بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

يعطيهم إذا سألوه بحقّه ، ويدفع عنهم البلايا برحمته ، فلو علم الخلق ما محلّه عند الله ومنزلته لديه ما تقرّبوا إلى الله إلّا بتراب قدميه ... (١) إلى آخره.

فإن قيل : ذلك لا يستقيم مع ما حكى الله عنهم بقوله : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) حيث وصفهم بالخوف من عذاب يوم القيامة الشديد ، وجعله علّة لإطعامهم ، أو لعدم إرادتهم الجزاء والشكور ، فإنّ المخلص كما لا يرجو الثواب على عمله ، كذلك لا يخاف من العذاب ، فإنّه يعمل حبّا لله ، وطلبا لرضائه ؛ كما قال السجّاد عليه السلام : إلهي ما عبدتك خوفا من عذابك ، ولا رجاء لثوابك ، بل وجدتك مستحقّا للعبادة فعبدتك ... (٢) إلى آخره.

وقال الصادق عليه السلام : العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة (٣). انتهى.

منعنا التعليل أوّلا لعدم دليل عليه من اللفظ ، ثمّ نقول : ليس المراد الخوف من العذاب المعروف ، بل المراد بذلك اليوم هو يوم الفراق والحرمان عن لقاء الحبيب ، وهذا اليوم يخافه الواصلون أشدّ من خوف الناس من العذاب المعروف ، ولقد فصّلنا ذلك فيما سبق فإليه فليرجع الطالبون.

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٩٢.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ١٤.

(٣) الكافي ٢ : ٨٤.

١٦١

فيصحّ التعليل أيضا ، فإنّ الواصل كما كان عاملا للوصال كذلك يكون عاملا لئلّا يحرم عن اللقاء بالانفصال ، فإنّ الإطعام من أسباب الوصال ، وعدم إرادة الجزاء والشكور يوجب دوام الاتّصال. وذلك واضح على أرباب المواجيد والأحوال ، وفي المقام لكثير من المقال ، ولكن لا يتمكّن كلّ أحد من الاحتمال.

تنبيهات :

الأوّل : قيل قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) ... إلى آخره ، مقول لمحذوف ، أي يقولون ذلك بلسان القال.

وقيل : ذلك تعبير عن حالهم ، فإنّهم لا يطعمون إلّا لوجه الله ، فالناطق بذلك لسان الحال لا القال ، وذلك هو الأنسب ، فإنّ في التكلّم بذلك المقال ربّما يكون آفات ليست في الحال وهو أقرب بالأمن ، وأخلص من الآفة ؛ كما قال عليه السلام : خير العبادات أقربها بالأمن ، وأخلصها من الآفات وأدومها وإن قلّ ... (١) إلى آخره.

الثاني : في التعبير بإنّما الدالّة على الحصر صريحا مبالغة في وصفهم بالإخلاص ، وإشعار بأنّهم كانوا واقعين في أعلى مراتب ذلك المقام ، فإنّ للإخلاص مراتب مختلفة بعضها فوق بعض ، والعباد أيضا بالنسبة إليه متفاوتون ، ولكلّ درجات ممّا عملوا ، وفي المقام تفاصيل تطول بها الرسالة.

الثالث : قيل : العبوس الشديد والقمطرير أشدّ ما يكون من الأيّام.

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١١١.

١٦٢

وقيل : وصف اليوم بالعبوس مجاز بطريقين.

أحدهما : أنّه شبّه في شدّته بالأشدّ العبوس أو بالشجاع الباسل يقال :

يوم صائم وليل قائم.

والثاني : أنّه وصف بصفة أهل من الأشقياء ، فإنّ الكافر يعبس فيه حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران.

أقول : لا ريب في أرجحيّة التفسير الأوّل ، لأنّ المجاز وإن كان بابه واسعا في المحاورات ، لكنّه خلاف الأصل ، فلا يرتكب في نحو المقام.

اختتام : ذكر جماعة من مفسّري الفريقين أنّ قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ) إلى قوله (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) في عليّ عليه السلام والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام ، وفضّة.

