بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

يلتذّون إلّا بقرب الحقّ وذكره والثناء عليه على التفصيل الّذي قرّرناه.

ومنهم من لهم دون ذلك المقام وهم الأكثرون كما قال : أكثر أهل الجنّة البلهاء ، فيتنعّمون بالمآكل والمشارب هو الصحيح الّذي نحن نقول به.

وأمّا ما ذكره المفيد رحمه الله من الحصر الّذي عرفته فناش عن الجهل بحقيقة الحال. كيف ويأباه العقل اللامع اللاهوتي كمال الإباء ؛ إذ هذه الأشياء ممّا لا يليق إلّا بالقوّة البهيميّة ، ولا يليق بالرتبة الإنسانيّة ، لأنّها من أعلى المراتب الإمكانيّة ، وقد أعدّ الله لها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

فلا ينبغي للعاقل أن يحصر اللذّات في الجنّة فيما يخصّ بالبهائم. كيف وهو نقص للرتبة الإنسانيّة.

وأمّا ذكره من الآيات القرآنيّة شاهدة على دعواه فممّا الجواب عنه سهل على كلّ من تدبّر هنيئة ؛ إذ لتلك الآيات ظواهر يعرفها كلّ من له اطّلاع بلغة العرب ، وحقائق قد علمها أهل التوحيد ، وعرفها أرباب التجريد.

كيف لا وقد كشف عن بعضها الأئمّة الأطهار عليهم السلام في بعض أخبارهم المرويّة عنهم في الكتب المعتبرة كما لا يخفى على من تتبّعها ، ولا يبقى شكّ للمتتبّع في أنّ تلك الألفاظ الّتي تضمّنها القرآن ، بل الأخبار الواردة في أمر الجنّة والنيران كما تكون عبارات عن اللذّات الجسمانيّة المحسوسة ، والآلام الظاهرة العنصريّة كذلك تكون كنايات عن الدرجات الرفيعة القربيّة ، والدركات البعديّة ، وإنّي في مقامي هذا بين يدي الله لأشهدنّ بأنّ ما اشتمله القرآن والأخبار في أمر الجنّة والنار لحقّ صدق من

١٨١

الله إلى رسول الله ، ثمّ إلى خلق الله ، ولا ريب فيه أصلا ولكن أقسم بعزّة الله صادقا بأنّ الأمر في كيفيّات ذلك ليس كما ذكره الظاهريّون القشريّون من العلماء ، واعتقده الأدنون من أنّ أهل الجنّة كلّهم يلتذّون بالمطاعم الجسميّة كما يلتذّ البهائم ، بل لذلك كيفيّة لم يعرفها إلّا من فاز بها.

فكذب من ادّعى عرفان تلك الكيفيّات قبل أن يدركها حقّ الدرك ، فإنّه خاصّ بالأنبياء والأولياء والأصفياء المنقطعين عن تلك الحواسّ الظاهرة الحيوانيّة انقطاعا كلّيّا ، فهيهات هيهات كيف يدركها المشتغل باللذّات الحسّيّة ، والمتوجّه إلى الشؤونات الغيريّة.

ومن ذلك يكشف معنى ما روي من أنّ الحسين عليه السلام قد أرى أصحابه مقاماتهم ودرجاتهم في الجنّة في أرض كربلا ، فإنّ ذلك لقد كان عند انقطاعهم عن هذه الحياة الدنيا وشوقهم إلى الحياة الدائمة السرمديّة.

وبالجملة : لا يمكن الفوز بحقيقة تلك الكيفيّات لمن لم يذق من رحيق العرفان ، والانقطاع عن كلّ ما في الإمكان ، فإنّي إلى هذه الغاية في رتبة التوحيد ، والانقطاع بمقام التجريد ، لم يظهر لي حقيقة تلك الكيفيّات حقّ الظهور ، فكيف لمن لم يكن له حظّ من مقام العرفان أصلا.

فيا أيّها المتعرّف الجاهل صه عن البحث في هذه الكيفيّات ، فإنّه لا ينبغي إلّا لمن خلص دينه ، وأتقن يقينه ، فالحمد لله حقّ حمده ، والصلاة على مظهر مجده.

السابعة : لقد ظهر ممّا سطرناه أنّ الله تعالى لقد عبّر عن الدرجات الروحانيّة ، والمقامات العرفانيّة الّتي يفوز بها العارفون والواصلون كلّ

١٨٢

بحسب سعيهم وإمكانهم بالجنّة والحرير واتّكائهم على الأرائك إلى غير ذلك ممّا أشير إليه في الآيات ، ولكن لا يدرك ذلك إلّا العارفون بأسرار القرآن وحقائقه ، فإنّ لباطن القرآن أهلا يفهمون الكنايات ، ويدركون الإشارات ، وهم المعصومون من آل محمّد عليهم السلام والّذين علّمهم هؤلاء وهم الراسخون في العلم الّذين يعلمون تأويل القرآن ؛ كما قال : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ... (١) إلى آخره.

