المنظومة النحويّة

الخليل بن أحمد الفراهيدي

المنظومة النحويّة

المؤلف:

الخليل بن أحمد الفراهيدي


المحقق: الدكتور أحمد عفيفي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٣

معرفتنا بأن قائل هذا البيت ابن مروان النحوي إنما هو مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة ، أحد أصحاب الخليل المتقدمين المبرزبن في النحو (١) ، ولعل ذلك ينبئ عن أن الخليل قد أخذ هذا البيت عن صاحبه مروان مستشهدا به (٢) ثم جاء سيبويه لينقل هذا الرأي كاملا عن الخليل مع البيت السابق المستشهد به ؛ وفي عبارة سيبويه ما يوحي بذلك عند ما يقول خلال العرض السابق : «يحسن الجر في هذا كله وهو عربي» وإذا دلّ هذا على شيء ، فإنما يدل على أن ما ورد عن الخليل في منظومته لا يتعارض مع ما ورد عنه في بقية المصادر ، ولعل ما ورد عند سيبويه قرينة قوية على أن هذا الرأي للخليل ، ربما لم يشر سيبويه قرينة قوية على أن هذا الرأي للخليل ، ربما لم يشر سيبويه صراحة إلى ذلك ، لكن أسلوبه الذي ألمحنا إليه سابقا ، بالإضافة إلى استخدامه لغة الحوار في هذا الموضع قائلا «فلو قلت» ، «فإن قلت» يدل على ما نحاول إثباته ونبحث عنه.

النداء المفرد المنعوت :

موضوع النداء لدى الخليل موضوع يستحق الدراسة ، حيث يظهر لنا أن بعض عناوين جزئياته جاءت في غير مكانها ، أو جاءت نماذج التمثيل عنده مخالفة للعنوان ؛ أو أن هناك شيئا ما يجب أن يلحظ لدى الخليل ، ومما استوقفني عنوان : (باب النداء المفرد المنعوت) الذي يقول الخليل تحته (٣) :

وإذا أتيت بمفرد ونعتّه

فانصب فذاك ـ إذا فعلت ـ الأصوب

يا راكبا فرسا ويا متوجها

للصيد دونك إن صيدك محصب

عند قراءتي لهذين البيتين ذهبت في أول الأمر إلى أن البيت الثاني وضع

__________________

(١) الكتاب ١ / ٩٧ هامش للأستاذ المحقق عبد السّلام هارون.

(٢) ولعل ذلك يدل على إمكانية أن يذكر الخليل بيتا من الشعر ليس له كما يذكر رأيا لأحد من معاصريه كما فعل مع سيبويه وقطرب ، وأيضا ربما يعطي دلالة أخرى مهمة عند ما يستخدم الخليل (مهلب) في نماذجه التمثيلة.

(٣) المنظومة البيتان ١١١ ، ١١٢.

١٢١

خطأ تحت هذا العنوان حيث يعلم من له علاقة ـ ولو يسيرة ـ بالنحو أن المثال : (يا راكبا فرسا) نداء من النوع الشبيه بالمضاف ، وليس نداء المفرد ، لأنه قد تعلق به شيء من تمام معناه ، فحاولت استقصاء الأمر فوجدت ما هو أكثر غرابة من ذلك. فقد ورد في كتاب (الجمل) نص غريب يجب أن نتوقف أمامه بعد نقله كاملا يقول الخليل (١) : والنصب من نداء النكرة الموصوفة قولهم : (يا رجلا في الدار) ، و (يا غلاما ظريفا) ، نصبت لأنك ناديت من لم تعرفه ، فوصفته بالظرف ، ونحوه ؛ قول الله تبارك وتعالى : في (يس) (٢) : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) وقال الشاعر (٣) :

فيا راكبا إما عرضت فبلغن

تداماي من نجران ألا تلاقيا

وقال آخر (٤) :

يا ساريا بالليل لا تخش ضلّة

سعيد بن سلم ضوء كل بلاد

وقال آخر (٥) :

أدارا بحزوى هجت للعين عبرة

فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق

فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها

ويا حاطبا في غير حبلك تحطب (٦)

فنصب (راكبا) و (ساريا) و (موقدا) و (دارا) لأنها نداء نكرة موصوفة.

ويبدو أننا هنا أمام مشكلة ، وهي مفهوم كلمة (مفرد) لدى الخليل وكذلك هل يرتبط بيتا المنظومة السابقان اللذان أشار في أولهما إلى كلمة (مفرد) ، ثم مثّل للثاني : (يا راكبا فرسا).

لو كان المقصود بالمفرد (العلم المفرد) لكان قصد الخليل أن المفرد المنعوت

__________________

(١) الجمل ٥٢ / ٥٣.

(٢) الآية ٣٠.

(٣) البيت منسوب لعبد يغوث في كتاب سيبويه ٢ / ٢٠٠ ، المقتضب ٤ / ٢٠٤ ؛ شرح الأشموني ٣ / ١٤ ، شرح الشواهد للعيني ٣ / ١٤. شرح المفصل ١ / ١٢٧.

(٤) لم أعثر له على قائل.

(٥) ذو الرمة ؛ الكتاب ٢ / ١٩٩ ، شرح المفصل لابن يعيش ٧ / ٦٣.

(٦) ورد البيت في همع الهوامع ١ / ١٤٨.

١٢٢

مثل (يا زيد الطويل) رفعا ونصبا لكلمة الطويل وإن كان يميل إلى النصب كما تبين من عبارته في المنظومة :

[فانصب فذاك ـ إذا فعلت ـ الأصوب]

ويبدو من خلال الحوار بين الخليل وسيبويه أن ذلك هو المقصود قال سيبويه (١) : «قلت : أرأيت قولهم : يا زيد الطويل ـ علام نصبوا الطويل؟ قال : نصب لأنه صفة لمنصوب. وقال : إن شئت كان نصبا على (أعني). فقلت : أرأيت الرفع على أي شيء هو إذا قال : يا زيد؟ قال هو صفة لمرفوع» وواضح أن النصب له تخريجان عند الخليل ، أما الرفع فله تخريج واحد ، ومن هنا ربما كان الأرجح (النصب).