وتفصيل ذلك أنّه مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما صلّى الله عليه وآله ووجوه العرب ، وقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولديك نذرا ، فنذر صوم ثلاثة أيّام إن شفاهما الله ، ونذرت فاطمة كذلك ، وكذلك فضّة ، فبرءا وليس عندهم شيء ، فاستقرض عليّ عليه السلام ثلاثة أصوع من شعير من شمعون الخيبريّ.

وروي أنّه أخذها ليغزل له صوفا وجاء به إلى فاطمة عليها السلام فطحنت صاعا منها فاختبزته وصلّى عليّ المغرب وقرّبته إليهم ، فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمّد ، أنا مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة! فآثروه على أنفسهم وأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

١٦٣

فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليّ عليه السلام فإذا يتيم بالباب يستطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته واختبزته وقدّمته إلى عليّ عليه السلام فإذا أسير بالباب استطعم ، فأعطوه ولم يذوقوا إلّا الماء.

فلمّا كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم أتى عليّ عليه السلام ومعه الحسن والحسين إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وبهم ضعف ، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون من شدّة الجوع بكى وقال : ما أشدّ ما أرى بكم! فقام وانطلق معهم ، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها ، وغارت عيناها ، فعند ذلك نزل جبرئيل عليه السلام فقال : خذها يا محمّد في أهل بيتك.

وروي أنّ السائل في الليالي الثلاثة كان جبرئيل ؛ أراد بذلك ابتلاءهم بإذن الله تعالى.

تنبيهان :

الأوّل : هذه الرواية معتبرة عند الإماميّة وأكثر العامّة ، حيث ذكروها في كتبهم المشهورة بطرق مختلفة مؤدّاها واحد ، وهي دالّة على أنّ السورة نزلت في المدينة.

ويدلّ على ذلك أخبار مستفيضة تكشف عن محلّ نزول السور القرآنيّة ، ومن جملتها ما روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال : سألت النبيّ صلّى الله عليه وآله عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء ، فأوّل ما نزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب ، ثمّ اقرأ باسم ربّك ، ثمّ نون إلى أن قال :

١٦٤

وأوّل ما نزل إليه بالمدينة سورة البقرة ، ثمّ الأنفال ، ثمّ آل عمران ، ثمّ الأحزاب ، ثمّ الممتحنة ، ثمّ النساء ، ثمّ إذا زلزلت ، ثمّ الحديد ، ثمّ سورة محمّد صلّى الله عليه وآله ، ثمّ الرعد ، ثمّ سورة الرحمن ، ثمّ هل أتى إلى قوله :

فهذا ما نزل بالمدينة ، ثمّ قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة ، وجميع آيات القرآن ستّة آلاف آية ومائتا آية وستّ وثلاثون آية.

وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف وأحد وعشرون ألف حرف ومائتا وخمسون حرفا ، لا يرغب في تعلّم القرآن إلّا السعداء ، ولا يتعهّد قراءته إلّا أولياء الرحمن. انتهى.

وقد أنكر بعض العامّة تلك الرواية واستبعد نزول تلك الآيات في حقّ من ذكر ، وقال : إنّ السورة مكّيّة ، فكيف يتعلّق بها ما كان بالمدينة.

وجوابه : الأحقّ عدم التعرّض له في إنكاره الحقّ.

الثاني : قال بعض العارفين : لا يستبعد عن النفوس الفاضلة الكاملة المقبلة على الله المعرضة عن سوى الله المنوّرة بأنواره المحيطة أن لا يغيّرهم من ترك المشتهيات الطبيعيّة ألم ، بل ربّما فازوا بهذا بلذّات لا تعدّ ولا تحصى ، وأيّ استبعاد في أن يكون استغراق النفوس في محبّة الله وانصرافها عن العلائق الجسمانيّة مانعا عن تحليل الأجزاء الأصليّة بحيث لا يؤلمهم الجوع.