لا الّذين ما استعدّوا إلّا للقشور ، فإنّهم لا يعرفون إلّا ظواهر الأمور ، لما في استعدادهم من القصور ، عن درك حقائق النور ، فما عثروا على الكنوز ، وما اطّلعوا على الرموز ، واقتصروا على الصورة وما تحسّسوا عن يوسف الحقيقة ، كلّا إنّهم عن حقائق الحقّ لمحجوبون.

ثمّ لا يخفى أنّ في اختلاف تعبيره سبحانه إشارة إلى أنّ معارفهم ليست من صنف واحد ، بل مختلفة باختلاف متعلّقها ، وكذلك مقاماتهم ليست متّحدة حتّى يكون مقام واحد ، بل متفاوتة بعضها فوق بعض ، ولكن نحن لاشتغالنا بالحياة العنصريّة لا ندرك حقيقة مقام هؤلاء المنقطعين ، بل كيفيّته ؛ فضلا عن اختلافه وتفاوته.

كيف ولسنا في ذلك المقام حتّى ندركه ؛ إذ قد عرفت أنّ الخارج عن مقام لا يمكن له اكتناه ذلك المقام كيفوفيّة وحيثوثيّة إلّا على طريق الإجمال ، وهو غير مفيد للحال إلّا إثبات بعض الأحوال.

هذا فإنّه غاية ما يمكن تقريره في نحو المقال ، فالحمد لله على كلّ حال.

__________________

(١) آل عمران : ٧.

١٨٣

تنبيهات :

الأوّل : قال بعض العارفين : الجنّة في الآية إشارة إلى المقاصد الكلّيّة ، والمطالع الجليلة.

وأمّا الحرير فلمّا كان من اللباس الكامل المكمّل حسّا عبّر به عمّا يطابقه من الكمالات العقليّة من التسربل بسرابيل الإفاضات الروحانيّة ، والتسرول بسراويل الكرامات الرحمانيّة ، والتعمّم بعموم عمائم العناية الربّانيّة ، المحيطة بالكلّ حياط الحاوي للمحوي ، وإن كان تفاوت ما بين الحريرين.

والأرائك جمع الأريكة وهي السرير.

وقيل : هي الفرش فوق الأسرّة.

ومتّكئين منصوب على المدح أو حال من الضمير.

وفي الآية إشارة إلى حسن المنزل ، وطيب هوائه ، وتلويح إلى دوام هذا الطيب وعدم تغيّره.

وعدم الشمس والزمهرير كناية عن الخلوّ عن الحرّ والبرد ، والزمهرير في لغة طيّ : القمر.

وعلى الوجهين تلميح إلى أنّ هذا الطيب والاعتدال ليس من أمور خارجة كاعتدال هواء الدنيا. ثمّ في الآية دلالة على إثبات اللذّة ونفي الألم ، فإنّ الاتّكاء على السرير في هواء طيّب جامع في البدن وفي النفس حالات مناسبة مشابهة ، والشمس يتبعها حرّ وكرب يلزم الشوق ، والزمهرير برودة وجمود يلزم البلادة والغفلة.

أقول : وفي الآية إشعار أيضا بكمال البينونة والتفاوت بين اللذّات

١٨٤

الدنيويّة الفانية ، واللذّات الأخرويّة الباقية ؛ كما لا يخفى على المتأمّل.

الثاني : القراءة المشهورة في «ودانية عليهم» النصب ، وله وجوه ذكروها في كتب التفسير ؛ منها : أن يكون عطفا على «متّكئين» فيكون حالا بعد الحال بواسطة الحرف ، أي في حال اتّكائهم على الأسرّة وقرب أفياء الجنّة منهم.

ومنها : أن يكون صفة الجنّة المذكورة ، أي : وجزاهم جنّة دانية. ذكره بعض ، ولكنّه أخطأ لعدم جواز الفصل بين الصفة والموصوف بالواو ، ولا محلّ لزيادتها هنا ؛ كما لا يخفى فليتأمّل.

ومنها : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، فالنصب على المفعوليّة ، أي : وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا وجنّة أخرى دانية عليهم ، وذلك إنّهم وعدوا جنّتين لخوفهم من مقام ربّهم على ما سبق كما قال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (١) ومن قرأ بالرفع فقد جعله خبرا مقدّما والمبتدأ قوله ظلالها ، والجملة في محلّ النصب على الحالية.

ثمّ المراد بدنوّ الظلال هو قرب أفياء أشجار الجنّة.

وقيل : المراد إنّ ظلال الجنّة لا تنسخها الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا ، والاستشكال بأنّ الظلّ لا يكون إلّا حيث يكون الشمس مجاب عنه تارة بأنّ المراد لو كان هناك شمس لوقع ظلّ فتأمّل.

