بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

الشيخ جعفر السبحاني

بحوث في الملل والنّحل - ج ٨

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-272-3
الصفحات: ٤٥٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

التنظيمات السّرية للدعوة الإسماعيليّة النزارية

ولما انتقلت الدعوة الإسماعيلية النزارية إلى فارس ، أجرى الإمام النزاري بعض التعديلات ، وأوجد تنظيمات تتناسب مع ظروفه وعصره وهي علىٰ قسمين :

١. القسم الخاص بالدعاية الدينية والذي ظل قريب الشبه من النظام السابق ، ولو انّ عدد الدعاة تقلص ونقص ، لأنّ الإمام النزاري جعل رتبة ( الشيخ ) في دعوته بدلاً من رتبة ( داعي الدعاة ) وعيّن في كلّ منطقة من المناطق الإسماعيلية له نواباً ، وألحق بهؤلاء النواب عدداً غير محدود من الدعاة الذين كانوا يدعون الناس للمذهب الإسماعيلي النزاري.

٢. أمّا القسم الثاني فهو خاص بالفدائية والجيش ، وهؤلاء كانوا يتبعون مباشرة مركز الإمامة أو نائب الإمام في قطره ، ويتلقّون الأوامر والمهمات السرية منه مباشرة.

وكانت الفدائية على ثلاث درجات :

أوّلا : الرفاق أو المقدمون : وهم قادة الجيش والفدائية ولهم مهمّة الإشراف على التدريب ، والسهر على تنفيذ المهمات العسكرية وغير العسكرية.

ثانياً : مرتبة الفدائيين الذين ينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام والشجاعة النادرة ، والجرأة الخارقة فيكلفون بالتضحيات الجسدية ، وبتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه.

ثالثاً : المستجيبون : وهم الذين يقضون دور التدريب والتعليم ، وهؤلاء يدخلون مدارس الفدائية ، وهم في سن مبكرة ويتلقون التدريب والتعليم في المدارس الخاصة بهم ، على أيدي كبار المقدمين. ويسهر الإمام نفسه أو نائبه الشيخ على تدريبهم وتعليمهم. (١)

______________________

١. مصطفى غالب : في مقدمة كتاب الينابيع : ٢١ ـ ٢٤.

٣٢١
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣٢٢
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣٢٣
 &

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣٢٤
 &

لقد ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب أنّ الحركات الباطنيّة نشطت في أواسط القرن الثاني ، وكان زعيمها هو أبو الخطاب ، محمد بن مقلاص ، فلمّا قتل انتهى أمرهم ـ بعد فترة ـ إلى الاجتماع حول محمد بن إسماعيل ، ووجدوه مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم. فارتكزت الدّعوة الإسماعيليّة علىٰ تلك الأفكار في بادئ الأمر. وكان من نتيجة ذلك التحرك أن :

١. اتخذ الأئمّة المستورون سوريا ، وأخصّ بالذكر « السلمية » وما حولَها مركزاً للدّعوة ، ومنها انتشرت إلى سائر الأمصار.

٢. انتشرت الدّعوة في اليمن بزعامة ابن حوشب « منصور اليمن ».

٣. أرسل ابن حوشب ، أبا عبد الله الشيعي إلىٰ إفريقية حيث آلت الأحداث بعدها إلىٰ تأسيس الخلافة الفاطميّة.

٤. ظهور حركة القرامطة ، وهذا ما سنبحثه في هذا الفصل.

إنّ من الإسماعيليّة فرقة باسم المباركيّة قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل ، بدل إسماعيل ، وقد تشعبت منهم فرقة باسم القرامطة ، كان لهم دورٌ مهم على الساحة السياسية والعقائدية أيّام عبيد الله المهدي ، حسب ما يذكره التاريخ وما يزال الغموض يكتنف عقائدهم ، وتاريخهم والجرائم التي قاموا بها ، في أواخر القرن الثالث. ومن أجل تسليط الضوء على جانب من جوانب عقائدهم نستعرض ما ذكره أصحاب المقالات :

١.قال النوبختي : إنّما سُمّيت بهذا لرئيس لهم من أهل السواد من أهل الأنباط كان يلقب « قرمطويه » وكانوا في الأصل علىٰ مقالة المباركيّة ، ثمّ خالفوهم ،

٣٢٥
 &

فقالوا لا يكون بعد محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا سبعة أئمّة ، علي بن أبي طالب وهو إمامٌ رسولٌ ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر ، وهو الإمام القائم المهدي ، وهو رسولٌ.