وعلى هذا يكون البيت التالي من المنظومة ليس واقعا تحت هذا العنوان ، وإنما هو بيت منفصل يكون له عنوان : باب نداء النكرة الموصوفة مثلا.

وربما كان هناك معنى آخر لكلمة (مفرد) وهو غير المركب ، وتعني الكلمة الواحدة غير المركبة سواء كانت علما أو غيره ، ولعل في قول الخليل الآتي ما يدل على ذلك :

فإذا دعوت من الأسامي مفردا

فارفع فهو لك إن رفعت مصوّب

وهذه إشارة إلى أن من الأعلام ما هو مفرد وما هو غير مفرد (مركب) وكلمة (مفرد) يمكن أن تعطي هذه الدلالة من حيث تقسيماتها الواردة في النحو العربي ، حيث يكون (المفرد) هو ما ليس جملة ولا شبه جملة ، وكذلك (المفرد) هو ما ليس مضافا ولا شبيها بالمضاف وهنا نضع رحالنا أمام ما ورد عند الخليل في تمثيله في المنظومة بقوله : (يا راكبا فرسا) : وما ورد في (الجمل) : (يا ساريّا بالليل) ، وقوله (أدارا بحزوى) ، وقوله (يا موقدا نارا) مما أطلق عليه النحويون فيما بعد : الشبيه بالمضاف ، وهو كما يعرفه ابن هشام (٢) بأنه «ما اتصل به شيء من تمام معناه» وتندرج تحته كل

__________________

(١) الكتاب ٢ / ١٨٣.

(٢) شرح قطر الندى وبل الصدى ٢٠٣.

١٢٣

الأمثلة السابقة.

وقد قال سيبويه (١) : «وقال الخليل ـ رحمه الله ـ : إذا أردت النكرة فوصفت أو لم تصف فهذه منصوبة ؛ لأن التنوين لحقها فطالت ، فجعلت بمنزلة المضاف لما طال نصب وردّ إلى الأصل كما فعل ذلك ب (قبل وبعد).

وزعموا أن بعض العرب يصرف (قبلا وبعدا) فيقول : (ابدأ بهذا قبلا) فكأنه جعله نكرة. فإنما جعل الخليل ـ رحمه الله ـ المنادى بمنزلة (قبل وبعد) ، وشبهه بهما مفردين [إذا كان مفردا] فإذا طال أو أضيف ؛ شبهه بهما مضافين إذا كان مضافا لأن المفرد في النداء في موضع نصب» وجعل الخليل ـ كما ذكر سيبويه ـ منه قول الشاعر :

أدارا بحزوى ...

وقول الشاعر :

فيا راكبا إما عرضت ...

وإذا انطبق على البيت الثاني إطلاق النكرة ، فإن البيت الأول يطلق عليه الشبيه بالمضاف ، أو على حدّ رأي الخليل ـ النكرة الموصوفة ، ويكون المقصود بكلمة (المفرد) الاسم النكرة غير المضاف الذي وصف. وتمثيل الخليل يتشابه تماما فيما رواه عنه سيبويه من قول الشاعر (أدارا بحزوى) مع هذا القول نفسه الذي ورد في (الجمل) ، وذلك أيضا متطابق مع ما ورد في المنظومة حيث جاء بالشبيه بالمضاف في مثالين قائلا :

يا راكبا فرسا ويا متوجها

للصيد دونك إن صيدك محصب

وعلى هذا ؛ لم يذكر الخليل ولا سيبويه ما يسمى بالشبيه بالمضاف بل وتبعهما المبرد (٢) في عدم ذكر في الشواهد نفسها ، مما دل على الاطراد في عدم ذكر الشبيه بالمضاف واعتباره نكرة موصوفة [أدارا بحزوى ـ يا ساريا بالليل] أو غير موصوفة [يا راكبا فرسا]. ويبقى نص الخليل في منظومته غامضا في دلالته ، فلا ندري ما الذي يقصده بشكل محدد.

__________________

(١) الكتاب ٢ / ١٩٩.

(٢) انظر المقتضب ٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٦.

١٢٤

٣ ـ النداء المضاف

يقول الخليل تحت عنوان «باب النداء المضاف» (١)

فإذا أتت ألف ولام بعدها

وأردت فانصب ما تريد وتوجب

يا زيد والضحاك سيرا نحونا

فكلا كما عبل الذراع مجرّب

وفي هذا العنوان وما تلاه مشكلة أخرى ، فما الذي يعود على الضمير في قوله «بعدها». ربما يكون المقصود (لام بعد الألف) لتصبح (أل) التعريفية ، ويكون السؤال إذا ما المقصود بالبيت؟ ربما يقصد في هذه الحالة المنادى المضاف ، حيث يكون المضاف مقترنا ب (أل) ، وفي هذه الحالة يكون حكمه النصب وجوبا ، وإن كان هذا المعنى ضعيفا إذ المضاف غير المقترن ب (أل) يجب نصبه أيضا ، ويكون البيت الثاني لا علاقة له بالبيت الأول مع أنه يندرج تحت العنوان ويفترض أن يكون له علاقة به ، مع أن البيت الثاني له علاقة بالعنوان في كل الأحوال.

إذا فالمقصود هو العطف على المنادى المفرد باسم مقترن بالألف واللام ، وذلك ما ورد في المثال بالبيت الثاني في قول الخليل : (يا زيد والضحاك) ؛.

وعلى هذا يكون المقصود جواز عطف المقترن بال على المنادى بالنصب أو الرفع وإن كان الواجب حسب القياس الرفع ، فإذا كان الخليل تكلم عن النصب أولا قائلا : [وأردت فانصب ما تريد] فقد قال (وتوجب) ، أي توجب (يا زيد والضحاك) بالرفع حسب القياس».