وتارة بأنّ الظلّ لا يلزم أن يكون بالشمس ، بل الضوء كاف في إيقاع الظلّ كما لا يخفى.

__________________

(١) الرحمن : ٤٦.

١٨٥

وقوله : «وذلّلت قطوفها» معناه : وسهل أخذ ثمارها إن قام ارتفعت بقدره ، وإن قعد نزلت عليه حتّى ينالها ، وكذلك إن اضطجع.

وقيل : أي لا يردّ أيديهم عنها بعد ولا شرك والمال واحد كما لا يخفى.

وفي ذلك إشارة إلى أنّ هؤلاء الأبرار المستكملين لقد فازوا باللذّات الدائمة بحيث هيّأت لهم جميع المعارف بحسب استعدادهم في بساط القرب ، فلا يريدون لذّة إلّا وهم واجدوها ، ولا يتمنّون علما وحكمة إلّا وهم عالموها ، فلا يحتاجون في مقام العلم والعرفان إلى غيرهم.

كيف وهم الكاملون الّذين أمر الناس بأن يرجعوا إليهم في أمورهم جميعا ، ورغّبوا في أن يسألوهم ممّا لا يعلمون ؛ كما قال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) أي الذاكرين للحقّ خاصّة ، الذاهلين عن جميع ما في الإمكان ، فمن أمر الناس بسؤاله لا يجهل شيئا ممّا يحتاجون إليه لا محالة ، فعلم الكاملين بمحاوج السائلين حضوريّ لا فكريّ كما زعمه جماعة.

وقد دلّ على دعوانا بعض الأخبار الواردة في باب علم الإمام عليه السلام ، والمتتبّع لا حظه لا محالة ، فلا حاجة إلى تطويل الرسالة في تلك المقالة. هذا ما ألهمنا به في الحال.

وقال بعض أهل الحال : لا يبعد أن يكون دنوّ الظلال إشارة إلى قرب الظلّ دون المظلّ ، وتذلّل القطوف إلى تقارب المظلّ. وفي هذا إشارة إلى شمول العناية الإلهيّة وتقاربها وإحاطتها مانعة عن الآلام العقليّة والحسّيّة.

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

١٨٦

والقطوف إشارة إلى اللذّات وتعقّل المعقولات ، وتذليلها إلى تقاربها بمفيضها.

ويمكن أن يقال : إنّ دنوّ الظلال لمّا كان من اللذّات البدنيّة الّتي توجد للمتّكئين بمثل تلك الجنان من الجنان الدنيويّة المحسوسة عبّر به عمّا يحصل لهؤلاء في الجنّة من إحاطة العناية الإلهيّة عليهم ، ودنوّ النعمة الربّانيّة بهم أن لا يصيبهم ألم أو يجري عليهم شيء من عذاب الناقصين.

وأمّا تذليل قطوفها فعبارة عن تعقّلاتهم لتلك المعقولات المجرّدة ، وافتياضهم من تلك الجواهر العقليّة بحسب إمكاناتهم ، وتذليل قطوفها تناولها بسرعة.

وفيه إشارة لطيفة إلى أنّ المبدأ الأوّل جلّ ذكره لا تتوقّف إفاضة وجوده على شيء من ذاته ، وإنّما هو بحسب استعدادات القوابل ، فهؤلاء لمّا كانوا على غاية من كمال استعداداتهم وقبولهم لكمالاتهم ، لا جرم كانت قطوفها على غاية سرعة الإفاضة ، وذلك معنى تذلّلها.

الثالث : الطواف والآنية معلوم ، والأكواب جمع الكوب وهو القدح الّذي لا عروة له ، والقوارير : الزجاجات ، وانصرافه بالتنوين في بعض القراءات ، إنّما هو لرعاية السجع.

وقوارير الثانية بدل من الأولى ، والفائدة معلومة أي يطاف على هؤلاء الكمّل بآنية أصلها فضّة وأقداح أصلها القوارير الّتي مثل الفضّة في الصفاء والبياض بحيث يقال إنّها منها لشدّة ملابستها لها.

وبذلك يجاب عمّا استشكل بأنّه كيف تكون القوارير من فضّة وأمّا

١٨٧

القوارير من الرمل دونها. وقد يجاب أيضا بأنّ المضاف محذوف أي من صفاء الفضّة ، قال الصادق عليه السلام : ينفذ البصر في فضّة الجنّة كما ينفذ في الزجاج (١).

أقول : وفي الآية إشعار بكمال لطافة ما يحصل لهم من المقامات والمعارج بحيث لا يلتذّ بها سواهم ، فإنّه لا مناسبة بين غير هؤلاء من المشتغلين بالشؤون الغيريّة وبين تلك المدركات العقليّة حتّى يدركوها ؛ إذ الالتذاذ من الشيء وإدراكه فرع المناسبة والرابطة ولو في الجملة.