وزعموا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انقطعت عنه الرسالة في حياته ، في اليوم الذي أُمر فيه بنصب علي بن أبي طالب عليه‌السلام للناس بغدير خم ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب ، واعتلّوا في ذلك بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه » وانّ هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوّة ، وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب ، بأمر الله عزّ وجلّ وانّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك كان مأموماً لعليّ ، محجوجاً به ، فلمّا مضىٰ عليٌّ صارت الإمامة في الحسن ، كما صارت من الحسن في الحسين ثمّ في علي بن الحسين ، ثمّ في محمد بن علي ، ثمّ كانت في جعفر بن محمد ، ثم انقطعت عن جعفر في حياته ، فصارت في إسماعيل بن جعفر ، كما انقطعت الرسالة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ بدا له في إمامة جعفر ، وإسماعيل ، فصيّرها في محمد بن إسماعيل ، إلىٰ أن قال :

وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيٌّ ، لم يمت ، وأنّه في بلاد الروم ، وأنّه القائم المهدي ، ومعنى القائم عندهم ، انّه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ، ينسخ بها شريعة محمد ، وانّ محمد بن إسماعيل من أولي العزم ، وأولي العزم عندهم سبعة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام ، ومحمد بن إسماعيل ، على معنىً.

قال : إنّ السماوات سبع وإنّ الأرضين سبع وإنّ الإنسان بدنه سبع : يداه ، ورجلاه ، وظهره ، وبطنه ، وقلبه ، وإنّ رأسه سبع : عيناه ، أُذناه ، منخراه ، وفمه ، وفيه لسانه ، كصدره الذي فيه قلبه ، وإنّ الأئمّة كذلك ، وقلبهم محمد بن إسماعيل واعتلوا في نسخه شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبديلها ، بأخبار ، رووها عن أبي عبد الله جعفر ابن محمد عليه‌السلام أنّه قال : لو قام قائمنا علمتم بالقرآن جديداً ، وأنّه قال : إنّ الإسلام

٣٢٦
 &

بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدا ، فطوبىٰ للغرباء ، ونحو ذلك من أخبار القائم.

وانّ الله جعل لمحمد بن إسماعيل جنّة آدم (ص) ومعناها عندهم الإباحة للمحارم ، وجميع ما خلق في الدنيا ، وهو قول الله عزّ وجلّ : ﴿ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ (١) أي موسى بن جعفر بن محمد ، وولده من بعده من ادّعىٰ منهم الإمامة.

وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل ، هو خاتم النبيين ، الذي حكاه الله عزّ وجلّ في كتابه ، وأنّ الدّنيا اثنا عشر جزيرة ، في كلّ جزيرة حُجّة وأنّ الحجج اثنا عشر ، ولكلّ حجّة داعية. ولكلّ داعية يد ، يعنون بذلك أنّ اليد رَجلٌ له دلائل وبراهين يقيمها ، ويُسمّون الحُجّة الأب ، والدّاعية الأم ، واليد الابن ، يضاهون قول النصارىٰ في ثالث ثلاثة ، إنّ الله الأب جل جلاله ، والمسيح عليه‌السلام الابن ، وأُمّه مريم ، والحُجّة الأكبر هو الربّ وهو الأب والدّاعية هي الأُم ، واليد هو الابن.

وزعموا أنّ جميع الأشياء التي فرض الله تعالىٰ علىٰ عباده وسنّها نبيّه (ص) وأمر بها ، لها ظاهر وباطن ، وأنّ جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة ، أمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها ، وعليه العمل وفيه النجاة ، وأنّ ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء ، وهي جزء من العقاب الأدنىٰ ، عذّب الله به قوماً إذ لم يعرفوا الحقّ ولم يقولوا به ، وهذا أيضاً مذهب عامّة أصحاب أبي الخطاب ، واستحلّوا استعراض الناسَ بالسيف وقتلهم علىٰ مذهب الخوارج في قتل أهل القبلة ، وأخذ أموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر ، واعتلّوا في ذلك بقول الله عزّ وجلّ : ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ (٢) ورأوا سبي النساء وقتل الأطفال ، واعتلّوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى : ﴿ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾. (٣)

______________________

١. البقرة : ٣٥.

٢. التوبة : ٥.

٣. نوح : ٢٦.

