المنظومة النحويّة

الخليل بن أحمد الفراهيدي

المنظومة النحويّة

المؤلف:

الخليل بن أحمد الفراهيدي


المحقق: الدكتور أحمد عفيفي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

أولا : الخليل وشخصيته

١ ـ الخليل بن أحمد .. سيرة وعطاء

قليل من يعيشون في ذاكرة التاريخ بهذا الحضور القوي المتميز سلوكا راقيا وعلما مفيدا لمدة أربعة عشر قرنا مضت من عمر هذا الزمان.

وقليل من يتفق عليه الناس بهذا القدر الكبير من المديح وعبارات الثناء التي تدخل القلوب فتزداد حبا واحتراما له.

وقليل من أعطى بهذا السخاء فأبدع ، وأكتشف فأجاد واعتزل الناس وهم مشغولون به.

وقليل من اتصف بهذا التدين العميق والزهد المفيد وتلك السماحة العالية ، وهذه النفس النقية السامية والحكمة الواعية وهذا التأثير المستمر في أبناء العربية.

وقليل من أصبح ظاهرة يقف الناس حولها كل آن.

وقليل من كان له تلك النظرة الثاقبة ، ما نظر إلى علم إلا واكتشف فيه شيئا.

وقليل من كان أبيّا شامخا مع حاجته الواضحة.

ذلكم هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي يعدّ على رأس هؤلاء جميعا مؤصل علم النحو العربي وواضع مصطلحاته ، وباسط مسائله ، ومسبّب علله ، ومفتق معانيه ، أستاذ أهل الذكاء والفطنة ، مكتشف علمي العروض والقافية ، الموسيقي ، الرياضي ، المعجمي ، المحدّث النحويّ اللغويّ.

شغل الخليل الناس بخلقه وعلمه وتراثه الذي كان ثمرة جهوده العلمية منذ ولادته عام مائه للهجرة وإلى وفاته عام خمسة وسبعين ومائة ، ثم شغل من بعده بعلمه الوفير واكتشافاته المفيدة وتاريخه المشرف ، وأخلاقه الحميدة ، لم أعرف أحدا نال كل هذا الحب والإعجاب والتقدير من كل من قابلهم في حياته من أساتذته أو تلاميذه أو المعاصرين له وكل من تحدثوا عنه

٢١

من مترجمين ودارسين لكتبه وعلمه من المعاصرين إلى حدّ يصل أحيانا إلى حيرة القارئ ودهشته مما يقال حبا وإعجابا بعلمه وسلوكه واحتفاء بحياته وتدينه وزهده.

ولنستمع إلى سفيان الثورى حينما يقول (١) : «من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد».

وفي معجم الأدباء (٢). يروى عن النضر بن شميل أنه قال : «كنا نمثّل بين ابن عون والخليل بن أحمد أيهما نقدم في الزهد والعبادة فلا ندرى أيهما نقدم» ، وكان يقول : «أكلت الدنيا بعلم الخليل وكتبه وهو في خصّ لا يشعر به».

وإذا كان النضر بن شميل تلميذه يعترف بقيمته العلمية الكبيرة وتدينه وزهده ، فإن أستاذه أبا أيوب السختياني لم يبتعد عن ذلك المديح للخليل حيث عرف أبو أيوب حق الطالب المجد وقدّر ذكاء الخليل «وإذا بالخليل يصبح أخص تلامذته وأقربهم إليه. ولا يمضى القليل من الزمن حتى يعلم الخليل من السنة والحديث أكثر مما يعرفه كل أصحاب الشيخ.

كان الخليل يسمع من شيخه مديحا كثيرا ويلقى منه محبّة خالصة ، ولكن ذلك كان يزيده تواضعا واحتراما ، كان شأن الخليل شأن معظم العلماء النابغين ، يصرفهم نبوغهم عن الاكتراث بالشهرة وعن الاحتفال الشديد بالنفس» (٣).

لقد انقطع الخليل للعلم واتصل بالكثيرين من علماء العربية في مجالات مختلفة ، تتلمذ على أيديهم فكوّنوا ثقافته العربية الأصيلة ، فقد أخذ عن أبي عمرو بن العلاء (المتوفى عام ١٥٤ ه‍).

وعن عيسى بن عمر الثقفي (المتوفى عام ١٤٩ ه‍) «وروى الحديث والفقه والقراءات عن أيوب السختيانى وعاصم الأحول والعوام بن حوشب وعثمان بن حاضر عن ابن عباس وغالب القطان وغيرهم (٤).

__________________

(١) معجم الأدباء ١١ / ٧٤.

(٢) السابق نفسه.

(٣) قصة عبقرى ، يوسف العش ، ص ١٤.

(٤) معجم الأدباء ، ياقوت الحموى ١١ / ٧٣.