قال بعض العارفين : المراد أنّ الفضّة لمّا كانت من الجواهر العزيزة بما يتّخذ منه الملوك الأواني من آلات الشرب وغيرها وكان مع ذلك لها البياض الّذي هو أشرف الألوان المشرقة عبّر بها عمّا ناسبها من الجواهر المعقولة.

واعلم أنّه عبّر بالطواف عمّا يحصل للنفوس الكاملة من تلك المشاهدة والمقابلة الّتي تجري مجرى مقابلة المرايا العالية للمرايا السافلة ، وعبّر بالآنية والأكواب عن المبادي العالية الّتي هي مقرّ العلوم والمعارف تنبيها على ذلك. انتهى.

وقال : نبّه بقوله قوارير على وصفين :

أحدهما : أنّ تلك الجواهر العقليّة وإن كان لها لون الفضّة فإنّها مع ذلك في صفاء القوارير وشفّافها ، وهو إشارة إلى براءتها عن كدورات العلائق الجسمانيّة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨ : ١١١.

١٨٨

والثاني : إنّها مقرّ العلوم الحقيقيّة قرارا لا يتبدّل ولا يتغيّر بحسب تغيّر المعلومات.

وقال : المبادئ العالية أنوار متعدّدة متكثّرة مترتّبة لها أظلال ، فإشراقها على النفوس إظلالها ، واستفاضة النفوس منها اقتطافها.

الرابع : في قوله «قدّروها» قراءتان :

الأولى : الفتح وهي المشهورة ، أي قدّروها في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها كما تمنّوه ، أو قدّروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها ، فالضمير عائد إلى الأبرار الموصوفين قبل.

وقيل : أي قدّروا الكأس على قدر ريّهم لا يزيد ولا ينقص من الريّ.

وقيل : قدّروها على قدر ملاء الكفّ ، أي كانت الأكواب على قدر ما اشتهوا ، فالضمير على القولين عائد إلى الطائفين الّذين يسقون ، فإنّهم يقدّرونها ثمّ يسقون.

وفيه إشارة إلى أنّ كلّا منهم ينال من الفضل والمقام بحسب استعداده وعمله في الدنيا ، بمعنى أنّهم ليسوا سواء في جميع المقامات ، بل مقاماتهم مختلفة ، ومراتبهم متفاوتة باختلاف إمكاناتهم ، وتفاوت استعدادتهم ، فلكلّ درجات ممّا عملوا والله عليم بما يعملون.

هذا معنى ما قيل من أنّ المراد أنّه حصل لكلّ منهم من المعارف والمشاهدات لتلك الصور البهيّة ، والمطالع العليّة حصّته بحسب ما انتهى إليه طرق إمكانه ، أي قدّر لهم الطائفون ذلك التقدير المختلف بحسب اختلاف إمكاناتهم.

١٨٩

الثانية : ضمّ القاف ، فالضمير للأبرار ، والتقدير : قدّروا عليها ، فحذف الجار ووصل الفعل بالمجرور ، وهو الشائع.

الخامس : قال بعض العارفين : لا يخفى على أولي النّهى أنّ في الآية أمورا ينبغي الاستكشاف عنها :

منها : كيفيّة كون هذه الأكواب من الفضّة والقارورة وهما جوهران متباينان.

ومنها : من فاعل التقدير.

ومنها : وجه التأكيد.

ومنها : وجه إعادة المصدر.

أمّا الأوّل ، فيمكن أن يبيّن بوجوه :

أوّلها : إنّ قوارير الدنيا مأخوذة من الرمل والحجر ، وقارورة الجنّة من الفضّة ، فكما أنّ الله قادر على تقليب الرمل الكثيف زجاجة لطيفة صافية كذلك قادر على تقليب الفضّة قارورة لطيفة ، ففي الآية إشارة إلى أنّ نسبة قارورة الجنّة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضّة الجنّة إلى حجارة الدنيا ، وبهذا يتفطّن بصفاء قارورة الجنّة ولطافتها.

وثانيها : إنّ كمال الفضّة في بقائها ونقائها وصفائها وشرفها إلّا أنّها كثيفة الجوهر ، وكمال القارورة في شفّافها وصفائها إلّا أنّها سريعة الانكسار ، ففي الآية إشارة إلى أنّ آنية الجنّة جامعة بين صفاء الفضّة وبقائها ونقائها وصفاء الزجاجة وشفّافها.

وثالثها : أن يكون إشارة إلى أنّ تلك الآنية من الفضّة ، ولكن يكون لها صفاء الزجاجة.

١٩٠

ورابعها : أنّ القارورة في الآية ليست بمعنى الزجاجة ، بل العرب تسمّي كلّما صفى من الأواني قارورة.

وأمّا الثاني وهو بيان المقدّر ففيه وجهان :

الأوّل : أنّه هو الطائف.

والثاني : أنّه هو الشارب ، ولكلّ وجه ، بل وجوه وجيهة.