٣٢٧
 &

وزعموا أنّه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل مَنْ قال بالإمامة مِمّنْ ليس علىٰ قولهم ، وخاصّة من قال بإمامة موسى بن جعفر ، وولده من بعده ؛ وتأوّلوا في ذلك قولَ الله تعالى : ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (١) فالواجب أن يُبدأ بهؤلاء ، ثمّ بسائر الناس ؛ وعددهم كثير ، إلّا أنّه لا شوكة لهم ولا قوّة ، وهم بسواد الكوفة واليمن أكثر ولعلّهم أن يكونوا زُهاء مائة ألف. (٢)

أقول : إنّ النوبختي أقدم مَن كتب عنهم من أصحاب المقالات ، وقد عاصرهم ، حيث إنّ القرامطة ظهرت سنة ٢٦٧ هـ ، وتوفي النوبختي في أوائل القرن الرابع حوالي سنة ٣١٠ هـ ، فما ذكره عنهم أدقّ ممّا ذكره غيره.

٢. وقال الأشعري : القرامطة يزعمون أنّ النبيّ نصّ علىٰ إمامة ابنه الحسن ـ وهكذا ينقل نصّ كلّ إمام على الإمام المتأخر ـ حتّى وصلت النوبة إلىٰ نصّ جعفر علىٰ إمامة ابن ابنه محمد بن إسماعيل.

وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيٌّ إلىٰ اليوم ، ولم يمت ولا يموت حتّى يملك الأرض ، وأنّه هو المهدي الذي تقدّمت البشارة به ، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أنّ سابع الأئمّة قائمهم. (٣)

٣. وأمّا عبد القاهر البغدادي فلم يذكر القرامطة بالاسم ، لكن نقل ما ذكره الإمام الأشعري في المقالات وقال : « وفرقة قالت كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حيث إنّ جعفراً نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلمّا مات إسماعيل في حياة أبيه ، علمنا أنّه إنّما نصب ابنه إسماعيل للدلالة علىٰ إمامة ابنه محمد بن إسماعيل. (٤)

______________________

١. التوبة : ١٢٣.

٢. النوبختي : فرق الشيعة : ٧٢ ـ ٧٦.

٣. الأشعري : مقالات الإسلاميين : ٢٦.

٤. عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق : ٦٣.

٣٢٨
 &

يظهر ممّا ذكره النوبختي في فرق الشيعة أنّهم كانوا يكفّرون جميع المسلمين حسب عقيدتهم ، ولأجله قاموا بقتل حجاج بيت الله الحرام عام ٣١٧ هـ في عهد المقتدر بالله.

ذكر ابن الأثير أنّه حج بالناس في هذه السنة ( ٣١٧ هـ ) المنصور الدّيلمي ، وصار بهم من بغداد إلىٰ مكّة فسلّموا في الطريق فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكّة ، يوم التروية ، فنهبَ هو وأصحابُه أموال الحُجّاج ، وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه ، وقلع الحجر الأسود ونفذه إلىٰ هجر فخرج إليه ابن محلب ، أمير مكّة في جماعة من الأشراف ، فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم ، فقاتلوه فقتلهم أجمعين ، وقلع باب البيت وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات.

وطرح القتلىٰ في بئر زمزم ، ودفن الباقين في المسجد الحرام ، حيث قُتلوا بغير كفن ولا غُسل ، ولا صلى علىٰ أحد منهم ، وأخذ كسوة البيت ، فقسّمها بين أصحابه ، ونهب دُورَ أهل مكّة.

فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد الله العلوي بإفريقية ، كتب إليه ، يُنكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ، ويقول : قد حققت علىٰ شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت ، وإن لم ترد علىٰ أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ، ما أخذت منهم ، وتردّ الحجر الأسود إلى مكانه ، وتردّ كسوة الكعبة ، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.

فلمّا وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود ، واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكّة فردّه ، وقال : إنّ الناس اقتسموا كسوة الكعبة ، وأموال الحجاج ولا أقدر علىٰ منعهم. (١)

______________________

١. ابن الأثير : الكامل في التاريخ : ٨ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٣٢٩
 &

من هذا المقطع الذي ذكرناه من كلام ابن الأثير يظهر أنّ عبيد الله المهدي ينكر عليهم ما ارتكبوه من جرائم شنيعة ، وأنّهم بأعمالهم الوحشيّة هذه مهّدوا الطريق للأعداء ، ليتّهموهم بالإلحاد ، والخروج عن الدين. وهذا ممّا يوجب على الباحث العلمي إذا أراد أن يخرج بنتيجة إيجابية أن يجعل للقرامطة حساباً خاصاً وأن يدرسهم دراسة موضوعية تتسم بالعلميّة وعدم الخلط .

وللإسماعيليّة التي كانت الخلافة الفاطميّة في مصر تتبناها حساباً آخر ولا يضربهما بسهم واحد.