وقد نقل سيبويه عن الخليل ما يفيد ذلك حين يقول في الكتاب (٢) : «وقال الخليل ـ رحمه الله ـ من قال (يا زيد والنضر) فنصب ، فإنما نصب لأن هذا كان من المواضع التي يردّ فيها الشيء إلى أصله ، فأما العرب فأكثر ما رأيناهم يقولون : (يا زيد والنضر) ، وقرأ الأعرج : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (٣) فرفع ، ويقولون : (يا عمرو والحارث).

وقال الخليل رحمه الله : هو القياس كأنه قال و (يا حارث) ، ولو حمل

__________________

(١) المنظومة البيتان ١٠٩ ، ١١٠.

(٢) ٢ / ١٨٦ ، ١٨٧.

(٣) سورة سبأ الآية رقم ١٠.

١٢٥

(الحارث) على (يا) كان غير جائز البتة نصب أو رفع من قبل أنك لا تنادي اسما فيه الألف واللام بيا».

وإذا كان الخليل يشير إلى أن القياس الرفع ، فيكون واجبا لأن النصب ـ مع استخدام البعض له يكون على غير القياس ، والمبرد يشير إلى أن الخليل وسيبويه يختارون الرفع (١) ، وتعليق السيرافي (٢) الوارد على كلام الخليل السابق يصل بالكلام إلى حدّ ذكر الوجوب فإذا كان الاختيار النضر؟ (يا زيد والنضر) الرفع ، لأنه علم ، فإن الإختيار في مثل [يا زيد والرجل] النصب ، بل وجوب ذلك ، فالأخير ليس بعلم وهو اختيار أبي العباس.

وذكر الوجوب هنا في تلك القضية وارد لدى الخليل والسيرافي الذي قام بشرح كتاب سيبويه ، وعلّق على آراء الخليل.

وفي كتاب الجمل أورد الخليل الآية الكريمة السابقة مشيرا إلى قراءة من قرأ (والطير) على الرفع ، ومجازه (وليؤوّب الطير معك) (٣).

إذا فنصّ المنظومة مستقيم غير متعارض فيما نقله عن سيبويه في (الكتاب) وفيما ورد في كتاب (الجمل) ، وإنما التعارض جاء بين العنوان وما اندرج تحته فقط حيث كان العنوان عن (النداء المضاف) والمندرج تحته (كان العطف على المنادى).

٤ ـ قط ، قد ، حسب ، كفى

يشير الخليل إلى أن هذه الكلمات الأربعة. بمعنى واحد سواء ما جاء في باب (حسب وكفى) أو ما جاء في باب (قطك وقدك) يقول (٤) :

وتقول : (قطك وقدك ألفا درهم) فهما ك (حسبك في الكلام وأثقب)

والمعنى المشترك بينهما هو (يكفي). يقول الخليل (٥) : «وأما (حسب) (مجزوما) فمعناه كما تقول : (حسبك هذا) ، أي كفاك ، و (أحسبني ما

__________________

(١) المقتصب ٤ / ٢١٢.

(٢) الكتاب ٢ / ١٨٧ (هامش ٩ من تعليق المحقق الشيخ عبد السّلام هارون.

(٣) الجمل في النحو العربي ٨٤.

(٤) المنظومة البيت ١٨٣.

(٥) العين ٣ / ١٤٩.

١٢٦

أعطاني) أي : كفاني» وفي موضع آخر من (العين) قال (١) : «قط خفيفة ، هي بمنزلة حسب ، يقال (قطك هذا الشيء) أي (حسبكه) ، قال :

امتلأ الحوض وقال قطني

قد وقط لغتان في (حسب) لم يتمكنا في التصريف ، فإذا أضفتها إلى نفسك قويتا بالنون فقلت : قدني وقطني ، كما قوّوا (عنّي ومنّي ولدنّي) بنون أخرى.

قال أهل الكوفة : معنى (قطني) كفاني ، النون في موضع النصب مثل نون (كفاني) ، لأنك تقول : (قط عبد الله درهم).

وقال أهل البصرة : الصواب فيه الخفض على معنى : (حسب زيد) و (كفى زيد). وهذه النون عماد (٢) ومنعهم أن يقولوا : (حسبتني) لأن الباء متحركة ، والطاء هناك ساكنة فكرهوا تغييرها عن الإسكان ، وجعلوا النون الثانية من لدنّي عمادا للياء» وقد مثل الخليل لذلك في منظومته بقوله

قطني وقدني من مجالسة الألى

أما قوله (٣) :

فإذا أتيت ب (قطّ) في تثقيلها

فاخفض وقاك الله ما تترهب

ويعني بهذا الخفض ما عناه بقوله في معجم العين (٤) : «وأما القطّ الذي في موضع : ما أعطيته الا عشرين درهما قطّ ؛ فإنه مجرور فرقا بين الزمان والعدد» ومثال الوارد في المنظومة دليل قاطع على هذا القصد الموجود في المثال السابق عند ما يقول (٥) :

لم يأتني إلا بخمسة أسهم

قطّ الغلام وقال يوشك يعقب

والذي يقارن بين المثالين :

__________________

(١) ٥ / ١٤.

(٢) يلاحظ استخدام الخليل لكلمة عماد ، وبهذا النص نردّ على من أشاروا إلى أن نون العماد من مصطلحات الكوفيين ، فقد ورد في نص الخليل مرتين ، انظر المدارس النحوية ١١١ ، ١١٢ ، مدرسة الكوفة ٣١٢ وهذه إضافة جديدة من خلال معجم العين.

(٣) المنظومة ١٨٥.

(٤) ٥ / ٥.

(٥) المنظومة ١٨٦.

١٢٧

(لم يأتني إلا بخمسة أسهم قطّ الغلام) ، [الوارد في المنظومة] والمثال الوارد في العين.