وأمّا الثالث فلا يخفى على من تفطّن بالأوّل ، كما أنّ الرابع ظاهر لمن تأمّل في الثاني ... إلى آخره.

السادس : في بناء الفعل للمفعول في قوله «ويطاف عليهم» إشعار بتعظيم الطائف ، فإنّه هو المبدأ الأوّل جلّ جلاله.

وكذلك القول في قوله «ويسقون فيها كاسا ...» إلى آخره ، إذ الساقي للأولياء من شراب المحبّة والصفاء في مجلس الشهود هو الله تعالى ؛ كما قال : «وسقاهم ربّهم شرابا طهورا».

والزنجبيل معروف ، وهو ممّا كانت العرب تستطيبه وتستلذّه وتضرب به المثل في أشعارها للملذوذات ، فوعدهم أنّهم يسقون في الجنّة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنّة ، فإنّهم كانوا يمزجون شرابهم بالزنجبيل في الدنيا لزيادة اللذّة.

وفيه إشارة إلى أنّ اللذّة الروحانيّة ألذّ اللذّات الّتي يتصوّرونها ويتوهّمونها.

ولا يخفى أنّ الزنجبيل الممزوج بشراب الأبرار ليس مناسبة بينه وبين زنجبيل الدنيا أصلا في الأثر واللذّة إلّا فيما ذكر من أنّهم يستلذّون به في

١٩١

الدنيا ، فجرى كلام الحقّ على قدر إفهامهم ليعرفوا أنّ ما يمزجه الحقّ بشرابهم ألذّ ممّا يمزجونه ، فذكر الزنجبيل إنّما هو من باب التمثيل لا التحقيق ، فإنّ حقيقة اللذّات الأخرويّة لا يدركها المشتغلون بالنشأة الدنيويّة حقّ الدرك.

نعم ربّما يعرفونها إجمالا ، ألا ترى إلى الصبيّ كيف لا يدرك لذّة الجماع الّتي يدركها البالغ ، إلّا أنّه قد يقطع بأنّ الجماع فيه لذّة ، ولكن لا يعرف حقيقته.

نعم يتمثّل تلك اللذّة له بلذّة القند والسكّر ، فكما أنّ بين لذّة الجماع ولذّة السكّر فرقان فاحش ، كذلك يكون بين لذّة الدنيا ولذّة الآخرة فرقان كثير غاية الفرقان ، بل لا مناسبة بينهما إلّا في الاسم.

كيف واللذّة الروحانيّة الّتي أعدّها للأبرار ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ... إلى آخره ، وهي دائمة باقية لا تتصرّم أبدا فهي أحقّ بذلك الاسم من اللذّة الفانية المتصرّمة.

وهكذا الأمر في جميع الألفاظ الّتي عبّر الله بها في القرآن عن اللذّات ، فإنّ حقيقتها ما يلتذّ به العارفون ويستطيبه الصافّون.

وأمّا ما يسمّيه الناقصون باللذّة ويستطيبونه فليس في نفس الأمر لذّة وطيبا ، وإنّما زعموا ذلك لعدم فوزهم بما هو الألذّ والأطيب.

كيف فلو كانوا فائزين به لما كانوا راضين بتلك التسمية أبدا ، بل كانوا لا يتوجّهون إلى ذلك المقام أصلا ، فحرمانهم عن المقام الأعلى حملهم على أن سمّوا تلك الأمور الفانية الزائلة لذّة وطيبا ، وأنسوا بها حتّى لم يتبادر إلى

١٩٢

أذهانهم من الألفاظ المألوفة الرسميّة المشيرة إلى المعاني الروحانيّة الملكوتيّة سوى تلك اللذّات المألوفة الّتي لا تستحقّ اسم اللذّة ، وذلك لعدم إدراكهم الملذّات الروحانيّة ، وعدم فوزهم بها.

ويدلّك على ذلك أنّ الكاملين لا يتبادر إلى أذهانهم من تلك الألفاظ إلّا المقامات الملكوتيّة واللذّات الروحانيّة وإن ذلك إلّا لتوجّههم إلى جهة الملكوت وانقطاعهم عن سلسلة الناسوت.

وقد أجاد محمّد بن محمّد الغزاليّ قدّس سرّه في بيان ما أشرنا إليه من أنّ لتلك الألفاظ حقائق أحقّ في كتابه المسمّى بجواهر القرآن حيث قال :

اعلم أنّ الكبريت الأحمر عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن الكيمياء الّذي يتوصّل به إلى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة إلى الصفات النفيسة حتّى ينقلب به الحجر ياقوتا ، والنحاس ذهبا إبريزا ، ليتوصّل به إلى لذّات في الدنيا مكدّرة منغّصة في الحال ، متصرّمة على قرب في الاستقبال ، أفترى أنّ ما يقلب جوهر القلب من رذالة البهيميّة ، وضلالة الجهل إلى صفاء الملكيّة وروحانيّتها ليترقّى من أسفل السافلين إلى أعلى علّيّين ، وينال به لذّة القرب من ربّ العالمين ، والنظر إلى وجهه الكريم أبدا دائما سرمدا هل هو أولى باسم الكبريت الأحمر أم لا ، فلهذا سمّيناه بالكبريت الأحمر ، فتأمّل وراجع نفسك ، وأنصف لتعلم أنّ هذا الاسم بهذا المعنى أحقّ ، وعليه أصدق.

