بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

الأجساد بألفي عام (١). وفيه نظر ، لاحتمال أن يكون المراد بالأرواح الملائكة ، وبالأجساد العنصريّات. كذا قيل ، فليتأمّل.

لا قدمها الذاتيّ الّذي [هو] عبارة عن عدم سبق الغير على موصوفه أصلا ومطلقا ، وهو من خواصّ الحقّ تعالى لا يشركه فيه شيء.

ويدلّ عليه أدلّة التوحيد المسلّمة عند المحقّقين.

والقول به تدفعه البراهين الساطعة التي أقاموها على حدوث الأجسام وأعراضها ونفوسها المتعلّقة بها ، وعلى أنّه لا قديم بالذات سوى الحقّ تعالى.

فيتّضح من ذلك فساد كلمة النصارى ؛ حيث قالوا بقدم الأقانيم الثلاثة ، والثنويّة القائلين بقدم النور والظلمة ، والحر نانيّين بقدم الفاعلين الباري والنفس والمنفعل غير الحيّ وهو الهيولى ، والدهر والخلأ وهما غير فاعلين ولا منفعلين.

وما ذكرنا من جواز تعدّد القدماء بالقدم الدهريّ هو مذهب أكثر الحكماء ، ولا دليل على امتناعه أصلا ، والتفصيل مذكور في محلّه ينافي الوجيزة.

وكذا ما اخترناه من ثبوت المعدومات لا ينافي التوحيد على جميع المسالك ، لأنّ القديم عندهم ما لا أوّل لوجوده ، ولا مدخل للثبوت في ذلك ، وقد عرفت الوجه فيما أسلفناه.

وأمّا لو جعلنا «هل» بمعنى «قد» فكذلك لو صرفنا النفي إلى القيد ، ولو

__________________

(١) انظر : بصائر الدرجات : ٨٨.

٢١

صرفنا إلى المقيّد فتدلّ الآية على نفي القدم مطلقا ؛ كما هو مسلك بعض المتكلّمين.

بوارق

الاولى : ذكر بعض الحكماء أنّ الشيئيّة إنّما هي من المعقولات الثانية الّتي ليست لها هويّات خارجيّة متأصلة بذاتها ، متصوّرة بنفسها ، متعقّلة أوّل الأمر ، قائمة بموضوعاتها في الخارج بحيث يكون بإزائها شيء ، بل هي أمر انتزاعيّ ينتزعها العقل من المهيّة حين وجودها أو ثبوتها ، ومثلها الوجود والوحدة والكثرة والعلّيّة والمعلوليّة ونحو ذلك ، وذلك واضح.

وبرهانه : أنّ الشيئيّة المطلقة لو كانت متأصّلة لزم أن يكون بإزائها شيء في الخارج وليس ، فليس ، ويتفرّع على ذلك امتناع ثبوت شيء بلا خصوص المهيّة. والتفصيل يطلب من الحكمة.

الثانية : قال الطبرسيّ رحمه الله : «لم يكن شيئا» جملة في محلّ الرفع ، لأنّها صفة «حين» ، والتقدير : لم يكن فيه شيئا مذكورا (١).

أقول : ويحتمل أن يكون في محلّ النصب ، لكونها حالا من «الإنسان» والرابطة هي المستتر ، وهو الأولى لعدم الحاجة إلى التقدير.

الثالثة : قال بعض العارفين : إنّ الآية الشريفة تدلّ على بطلان القول بالتناسخ الّذي هو عبارة عن وجود شخص مرّة أخرى بعد وجوده في حين آخر ، وهكذا لأنّه لو وجد إنسان قبل وجوده الآن لم يصدق أنّه أتى عليه ، أي سبق على وجوده ومضى على ما هو إنسان بالقوّة زمان غير معيّن لم يكن فيه

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٦١١.

٢٢

شيئا مذكورا ؛ ضرورة أنّه لو كان موجودا مرّة أخرى كان شيئا مذكورا في حين.

وعلى بطلان القول بقدم النفوس الناطقة مطلقا دهريّا وذاتيّا ، لأنّ الدهر عبارة عن زمان وجود العالم من أوّله إلى آخره ، والحين بعضه ، فلو كانت النفس قديمة لما صحّ القول بأنّه لقد مضى عليها حين لم يكن شيئا مذكورا.

هذا حاصل كلامه.