٣٣٠
 &

الملامح العامّة للقرامطة

قد تعرّفت على الفرق الإسماعيلية ، وإنّ منها القرامطة الّذين قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل وغيبته ، وبذلك عطّلوا الإمامة ، وانقطعوا عن الركب الإمامي ، وحيث إنّه كان لهم دور في الأعصار الغابرة لا بأس بذكر ملامحهم العامّة ، وفرقهم ، وعقائدهم ، وما قاموا به من الأحداث الإرهابيّة ، وقد وجدنا أنّ ما كتبه « طه ولي » حول تلك الفرقة في كتابه « القرامطة أوّل حركة اشتراكية في الإسلام » هو أبسط ما كتب عنهم ، فقمنا بتلخيص ما جاء في هذا الكتاب من المواضيع الهامّة .

القرامطة من إحدى الفرق الباطنية الّتي شغلت السلطات العباسيّة قُرابة قرن من الزمن ، وأشاعت الاضطرابَ والقلقَ في الشرق العربي ، بما خَلَقْته من أفكار ثوريّة ، ما تزال آثارها باقية إلى أيّامنا الحاضرة ، عبر الطوائف الدينية التي تحمل أسماءً مختلفة.

إنّ القرامطة جاءت من معنى لغويّ وهو قَرمطَ الرجلُ في خَطْوه ، إذا قارب بين السطور في كتابته ، ويقال : إنّ حمدانَ بن الأشعث مؤسّس هذه الفرقة سُمي قرمط لقصر قامته ورجليه.

أسباب نشوء الحركة القرمطيّة ومؤسّسها :

إنّ كلمة قَرمط بدأت بحمدان بن الأشعث ، وهو الذي نزل عنده الداعي المؤسِّس لهذه الفرقة : الحسين الأهوازي ، الذي جاء من ناحية خوزستان ، وهذه التسمية ـ أي القرامطة ـ لم تتخذّها هذه الفرقة الباطنيّة لنفسها ، وإنّما أطلقها أعداؤها عليها في العهود المبكِّرة لقيامها.

٣٣١
 &

والحديث عن العوامل التي أدّت إلىٰ نشوء الحركة القرمطية ، وقيام دولة القرامطة ، ذو شجون ، والخوض فيه يحتاج إلىٰ تفصيلات ، لا يتسع لها مجال هذه الدراسة ، التي قصدنا بها التعريف بالقرامطة ، وحركتهم بأكثر ما أمكننا من الإيجاز ، دون الدخول في التناقضات التي تميّزت بها أقوال المحققين.

كان المجتمعُ الإسلامي ، في أواخر العهد الأُموي يسير في طريق مُظلم ، وأنّ الدولة الأُمويّة الحاكمة ، العربيّة النزعة والطابع ، كما هو جليّ وواضح في تاريخها لم تكن تعتمد إلّا على العناصر الخالصة التي تنحدر من أصل عربي فلم يُعِنْ بنو أُمية بغير قومهم العرب ، فمنهم الولاة والقوّاد ، ورؤساء الدولة ، والعمال وحكّام الأقاليم ، والمقاطعات ، فضلاً عن أنّ زمام الأسواق التجارية والمهنيّة والزراعيّة ، والنفوذ والجاه ، كان أيضاً بأيديهم ، وبأيدي أنصارهم ، ولهذا كره الموالي ( غير العرب ) حكمهم ، وعملوا علىٰ إسقاطهم وكانوا معاول هدم في كيان الدّولة الأُمويّة.

إنّ المجتمع الأُموي كان يقوم علىٰ سيادة العنصر العربيّ ، فكان لا يتمكن أيُّ إنسان من الانتساب إلىٰ صفوفه إلّا بطريق الولادة ، ولم يكن أفراده يدفعون الضرائب عن أراضيهم ، وكانوا وحدهم أصحاب الحقّ ، بأن يتجنّدوا في الأمصار ، ويقبضوا الرواتب الشهرية المغرية ، فضلاً عن حقّهم بالأعطية من غنائم الفتوح ، ولم يكن حلول العباسيين محلّ الأُمويين أكثر من مجرد تغيير الأُسرة الحاكمة.

وبذلك تبين أنّ الأسباب التي أدّت إلىٰ قيام الحركة القرمطية كانت هي أيضاً في جوهرها حركة قوميّة إقليميّة وإقتصاديّة واجتماعيّة ، ولعلّنا لا نأتي بجديد حين نقول : إنّ الأُمويين بسياستهم هذه : قد مهّدوا الطريق لمن يريد ضرب الدّولة الإسلامية ، وكان أفضل وسيلة للمنفعلين بهذه الأسباب أن اتخذوا من الصراع العقائدي بين بني أُميّة وبين بني هاشم ، ذريعة لتقويض الحكم العربي العنصريّ ، ونقض التعاليم الإسلاميّة ، وذلك بادّعائهم الولاء للهاشميين في مطالبتهم

٣٣٢
 &

بحقّهم بالخلافة دون الأُمويين.