ثمّ أنفس النفائس الّتي يستفاد من الكيمياء اليواقيت ، وأعلاها الياقوت الأحمر ، فلذلك سمّينا به معرفة الذات.

وأمّا الترياق الأكبر فهو عند الخلق عبارة عمّا يشفي من السموم المهلكة

١٩٣

الواقعة في المعدة مع أنّ الهلاك الحاصل بها ليس إلّا هلاكا في حقّ الدنيا الهالكة الفانية ، فانظر إن كان سموم البدع والأهواء والضلالات الواقعة في القلب مهلكة هلاكا يحول بين المسموم بها وبين عالم القدس ومعدن الروح والراحة حيلولة دائمة أبديّة سرمديّة وكانت المحاجّات البرهانية تشفي عن تلك السموم وتدفع ضررها هل هي أولى بأن يسمّى بالترياق الأكبر أم لا.

وأمّا المسك الأذفر فهو عبارة في عالم الشهادة عن شيء يستصحبه الإنسان ، يثور منه رائحة طيّبة حتّى لو أراد إخفاءه لم يختف ، لكن يستظهر وينتشر.

فانظر إن كان في المطالب العلميّة ما ينشر منه الاسم الطيّب في العالم ويشتهر به صاحبه اشتهارا لو أراد الاختفاء وإيثار الخمول لم يقدر عليه ، بل يشهره ويظهره فاسم المسك الأذفر عليه أحقّ وأصدق أم لا. انتهى.

وأنا أقول : الجنّة عند الخلق في عالم الشهادة عبارة عن البستان المحفوف بالأشجار والأنهار بحيث يفرح بدخوله المغتمّ المهموم ، ويزول عن قلبه الهموم والغموم ، أفترى أنّ مقام قرب الحقّ الّذي من دخله كان مسرورا فرحا بالوصال ، مجتنيا من أطايب ثمرات الجلال ، زائلا عن قلبه شؤونات الجهل والضلال ليس أولى باسم الجنّة.

كيف وهو أولى بذلك الاسم ، وهو عليه أحقّ وأصدق.

وكذا الشراب عند الخلق في ذلك العالم عبارة عمّا يشربونه فيطفئون به حرارات القلب ، ويتوجّدون ويتطرّبون كمال التوجّد والتطرّب.

أفترى أنّ ما يطفأ به حرارة الجهل والغفلة ويتوجّد به العارفون

١٩٤

فيتطرّبون في عرش الحقّ واصلين متّصلين ليس أحقّ بذلك الاسم.

وكذا الزنجبيل عندهم عبارة عن ضرب من القرفة طيّب الطعم يمزجونه بالشراب فيلتذّون به على ما عرفت.

أفترى أنّ ما يلتذّ به الأبرار من الحقائق الروحانيّة الملكوتيّة ، واللذّات الدائمة الحقيقيّة ليس أولى بذلك الاسم.

وكذا الحرير عندهم عبارة عمّا يلبسه الملوك ويتزيّنون به ويزيدون به الجمال والجلال عند الناس ، فإنّه أبهى الألبسة ، أفترى أنّ ما يستكمل به الواصلون ويستحملون به من لباس التوحيد وثياب التجريد بحيث يتميّزون بذلك عن سائر أصناف الخلق ، ويتزيّنون به في سرير الملكوت ليس أحقّ بذلك الاسم؟

وكذلك الكافور الحسّيّ من صفاته البياض المشرق ، ومن خواصّه إزالة الحرارة الراسخة المهلكة المتمكّنة في جوهر ذات الشخص. أفترى أنّ ما يفوز به الأبرار من الإفاضات العالية الّتي هي في غاية الإشراق والصفاء ومزيلة للجهالات وسائر المهلكات ليس أحقّ وأولى بذلك الاسم؟

وكذلك سائر الألفاظ الّتي اشتمل عليها القرآن لها حقائق تتبادر إلى أذهان العارفين كما تتبادر ظواهرها إلى أذهان الناقصين ، فكما أنّ التبادر عندهم علامة للحقيقة كذلك هواية للحقيقة عند هؤلاء فكم من حقيقة عند أهل الظاهر هو أحقّ باسم المجاز عند أهل الباطن ، فلكلّ اصطلاح يحاورون به في محلّ التخاطب لا يتكلّم به الآخرون ، ولا يتبادر إلى أذهانهم كيف ، فكما أنّ الناقصين القاصرين عن درك المقامات الروحانيّة لا ينتقش