ما أعطيته إلا عشرين درهما قطّ

يدرك أن المقصود ب (قط) العدد لا الزمان ، وهذا على العكس من الواردة بمعنى الزمان الذي يقول عنها الخليل (١) :

فإذا أردت بها الزمان فرفعها

أهيا وأتقن في الكلام وأصوب

ويتمثل ما ورد في المنظومة مع قول الخليل في العين (٢) :

«وأما (قطّ) [بالرفع] فإنه الأبد الماضي ، تقول : ما رأيته قطّ ، وهو رفع لأنه غاية (٣) ، مثل قولك : (قبل وبعد) ؛ ألا يدل هذا التشابه التام في معالجة هذين البابين في (المنظومة) وفي (العين) على أن ما ورد بالمنظومة إنما هو للخليل ، وأكبر الظن ألا يكون هذا التماثل الدقيق من قبيل المصادفة.

٥ ـ باب المجازاة :

من المهم أن نقف أمام باب المجازاة ، لأن الخليل استخدمه بشكل عام ودلالة واسعة. حيث يقول (٤) :

فالقول إن جازيت يوما صاحبا

صلني أصلك وقيت ما تتهيب

إن تأتني وترد أذاي عامدا

ترجع وقرنك حين ترجع أعضب

واستمر الخليل في تمثيله لأدوات الشرط المختلفة ، لكن من الملاحظ أن الخليل مثّل للمجازاة في نوعيها :

النوع الأول : الجواب بعد الطلب [الأمر والنهي] في قوله : [صلني أصلك] حيث جزم المضارع في جواب الطلب لتوافر الشروط التي أشترطها النحاة وهي ، أن يكون الطلب سابقا للجواب ، وأن يكون الجواب مترتبا على الطلب ،

__________________

(١) المنظومة ١٨٧.

(٢) ٥ / ١٤.

(٣) يلاحظ استخدام الخليل لمصطلح (غاية) وهذا دليل على أن المصطلح بصري لا كوفي.

(٤) المنظومة البيتان ١٩٤ ، ١٩٥.

١٢٨

ولا يشترط مع المثال الوارد [الواقع في جواب الأمر] أن يكون الأمر محبوبا ، فهذا الشرط مع النهي فقط ومع ذلك فهو أمر محبوب.

النوع الثاني : الجواب الواقع بعد أداة الشرط ، وقد مثّل لذلك بأمثلة كثيرة منها : (إن تأتني وترد أذاي عامدا ترجع) ... ومنها أيضا : (من يأت عبد الله يطلب رفده يرجع).

ونلاحظ أيضا أن المثال الأول الذي مثل به الخليل كان للحرف (إن) فهو متقدم على غيره ، وهذا متسق تماما مع ما أورده سيبويه عن الخليل عند ما قال (١) : «وزعم الخليل أنّ [إن] هي أم حروف الجزاء ، فسألته : لم قلت ذلك؟ فقال : من قبل أني أرى حروف الجزاء قد يتصرفن فيكنّ استفهاما ، ومنها ما يفارقه فلا يكون فيه الجزاء ؛ وهذه على حالة واحدة أبدا لا تفرق المجازاة» ، وللخليل حق في ذلك ف (إن) لا تخرج عن الجزاء أما بقية الحروف فيمكن أن تخرج إلى الاستفهام مثل «متى ، ما ، من» ومنها ما يفارق الجزاء الاستفهام مثل (ما) مثلا التي تكون موصولة أو زائدة .. إلخ ؛ وقناعة الخليل بذلك جعلته يأتي بها في أول الأدوات عند ما مثّل لأدوات الشرط.

وللخليل تفسير خاص لجزم الفعل المضارع في جواب الأمر كما في [صلني أصلك] أو في جواب النهي مثل : (لا تفعل يكن خيرا لك) أو في جواب الاستفهام مثل : (ألا تأتيني أحدثك؟ و، كذلك في جواب التمني مثل :

(ليته عندنا يحدثنا) ، وفي جواب العرض مثل : (ألا تنزل تصب خيرا).

وبعد أن أورد سيبويه الأمثلة السابقة وأمثلة أخرى أراد أن يفسر سبب هذا الجزم عنده وعند الخليل فقال (٢) : «وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب (إن تأتني) ، بإن تأتني لأنهم جعلوه معلقا بالأول غير متستغن عنه إذا أرادوا الجزاء كما أنّ (إن تأتني) غير مستغنية عن (آتك).

وزعم الخليل : أن هذه الأوائل كلها فيها معنى (إن) ، فلذلك انجزم الجواب لأنه إذا قال : (ائتني آتك) فإن معنى كلامه (إن يكن منك إتيان آتك) ، وإذا

__________________

(١) الكتاب ٣ / ٦٣.

(٢) الكتاب ٣ / ٩٣.

١٢٩

قال : (أين بيتك أزرك) فكأنه قال : (إن أعلم مكان بيتك أزرك).

هكذا كان تفسير الخليل الذي وافقه سيبويه في تفسيره بناء على رأي أستاذه ؛ فالجزم بتقدير (إن) مع الأمر والنهي ؛ والاستفهام والعرض والتمني ولعل ذلك كان سببا من أسباب جعل (إن) أم الباب.

وفي كتاب (الجمل) (١) أشار الخليل إلى الجزم في جواب الطلب ، وجاء بالآيات والأمثلة الواردة في كتاب (سيبويه) ، وأشار أيضا إلى جواز الرفع في جواب ما مضى ، كما فعل في الكتاب تفصيلا غير أنه يفسرّ سبب الجزم ، فقد أشار إلى انجزام الأفعال الواقعة جوابا ، ويبدو أنه لم يكن في حاجة إلى تفسير ذلك حيث كان كتاب (الجمل) مجملا لحالات نحوية خاصة بالإعراب دون اللجوء إلى ذكر تعليلات فيه ، وربما كان حريصا على تبويبه وعدم الإغراق في ذكر تعليلات أو تفصيلات. ولعل ذلك هو المراد عند ما قال في المنظومة (٢) :

والرفع في (الإثنين) بالألف التي

بينتها لك في الكتاب مبوّب

٦ ـ التعجب

يتناول الخليل هذا الدرس النحوي تحت عنوان : (باب التعجب) ، وهو المدح والذم قائلا (٣) :

فإذا ذممت أو امتدحت فنصبه

أولى ، وذلك ـ إن قطعت ـ تعجب

ما أزين العقل الصحيح لأهله

وأخوك منه ذو الجهالة يغضب

لا يمكن القول بأن العنوان وضع خطأ ، وذلك بسبب ذكره أن التعجب هو المدح والذم ، فالأبيات التي تندرج تحت هذا العنوان لا تعطي فرصة لهذا التخيّل ، والسؤال الذي يطرح نفسه أمامنا الآن هو : هل للمدح والذم علاقة بالتعجب؟ أو هل التعجب من شيء ما يمكن أن يعطي مدحا له أو ذما؟

__________________

(١) الجمل ١٩١ ـ ١٩٣.