٢٢

واستمر الخليل في طلب العلم من البوادى إلى أن أصبح على هذا القدر الكبير من المعرفة والتحصيل والتأليف ، فقد «كان رحمه الله من أذكياء التاريخ وعباقرة العلماء ، صنع للعربية كثيرا وآتاها من الفضل ما لم يؤتها أحد من العلماء ، ابتكر العروض ، وخرج به إلى الناس علما كاملا ، فضبط به الشعر العربي وحفظه من الاختلال ، وابتكر طريقة أحصى بها مفردات اللغة وميّز بها المهمل من المستعمل ثم دوّن على هداها معجم العين» (١) ولم يبخل الخليل بعلمه على تلاميذه فنهلوا وعلّوا من ينابيعه إلى أن أصبح له مجموعة من تلاميذه (٢) الذين حملوا لواء العلم من بعده ، ومن هؤلاء تلميذه الوفيّ سيبويه شيخ النحاة في عصره (توفي ١٨٠ ه‍ أو ١٨٣ ه‍) والنضر بن شميل (توفي ٢٠٤ ه‍) وأبو مفيد مؤرج السدوسي (توفي ١٩٥ ه‍) ، وعلي بن نصر الجهضمي والأصعمي (توفي عام ٢١٧ ه‍) والليث بين المظفر وأبو محمد اليزيدي (توفي عام ٢٠٢) ، لقد أثّر الخليل تأثيرا كبيرا في علوم العربية بتراثه المعرفي الذي تركه وبتلاميذه الذين اقتفوا نهجه العلمي فهو ـ كما يشير بعض الكتاب ـ باعث نهضة العرب ورافعهم إلى مدارج العلم.

يقول الدكتور هادي حسن حمودي (٣) : «حقا إن أعمال الخليل كانت (نهضة) بكل ما في كلمة النهضة من معان .. فهو الذي أنهض الأمة ، ونقلها من حال إلى حال وأخذ بيدها في مدارج العلم والعمل النافع .. فكوّن مجموعة من الطلاب الذين أصبحوا علماء رأسوا الأمصار في العلم والتفّ حولهم المريدون يأخذون عنهم ، ويتطورن إلى يوم الناس هذا وفي جميع البلدان العربية أو المهتمة بلغة العرب وتراثهم وهم ما أخذوا إلا غلالة من علم الخليل ابن أحمد الأزدي وما تطوروا إلا بنهجه الذي سنّه لهم».

__________________

(١) سيبويه إمام النحاة ، علي النجدى ناصف ، ص ٩١.

(٢) طبقات النحويين واللغويين ٧٤. ٧٥. ٢١٥. معجم الأدباء ١١ / ٧٣. وفيات الأعيان ٣ / ٤٦٤. ٥ / ٣٠٤ ٧ / ١٨٤. نزهة الألباء ، ص ٧٥ ، ١٠٠.

(٣) الخليل وكتاب العين ، ص ١٦.

٢٣

وسواء ولد الخليل في عمان على شاطئ الخليج العربي كما يشير بعض المراجع (١) ، أو ولد في البصرة ، كما تشير بعض المراجع الأخرى (٢).

فالمؤكد أنه أزدي يحمدي عربي أفاد العربية بعلمه ومنهجه الكشفي لخبايا النحو العربي ، والعروض وعلم المعاجم ، وربما لعلم الموسيقى أو علوم أخرى ضاع ما كتبه فيها ضمن ما ضاع من كتبه التي ذكرتها كتب التراجم ، وهي كثيرة لم يصلنا منها إلا القليل وضاع معظمها ، وجاء القليل من أفكاره عن طريق هذا القليل الذي خرج إلى النور وكذلك عن طرق تلاميذه الذين نقلوا جزءا من فكره ، كما فعل سيبويه في (الكتاب) ، وأعمال الخليل المنسوبة إليه كثيرة (٣) نذكر منها : (العين) و (النغم) و (الايقاع) و (العروض) و (النقط

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ٤٣٦ وأعلام العرب في العلوم والفنون ٦٩ ، اتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان ١ / ٥٤.

(٢) الأعلام ٢ / ٣١٤ ، كتاب الخليل بن أحمد لعبد الحفيظ أبو السعود ص ١٣. وفي معجم الأدباء ١١ / ٧٣ يشير ياقوت إلى أنه بصرى دون أن يتكلم عن ولادته ونشأته الأولى. كذلك في شذرات الذهب ١ / ٢٧٧. غير أنّ ما ورد في «نور القبس» ص ٥٦ ربما كان مرجحا أن الخليل من عمان وذلك لأنه نقل نصا عن الخليل يقول فيه : «قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية ، فجلست إلى أيوب بن أبي تميمة (السختياني) فسمعته يقول : إذا أردت أن تعلم علم أستاذك فجالس غيره فظننت انه يعنيني ، فلزمته ، ونفعنى الله به» ، وانظر (عبقري من البصرة) للدكتور مهدي المخزومى ص ٢٥.

ويقول سعيد الصقلاوى في كتابه (شعراء عمانيون) ص ١١٥ : «وأما مولده ونشأته فمسألة دار حولها خلاف كثير حيث قيل إنه ولد بعمان سنة ٨٦ ه‍ أو ٩٦ ه‍ أو ١٠٠ ه‍ أو ١٠١ ه‍ في منطقة ودام من ساحل الباطنة ، وهاجر الى البصرة طلبا في العلم والاستزادة منه ، وهو في مراحل طفولته حيث كانت البصرة محطة العلم والأدب والفكر ، وهناك شبّ الخليل بن أحمد وتشربت عروقه وحواسه به حتى صار علما من الأعلام وحجة في الأقوام ، وسمي بالبصري ؛ لأن مذهبه النحوي كان بصريا.

أما الرواية الأخرى فتناقض سابقتها تماما حيث تقضي بأن الخليل ولد بالبصرة وبها نشأ وتلقى سائر العلوم ، وهو من أهلها ، ومن هنا جاءت تسميته بالبصري فهو بصري المولد والمنشأ.

وكلام سعيد الصقلاوى يطلعنا على تزاحم الروايات المختلفة حول ولادته وحتى لو تم الترجيح لرواية ما ، فإنه ظن يعوزه الدليل.