١٩٥

في أذهانهم عند استماع تلك الألفاظ إلّا الصور الجسمانيّة المحسوسة الّتي كانوا ألفوها وأنسوا بها في عالم الشهادة ، كذلك الكاملون العارفون بحقائق الحكمة والعرفان إذا استمعوا تلك الألفاظ لا يتوجّهون إلّا إلى المقامات الروحانيّة ، واللذّات الملكوتيّة ، ولا ينتقش في ألواح أذهانهم إلّا هذه المعاني العلويّة اللاهوتيّة ، والحقائق العالية الهاهوتيّة. كيف ولا يتمنّون لرفعة همّتهم إلّا تلك المقامات القربيّة ، ولا يرجون إلّا الفوز بهذه المعاني الملكوتيّة ، والالتذاذ بالإفاضات الإلهيّة والعنايات الرحمانيّة الأزليّة ، وذلك لما ركز في هويّتهم من الشوق إلى الحقّ الّذي هو المبدأ الأوّل لكلّ ما في الإمكان.

وأمّا الناقصون فليس فيهم ذلك الشوق ، ولذا كانت منيتهم الالتذاذ بالمشارب والمآكل والمناكح الّتي هي لائقة بمقام البهيمة ، وهؤلاء لقد استبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير ، وضلّوا عن مقام الوجد والحال.

ولقد أجاد الغزاليّ رحمه الله في ذلك المقام ؛ حيث قال :

اعلم أنّه لو خلق فيك شهوة شوق إلى الله ، وشهوة لمعرفة جلاله أصدق وأقوى من شوقك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنّة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنّة الّتي فيها قضاء الشهوات المحسوسة.

واعلم أنّ هذه الشهوة خلقت للعارفين ولم يخلق لك كما خلقت لك شهوة الجاه ولم يخلق للصبيان ، وإنّما للصبيان شهوة اللعب ، فأنت معجب من الصبيان في عكوفهم على لذّة اللعب وخلوّهم عن لذّة الرياسة ، والعارف يتعجّب منك في عكوفك على لذّة الجاه والرياسة ، فإنّ الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب.

١٩٦

ولمّا خلقت هذه الشهوة للعارفين كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم ، ولا نسبة لتلك اللّذة إلى لذّة الشهوات الحسّيّة ، فإنّها لذّة لا يعتريها الزوال ، ولا يغيّرها الملال ، بل لا يزال يتضاعف ويترادف ويزداد بزيادة المعرفة والإعراق فيها بخلاف سائر الشهوات ، إلّا أنّ هذه الشهوة لا تخلق في الإنسان إلّا بعد البلوغ إلى حدّ الرجال ، ومن لا تخلق فيه فهو إمّا صبيّ بعد لم تكمل فطرته لقبول هذه الشهوات ، أو عنّين أفسد كدورة الدنيا وشهواتها فطرته الأصليّة.

فالعارفون لمّا رزقوا شهوة المعرفة ولذّة النظر إلى جلال الله فهم من مطالعتهم جمال الحضرة الربوبيّة في جنّة عرضها السماوات والأرض ، بل أكثر ، وهي جنّة عالية قطوفها دانية ، فإنّ فواكهها صفة ذاتهم وليست مقطوعة ولا ممنوعة ؛ إذ لا مضايقة في المعارف.

والعارفون ينظرون إلى العاكفين في حضيض الشهوات نظر العقلاء إلى الصبيان عند عكوفهم على لذّات اللعب ، ولذلك تراهم يستوحشون من أكثر الخلق ، ويؤثرون العزلة والخلوة ، فهي أحبّ الأشياء إليهم ، ويهربون من المال والجاه ، فإنّه يشغلهم عن لذّة المناجاة ، ويعرضون عن الأهل والولد ترفّعا عن الاشتغال بهم عن الله تعالى.

فترى الناس يضحكون منهم ، فيقولون موسوس ظهر عليه مبادئ الجنون ، وهم يضحكون على الناس لقناعتهم بمتاع الدنيا ، ويقولون إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون ... إلى آخره.

السابع : قال بعض العارفين : الكأس هاهنا هي الأولى بعينها ، وإنّما أورد

١٩٧

هاهنا بصفة المزج بالزنجبيل ، وكذا المراد من العين في قوله : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) هي العين السابقة ، إلّا أنّه أورده هاهنا بصفة السلاسة ، وسرعة الفيض الإلهيّ في حقّهم ، وسهولة افتياض المعقولات عليهم ؛ إذ كانوا على غاية من الإمكان.

ثمّ لمّا وصف الكأس بطعم الزنجبيل وكانت الكأس من تلك العين نبّه في وصف العين بسلاسة الجريان في الخلق على أنّها مع استلزامها لطعم الزنجبيل ليس فيها قوّة اللذاعة الّتي فيه ، فسبحان الملهم لتلك الاستعارة ، والهادي إلى تلك العبارة. انتهى.