كيف ويشاهد الإنسان يبقى في المرض مدّة مديدة من غير تناول

١٦٥

الغذاء ، وأيضا النفس الناطقة إذا راضت القوى البدنيّة صارت تلك القوى موافقة لها سواء احتاجت إلى تلك الموافقة أو لم تحتج ، ثمّ كلّما اشتدّ الانجذاب انجذبت تلك القوى إلى متابعة النفس ، فلم تتفرّغ لأحوالها ، فلا جرم تقف الأفعال الطبيعيّة في حقّ السالكين الواصلين ، وإليه أشار بقوله عليه السلام : إنّي أتيت إلى ربّي يطعمني ويسقيني ... (١) إلى آخره.

أقول : ويؤيّد ما ذكره من أنّ الشوق إلى الله والتوجّه إليه يمسك البدن عن تحليل أجزائه الأصليّة ما مرّ من أنّ موسى عليه السلام ما أكل وما شرب أربعين يوما لميعاد ربّه ، وما نراه ونشاهده ونسمعه من حال العشّاق المجازيّين والحقيقيّين.

وقد حكي عن نجم الدين الكبريّ أنّه قال : عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر ، فبقيت أيّاما لا آكل ولا أشرب إلّا ما شاء الله حتّى كثرت نار العشق فكنت أتنفّس نيرانا فكلّما تنفّست نارا ينشئ من السماء بحذاء نفسي نار فيلتقي ناران ما بيني وبين السماء ، فما كنت أدري من أين يلتقيان ، فعلمت أنّ ذلك شاهدي في السماء.

وقال أيضا : عشقت واحدا ببلاد العرب فما اشتهت نفسي إلى الطعام والشراب أيّاما ، فأخذته وربطته ومنعته عن سوائي إلّا أنّه كان عليه رقباء ، فسكت عن صريح المقال ، وجعل يكلّمني بلسان الحال فأفهمه وأكلّمه كذلك فيفهمه ، وانتهى الأمر إلى أن صرت أنا هو وهو أنا ، ووقع العشق إلى محض صفاء الروح فجاءتني روحه سحرا تمرّغ وجهها في التراب ، وتقول :

__________________

(١) المناقب ١ : ٢١٤.

١٦٦

أيّها الشيخ ، الأمان الأمان ، قتلتني أدركني! فقلت : ماذا تريد؟ قالت : أن تدعني حتّى أقبّل قدمك! فأذنت لها ففعلت ذلك ورفعت وجهها فقبّلتها حتّى استراحت واطمأنّت إلى صدري.

وحكى لي بعض أصدقائي أنّه قد عشق جارية من جيرانه واشتدّ ذلك حتّى منعه عن الطعام والشراب أيّاما كثيرة ، فاطّلعت على ذلك امّه فزجره على الطعام فما اشتهاه وأكرهه أشدّ الإكراه ، فكأنّه قد أكل طعاما كثيرا قبل ذلك ، وكان يقول لكثرة خيلولة لقاء المحبوبة ما كنت متألّما من الجوع ، بل ما كنت أشعره.

قال الله ظهرت طلعته : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً * وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً * وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا * قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً * وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً * إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً).

أقول : لمّا أشار تعالى إلى أوصاف هؤلاء الأبرار وما به يتميّزون عن الأشرار والفجّار بيّن ما يترتّب على هذه الأوصاف والأخلاق من لذّات القرب ، وبارقات الجذب ، وما يعدّه لهم في أعراش البهاء ، ويهيّأه لهم في كراسي الصفاء ، وما يجزيهم به من جنّات الوصال ، ولذّات الاتّصال ، بتعبير

١٦٧

فيه مواعيد يشتاق به الناقصون إلى الدخول في سلسلة الأبرار ، بحسب إمكانهم من إدراك معاني الكلام في مقام الاستبصار ، وإشارات إلى مراتب الوصول بحضرة السرمد ، ولطائف كنايات عن معارج القرب إلى جناب الحقّ الصمد ، يلتذّ منها الكاملون بصفاء القلوب ؛ إذ فيها محاضرة الحبيب مع المحبوب.