(٢) المنظومة البيت ٢٩.

(٣) المنظومة البيتان ٩٢. ٩٣.

١٣٠

لنذهب إلى بعض النحاة لنعرض رأيهم ثم نعود إلى الخليل مرة أخرى يقول الرضى (١) «واعلم أن التعجب انفعال يعرض للنفس عند الشعور بأمر يخفى سببه ، ولهذا قيل إذا ظهر السبب بطل العجب» هل يمكن أن يكون هذا الانفعال نوعا من المدح أو الذم حيث يكون الشعور رضا أو غضبا.

يقول ابن يعيش : (٢) «اعلم أن التعجب معنى يحصل عند المتعجب عند مشاهدة ما يجهل سببه ، ويقل في العادة وجود مثله ، وذلك المعنى كالدهش والحيرة» هل يكون معنى الدهش والحيرة المشار إليهما نوعا من المدح أو الذم؟

يشير سيبويه إلى المثال الذي يقول : (ما أحسن عبد الله!) ثم يقول (٣) : «زعم الخليل أنه بمنزلة قولك : (شئ أحسن عبد الله) ، ودخله معنى التعجب. وهذا تمثيل ، ولم يتكلم به» هل يمكن الإحساس بالمدح في مثل هذا المثال ، ويكون الإحساس بالذم في مثل قولنا : (ما أسوأ هذا الطقس!) مثلا.

لعل ما أورده المبرد من هذا القبيل حينما يقول (٤) : «فإن قال قائل : أرأيت قولك : (ما أحسن زيدا!) ، أليس في التقدير والإعمال ـ لا في التعجب ـ بمنزلة قولك : (شئ حسّن زيدا) ، فكيف تقول هذا في قولك : (ما أعظم الله يا فتى!) وما أكبر الله!؟ قيل له : التقدير على ما وصفت لك. والمعنى : (شئ عظّم الله يا فتى) ، وذلك الشئ الناس الذين يصفونه بالعظمة ، كقولك : (كبّرت كبيرا) و (عظّمت عظيما) وما وصف الناس هذا إلّا نوع من المدح والتعظيم للمولى ـ عزّ وجل.

ولعل تفسير الخليل وتعليقه في كتاب (الجمل) على المثال نفسه الذي أورده في الكتاب يقربنا من تلك الدلالة. يقول الخليل (٥) : «قولهم : (ما أحسن زيدا!) ، (وما أكرم عمرا!) ، وهو في التّمثال بمنزلة الفاعل والمفعول به. كأنه قال : (شئ حسّن زيدا). وحدّ التعجب ما يجده الإنسان من نفسه عند خروج الشئ من عادته» ونحن نعلم أن خروج الشئ من عادته إنما يكون خروجا

__________________

(١) شرح الكافية ٢ / ٣٠٧.

(٢) شرح المفصل ٧ / ١٤٢.

(٣) الكتاب ١ / ٧٢.

(٤) المقتضب ٤ / ١٧٦.

(٥) الجمل ٤٩.

١٣١

إما إلى زيادة أو نقصان ، وهنا يكون مثارا للمدح أو الذم. وإن دل هذا المعنى لدى الخليل ـ إن كان ذلك مقصودا ـ على شئ ، فإنما يكون دالا على أن الخليل كان يربط النحو بالدلالة ، وهذا نهج جيّد.

٧ ـ قضايا نحوية واقعة تحت باب حروف الجر :

وبعد أن ذكر الخليل نماذج كثيرة لها قال (١) :

وتقول : فيها خيلنا وركابنا

من خلفنا أسد تزار وأذؤب

وتقول : فيها ذو العمامة جالس

والنصب أيضا إن نصبت تصوّب

وعليك عبد الله ـ فاعلم ـ مشفق

ما فيه إلا الرفع شئ يعرب

ما إن يكون النصب إلا بعد ما

تم الكلام وحين ينقص يرأب

والقضية المطروحة هنا بوقوع الحال من المبتدأ والدلالة في مثل : فيها ذو العمامة جالس [ويجوز جالسا] ، وفي مثل : عليك عبد الله مشفق [لا يجوز إلا الرفع] ، وقد تناول سيبويه هذه القضية تحت عنوان : «هذا باب ما ينتصب فيه الخبر) لأنه خبر معروف يرتفع على الابتداء ، قدّمته أو أخرته» (٢) ومثل لذلك بقوله (٣) : «وذلك قولك : (فيها عبد الله قائما وعبد الله فيها قائما) ، فعبد الله ارتفع بالابتداء ؛ لأن الذي ذكرت قبله وبعده ليس به ، وإنما هو موضع له ، ولكنه يجرى مجرى الاسم المبني على ما قبله ، ألا ترى أنك لو قلت : (فيها عبد الله) حسن السكوت وكان كلاما مستقيما كما حسن واستغنى في قولك : (هذا عبد الله) ، وتقول : (عبد الله فيها) ؛ قولك كقولك : (عبد الله أخوك) ، كأنك قلت (عبد الله منطلق) ، فصار قولك فيها كقولك : (استقر عبد الله) ، ثم أردت أن تخبر على أية حال استقر فقلت : (قائما) ، ف (قائما حال مستقر فيها ، وإن شئت ألغيت (فيها) ، فقلت : (فيها عبد الله قائم).

__________________

(١) المنظومة الأبيات ٤١ ـ ٤٤.