وهكذا تكون كلّ الحركات الباطنيّة توسلتْ بشعار الولاء لآل البيت النبوي ، من أجل الوصول إلى هدف واحد وهو الثأر من حكام الوقت الّذين أشاعوا البدع الجاهليّة ، تحت غطاء الإسلام ، ومنها التركيز على العنصر العربي ، والحط من الموالي المسلمين.

كان ابتداء الدّعوة القرمطيّة في البحرين عن طريق رجل يُعرف بيحيى بن المهدي ، الذي قصد بلدة القطيف ، وحلّ فيها ضيفاً علىٰ رجل يُعرف بعلي بن المعلىٰ بن حمدان ، مولى الزياديّين ، فأظهر له يحيىٰ أنّه رسولُ المهدي ، وكان ذلك في سنة ٢٨١ هـ ، وذكر أنّه خرج إلىٰ شيعته في البلاد ، يدعوهم إلىٰ أمره وأنّ ظهوره قد قَرُب ، فأخبر عليُّ بن المعلىٰ ، الشيعةَ من أهل القطيف ، وقرأ عليهم الكتاب ، الذي مع يحيى بن المهدي ، المرسل إليهم من المهديّ ، فأجابوه ، وأنّهم خارجون معه ، إذا ظهر أمره. ووجّه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك ، فأجابوه وكان أبو سعيد الجنابيّ يبيع للناس الطعامَ ويحسب لهم بيعهم.

ويقول مؤلّف « البحرين عِبر التاريخ » : إنّ حمدان قرمط ابن الأشعث ، هو مؤسّس حركة القرمطيين في واسط بين الكوفة والبصرة ـ حيث أنشأ داراً للهجرة ، وجعلها مركزاً لبث الدّعوة ، ثمّ كلّف دعاته بإنشاء فروع للحركة ، أهمّها على الإطلاق فرعُ البحرين الذي أقامه أبو سعيد الجنابي.

فرق القرامطة :

القرامطة توزّعوا في أيّام ظهورهم إلىٰ ثلاث فرق ، ومرّوا في ثلاث مراحل ، وتقلّبوا في ثلاثة أدوار :

الفرقة الأُولىٰ : وهي قرامطة السّواد ـ أي سواد العراق ـ وقد أطلق لفظُ السواد علىٰ هذه المنطقة لكثرة النخيل الذي يُغَطِّي أرضها ، ويطلق على هذه الفرقة

٣٣٣
 &

كذلك ، اسم قرامطة الشمال ، وأبرز دعاتهم « داندان » و « حمدان » و « عبادان » و « آل مهرويه ».

الفرقة الثانية : قرامطة البحرين أو الخليج في شطه الغربي ، وأبرزُ دعاتهم آل الجنابي.

الفرقة الثالثة : قرامطة القطيف وجنوبي البصرة ، وأبرز دعاتهم أبو حاتم البوراني ، وأبو الفوارس ، وهذا يُعدُّ من كبارهم ، وله مع الخليفة العباسي « المعتضد » محاورة مشهورة ، ويُعتبر من أقوى الدعاة الّذين عرفهم القرامطة في تاريخهم.

انقسام القرامطة إلى حركتين بعدما كانت حركة واحدة

عندما هلك سليمان بن الحسن الجنابي « أبو طاهر » ، زعيم الدولة القرمطية في البحرين ، الذي هتك حرمة الكعبة ، وقتل الكثير من الحجاج ، ترك أولاداً غير أكفاء لخلافته في الزعامة ، فتنافس أخواه سعيد وأحمد على الولاية ، وأدّى هذا التنافس إلى انقسام جماعة القرامطة إلى حركتين متعاديتين بعدَ أن كانوا حركة واحدة متجانسة ، وكان على رأس إحدى هاتين الحركتين أبناء سليمان ( أبو طاهر الجنابي ) ومعهم سابور ، وعمه أحمد ، وانضم إليهم كبار هذه الطائفة ، وكان هؤلاء خاضعين للعُبيديين في المغرب يتلقون منهم التوجيه وينفِّذون تعاليمهم ، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم « الفرقة العقدانية » أي أصحاب العقيدة.

