من الخليل وقطرب وتلاميذ الخليل ، لكن تأمل هذه التواريخ جيدا والاطلاع على طبيعة الحياة في البصرة في ذلك الوقت ، بالإضافة إلى عوامل أخرى ، منها أمور نصية ، كل هذا هو الذي فك طلاسم المشكلة وأضاء الطريق ، بل وأضاف إليّ كثيرا من الراحة لتحقيق نسبة هذه القصيدة إلى الخليل ، ولنتتبع مراحل هذا التحقيق فيما يلي :

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ / ٢٤٨ ، إتحاف الأعيان ١ / ٥٦٧ أعلام العرب ٦٩.

(٢) الأعلام ٧ / ٩٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢.

٩٧

يشير صاحب كتاب الأعلام إلى أن وفاة قطرب كانت سنة ٢٠٦ ه‍ ـ ٨٢١ م (١) على الرأي الأشهر ، وكتب التراجم لم تشر إلى أنه تتلمذ على يد الخليل بن أحمد ، ولكنها تشير على يد سيبويه (٢) ، الذي تتلمذ على يد الخليل ، والخليل توفي عام ١٧٥ ه‍ ـ كما أوردنا سلفا ـ وإذا كان الأمر كذلك فلا لقاء متخيلا بين الخليل وقطرب ، بل ليس هناك علاقة علمية مباشرة متخيلة أو مجسدة. والحقيقة أن المتأمل في حياة تلاميذ الخليل يمكن أن يستنبط أشياء مهمة تغيّر مجرى التخيل أو التصوّر الذي يطرأ على الذهن من أول وهلة.

إن كتب التراجم تشير إلى أن النضر بن شميل بن مالك بن عمرو التميمي النحوي البصري الثقة كان من تلاميذ الخليل (٣) ، بل إن بعض الكتب تشير إلى أنه كان من أصحاب الخليل (٤) أما عن وفاته فيقول ابن خلكان عنه «وتوفي في سلخ ذي الحجة سنة أربع ومائتين ، وقيل في أولها ، وقيل سنة ثلاث ومائتين بمدينة مرو من بلاد خراسان» والنظر القريب والمقارنة يؤكدان ذلك التقارب الشديد بين وفاة قطرب (٢٠٦ ه‍) ووفاة النضر بن شميل (٢٠٤ ه‍) أي ليس بينها سوى عامين فقط.

لم تذكر كتب التراجم عن الأول أنه تتلمذ أو قابل الخليل ، والثاني ذكر عنه أنه تتلمذ على يد الخليل وكان صديقا له والسؤال الذي يواجهنا بشدة هو : (٥)

__________________

(١) الزركلى ٧ / ٩٥ وقطرب هو محمد بن المستنير بن أحمد أبو علي الشهير بقطرب ، نحوي عالم بالأدب واللغة من أهل البصرة من الموالي كان يرى رأي المعتزلة النظامية ، وهو أول من وضع المثلث في اللغة ، وفي وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢ أخذ الأدب عن سيبويه وعن جماعة من العلماء البصريين ، وكان حريصا على الاشتغال والتعلم وكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلاميذ ، فقال له ما أنت إلا قطرب ليل فبقي عليه هذا اللقب ، قطرب : اسم دويبة لا تزال تدب ولا تفتر ، توفي سنة ٢٠٦ ه‍.

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢.

(٣) طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص ٥٩ ، ٦٠ الطبعة الثانية دار المعارف القاهرة ١٤٣٢ ه‍ ـ ١٩٧٣ م تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وانظر نزهة الألبا ص ٧٤.

(٤) وفيات الأعيان ٥ / ٣٧٩.

(٥) وفيات الأعيان ٥ / ٤٠٤.

٩٨

هل يمكن أن يكون العامان فرقا زمنيا كبيرا إلى هذا الحد الذي يجعل النضر ابن شميل تلميذا للخليل وصديقا له ويجعل قطربا بعيدا عن الخليل ، فلا صداقة ولا ذكر ولا معرفة إطلاقا؟ أعتقد أن العامين ليس لهما هذا التأثير الكبير ، وإنما لا بد من وجود شيء ما جعل المؤرخين يقفون من قطرب موقفا سلبيا بصمتهم عن تلك العلاقة بين الخليل وقطرب ، وربما كان في قول ابن الأنباري ما يدل على صحة استنتاجنا.