(٢) الكتاب ٢ / ٨٨.

(٣) الكتاب ٢ / ٨٨ ، ٨٩ (بتصرف).

١٣٢

ومثال الخليل يعطي الدلالة نفسها حين يقول : (فيها ذو العمامة جالس) ، [أو جالسا] حيث يجوز [فيها ذو العمامة] ، واستطرد سيبويه قائلا (١) : ومثل قولك : (فيها عبد الله قائما) ، (هو لك خالصا) ، و (هو لك خالص) ..» ثم أكمل التمثيل بقوله : ومثل ذلك : (مررت برجل حسنة أمه كريما أبوها) ، زعم الخليل أنه أخبر عن الحسن أنه وجب لها في هذه الحالة ، وهو كقولك : (مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها) ، والأولى كقولك : (هو رجل صدق معروفا صدقه) ، وإن شئت قلت (معروف ذلك) ، و (معلوم ذلك) [بالرفع] على قولك (ذاك معروف وذاك معلوم) ؛ سمعته من الخليل».

والملاحظ أن سيبويه قد طرح هذا الجانب من القضية مع إيراد كل هذه النماذج والأمثلة ، ثم أنهى كلامه بأنه سمع ذلك من الخليل ، وهذا يوضح أن ذلك رأي الخليل نقله عنه تلميذه سيبويه الذي ذكر الخليل مرتين خلال هذه القضية بل إنه نسب له هذا الرأي في مواضع أخرى. فقد ذكر سيبويه هذين المثالين :

هذا أول فارس مقبلا.

هذا رجل منطلقا.

وعلق سيبويه قائلا (٢) : «وزعم الخليل أن هذا جائز ، ونصبه كنصبه في المعرفة ، جعله حالا ، ولم يجعله وصفا ، ومثل ذلك : (مررت برجل قائما) ، إذا جعلت المجرور به في حال القيام ، وقد يجوز على هذا : (فيها رجل قائما) ، وهذا قول الخليل ـ رحمه الله ـ».

وهذا الشق الأول من القضية طرحه سيبويه ونسبه إلى الخليل صراحة في أكثر من موضع ، وقد أسهبنا في النقل عن سيبويه لبيان رأي الخليل كاملا في هذا الجانب من القضية.

__________________

(١) الكتاب ٢ / ٩١.

(٢) الكتاب ٢ / ١١٢.

١٣٣

أما الشق الثاني من القضية ، فهو عدم جواز النصب في مثل : (عليك عبد الله مشفق) ، فلا يجوز نصب (مشفق) ؛ لأنه لا يجوز الاكتفاء بقولنا : (عليك عبد الله) ، وكلام الخليل يحسم الأمر عن طريق أسلوب القصر الوارد في قوله :

ما فيه إلا الرفع شيء يعرب

وقد أشار سيبويه إلى مثل ما قاله الخليل في قوله (١) : «وأما بك مأخوذ زيد ، فإنه لا يكون إلا رفعا ، من قبل أن بك لا تكون مستقرا لرجل. ويدلك على ذلك نازل ؛ أنه لا يستغني عليه السكوت» ثم قال بعد قليل (٢) : «ومثل ذلك : (عليك نازل زيد) ، لأنك لو قلت : (عليك زيد) ، وأنت تريد النزول لم يكن كلاما». وهذا يتماثل مع عدم جواز عليك عبد الله وتريد الإشفاق ، ولهذا لا يجوز إلا الرفع.

ولو قرأنا ما جاء في كتاب (الجمل) لوجدناه مشابها تماما لما جاء في (الكتاب) حتى في بعض أمثلته ، يقول الخليل : (٣) :

«في الدار زيد واقف. وإن شئت (واقفا) ، الرفع على خبر الصفة ، والنصب على الاستغناء وتمام الكلام. ألا ترى أنك تقول : (في الدار زيد) ، وقد تم كلامك ، وإذا لم يتم كلامك فليس إلا الرفع : (بك زيد مأخوذ) ، (وإليك محمد قاصد) ألا ترى أنك قلت (بك زيد) لم يكن كلاما حتى تقول (مأخوذ).

وبالمقارنة بين ما ورد عند سيبويه نجد المثال نفسه : (بك زيد مأخوذ). هل يمكن أن يكون ما ورد لدى سيبويه من قبيل المصادفة ، أم أنه متأثر بأستاذه الخليل؟ على أية حال فقد نسب سيبويه الشق الأكبر من كلامه للخليل أيضا بدليل ما ورد في (الجمل) له.

لكن العجيب في الأمر أن الخليل قد أورد هذه القضية في المنظومة تحت عنوان «حروف الجر» وسيبويه أوردها تحت باب (ما ينتصب فيه الخبر) ،

__________________

(١) الكتاب ٢ / ١٢٤.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الجمل ١٣٩.

١٣٤

وقد وردت في الجمل تحت عنوان «الرفع بخبر الصفة». ترى هل كان الخليل محقا لأن القاسم المشترك في كل الأمثلة الواردة هو الجار والمجرور الواقع خبرا في حالة اكتمال الدلالة به ، أو المتعلق بالخبر في حالة عدم الاكتمال الدلالي في مثل : بك زيد مأخوذ؟ ووجود الجار والمجرور (الصفة) ضروري في هذه الجمله ، لهذا جاء الخليل بهذه القضية تحت هذا الباب.

الجانب الدلالي في هذه القضية

من خلال العرض السابق نرى الخليل يراعي الجانب الدلالي نقصا أو اكتمالا ، فالأعراب ـ كما يظهر ـ مبني على الجانب الدلالي ، والخليل لا يكتفي بإيراد الأمثلة الدالة في هذا الموطن فقط ، بل يشير صراحة إلى ذلك بقوله (١) :

ما إن يكون النصب إلا بعد ما

تمّ الكلام وحين ينقص يرأب

ومن هنا فالاكتمال الدلالي لجملة : [فيها ذو العمامة] جعل كلمة (جالس) يجوز فيها الرفع على أنها هي الخبر أو النصب على أنها حال. حيث يمكن اعتبار : (فيها ذو العمامة) خبرا مقدما ومبتدأ مؤخرا ، لهذا يجوز النصب لأن الحال يكون بعد اكتمال المعنى (فضلة).