وعلى رأس الحركة الثانية ، سعيد المذكور الذي رفض التبعية للعُبيديين وآثر الاستقلال بشؤونه ، ولأجل تقوية مركزه ضد العبيديّين ، الذين لم يعترفوا به ، اتجه لمصانعة العباسيين الذين سارعوا لموآزرته بهدف تعميق الانقسام في صفوف هؤلاء القرامطة ، لكي يسهل التخلص منهم جميعاً ، وقد أدّى هذا الانقسام الذي رافقته حروب دامية بين الحركتين إلى التعجيل بنهاية القرامطة كقوة سياسية ومذهبية.

٣٣٤
 &

عقائد القرامطة

إنّ عقائد القرامطة ، هي مزيج من الحق والباطل شأن كلّ فرقة زائفة ، فأخذت بتبنّي الإمامة لأئمّة أهل البيت وإظهار الإخلاص لهم ، ورفض الحكومات الأُموية والعباسية المخالفة للقرآن والسنّة والسيرة النبوية . وإليك بعض عقائدهم بشكل موجز :

١. نظرية الحلول عند القرامطة

والقرامطة ، قالوا بنظرية الحلول أو ما يسمىٰ عند بعض الطوائف المعاصرة باسم حلول اللاهوت بالناسوت ، فذهبوا إلىٰ أنّ أئمّتهم حلّت فيهم شخصيات الأنبياء السابقين الذين بعثهم الله في الأُمم الغابرة ابتداءً من آدم وانتهاءً بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل أنّهم تجاوزوا الأنبياء.

لما دخل عبيد الله المهدي إلى رقادة بالمغرب مدحه محمد البديل ، أحد موظفي الديوان عند أبي قضاعة بقوله :

حل برقادة المسيح

حل بها آدم ونوح

حل بها أحمد المصفّى

حل بها الكبش والذبيح

حل بها ذو المعالي

وكل شيء سواه ريح

٢. الغلو عند القرامطة

تعتقد القرامطة أنّ الإمام القائم هو محمد بن إسماعيل الذي يبعث بالرسل ، ويسن شريعة جديدة ينسخ بها شريعة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما يعتقد القرامطة بأنّ روح الله تعالى تحل في أجساد أئمتهم فتعصمهم من

٣٣٥
 &

الزلل وترشدهم إلى صالح العمل.

وهم يعتقدون أيضاً أنّ أئمّتهم السبعة هم السبع المثاني الذين أشار القرآن الكريم إليهم ، ورفعوهم إلى حدّ المغالاة.

٣. التأويل الباطني في تفسير القرآن

تفردت الباطنية بتفسير القرآن الكريم علىٰ طريقة التأويل الباطني ، وهو أن يتجاوز الإنسان المعنى الظاهري للآية ويتجه إلى فهمها عن طريق تفسير كلماتها بما يخيل إليه أنّه المقصود الحقيقي من كلام الله ، ومن الطبيعي أن يعتمد الباطنيون هذه الطريقة لتحميل الآيات المعنىٰ الذي يؤيد وجهة نظرهم وأفكارهم المذهبية.

إنّ التأويل بمعناه الواقعي لدى الإسماعيليين يختلف عن التفسير المعمول به لدى عامة الفرق الإسلامية الأُخرى ، والتفسير معناه جلاء المعنى لكلّ كلمة غامضة لا يفهم معناها القارئ والتأويل باطن المعنى أو رمزه أو جوهره وهو حقيقة مستترة وراء لفظة لا تدل عليها ، ومن هنا أعطى النظام الإسماعيلي ـ ومثله القرمطي ـ الفكري صلاحية التفسير للناطق ووهب صلاحية التأويل للإمام ، فالناطق اعتبر ممثلاً للشريعة والأحكام والفقه والقانون الظاهر ، والإمام اعتبر ممثلاً للحقيقة والتأويل ، والفلسفة والباطن ، ومن الواضح أنّ أوّل منهاج دعوا إليه هو نظام التأويل ، فإنّهم هذّبوه وصقلوه بأفكارهم وأدخلوا فيه النظرية العقلية التي تشذب الفعل والتسليم ليثبتوا للعالم الإسلامي انّهم من العريقين في فهم الأُصول الإسلامية ، فقالوا بالباطن وضرورته كما قالوا بالظاهر إلى جانبه ، فلا يقبل الظاهر دون الباطن ، ولا ينفع الباطن دون الظاهر ، لأنّ الباطن والظاهر كالجسد والروح تولذ في اجتماعهما الفوائد ومعرفة المقاصد.