كيف وقد أودع الحقّ تعالى في تلك الآيات جواهر حقائق لا يعثر عليها سوى العاشقين ، ودرر دقائق لا يطّلع عليها من عدّ المشتاقين.

كيف وبين العاشق والمعشوق إشارات لا يدركها سواهما ، وكنايات لا يفهمها من عداهما :

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه

قول ولا قلم للخلق يحكيه

وقلت للعاشقين رموز ليس يعرفها

إلّا الحبيب فإنّ العشق مرموز

سرّ معشوق عاشقان دانند

پس نه بيگانگان چه مى پرسى

ولا يخفى أنّ ما يدركه العارفون من إشارات القرآن ، ويفهمه من عباراته لا يتحمّله الناقصون الّذين لا يدركون من القرآن إلّا ظواهره العرفيّة ، ولا يلتذّون به ، بل لو كشف عليهم نبذ من الحقائق لضلّوا عن الطريق ، ويكفّرون من هو الواقع في المقام الأعلى لعدم اطّلاعهم عن حاله ومقامه ؛ كما قال صلّى الله عليه وآله : لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله أو كفّره.

فإنّ سلمان كان عارفا بحقائق ما كان بينها وبين أبي ذرّ مناسبة حتّى يلتذّ بها ، فلو اطّلع على نبذ ممّا علمه سلمان لما كان تحمّله ، بل كان ينسبه إلى الكفر ويقتله هذا لو قلنا برجوع ضمير الفعل إلى أبي ذرّ.

١٦٨

وقيل : راجع إلى ما ، أي لكان علم سلمان قاتلا له لعدم استعداده لتحمّله. والأوّل أظهر. وقد قال السجّاد :

إنّي لاكثر من علمي جواهره

كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدّم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا

وربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولاستحلّ رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

وقال عليّ عليه السلام : هاه هاه! إنّ هنا لعلما جمّا لو أصبت له حملة.

وقال : اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة ... (١) إلى آخره.

أما رأيت موسى عليه السلام كيف أنكر على الخضر عليه السلام فيما لم يحط به خبرا ؛ كما حكى الله عنهما : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي سرّا وحقيقة (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ) أي من ربّك (رُشْداً) أي مقاما من مقامات الحقيقة (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لعدم المناسبة بيننا ، فإنّك من أهل الظاهر ، وإنّي من أرباب الباطن (وَكَيْفَ تَصْبِرُ) وتتحمّل وترضى (عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) من الحقائق الإلهيّة ، والحكم المكنونة ؛ إلى قوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي

__________________

(١) انظر : نهج البلاغة : ٥٢.

١٦٩

عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) ... (١) إلى آخره.

وهذا ـ أي عدم تحمّل من هو الواقع في المقام الأدنى لأسرار الواقعين في المقام الأعلى ـ هو الباعث على كتمان هؤلاء لأسرارهم عن الناقصين ، وإصرارهم على عدم إفشائها ؛ كما قيل : إفشاء سرّ الربوبيّة كفر.

وقيل : ملعون من أفشى بسرّ الله :

با مدّعى مگوئيد اسرار عشق ومستى

تا بخيبر بميرد در درد خودپرستى

حلّاج بر سر دار اين نكته خوش سرايد

از شافعى پرسند أمثال اين مسائل

ولذلك بيّنوا الحقائق الإلهيّة في قوالب العبارات ، وحقّقوا الدقائق الربّانيّة في أكسية الإشارات ، وكشفوا عن أسرار الحقيقة الساذجة في مطاوي الكنايات ، وصرّحوا برموز الربوبيّة في مجالي الأمارات ، ليأخذ كلّ فرقة نصيبه من المطالب بحسب الإمكان ، ويلتذّ كلّ طائفة بحظّه في المذاهب بحسب مراتب العرفان ، ويفوز كلّ نفس بهداه إلى معارج الإيمان :

مطرب عشق عجب ساز ونوائى دارد

نقش هر پرده كه زد راه بجائى دارد

ثمّ لا يتوهّمنّ أحد أنّ مرادنا بتلك التقريرات حصر ما أريد من الآيات في حقائق اللذّات ؛ كما به قالت جماعة من السالكين في طرق الجهالات.