أما النقصان الدلالي في قوله : (عليك عبد الله) (برفع عبد) فقد أدى إلى وجوب رفع (مشفق) على أنها هي الخبر وعلى هذا يكون المعنى (عبد الله مشفق عليك) ؛ إذ لو لا وجود كلمة (مشفق) لم يكن هناك معنى مكتمل فلا يجوز النصب لعدم الاكتمال الدلالي.

وظاهرة الاكتمال أو النقصان الدلالي مجسدة في ثنايا النحو العربي في أبواب نحوية كثيرة ، فقد استخدمها الخليل ـ كما رأينا ـ في (باب التعجب) ثم في باب (حروف الجر) والقضايا المتعلقة به ، ثم في معنى الغاية الذي يتجسد في جملة (حتى وما يترتب عليها من إعراب ما بعد حتى إذا كانت للغاية) ،

__________________

(١) المنظومة البيت ٤٤.

١٣٥

ولعل هذا جمعيه يطرح الموضوع للدراسة بشكل أوسع في أبواب النحو العربي. إننا نقول : (عبد الله أخوك) حيث يعرب (عبد) على أنه مبتدأ و (أخو) خبر مع وجود المضاف إليه في كل عنصر منهما ، فإذا ما قلنا : (عبد الله أخوك قادم).

فتغير معنى الإعراب ، فتكون (قادم) هي الخبر ، أما (أخوك) فتصير بدلا أو عطف بيان ، ووجود كلمة (قادم) يجعل الجملة قبلها ناقصة وعدم وجودها في الجملة أصلا يجعل الجملة مكتملة ، ويكون الاعراب حسب السياق مع المعنى القائم في الجملة ، إذ لا يمكن إعراب (أخوك) خبرا مع وجود (قادم).

ولعل هذه الظاهرة تستحق الدراسة على مستوى النحو العربي لا على مستوى منظومة الخليل فحسب (١).

__________________

(١) هذا الاستطراد ألجأنا إليه ما هو مجسد بالمنظومة من قضايا عامة تستحق الدراسة ، تتصل هذه القضايا بالمعنى في أوسع صوره.

١٣٦

سابعا : الأمثلة والنماذج التطبيقية الواردة في المنظومة

هذه المنظومة النحوية التي وضعها الخليل في القرن الثاني الهجري ؛ لها من السمات والخصائص التي ينادى النحويون المحدثون بوجوب تجسيدها عند دراسة النحو لدى متعلميه في العصر الحديث ، ويبدو أن هذه المنظومة كان الهدف منها تعليميا خالصا ، لا عرضا لآراء أو تقديما لفلسفات نحوية أو قضايا خلافية ؛ لهذا ركزت هذه المنظومة بشكل لافت لنظر أي قارئ لها على الأمثلة والنماذج المتنوعة لاستخدام القواعد النحوية المختلفة ، فقد تنوعت الأمثلة للظاهرة الواحدة أو القاعدة الواحدة. ويبدو أن الخليل كان حريصا على وضع هذا النهج للاقتداء به مستقبلا ، وهذا يدل على طريقة صحيحة في الأداء ، ويدل أيضا على أنه كان معلما بارعا ، وربما نفسّر بهذا سرّ الإقبال على الخليل من تلاميذه عند تعليمه إياهم.

إذا لم يكن الخليل ليكتفى بمثال واحد للظاهرة كما كان يفعل المتأخرون ممن كتبوا منظومات نحوية كابن مالك والسيوطى ؛ ومن نماذج تكراره لأمثلته قوله (١) تحت عنوان [باب التاء الأصلية وغير الأصلية].

والتاء إن زادت فخفض نصبها

ما عن طريق الخفض عنها مهرب

فتقول : إن بنات عمك خردّ

بيض الوجوه كأنهن الربرب

وسمعت عمات الفتى يندبنه

كل امرئ لا بد يوما يندب

ودخلت أبيات الكرام فأكرموا

زورى وبشّوا في الحديث وقرّبوا

وسمعت أصواتا فجئت مبادرا

والقوم قد شهرو السيوف وأجلبوا

نلاحظ أنه أتى بمثالين للتاء الزائدة في حالة النصب وعلامته الكسرة (الخفض) وهما [إن بنات عمك ـ وسمعت عمّات الفتى] كما أتى بمثالين للتاء الأصلية وهما [دخلت أبيات الكرام ـ سمعت أصواتا] ، ولعلنا نلاحظ أنه في

__________________

(١) الأبيات من ٨٦ ـ ٩٠.

١٣٧

البيت الأول ، تعلم عن التاء الزائدة فقط ؛ لهذا نلاحظ أنه قال بعد التمثيل للتاءين متحدثا عن التاء الأصلية :

فنصبت لما أن أتت أصلية

وكذاك ينصبها أخونا قطرب

وهناك ملاحظة تظهر في التمثيل عند الخليل في معظم نماذجه ، هذه الملاحظة هي أنه يستمر مع مثاله إلى أن يعطي معنى من المعاني ربما كان حكمة أو موقفا إيجابيا لشئ من الأشياء ، مع أنه لو اكتفى بموضع التمثيل فقط لكان المعنى ، لا نقص فيه ، ألّا أنه يفضل دائما الاستمرار مع المعنى إلى أن يكون شيئا ذا بال.

والأمثلة السابقة خير دليل على ذلك عند ما يمثل بقوله : [وسمعت عمات الفتى] كان من الممكن الاكتفاء بذلك لكنه جاء بالجملة الحالية (يندبنه) وكان من الممكن ايضا التوقف عند هذا الحد ، لكنه أكمل البيت بتلك الحكمة الواردة في الشطر الثاني والتي تدل على براعة شديدة في استدعاء المعنى المتوافق مع المعنى السابق فقال :

كل امرئ لا بد يوما يندب

وهذا ما حدث في البيت التالي عند ما مثّل بقوله : «ودخلت أبيات الكرام» كان من الممكن الاكتفاء بهذا القدر ، من التمثيل حيث أعطى المثال معنى مفيدا ؛ لكنه أكمل المثال بقوله : «فأكرموا زورى» بالعطف على ما قبله. وكان من الممكن أيضا أن يكتفى بهذا القدر إلا أنه آثر أن يوضح بشاشة هؤلاء القوم بالإضافة إلى كرمهم فقال : «وبشّوا في الحديث وقربّوا».