إنّ للقرآن مدلولاً ، ظاهرياً وباطنياً ، فالمعنى الظاهري واللغوي ليس هو المقصود بالذات والتمسك بهذا المعنىٰ يوجب العذاب والمشقة ، أمّا الأخذ

٣٣٦
 &

بالمعنى الباطني فهو يوجب الانشراح والسعادة ، لأنّه يقضي بترك التكاليف والأعمال الظاهرة وكان ابن ميمون يدس هذه الفكرة بصورة خفية وباطنة وما كان يتظاهر بها تجاه غير الإسماعيليين ـ القرامطة ـ ولذلك كانت هذه الطريقة مبالغ فيها.

نهاية القرامطة سياسياً وعسكرياً

في منتصف القرن الرابع الهجري دخل القرامطة النهاية لأسباب ذاتية وأُخرى خارجية ، وما لبثوا أن زالوا عن مسرح الصراع في المشرق العربي من الناحيتين السياسية والعسكرية.

الأسباب الذاتية

من الواضح أنّ الحركة القرمطية لم تستطع إخفاء مقاصدها الحقيقية في محاربة العقيدة الإسلامية الصحيحة لا سيما بعد الانتصارات المحلية لبعض زعمائها على السلطة العباسية ، فقد أساء المتأخرون من هؤلاء الزعماء التصرف بالنسبة للمجتمع الإسلامي آنذاك ، حتى أنّ العبيديين وهم على منوالهم في الاتجاه السياسي والعقائدي اضطروا إلى أن يتبرأوا منهم وأن يهاجموهم عسكرياً في أماكن تواجدهم ، حيث أوعزوا إلى قائدهم العسكري « جوهر الصقلي » بأن يذيع بياناً يستنكر فيه أعمال القرامطة ويتبرّأ من تصرفاتهم المغايرة للإسلام والضارة بالمسلمين ، علىٰ أنّ جوهر لم يكتف بهذا البيان بل حاربهم فعلاً على أرض فلسطين في الرملة ( سنة ٣٦٨ هـ ) وكانت هذه المعركة بداية النهاية بالنسبة للحركة القرمطية ولأتباعها على مختلف المستويات وفي جميع البلدان التي انتشروا فيها بقوة الدعاية التبشيرية أو بقوة السلاح والأرهاب.

وإنّه يمكن القول بأنّ حادثة العدوان الذي قام به القرامطة على مكة

٣٣٧
 &

المكرمة بقيادة أبي طاهر الجنابي ، وما رافق ذلك من قتل الحجاج ، واقتلاع الحجر الأسود من مكانه ، وأخذه إلى هجر ، إنّ هذه الحادثة كانت بمثابة القنبلة الموقوتة التي انفجرت بعد حين ودمرت الكيان القرامطي من أساسه ، حتى أنّ أبا محمد عبيد الله الذي أسس الدولة العبيدية وكان هو نفسه قرمطي العقيدة استهول هذه الحادثة وأفزعته مضاعفاتها السلبية في الأوساط الإسلامية ، فأرسل كتاباً لنظرائه قرامطة البحرين ينكر فيه عليهم فعلتهم الشنيعة ويلوم أبا طاهر المذكور ويلعنه ويقيم عليه القيامة ، بقوله :

قد حقّقت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت وإن لم ترد علىٰ أهل مكة وعلى غيرهم من الحجاج ما أخذت منهم ، وترد الحجر الأسود إلى مكانه ، وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.

وهذه الحادثة المشؤومة كانت ( سنة ٣١٧ هـ ) وهنا فإنّنا نرى من الفائدة تسجيل وجهة نظر القرامطة في هذه الحادثة كما عبّر عنها أبو طاهر القرمطي الذي اقترف هذه الجريمة النكراء ، وذلك من خلال الشعر الذي قاله في هذه المناسبة ، والرد الذي أرسله إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله.

قال أبو طاهر في تبرير اقتلاع الحجر الأسود والعدوان على البيت الحرام :

فلو كان هذا البيت لله ربّنا

لصب علينا النار من فوقنا صبا

لانّا حججنا حجة جاهلية

مجللة لم تبق شرقاً ولا غرباً

وانّا تركنا بين زمزم والصفا

كتائب ، لا تبغي سوى ربها ربا

ولكن ربّ العرش جلّ جلاله

لم يتخذ بيتاً ولم يتخذ حجبا

ومن العوامل الذاتية الأُخرى التي أضعفت القرامطة وأدّت إلى ذهاب ريحهم واضمحلال شوكتهم ، الانقسام الذي فرّق أمرهم فيما بينهم ، وخاصة بعد موت أبي طاهر سليمان مما اضطرهم إلى تعديل نظام ( مجلس العقدانية ) وتحويله ( الى مجلس السادة ) الذي أوهن قيادتهم المركزية ، والحروب التي شنها بعضهم على

٣٣٨
 &

بعض في عهدي أبي طاهر والاعلم خارج مركز قوتهم ( البحرين ) ممّا كبدهم أموالاً طائلة ، وأضعف مواقفهم بعد كل معركة ، وأدى إلى قيام حركات انفصالية داخل مجموعتهم لا سيما في عمان واليمن.