__________________

(١) الكهف : ٦٥ ـ ٧٤.

١٧٠

كيف ويجب على كلّ أحد من المكلّفين أن يكون معتقدا بظاهر ما جاء به سيّد المرسلين من اللذّات النفسانيّة ، والجنّات الجسمانيّة ، فكفر والله من اعتقد بخلاف ذلك ، فإنّه من الشريعة المحمّديّة الّتي يجب على الكلّ متابعتها والإذعان بما تقرّر فيها ، فمخالفتها كفر واضح :

احكام شريعت است چون شارع عام

بيرون مرو از راه شريعت يك گام

هركس كه سر از اهل شريعت پيچيد

در مذهب اهل معرفت نيست تمام

بوارق :

الأولى : اللام في ذلك اليوم للعهد الذكريّ ، وقد مرّ مرارا أنّ المراد بيوم يخافونه هو يوم البعد عن بساط المحبوب ، فوقاية الله إيّاهم عن شرّ ذلك اليوم هو حفظهم عن المعاصي والأخلاق الّتي تحجب بين العبد وبين الحقّ ، وتحرمه عن لذّة اللقاء ، وتمنعه عن درجة الصفاء ، ورتبة البهاء.

وفيه إشارة إلى إثبات العصمة للأبرار ، بمعنى أنّ هؤلاء من صفاتهم الخاصّة أن لا يعصون الله فيما أمرهم ، بل يفعلون ما يؤمرون. وذلك لما فيهم من القوّة القدسيّة الملكوتيّة الّتي تمنعهم عن الميل إلى المعصية ، فإنّها من قضايا النفس الأمّارة الواقعة في ظلمة البعد عن الحقّ ، وهؤلاء لقد قمعوها وزجروها بالطاعات ، وجاهدوا معها بالرياضات ، فلاح نور العقل ، وغلب عليها بجنوده من العلم والحكمة والسخاء والنقاء والوفاء والحياء إلى غير ذلك من الصفات الحسنة المحمودة ، والأخلاق المرضية.

١٧١

فصارت قوّتهم قوّة ملكوتيّة ، وهي الجهة العليا للإنسان الّتي بها يعرف الربّ ويقرب إلى ساحته ، ويلتذّ بمحاضرته في محلّ التجلّيات البرقانيّة ، ومورد البارقات الشرقانيّة ، فإنّ فوز العارف بذلك المقام إنّما هو بعد نجاته عن حضيض الطبيعة ، وجحيم الماهيّة الّتي هي الجهة السفلى ؛ إذ بها يحصل له البعد عن مراتب العرفان ، والحرمان عن لذّات الإيقان.

وبالجملة : هؤلاء معصومون عن التوجّه إلى تلك الجهة لكمال توجّههم إلى الجهة العليا ، أي إلى الحقّ تعالى ، فإنّ الفائز بلذّة القرب لا يختار البعد أصلا وأبدا ، فجهل من أجاز الذنوب والمعاصي مطلقا على الأنبياء والأئمّة الطاهرين مستدلّا بوجوه واهية غير وجيهة أشرنا إليها وإلى أجوبتها في بعض رسائلنا القديمة.

كيف وقد دلّت على مدّعانا أخبار كثيرة ، ووجوه وجيهة ، مضافا إلى قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

أي لا يفوز بمقام المحبّة الصافية الّذين يظلمون أنفسهم بمتابعة الهوى والسلوك فيما يوجب الردى.

وقال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢).

أي لقد عصمكم عن عبادة الأوثان الّتي هي قضايا النفس وهواها ، فإنّ عبادة ما سوى الحقّ عبادة الوثن الّذي هو الرجس الحقيقيّ ؛ كما قال :

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

١٧٢

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١).