(٣) الأعلام ٢ / ٣١٤ ، دائرة المعارف الإسلامية ٨ / ٤٣٦ ، مكانة الخليل في النحو العربي ٣١ ـ ٣٥ ، الخليل بن أحمد ، عباس أبو السعود ١٥١.

٢٤

و (الشواهد) ، و (في العوامل) و (الجمل) ، و (فائت العين) ، و (المعمّى) ، و (جملة آلات العرب) ، و (في معنى الحروف) ، و (شرح صرف الخليل) و (التفاحة في النحو) كما أشار تقرير البعثة المصرية في اليمن (١) ومنه نسخة مخطوطة هناك.

وليس مقصدنا بالحديث الآن أن نقدم ترجمة لعالم العربية الخليل ، فهناك كتب كثيرة تناولت حياته بالتفصيل ، وهي حياة مليئة بالكفاح العلمي والجهاد في سبيله ، وهو أكبر من أن تضم سيرته وحياته كتاب واحد ، لهذا كان غرضنا أن نقدم هذا التمهيد الذي يكشف عن ملامح شخصيته ، وذلك لإمكانية المقارنة بين ما ورد عنه ، وما يمكن أن تقدمه النماذج التي مثّل بها في منظومته النحوية من ملامح حياته تدينا وزهدا وورعا وحكمة ، وما يمكن أن تقدمه تلك النماذج من ملامح اجتماعية لحياة الخليل.

__________________

(١) الأعلام للزركلي (هامش) ٢ / ٣١٤.

٢٥

٢ ـ شخصية الخليل من خلال منظومته

تشير كتب التراجم إلى أنّ الخليل كان زاهدا في الحياة فقيرا لا يأخذ العلم وسيلة للتكسب.

فابن عماد الحنبلي يصفه بأنه «كان من الزهد في طبقة لا تدرك حتى قيل إن بعض الملوك طلبه ليؤدب له أولاده فأتاه الرسول وبين يديه كسر يابسة يأكلها فقال له : «قل لمرسلك ما دام يلقى مثل هذه لا حاجة به إليك» (١) ولم يأت الملك.

ويقول صاحب كتاب أعلام العرب (٢) : «أنقطع الخليل إلى العبادة والزهد فاكتفى من العيش بالقليل حتى قال النضر بن شميل عنه : «أكلت الدنيا بعلم الخليل بن أحمد وكتبه ، وهو في خص لا يشعر به».

وقد نقل ابن خلكان قول النضر بن شميل عن الخليل أنه لم يكن يقدر على فلسين ، وأن الخليل كان يقول : «إني لأغلق عليّ بابي فما يجاوزه همّي» (٣).

وهذه الصورة نفسها من الوحدة والانقطاع عن الدنيا هي التي يصورها ياقوت الحموي (٤) بل إن أحد المؤرخين (٥) يصفه بأنه كان أشعث الرأس شاحب اللون ، قشف الهيئة متمزق الثياب متفلع (متشقق) القدمين كان يخرج من منزله فلا يشعر إلا وهو في الصحراء ولم يردها لشغله بالفكر.

وإذا كان الخليل زاهدا متقشفا عن متاع الدنيا الزائل لا يلقي لمباهجها بالا ولا يقيم لزخارفها وزنا ، يرفض أن ينغمس في ترك الدنيا ومساوئ نعيمها ، مؤمنا بزوال لذائذها وانقطاع أسبابها يرغب عنها خداعا زائفا ومتعة عاجلة عابرة وحطاما فانيا. أقول إذا كان الخليل بهذه الدرجة من الزهد فلا أظن أن يترك نفسه لتتمزق ثيابه وتتشقق قدماه

__________________

(١) شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي الجزء الأول. ص ٢٧٦.

(٢) عبد الصاحب عمران الدجيلي ، كتاب أعلام العرب في العلوم والفنون ، ص ٦٩.

(٣) وفيات الأعيان لابن خلكان تحقيق إحسان عباس ، المجلد الثاني ص ٢٤٥.

(٤) معجم الأدباء ١١ / ٧٢ ـ ٧٥.

(٥) الشريشي في كتابه (شرح المقامات الحريرية) ص ٢١٣ ، وانظر النص في الأعلام للزركلي في ترجمة الخليل.

٢٦

ويشحب لونه وتغبر رأسه ومن حوله تلاميذه ومحبوه الذين أشادوا بعلمه وعبقريته ونطقوا بشهادات تمجد خلقه وورعه وتقواه. وأعتقد أن كل ما في الأمر هو أن رجلا بهذا الورع والتقوى يمكن أن تنسج حوله الحكايات تدليلا على ذلك.

والحقيقة أننا عند ما نقرأ عن الخليل وأخباره وذكائه وعبقريته ، ونتأمل أشعاره الواردة في الكتب المختلفة ، ونماذجه التي مثّل بها في قصيدته النحوية فإننا نجد شخصا مقدما على الحياة متمتعا بلقاء الناس في حوارات علمية أو اجتماعية ؛ صاحب غزل رقيق وخيال خصب وذلك يتجلى في قوله :

ابصرتها فغضضت عنها ناظري

خوف القصاص وظل قلبي يرغب

ولعلنا فيما يلي نجد ما يفصح عن تلك الظاهرة الاجتماعية ، فهو ليس منعزلا عن المجتمع ، حابسا نفسه ، إذ تعلّم الفصاحة كان يقتضي منه في بداية حياته السفر والترحال والمشافهة والمقابلة والأخذ عن الأعراب في البادية ، وبعد ذلك عند ما صار معلما كان يلتقي بطلابه ومحبيّه من الناس ، وربما أدى اتزانه وعدم حب العبث واللهو والانخراط كثيرا في المسائل العلمية إلى القول والتأكيد على زهده الشديد ، يقول أحد المؤرخين : «وعكف على العلم يستخرج ويستنبط ويخترع فكان مضرب المثل في عزوفه عن الدنيا وعكوفه على العلم» (١).