الأسباب الخارجية

أمّا الأسباب الخارجية التي أدّت إلى زوال الحركة كدولة ونظام ومجتمع ، فإنّ المؤرخين يردّون ذلك إلى الظواهر السلبية التي عانوا منها في أُخريات أيامهم وهي التالية :

١. ظهور دولة بني بويه المناوئة للقرامطة التي نجحت في جرهم إلى حروب جانبية خلقت لهم أعداء من كلّ جانب ، وخاصة من الدولة العبيدية المصرية.

٢. قلة الأموال التي كانت بحوزتهم ، فلم يعودوا يتمكنون من الاستمرار في صرف المعتاد من العطايا على البدو ممّا أضعف موالاة هؤلاء لهم ، وتحوّلوا عنهم إلى العباسيين لهذا السبب.

٣. انقلاب قبائل إقليم البحرين نفسها عليهم ، مثل : بني عقيل وبني تغلب ، ونجاح هذه القبائل بالتغلب على بعض أطراف الدولة القرمطية مثل القطيف وما جاورها.

٤. ومن العوامل الخارجية الأُخرىٰ التي قادت القرامطة إلى نهايتهم وتلاشيهم أنّ أسيادهم وحلفاءهم ورفاقهم في الاتجاه المذهبي والمبادئ العقائدية ، نعني : العبيديين حكام القاهرة ، انقلبوا عليهم بعد أن ضاقوا ذرعاً بتأرجحهم بين الولاء لبغداد وبين الاستسلام للقاهرة ، وبخروجهم عن كلّ حد ، وزاد غيّهم وسفكهم للدماء وغزوا مكة وفتكوا بالحاج واقتحموا البيت الحرام ، ولمّا ذهبوا في جرأتهم إلىٰ مهاجمة الدولة الفاطمية ذاتها في الشام وانتزعوا منها دمشق وهاجموها في مصر منزلها الجديد ، تنكرت لهم وأنكرت ثورتهم وتبرأت منهم.

٣٣٩
 &

                                               

نهاية القرامطة

وقد مرت نهاية القرامطة في مرحلتين :

الأُولى : يوم طردوا من جزيرة أوال في البحرين

ففي سنة ٤٥٨ هـ خرجت الجزيرة المذكورة عن طاعتهم ووالت العباسيين بعد سلسلة الحروب الداخلية التي خاضها المسلمون والمجاعة في هذه الجزيرة ، فقد بنى أهل البحرين مسجداً لجذب التجار إلىٰ جزيرتهم ، ولمّا فرغوا من بناء هذا المسجد آل أمر الجزيرة إلى العباسيين.

الثانية : استئصال شأفتهم نهائياً من هذه البلاد

كانت هزيمة القرامطة في جزيرة أوال ذات أثر سلبي كبير عليهم ، إذ عمد سكان الجزيرة إلى الاتصال بالسلاجقة والعباسيين في العراق وفي سنة ٤٦٢ هـ بعثت بغداد بجيوش ألحقت الهزيمة تلو الهزيمة بالقرامطة ، فاضطروا للارتداد إلى الأحساء ، فلحقت بهم إلى الأحساء وحرضوا عليهم السكان بالمنشورات التي يستحثونهم فيها على الانضواء تحت لواء العباسيين في جهاد المبطلين القرامطة الملحدين ، وفي استئصال ذكرهم ، وتطهير تلك البقعة من دنس كفرهم.

فاستجاب أهالي البلاد لهذه الإثارة وانضموا إلى العساكر العباسيّة ، وأصبح القرامطة محاطين بأعدائهم في شمالي الأحساء الذين انتصروا عليهم في معركة الخندق سنة ٤٧٠ هـ.

وتعد هذه الواقعة من الوقائع الحاسمة في تاريخ الحركة القرمطية ، لأنّها قضت علىٰ دولة القرامطة وألغت وجودها نهائياً من خارطة العالم الإسلامي.

*  *  *

هذا وقد لخصنا هذا المقال من كتاب طه ولي بتصرف يسير لما لمسنا منه من تطرف للحكم العربي المتمثل في الدولة الأُموية والعباسية حيث رأى أنّهما يمثلان الدولة الإسلامية الشرعية المجسدة لأهداف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآماله.

بحوث في الملل والنحل الجزء الثامن لشيخ جعفر السبحاني

٣٤٠