أي لا تشركوا بي شيئا ممّا سواي يا أهل بيت الولاية والمحبّة ، وطهّركم عن دنس العيوب ورجس التوجّه إلى غير الحقّ ، وصرف قلوبكم عن الاشتغال بالشؤونات العرضيّة ، والشائبات الغيريّة ، بماء المحبّة الّذي به حياة كلّ شيء ؛ كما قال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ... (٢) إلى آخره.

وقال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٣).

أي من سماء الفؤاد ماء المحبّة الصافي عن جميع الكدورات.

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : مثل المؤمن الخالص كمثل الماء (٤). أي : مثل المؤمن الخالص عن جميع التوجّهات الغيريّة كمثل الماء الصافي عن كلّ كدرة ، هذا إذا فسّرنا اليوم بما عرفت.

وأمّا على تفسيره بحين الموت ، فالمراد على ما ذكره بعض العارفين أنّهم لمّا فازوا بالمقاصد العليّة الكلّيّة ، ووصلوا إلى كمالاتهم الأوفى هانت على نفوسهم مفارقة أبدانها ، ولم يحسّوا بالآلام المحسوسة لاشتغالم واستغراقهم في محبّة الله ، والتفاتهم إلى مطالعة أنوار وجه الله ، وغفلتهم عن ذواتهم بالذكر لمقام رحمة الله ، ولقد ذكرنا شرح ذلك وتفصيله فيما سبق ، فلا حاجة إلى التفصيل بعد وضوح السبيل.

الثانية : في قوله «ولقّاهم نضرة وسرورا» أي : أعطاهم واستقبلهم بذلك ؛

__________________

(١) الحجّ : ٣٠.

(٢) الأنبياء : ٣٠.

(٣) الفرقان : ٤٨.

(٤) مصباح الشريعة : ١٢٨.

١٧٣

إشارة إلى ما يحصل لهم في مقام الوصول من المراتب والمعارف الّتي يلتذّون بها ، فإنّ كمال نضرة العاشق وسروره إنّما هو في مصاحبته المعشوق ومحاضرته في مجلس الوصال.

كيف ولا شيء يسرّ العاشق سوى وصال المعشوق ، ولا لذّة ألذّ عنده من جماله ولقائه.

كيف ولذّة العاشق منحصرة في لذّة الوصال ، أتتعجّب من ذلك وقد تحقّق عند كلّ أحد أنّ العاشق يلتذّ بذكر المعشوق والكلام عنه ؛ كما قال :

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبّا لذكرك فليلمني اللّوم

فكيف لا يلتذّ ولا يزيد سروره بالفوز بملاقاته الّذي هو منتهى منيته ، فهؤلاء الأبرار مستبشرون في يوم الوصال ، بكشف سبحات أنوار الجمال ؛ كما قال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ * أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (١).

ولا يخفى أنّ أرباب الوجوه المسفرة هم الأبرار الّذين صفت قلوبهم عن التعلّقات الغيريّة ، فإنّهم في ذلك اليوم مسرورين فرحين بما آتاهم الله من مقامات القرب ، ومراتب الجذب ، مستبشرين ببشرى داعي الحقّ إلى جنّات الأنس ، وبستان القدس.

وأمّا أصحاب الوجوه المغبرة فهم الكفرة الفجرة الّذين كدرت قلوبهم بصدى الجهل والقساوة وغبار العمى والضلالة ، حتّى نسوا الله في مقام الذكر ، وذكروا أعداءه في مقام النسيان ، فاختاروا البعد على القرب ،

__________________

(١) عبس : ٣٨ ـ ٤٢.

١٧٤

والشقاوة على السعادة ، فعذّبوا في جحيم البعد عن الحقّ ، وحوسبوا بما عملوا من خلاف الصدق ؛ كما قال : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى * فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١).

أي يدرك الإنسان في ذلك اليوم حقائق ما كان ساعيا له في دار الدنيا إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا ، فأمّا من كان طاغيا مختارا للعصيان على الطاعة ، وآثرا للنعيم العاجل على النعيم الباقي الآجل ، فإنّ حقيقة فعله ذلك هي جحيم البعد عن الحقّ.

وأمّا من كان خائفا من ربّه ومن الحرمان من لقائه ، فإنّ حقيقة أمره هذا هي الجنّة.