ولعل تأكيد المؤرخين على زهده ورفضه للمال واكتفائه بالقليل كان من قبيل إيضاح أن الخليل ما كان يقف على أبواب الولاة طالبا ، أو يسعى لشهرة أو مال ولعل ما ورد في معجم الأدباء دليل على ذلك. يقول ياقوت الحموي (٢) عن الخليل : «ووجه إليه سليمان بن علي والي الأهواز لتأديب ولده ، فأخرج الخليل لرسول سليمان خبزا يابسا وقال : ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان ، فقال الرسول : فما أبلغه عنك؟ فقال :

أبلغ سليمان أني عنه في سعة

وفي غنى غير أنى لست ذا مال

سخّى (٣) بنفسي أني لا أرى أحدا

يموت هزلا ولا يبقى على حال

__________________

(١) أعلام العرب ٦٩.

(٢) معجم الأدباء ١١ / ٧٥.

(٣) ويروى شحا ، وسخيت نفسي عن الشيء : تركته ولم تنازعني إليه.

٢٧

والفقر في النفس لا في المال نعرفه

ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه

ولا يزيدك فيه حول (١) محتال

هذه نفس أبية زاهدة لا تطمع إلا فيما يسدّ الرمق من الحياة لا تجرى وراء الكثير الفاني. فالخليل يفعل ذلك لا يخاف أن يقطع سليمان راتبا كان له عنده. ولنكمل القصة مع صاحب كتاب إتحاف الأعيان (٢) حين يقول : «وكان سليمان رتب له راتبا فقطعه عنه فقال :

إن الذي شق فمي ضامن

للرزق حتى يتوفاني

حرمتنى مالا قليلا فما

زادك في مالك حرماني

فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته فكتب إلى الخليل يعتذر وأضعف جائزته فقال الخليل:

وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت

منها التعجب جاءت من سليمانا

لا تعجبن لخير زلّ عن يده

فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا

فرجل مثل الخليل له راتب ، وتضاعفت جائزته أو راتبه لدى سليمان لا يمكن أن يكون بهذه الصورة العجيبة من التقشف وتشقق القدمين وشحوب الوجه وتمزق الثياب إلى حدّ تلك الصورة المريبة. وكل ما حدث أنه رجل صاحب كبرياء وكرامة أراد أن يحافظ عليها ، والصورة ـ كما قال أحد الباحثين ـ (٣) : «أن زهده وعفة نفسه وعزته واباءّه كل أولئك : حال بينه وبين الشهرة ، وقعد بصيته أن يطير حينذاك وبفضله أن ينشر ويذيع ، لأنه آثر أن يغلق عليه بابه فما تجاوزه همه عن أن يقف على باب أمير أو وال يستندي الأكف ويبذل من شممه وعزة نفسه ما يملأ جيبه بالنضار ، ويريق من ماء وجهه ما يرفع منزلته عند الناس ويخفضها عند الله ويصلح من دنياه بقدر ما يفسد من دينه»

هكذا صوّر المؤرخون الخليل وإن كنا نرى في أشعاره ما

__________________

(١) حول : احتيال محتال.

(٢) إتحاف الأعيان ١ / ٥٥.

(٣) عبد الحفيظ أبو السعود في كتابه : «الخليل بن أحمد» ص ٤٠. ٤١.

٢٨

يمكن ـ من خلالها ـ القول بأنه مع كل ذلك كان سعيدا بحياته يحياها مؤمنا بها تفيض مشاعره للحسن والجمال ، ولنقرأ ما يقوله الخليل سواء كان القول من خلال قصيدته النحوية أو أشعاره التي رويت عنه في كتب التراجم والتاريخ ، أو حتى أقواله المأثورة عنه ، لنرى الجانب الآخر من صورة الخليل بن أحمد الذي يقول في منظومته :

وتقول إنى قد مررت بطفلة

بيضاء تستلب النفوس وتخلب

أبصرتها فغضضت عنها ناظري

خوف القصاص وظلّ قلبي يرغب

ويقول :

وتقول إن رخمت زينب صادقا

يا زين إن البين فيه تشعّب

ويقول :

عهدي بكلثم أو سعاد وأختها

والحي في سعة ولما يشعبوا

رعبوبتين خريدتين كأنّ في

درعيهما الأترجّ حين يطيّب

لا تجر مصرا مفردا ما لم يكن

ألف ولام في البلاد يركّب

ولدى الرباب مقرّ كل ملاحة

تسبيك حاسرة وحين تجلبب

ويقول :

والتاء إن زادت فخفض نصبها

ما عن طريق الخفض عنها مهرب

فتقول إن بنات عمك خرّد

بيض الوجوه كأنهن الربرب

إن هذه الأبيات تدل على نفس تتمتع بالرضا وطمأنينة الحياة وهدوئها ، نفس امتزجت بالحياة وبالبشر ، ليست منعزلة أو منقطعة عن التواصل البشري ،

٢٩

والملاحظ أيضا من خلال البحث في تراث الخليل وأقواله أن المأثور النثري عن الخليل يعطي هذا الانطباع.