يقول ابن الأنباري (١) عن قطرب : «وكان يذهب إلى مذهب المعتزلة ، ولما صنّف كتابه في التفسير أراد أن يقرأه في الجامع فخاف من العامة وإنكارهم عليه ؛ لأنه ذكر فيه مذهب المعتزلة ، فاستعان بجماعة من أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته بالجامع (توفي سنة ٢٠٦ ه‍ في خلافة المأمون). ربما في هذا بعض الصحة.

وإذا كان النضر بن شميل قد توفي سنة ٢٠٤ هجرية وكان من تلاميذ الخليل وأصحابه فإن الأمر يكون أكثر إثارة وغرابة عند ما نعلم أن الأصمعي تلميذ الخليل وصديقه أيضا قد توفي سنة ٢١٣ ه‍ أو ٢١٧ ه‍ ؛ أي بعد وفاة قطرب بسبع سنوات أو بإحدى عشرة سنة ، ومع ذلك كان من المقربين إلى الخليل.

يقول ابن الأنباري (٢) عن وفاة الأصمعي : «قال أبو العباس توفي الأصمعي بالبصرة وأنا حاضر سنة ثلاث عشرة ومائتين ، ويقال توفي سنة سبع عشرة ومائتين ، في خلافة المأمون» وقيل إنه توفي سنة ٢١٠ ه‍ (٣).

فقطرب المتوفى سنة ٢٠٦ هجرية لم يتتلمذ على يد الخليل مع دأبه وشغفه بالعلم عامة وبعلوم القرآن خاصة ، والأصمعي المتوفي سنة ٢١٧ أو حتى ٢١٠ ه‍ على أقصى الآراء كان صديقا للخليل وتلميذا مقربا إليه. أليس في ذلك ما يشير إلى الريبة؟ أعتقد أن هناك إغفالا متعمدا وصمتا هادفا عن

__________________

(١) نزهة الألبا ص ٧٧.

(٢) نزهة الألبا ص ١٠٠.

(٣) طبقات النحويين واللغويين ص ١٧٤.

٩٩

الخوض في حياة قطرب ، وخاصة إذا تأملنا ما يلي :

(أ) امتلأت كتب التراجم والتاريخ عن سيبويه وأنه قد تتلمذ على يد الخليل وأنه كان أنجب تلاميذه على الإطلاق.

وعلى ما تذكره كتب التراجم توفي سيبويه عام ١٦١ ه‍ أو ١٧٧ ه‍ (١) وقيل غير ذلك ... إلخ. أي كانت وفاته قبل الخليل (وهو مستبعد) أو بعد الخليل بزمن يسير (وهو الأقرب إلى المنطق) وذكرت الكتب أيضا أن قطربا كان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلاميذ (٢) واستمرار قطرب في التبكير إلى سيبويه يحتاج إلى زمن ليس بالقليل حتى يشعر به سيبويه ويطلق عليه هذا اللقب ، وهذا يدل أيضا على حرص قطرب ، إذا أضفنا إلى ذلك وجود قطرب في بصرة الخليل حيث كان الخليل ملء العين والسمع فلنا أن نتخيل سعي قطرب للأخذ من علم الخليل وأن الخليل كان عالما به عارفا إياه ، وأن ذكر الخليل لقطرب ليس مستغربا.

(ب) والخليل نفسه ذكر سيبويه في نص من نصوصه التي نسبت إليه محققة ، فقد ورد في كتاب الجمل في النحو تصنيف الخليل بن أحمد الفراهيدي (٣) في باب جمل الواوات عند ما كان الخليل يتكلم عن واو الإقحام وذكر قول الله تعالى (٤) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وأن معناه : يصدون ، والواو فيه واو إقحام قال الخليل : «ومثله قول الله عزّ وجلّ : (٥) (فَلَمَّا أَسْلَما ، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ

__________________

(١) وفيات الأعيان ٣ / ٤٦٤.

(٢) وفيات الأعيان ٤ / ٣١٢.

(٣) هذا الكتاب حققه الدكتور فخر الدين قباوه وقدّم الطبعة الثانية منه ١٤٠٧ ه‍. ١٩٨٧ م مؤسسة الرسالة بيروت انظر ص ٢٨٨ وقد قرأت جزءا من هذا الكتاب مخطوطا أثناء زيارتي للمكتبة السليمانية باستانبول في تركيا ، ولكنه كان بعنوان «جملة الآلات الإعرابية في النحو» وهذا المخطوط قدمه الدكتور فخر الدين قباوة على أنه جزء من كتاب الجمل.

(٤) سورة الحج الآية ٢٥.

(٥) سورة الصافات الآيات من ١٠٣ ـ ١٠٥ وانظر الجمل للخليل ص ٢٨٨.

١٠٠