الثالثة : المراد بالجزاء ما يترتّب على العمل ، فإن كان صالحا فما يترتّب عليه لا يكون إلّا لذّة باقية ، وجنّة صافية ؛ كما قال : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٢) أي المترتّب على الإحسان هو حقيقة الإحسان وجوهره.

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ

__________________

(١) النازعات : ٣٥ ـ ٤١.

(٢) الرحمن : ٦٠.

١٧٥

الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (١) أي تلك الدرجات والمقامات إنّما هي حقيقة إيمانهم وعملهم الصالح ، كما إنّ الدركات والتنزّلات حقيقة لكفر الفجّار وعملهم القبيح ؛ كما قال : (إِنَّا ، أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢).

الرابعة : المراد بالصبر هو المجاهدة مع النفس ومنعها عن قضيّاتها وحبسها على طاعة الحقّ ؛ كما قال : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ... (٣) إلى آخره ، والصبر بهذا المعنى أرفع مقامات الإنسان ، وأعلا مراتب ترقّيه ، ولذلك جعل سببا للجزاء ، وعلّة للفوز بمقام الصفاء.

كيف والإنسان بدون ذلك المقام ـ أي الصبر عن العمل بقضيّة النفس ـ خاسر غاية الخسران ؛ كما قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٤).

فالمجاهدة مع النفس بصبرها على الطاعات المقرّبة ومنعها عن المعاصي المبعّدة أفضل أعمال الإنسان ، فإنّها توصله إلى نهاية نهاية العرفان ، وتهديه إلى حقائق حقائق الإيمان ؛ كما قال : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) أي عن بلاد الطبيعة (وَجاهَدُوا) (٥) أي خالفوا نفوسهم (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي تحمّلوا المشاقّ في الطريق إلى معرفتي (وَقاتَلُوا) أي جادلوا أرباب القشور

__________________

(١) الكهف : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) الكهف : ٢٩.

(٣) الكهف : ٢٨.

(٤) العصر : ٢ ـ ٣.

(٥) البقرة : ٢١٨.

١٧٦

(وَقُتِلُوا) أي غلبوا بظاهر القول لأغراض مهمّة (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ... (١) أي لأرفع عنهم الاحتجابات الّتي كانت بيني وبينهم مانعة عن الوصول إلى مرضاتي ، والفوز بجنّاتي.

وقال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢) أي ما أعددنا له من المقامات في بساط الحقائق.

وقال : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا) ... (٣) أي جاهدوا مع نفوسهم لترتفع فيتحقّق الاتّصال والوصال ، وأذعنوا بمقام عليّ عليه السلام وأولاده ، وصفّوا قلوبهم عن حبّ أعدائهم (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يفوزون بقرب الحقّ عند الحقّ (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من البعد حينئذ (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤) ممّا فات منهم من المقام الأدنى.

وقال الصادق عليه السلام : طوبى لعبد جاهد لله نفسه وهواه ، ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله ، ومن جاوز عقله نفسه الأمّارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله فقد فاز فوزا عظيما ، ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله من النفس والهوى ، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله ، والخشوع والجوع والظمأ بالنهار ، والسهر بالليل ، فإن مات صاحبه مات شهيدا ، وإن عاش واستقام أدّاه عاقبته

__________________

(١) آل عمران : ١٩٥.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

(٣) الرعد : ٢٢.

(٤) البقرة : ٦٢.

١٧٧

إلى الرضوان الأكبر ... (١) إلى آخره.

الخامسة : يحتمل أن يكون المراد بالجنّة هي جنّة وصال الحقّ ، فإنّ ذلك هو جزاء الأبرار.

كيف وهم أجلّ من أن يكون جزاؤهم الالتذاذ بما تشتهي أنفسهم.