فقد نقل صاحب إتحاف الأعيان (١) عن الخليل قوله : ثلاثة تنسينى المصائب : مرّ الليالى ؛ والمرأة الحسناء ومحادثات الرجال» بل وينقل لنا المؤلف نفسه شعرا للخليل يحمل رقة مشاعره قائلا (٢) : وللخليل ثلاثة أبيات على قافية واحدة يتفق لفظها ويختلف معناها وهي :

يا ويح قلبي من دواعي الهوى

إذ رحل الجيران عند الغروب

اتبعتهم طرفي وقد أزمعوا

ودمع عيني كفيض الغروب

بانوا وفيهم طفلة حرّة

تفترّ مثل أقاحي الغروب

والمتأمل لتلك الأبيات وللبيت رقم ٢٠٩ من منظومة الخليل النحوية والذي يقول فيه :

وتقول إنى قد مررت بطفلة

بيضاء تستلب النفوس وتخلب

أقول : إن المتأمل يجد نوعا من الانسجام بين القولين ، فهو يقول «طفلة حرة» ، ثم يقول «مررت بطفلة بيضاء» فالطفلة جاءت رمزا للمتغزّل فيها في الاثنين ولعل ذلك التوافق يؤدي إلى القول : بأن ثبوت أحد النصين للخليل يثبت النص الآخر له أيضا.

إن النماذج والأمثلة النحوية الواردة في منظومة الخليل لتدل دلالة كبيرة على طبيعته التي يتحدث عنها المؤرخون ، فإننا لواجدون في قصيدته ما يجعلنا نوقن بالشق الأول حين يقول في المنظومة (البيت ١٩٩).

__________________

(١) إتحاف الأعيان : سيف البطاشي ١ / ٦٦. وانظر معجم الأدباء لياقوت الحموي ١١ / ٧٢ هامش.

(٢) إتحاف الأعيان ١ / ٦٥.

٣٠

فتقول من يزر النبي محمدا

يكن النبي شفيعه يا موهب

كذلك عند ما تتحدث كتب التاريخ والسير والأخبار عن تقواه وعبادته وأدبه وتواضعه وجهاده فإنّ ذلك معناه أنه لم يعبأ بالحياة المادية ، وأنه اهتم بخدمة الدين والعلم : يقول الدكتور مهدي المخزومى (١) : «وكان الخليل من أهل الدين الذين جاهدوا في سبيله ، وكان لجهاده في سبيل الدين ألوان. اصطبغ مرة بالسياسة ، واصطبغ مرة بالعلم ، ولما لم تسعفه الظروف السياسية في كفاحه السياسي انصرف إلى خدمة الدين عن طريق العلم ، وقد عكف على العلم عكوف المتصوفين ، وانصرف إلى طلبه تاركا الحياة المادية ، غير عابئ بجاه أو منصب واعتزل في خصه مغلقا عليه بابه».

على أية حال يبدو أن حياة الخليل كان لها شقان :

الشق الأول من حياته : كان الخليل فيه شابا يخرج في طلب العلم يلتقي بالناس ، ذا علاقات اجتماعية مختلفة ، وربما كتب بعض غزلياته في هذه المرحلة.

الشق الثاني من حياة الخليل : وهو مرحلة ما بعد ذلك ، وفيها كان الخليل زاهدا عاكفا على علمه مفكرا في وضع وابتكار ما ابتكره من علم العروض ومعجم العين وغير ذلك من إضافاته اللغوية الجديدة. (٢)

لكن المؤكد أن الخليل في شقي حياته لم ينجذب إلى اللهو والعبث والمجون كما يفعل غيره شبابا وشيوخا ، لم تستهوه مجالس الطرب والأنس

__________________

(١) أعلام العرب ٦٩ ، أتحاف الأعيان ١ / ٦٥.

(٢) الخليل بن أحمد الفراهيدي ، أعماله ومنهجه ، ص ٥٠.

٣١

والشراب فقد كان مشغولا بأمور أهم من هذا العبث الصبياني.

والمرحلة الثانية التي يتسم فيها الإنسان بالوقار والنضج والحلم هي مرحلة ما بعد الأربعين ، وهي تلك المرحلة التي يقول عنها الخليل في منظومته النحوية (البيت ١٨٤).

قطني وقدني من مجالسة الأولى

قد أتعبوا بدني الضعيف (١) وأنصبوا

والخليل نفسه كان يقول (٢) : «أكمل ما يكون الإنسان عقلا وذهنا إذا بلغ أربعين سنة ، وهي السن التي بعث الله تعالى فيها محمدا صلّى الله عليه وسلّم ، ثم يتغير وينقص إذ بلغ ثلاثا وستين سنة ، وهي السن التي قبض فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر».

هذه هي صورة الخليل العاقل الحليم الوقور الحكيم الذي كان يقول الحكمة في شعره ونثره ، بل حتى في تصرفاته كان حكما مع أصدقائه وأساتذته عند محاورته أو حتى سكوته ، وقد جاءت بعض النماذج في قصيدته النحوية دالة على ذلك. عنذما يقول في البيت ٢٥٩ :

لا خير في رجل يعرض نفسه

للذم لا. لا خير فيمن يغضب

أو حينما يقول في البيت ٢٨٨ :

 ............

كل امرئ إن عاش يوما ينكب

وفي البيت ٢٣٨ :

وعلام تظلمنا وتبخس حقنا

والحق أحسن ما أتيت وأوجب

__________________

(١) لا تعني «بدني الضعيف» شحوب الوجه وتشقق القدمين وتمزق الثياب.