فالخليل لم يترك المعنى إلا بعد اكتماله تماما وبعد إعطاء صورة دقيقة لما يتحدث فيه. وهذه الطريقة جعلت أمثلته تأخذ حيزا أكبر من الأحكام النحوية من حيث الشكل العام للمنظومة ؛ وربما كان حرص الخليل على ذلك من منطق التركيز لا على القاعدة فحسب ، ولكن على المعنى أيضا. وما قدمناه في المثالين السابقين قليل من كثير ، فهذا هو النهج العام الذي اتبعه الخليل في هذه المنظومة التعليمية.

١٣٨

كان الخليل حريصا على أن يستوفي كل حالات الظاهرة التي يتكلم عنها تمثيلا وتطبيقا دون استيفائها بكلام نظري لا تطبيق فيه ، ونماذج ذلك كثيرة نأخذ منها ما ورد في باب (المبتدأ وخبره) عند ما قال (١) :

وإذا ابتدأت القول باسم سالم

فارفعه والخبر الذي يستجلب

فالمبتدأ رفع جميع كله

ونعوته ولذاك باب معجب

ثم بدأ الخليل في التمثيل فجاء بنماذج كثيرة متنوعة لهذا المبتدأ الذي عبّر عنه بالاسم (السالم) الذي يعني ـ كما أظن ـ الاسم الصالح لأن يكون مبتدأ ويصحّ الإخبار عنه ، فلا يكون نكرة ناقصة مثلا ، كذلك أتى بنماذج متنوعة للخبر الذي استجلبه المبتدأ ، ولنتأمل نماذجه كما يلي :

[عمك قادم ومحمد]

المبتدأ اسم معرف بالإضافة ، الخبر اسم فاعل (مشتق) مع مراعاة أن الإعراب أصليّ في الحالتين ، وكذلك في كلمة (محمد) المعطوف.

[يزيد ذو ولد]

المبتدأ معرّف بالعلمية ، الخبر (ذو) ليس مشتقا ولكنه وصع موضع المشتق وأخذ معناه (صاحب) واكتملت شروطه فقد أضيف لغير الضمير ، مع ملاحظة أن الاعراب أصليّ في المبتدأ ؛ فرعيّ في الخبر ، مع أنه لم يقل ذلك ولم يشر إليه.

[عبد الله شيخ صالح] ـ [محمد حرّ]

المبتدأ علم جاء مركبا تركيبا إضافيا في المثال الأول ، وجاء مفردا في المثال الثاني ، والخبر صفة مشبهة في المثالين.

[الريح ساكنة] ـ [الشمس بازغة]

المبتدأ معرّف بالألف واللام ، والخبر مفرد.

[نحن أولو جلاد في الوغى] ـ [أنا ابن عبد الله]

المبتدأ ضمير والخبر مضاف ، جاء في (أولو) معربا إعرابا فرعيا ، وفي (ابن) جاء معربا إعرابا أصليا.

__________________

(١) البيتان ١٢٩ ، ١٣٠ وانظر الأمثلة في الأبيات التالية لهذين البيتين.

١٣٩

فقد جاء الخليل بأمثلة متنوعة مراعيا الأشكال المتغايرة للمبتدأ والخبر دون أن يشير إلى تلك التفصيلات. وربما اعتمد في ذلك على المعلّم الذي يقوم بتوجيه الطلاب وإرشادهم ، فلم يكن الخليل إذا يشقق القواعد النحوية ويفصلها بقدر ما كان يعتمد على التمثيل المتنوع مع ذكر القاعدة العامة في أول الأمر ، وهكذا كان يفعل ذلك دائما ، ويستطيع المتأمل في أي باب أن يجد ذلك مجسدا في المنظومة.

وهذه النماذج والأمثلة الواردة تعطي صورة علمية واجتماعية للخليل حيث تظهر حكمته البالغة ، والحكمة في أقواله ، وتدينه العميق ولعل ما ورد من حكمة في منظومته يتشابه مع ما ورد من حكمة في أقواله الأخرى ولنقرأ نموذجا واحدا دالا على حكمته العميقة يقول الخليل (١) :

لا خير في رجل يعرض نفسه

للذم لا .. لا خير فيمن يغضب

حكمة بالغة الأثر تدل على رجل تمرس بالحياة وخبرها جيدا ، أيضا تدل نماذجه على تقواه وإخلاصه وحبّه لدينه ، كما تدل على عمق إيمانه ، ولعل ما ذكر سابقا دال على ذلك. وسنكتفي هنا بنموذجين فقط حيث كثرت نماذجه الدالة على صدق إيمانه والتزامه بشريعة الله التزاما مطلقا.

يقول (٢) :

وتقول لا تدع الصلاة لوقتها

فيخيب سعيك ثم لا تستعتب

ويقول أيضا (٣) :

فأجب ولا تدع الصلاة جماعة

إن الصلاة مع الجماعة أطيب

وقد كثرت نماذجه الدالة على ذلك (٤) :

كذلك تدل نماذجه وتمثيله على أن الخليل كان محبّا للغزل في أقوال ، ويبدو أنه آمن بأن الأمثلة والنماذج لا بد أن تخرج عن مرحلة الجمود إلى

__________________

(١) البيت ٢٥٩.

(٢) البيت ٢٣٤.

(٣) البيت ١٦٥.

(٤) تناولت هذه القضية بالتفصيل تحت عنوان شخصية الخليل من خلال منظومته وأوردت كثيرا من النماذج تدل على شخصية الخليل

١٤٠