أقول : ما ذكره من أنّ المراد بالكأس هاهنا هي الكأس فيما قبل ، وكذا العين ، يتوجّه عليه أنّ ذلك مستلزم للتكرار والتأكيد ، وهو في المقام غير مفيد ، فالأ حقّ أن يقال : إنّ في ذلك إشارة إلى ما مرّ من أنّ لكلّ من الأبرار مقامات مختلفة بحسب الحقيقة عن اختلافات الإفاضات العالية ؛ إذ ليس للعارف مقام واحد واقف هو فيه في جميع الأوقات والحالات ، بل يفوز في كلّ وقت وحالة بمقام وإفاضة ليس له في الوقت السابق والحالة السابقة.

كيف ولا نهاية لترقّي الإنسان يقف فيها ، بل يترقّى آنا فآنا بحسب سعيه وجهده ؛ كما قال : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١).

وهذا هو السرّ في كونه أفضل من الملك ، فإنّ له مقاما معلوما لا يجاوزه ولو أكثر في سعيه واجتهاده ؛ كما يدلّ عليه بعض الأخبار المرويّة.

ويؤيّده ما حكي عن أبي الحسين الخرقانيّ أنّه قال : صعدت ظهيرة

__________________

(١) النجم : ٣٩.

١٩٨

على العرش لأطوف به فطفت عليه ألف طوفة ؛ كما قال : ورأيت حواليه قوما ساكنين مطمئنّين ، فتعجّبوا من سرعة طوافي ، وما أعجبني طوافهم ، فقلت : من أنتم؟ وما هذه البرودة في الطواف؟ فقالوا : نحن ملائكة ، ونحن أنوار ، وهذا طبعنا لا نقدر أن نجاوزه ، فقالوا : ومن أنت؟ وما هذة السرعة في الطواف؟ فقلت : آدميّ وفيّ نور ونار ، وهذه السرعة من نتائج نور الشوق. انتهى.

فما اختاره المعتزلة من أنّ الملك أفضل من الإنسان لوجوه غير وجيه ، والوجوه الّتي استدلّوا بها غير وجيهة ، وما قاله محيي الدين من أنّه سألت عن ذلك رسول الله في الواقعة ، فقال لي : إنّ الملائكة أفضل ، فقلت له : يا رسول الله ، فإن سئلت ما الدليل على ذلك فما أقول؟ فأشار إليّ أن علمتم أنّي أفضل الناس ، وقد صحّ وثبت عندكم وهو صحيح أنّي قلت عن الله أنّه قال : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وكم ذاكر لله ذكره في ملأ أنا فيهم ، فذكر الله في ملأ خير من ذلك الملأ الّذي أنا فيهم ... إلى آخره. يشمّ منه رائحة الكذب ، ولو صحّ وصدق لا يعارض الصحاح من الأخبار الدالّة على أفضليّة الإنسان مطلقا ؛ فضلا عن الأنبياء سيّما نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله الّذي كان أفضل من كلّ شيء في الإمكان.

كيف والكلّ مخلوق به ، وهو العلّة لوجود كلّ شيء ، وهذا في الظهور كالنور على شاهق الطور ، فلا حاجة إلى إسطار السطور ، في تحقيق ما هو المشهور ، بين الجمهور :

١٩٩

ملك در سجده آدم زمين بوس تو نيّت كرد

كه در حسن تو چيزى يافت بيش از حدّانسانى

وبالجملة : فلا يخفى أنّ المراد بالكأس هاهنا إفاضة خاصّة غير الإفاضة السابقة الّتي عبّر عنها بالكأس فيما سبق.

وفي التعبير بالشرب ونسبته إليهم فيما سبق حيث قال : (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) ... إلى آخره.

وبالسقي ونسبته إلى المجهول وهو الحقّ تعالى هنا إشارة إلى أنّ للسالك العارف لذّتين :

لذّة يتسبّب لها ذاتيّته بحسب الإمكان والاستعداد ، فيلتذّ بها لجهده وعمله.

ولذّة يتسبّب لها جذبة الحقّ من غير أن تكون ناشئة عن عمل العبد وسعيه ، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من أوليائه وأحبّائه ، ونعم ما قيل : جذبة من جذبات الحقّ توازي عمل الثقلين.

وفي المقام مطالب يمنعني ضيق الوقت عن تفاصيلها ، ولكنّ القول المجمل منها : أنّ السالك في سبيل المحبّة : إمّا سالك محض ، وهو مجزيّ بعمله ، ملتذّ بعاقبة سعيه.

أو مجذوب محض من غير أن يكون له سعي ، وإنّما يجذبه الحقّ بلطفه وفضله إلى عرش الصفاء ، ومقام البهاء ، وهو غافل عن ذلك قبل ذلك ؛ كما قال : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ... (١) إلى آخره ، ولكن لا بدّ له من استعداد

__________________

(١) الطلاق : ٣.

٢٠٠