(٢) وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٢٤٥.

٣٢

والملاحظ أن نماذج الحكمة عند الخليل لم تخرج عن تلك النماذج التي رويت عنه في كتب التراجم والمؤرخين ، فمن أشعاره التي رويت عنه قوله (١) :

وقبلك داوى الطبيب المريض

فعاش المريض ومات الطبيب

فكن مستعدا لدار الفناء

فإن الذي هو آت قريب

وأيضا هو الذي يقول (٢) :

وما هي إلا ليلة ثم يومها

وحول إلى حول وشهر إلى شهر

مطايا يقربن الجديد إلى البلى

ويدنين أشلاء الكرام إلى القبر

ويتركن أزواج الغيور لغيره

ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر

وكل هذه أشعار تدل على حكمة وتعقل وفهم للحياة ، تدل على أن الخليل تمرس بالحياة ، كثيرا وخبرها قبل هذه العزلة التي فرضها على نفسه ، وعند لقائه ومحاوراته مع غيره لم يكن يجيب إلا بعد روّية ولم يكن يدعي أن ما أتى هو القول النهائي ، أو يتعرض لغيره من العلماء بسوء (٣).

فقد حكى عنه صاحب إتحاف الأعيان قائلا : «قال النضر بن شميل : جاء رجل من أصحاب يونس إلى الخليل يسأله عن مسألة فأطرق الخليل يفكر وأطال حتى انصرف الرجل ، فعاتبناه فقال «ما كنتم قائلين فيها؟!» قلنا : كذا وكذا ، قال فإن قال كذا وكذا ، قلنا : نقول : كذا وكذا ، فلم يزل يغوص حتى انقطعنا وجلسنا نفكر ، فقال : إن المجيب يفكر قبل الجواب ، وقبيح أن يفكر بعده ، وقال ما أجيب بجواب حتى أعرف ما عليّ فيه من الاعتراضات

__________________

(١) معجم الأدباء ١١ / ٧٦ ، اتحاف الأعيان ١ / ٦٣.

(٢) اتحاف الأعيان ١ / ٦٣.

(٣) مكانة الخليل بن أحمد في النحو العربي.

٣٣

والمؤاخذات» (١) أي حكمة وأي عقل هذا الرجل الذكي الذي يقول! «لا يعرف الرجل معلمه حتى يجالس غيره» (٢).

إنه حكيم في كلامه وأفعاله وحديثه ، كما أنه حكيم في صمته.

ولنتأمل ما يحكيه ابن العماد الحنبلي (٣) عن الخليل عند ما يقول : «لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء جلس إليه ولم يتكلم بشيء ، فسئل عن ذلك فقال : هو رئيس منذ خمسين سنة فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد». أي أدب هذا! وأي حكمة بالغة في صمته والتعليق عليه؟ لقد حق أن يقال عنه إنه كان إماما كبير القدر خيّرا متواضعا فيه زهد وتعطف (٤).

أما نماذجه وتمثيله في منظومته النحوية فهي دالة دلالة يقينية على تقواه ونقائه وحبه للعبادة ونماذج ذلك كثيرة يستطيع أن يلمحها القارئ للمنظومة ويكفي أن نقرأ قوله في البيت ٢٣٤ :

وتقول لا تدع الصلاة لوقتها

فيخيب سعيك ثم لا تستعتب

وفي البيتين ١٦٤ ، ١٦٥ يقول :

اخرج فاتهم وأنت بنادهم

فانظر فأي مؤذنيك يثوّب

فأجب ولا تدع الصلاة جماعة

إن الصلاة مع الجماعة أطيب

إن هذه الأبيات دالة على صفاته التي حكيت عنه وذكرت من ضمن صفاته الكثيرة ، فقد كان تقيّا ورعا زاهدا تهيمن عليه آداب العلماء الحقة فيما يقوله أو

__________________

(١) إتحاف الأعيان ١ / ٦٥.

(٢) السابق ١ / ٦٦.

(٣) شذرات الذهب في أخبار من ذهب ١ / ٢٧٧.

(٤) السابق نفسه.

٣٤

يفعله (١) ، يقول في البيتين ١٢٧ ، ١٢٨ :

والأمر بالنون الخفيفة فاعلمن

والنهي أصعب في الكلام وأعزب

لا تعصين الله واطلب عفوه

لا تشربن خمرا فبئس المشرب

ثم يقول في البيت ١٩٢ :

بعدا لجاحد ربه سحقا له

يوم القيامة في السعير يكبكب

وفي البيت ١٩٧ :

وتقول من يعمل ليوم معاده

يسعد به وهو الحظيّ المنجب

__________________

(١) مكانة الخليل بن أحمد في النحو العربي د. جعفر نايف عبابنه ، ص ٢٤. ٢٥.