كيف وهم لقد تياسروا عن ذلك الاشتهاء ، وتيامنوا عن ذلك المقام ، فإنّهم لقد عرفوا أنّ نفوسهم وما تقتضيه حاجبة عن الفوز بالحقّ ، فكيف يجزون بالاحتجابات المانعة! كلّا إنّ هؤلاء لغامضون عن جميع اللذّات في جميع الجهات ، وذاهلون عن كلّ ما في الإمكان في مقام ذكر الملك المنّان ، فجزاؤهم على حالاتهم وأخلاقهم وأطوارهم هو الالتذاذ بقرب الله ؛ إذ لا لذّة ألذّ من ذلك المقام وهو الجنّة العالية الّتي يفوز بها الواصلون ؛ كما قال : إنّ لله جنّة ليس فيها حور ولا قصور بل يتجلّى فيها ضاحكا مستبشرا.

وقال الله : وإذا عشقني عشقته ، وإذا عشقته قتلته ، وإذا قتلته فعليّ ديته ، فإذا كان عليّ ديته فأنا ديته.

وقال : الصوم لي وأنا أجزي به. أي أنا جزاء من حصر توجّهه إلى حضرتي ، وقطع عن سواي إلى خدمتي.

وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي بمقام المحبّة الصافية (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي توجّهي إلى حضرته (راضِيَةً) من ربّك (مَرْضِيَّةً) بطاعاتك (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) الأبرار المنقطعين عن كلّ شيء الفائزين بحقيقة

__________________

(١) مصباح الشريعة : ١٦٩.

١٧٨

العبوديّة (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (١) أي فوزي بجنّة قربي ومقام الاتّصال بحضرتي.

وإلى هؤلاء إشارة بقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ * لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) (٢) أي القرب التامّ بحضرة الحقّ (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (٣) أي لا تتوجّه إلى غير الحقّ ، فإنّ ذكر الغير لغو في مقام الحقّ.

السادسة : قال المفيد رحمه الله في اعتقاداته : وثواب أهل الجنّة الالتذاذ بالمآكل والمشارب ، والمناظر والمناكح ، وما تدركه حواسّهم ممّا يطبعون على الميل إليه ، ويدركون مرادهم بالظفر به ، وليس في الجنّة من البشر من يلتذّ بغير مأكل ومشرب ، وما تدركه الحواسّ من الملذوذات. وقول من زعم أنّ في الجنّة بشرا يلتذّ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل والشرب قول شاذّ عن دين الإسلام ، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الّذين زعموا أنّ المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنّة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون ، وقد أكذب الله هذا القول في كتابه بما رغّب العالمين فيه من الأكل والشرب والنكاح فقال : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٤).

وقال : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (٥).

وقال : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) (٦).

__________________

(١) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

(٢) الغاشية : ٨ ـ ١٠.

(٣) الغاشية : ١١.

(٤) الرعد : ٣٥.

(٥) محمّد : ١٥.

(٦) الرحمن : ٧٢.

١٧٩

وقال : (وَحُورٌ عِينٌ) (١).

وقال : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢).

وقال : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٣).

وقال : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (٤).

فكيف استجاز من أثبت في الجنّة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعّمون ، وكتاب الله شاهد يفيد ذلك ، والإجماع على خلافه لولا أن قلّد في ذلك من لا يجوز تقليده ، أو عمل على حديث موضوع ... إلى آخره.

أقول عائذا بالله من الجهل بحقائق الأمور : ما ذكره من أنّ ثواب أهل الجنّة محصور في الالتذاد بالمآكل والمشارب والمناكح تعريض للشيخ الصدوق رحمه الله حيث قال في اعتقاداته : وهم أي أهل الجنّة أنواع على مراتب منهم المتنعّمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته ، ومنهم المتنعّمون بأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك وحور العين ، واستخدام الولدان المخلّدين ، والجلوس على النمارق والزرابيّ ولباس السندس والحرير ، كلّ منهم إنّما يتلذّذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلّقت عليه همّته ... إلى آخره.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الصدوق من اختلاف مراتب أهل الجنّة فمنهم لا

__________________

(١) الواقعة : ٢٢.

(٢) الدخان : ٥٤ ، الطور : ٢٠.

(٣) ص : ٥٢.

(٤) يس : ٥٥.

١٨٠