٣٥

ثانيا : المنظومة

١ ـ وصف عام لمنظومة الخليل

جاءت منظومة الخليل النحوية في ٢٩٣ بيتا من النظم الذي اقترب من الشعر في لغته الرقيقة ، وصاغها الخليل على وزن عروضي يسمى «بحر الكامل التام» الصحيح العروض والضرب ، وتفعيلات هذا الوزن تأتي على الصورة التالية :

متفاعلن متفاعلن متفاعلن

متفاعلن متفاعلن متفاعلن

ضمت الكثير من أبواب النحو العربي وتركت القليل منها ، جاءت مقدمتها التي وصلت إلى ٢٦ بيتا تمهيدا للقارئ وتوطئة نفسية له بدلا من الدخول إلى النحو مباشرة. يقول في أولها :

الحمد لله الحميد بمنّه

أولى وأفضل ما ابتدأت وأوجب

حمدا يكون مبلّغي رضوانه

وبه أصير إلى النجاة وأقرب

وعلى النبيّ محمد من ربه

صلواته وسلام ربّي الأطيب

إني نظمت قصيدة حبّرتها

فيها كلام مونق وتأدب

لذوي المروءة والعقول ولم أكن

إلّا إلى أمثالهم أتقربّ

عربية لا عيب في أبياتها

مثل القناة أقيم فيها الأكعب

تزهو بها الفصحاء عند نشيدها

عجبا ويطرق عندها المتأدب

إلى أن وصل إلى نهاية المقدمة وبداية الموضوع النحوي الأول قائلا :

فإذا نطقت فلا تكن لحّانة

فيظل يسخر من كلامك معرب

النحو رفع في الكلام وبعضه

خفض وبعض في التكلم ينصب

واستمر الخليل في معالجة كثير من الأبواب النحوية ، حتى وصل إلى نهاية المنظومة وأنهاها بقوله :

النحو بحر ليس يدرك قعره

وعر السبيل عيونه لا تنضب

فاقصد إذا ما عمت في آذيّه

فالقصد أبلغ في الأمور وأذرب

٣٦

واستغن أنت ببعضه عن بعضه

وصن الذي علّمت لا يتشذّب

وبين المقدمة والنهاية عالج أمورا نحوية كثيرة بأسلوب يتسم بالسهولة والابتعاد عن التعقيد ، جاء متسقا مع سهولة عرض القضايا النحوية فكأنه يعيش معنا الآن بأسلوبه الذي يصل إلى متلقيه سريعا وابتعاده عن الجدل النحويّ.

هناك ملاحظة مهمة حول الأبيات الأخيرة حيث يوجه الخليل نصيحته إلى متعلمي النحو قائلا «إن النحو بحر عميق لا يدرك قاعه ، وعر المسالك ، عيونه تفيض بغزارة».

وهو هنا يشير إلى المسائل الخلافية في النحو والتعليلات ، وفلسفات النحو وتفريعات قضاياه ، إنه كالأمواج المتلاطمة في بحار عميقة لا قرار لها ، ومن هنا فإن على المتعلم أن يقتصد ، وأن يأخذ منه بحذر لأن الإفراط في معرفة أصوله وفروعه له نتائج وخيمة لمن لم يتسلح للدخول إليه.

أما الشادون من المتعلمين فعليهم أن يدخلوا إلى أبواب النحو برفق ، وهذا إرشاد صائب لمن شاء أن يتعلمه ، فبعضه يغني عن بعض ، لكن المفيد أن تحتفظ وتعي وتصون ما تعلمته فلا يستغنى عنه.

٢ ـ تحقيق نسبة هذه المنظومة إلى الخليل

هناك وسائل كثيرة للوصول إلى حقيقة نسبة أي عمل إلى صاحبه ، من هذه الوسائل المهمة ما أطلق عليه علماء أصول التربية «النقد التاريخي» (١) أو «الأدلة التاريخية» (٢) ، ويقصد بها مجموع الحقائق والمعلومات التي تثبت صحة العمل المقصود بالدراسة ، والتحقق من صحة نسبته بحيث يمكن قبوله في نهاية الأمر والثقة به والغرض من هذا النقد التأكد من صدق المصدر وصحة المادة الموجودة في هذا المصدر والتي تكون موطن الدراسة ، ويكون الشك هو بداية الحكمة على حد تلك المقولة الشائعة (٣) ، وسنتخذ من هذا

__________________

(١) مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والتربوية تأليف لويس كوهين ، لورانس مانيون ترجمة أ. د. كوثر حسين كوجك. أ. د. وليم تاوضروس عبيد مراجعة أ. د. سعد مرسي أحمد ، الطبعة الأولى ١٩٩٠ ، صفحة ٨٠.

(٢) مناهج البحث في التربية وعلم النفس تأليف أ. د. جابر عبد الحميد جابر وأ. د. أحمد خيرى كاظم ، القاهرة ١٩٩٠ ، ص ١٢٠.

(٣) المصدر السابق نفسه.

٣٧

المنهج النقدي معيارا لنا في البحث عن صحة نسبة هذه المنظومة إلى الخليل.

هذا المنهج النقدى الذي ينقسم إلى نوعين رئيسيين : أولهما يعرف بالنقد الخارجي ، وثانيهما يعرف بالنقد الداخلي.

أولا ـ النقد الخارجي :

يهدف هذا النقد إلى التحقق من صحة الوثائق من حيث انتسابها إلى صاحبها وإلى العصر الذي تنسب إليه (١) ، ويهتم هذا النقد أيضا بتأكيد أصالة البيانات الواردة وخلوها من أيّ زيف ، لهذا يوجّه النقد الخارجيّ إلى الوثيقة وليس إلى ما تحتويه من مضمون ، ويركز على التحليل الشكليّ وليس على تفسيرها أو معناها بالنسبة للدراسة ـ موضع البحث (٢).

وينقسم النقد الخارجي إلى نوعين :

(أ) نقد التصحيح. (ب) نقد المصدر.

(أ) نقد التصحيح :

أما عن نقد التصحيح فيتضمن النظر إلى الوثيقة المقصودة بالدراسة والنظر إلى نسخها ، أوجدت نسخة بخط المؤلف ، فتكون هي الأصل وتقوم الدراسة عليها؟ أم أنها مكتوبة بخط شخص آخر غير المؤلف وليس هناك إلا نسخة واحدة يمكن أن يكون بها أخطاء لجهل الناسخ فينبغي أن يصحح الباحث هذه الأخطاء بالإشارة إليها مستفيدا من خبرته. أم أن هذه الوثيقة لها أكثر من نسخة ، وفي هذه الحالة ينبغي أن يقوم الباحث بدراسة هذه النسخ لكي يتبين ما يرجح منها إلى أصل واحد ، ويمكنه التعرف على ذلك من احتواء هذه المخطوطات على الأخطاء نفسها في المواضع نفسها فيظهر الأصل أو المخطوطة التي نقل عنها ، وفي هذه الحالة تعدّ الأخيرة مخطوطة من الدرجة الأولى (٣) بحيث يعتمد عليها.

__________________

(١) مناهج البحث في التربية وعلم النفس ١٢٠.

(٢) مناهج البحث في العلوم الإجتماعية والتربوية ٨١.

(٣) مناهج البحث في التربية وعلم النفس ١٢١ ـ ١٢٤.

٣٨

(ب) نقد المصدر :

ويتضمن مصدر الوثيقة ومؤلفاتها وزمانها فقد تكون هناك وثيقة عظيمة القيمة ولكنها تنسب إلى شخصية أخرى غير واضعها.

وسنحاول فيما يلي تطبيق هذا المنهج سواء ما اتصل بنقد التصحيح أم بنقد المصدر ، حيث استطعنا جمع عشر نسخ كلها بخطوط مختلفة ليس من بينها النسخة الأصلية ، كما أننا حريصون على إيضاح زمن كتابة هذه المنظومة ، حيث يمثل ذلك نقطة مهمة في توثيق نسبة النص إلى صاحبه وذلك من خلال بعض الإشارات الواردة عن هذه المنظومة.

ثانيا : النقد الداخلي

وله أهمية كبيرة في دراستنا هذه ، حيث تتضمن هذه المرحلة تقييم المنظومة ومعلوماتها وبيان صدق المادة العلمية الموجودة بالوثيقة ، وعلى ذلك فإن الباحث يواجه مشكلات أصعب كثيرا مما يواجهه في مرحلة النقد الخارجي (١) حيث ينبغي دراسة دقيقة تبيّن هل تتعارض مع ما ورد عن المؤلف في مصادر أخرى ، ويتطلب هذا من الباحث أن يلمّ جيدا بلغة كاتب الوثيقة ولغة العصر الذي عاش فيه وكتب فيه الوثيقة (٢) ، ويعلي الأستاذ عبد السّلام هارون من قدر هذه الاعتبارات التاريخية قائلا (٣) : «وتعدّ الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها» ولهذا كنّا حريصين على هذا المقياس فتوقفنا كثيرا أمام ذكر قطرب الذي توفي بعد الخليل حيث ذكره الخليل في منظومته ، وقارنا بين لغة الخليل في المنظومة وما ورد مرويّا عنه في غير ذلك من المراجع ، وقارنا بين ما نقل عن شخصيته وما ورد من معان في أمثلته التطبيقية.

__________________

(١) مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والتربوية ٨١.

(٢) مناهج البحث في التربية وعلم النفس ١٢٦.

(٣) تحقيق النصوص ونشرها عبد السّلام هارون الطبعة الثانية ص ٤٣.

٣٩

وهذا «النقد الداخلي» ـ كما يطلق عليه علماء أصول التربية ـ هو الأكثر أهمية ، وهو ما يطلق عليه الاستاذ المحقق عبد السّلام هارون : (تحقيق متن الكتاب) الذي يقتضي من الباحث الأداء الصادق ، والأمانة والصبر.

يقول الاستاذ عبد السّلام هارون (١) : «ليس تحقيق المتن تحسينا أو تصحيحا ، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف وحكم عل عصره وبيئته ، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير».

ومن هنا سنحاول قدر الإمكان مقارنة المعاني والنصوص والمصطلحات بما ورد على لسان الخليل دون تدخل إلا بتفسير أو تحليل ، وسنترك بعض العناوين التي جاءت في غير مكانها أو اندرج تحتها ما ليس لها ، مع الإشارة إلى ذلك ، والقارئ الكريم يستطيع متابعة ذلك وتكوين رأي فيما يقرؤه ، وإن صحح خطأ من الأخطاء فسوف تتم الإشارة إليه.

من المؤكد أن هذه المنظومة النحوية لم تأخذ حقها في الظهور ولم تشتهر على الساحة النحوية شهرة غيرها من المنظومات النحوية الأخرى التي جاءت بعدها في عصور تالية ، ولعل ذلك يثير بعض التساؤلات عن أسباب خفاء هذه المنظومة حتى هذا الوقت المتأخر في حقل الدراسات النحوية واللغوية. هل تخوّف الدارسون من فكرة نسبتها للخليل؟ وهو من هو في حقل الدراسات النحوية واللغوية؟ هل ظلّت طوال كل هذا الزمن مغمورة لا يعرف من أمرها شيء ؛ ولم تصل إليها أيدي الدارسين فظلت في خدرها لم يقترب منها أحد؟ هل عزف عنها الدارسون لأسباب فنية أخرى؟

لا شك أن التنقيب داخل المخطوطات المحفوظة في المكتبات الخاصة أو

__________________

(١) تحقيق النصوص ونشرها ٤٤.

٤٠