الرابعة : من التفسيرات المليحة ، تفسير «الإنسان» في الآية بـ «القائم المهديّ المنتظر» عجّل الله فرجه ، والمذكور بالشهود ، أي : قد أتى على ابن الحسن العسكريّ عليه السلام زمان لم يكن فيه مشهودا مرئيّا للناس لعدم استعدادهم لرؤيته والفوز بمشاهدته وهو زماننا هذا ، زمن الغيبة الطويلة.

فأخبر الله تعالى عن ذلك الزمان بلفظ الماضي ، إشارة إلى أنّه يكون لا محالة كما في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (١) و (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) (٢) و (فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٣).

وأمثال ذلك مطّردة في فصيح الكلمات.

هذا على تفسير «هل» بـ «قد» وأمّا على تفسيرها بـ «ما» فالمراد بالآية الإخبار عن لزوم الحجّة القائمة لكلّ أمّة في جميع الأعصار ، فما مضت أمّة إلّا وقد أخبر نبيّها بالقائم الهادي المهديّ الّذي يجعل الأديان كلّها دينا واحدا

__________________

(١) النحل : ١.

(٢) القمر : ١.

(٣) النبأ : ١٩ ـ ٢٠.

٢٣

ويحمل الناس كلّهم على عبادة الله مخلصين له الدين ؛ لا يشركون به شيئا.

فمعنى كونه عليه السلام «مذكورا» هو كونه بحيث يذكره كلّ نبيّ من آدم عليه السلام إلى محمّد صلّى الله عليه وآله الناسخ لجميع الأديان ، والباقي دينه إلى آخر الزمان وأممهم بالذكر الحسن ، وينتظرون فرجه ، ويفرحون بمشاهدته ، ويعتقدون بمجيئه وتمكنه من الأرض كلّها ، وإن طالت المدّة ، وعمّت الشدّة ، ولا يشكّون في أمره ، ولا يضلّون بغيره إلّا شرذمة مبتدعة.

أما طالعت أيّها الطالب ؛ الفصل الثامن والسبعين من كتاب «مار متّى» من تلاميذ يسوع المسيح عليه السلام؟ فإنّه ذكر فيه : أنّ المسيح عليه السلام قال بعد كلام له لمّا سأله تلاميذه عن انقضاء الزمان ومجيء ابن الإنسان : الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام ، وسيكون ضيق عظيم لم يكن مثله من أوّل العالم حتّى الآن ، ولا يكون ولو لا أنّ تلك الأيّام قصرت لم يخلص ذو جسد ، لكن لأجل المنتجبين قصرت تلك الأيّام ، حينئذ إن قال لكم : إنّ المسيح هنا أو هاهنا فلا تصدّقوا ، فإن قالوا لكم : إنّه في البريّة فلا تخرجوا ، وكما أنّ البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب ، كذلك يكون مجيء ابن البشر ، وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوء ، والكواكب تتساقط من السماء ، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء ، وتنوح حينئذ كلّ قبائل الأرض ، وترون ابن الإنسان آئبا على سحاب السماء ... إلى آخره.

وقريب من ذلك ما في كتاب «مارلوقا» و «مار مرقص» من تلاميذ عيسى عليه السلام.

٢٤

وعنه أيضا قد أخبر الله في «التوراة» وغيرها من الكتب السماويّة ، فكان عليه السلام مذكورا في جميع الأعصار في كلّ امّة إلى ذلك العصر ، فإنّه مذكور في لسان أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله برفيع الذكر إلى زمان حضوره عليه السلام فيذكر فيه بذكر مناسب لذلك الزمان على التفصيل المذكور في كتب أخبارنا.

ويدلّ على ذلك التفسير ، تفسير «الإنسان» في قوله : (الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (١) بـ «القائم عليه السلام» أيضا. أي : الله بصفته الرحمانيّة لقد علّم محمّدا القرآن وأمر أمّته بما فيه ظاهرا ، وخلق القائم عليه السلام الّذي من نسله وعلّمه بيان حقائق القرآن ، وأجاز له الحكم بباطنه في زمانه ؛ كما قال : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٢) فزمان البيان متأخّر عن زمان القرآن ، لمكان «ثمّ» الدالّة على التراخي قطعا.

وقريب من ذلك التفسير ، تفسير «الإنسان» بـ «عليّ عليه السلام» فإنّه كان مذكورا في جميع الأعصار والدهور بنوع من الذكر ، وكان مع كلّ نبيّ من آدم إلى محمّد بصور مختلفة ؛ كما قال : نحن نظهر في كلّ زمان على صورة.

ويدلّ على ذلك أيضا ما بيّنه عليه السلام في بعض خطبه المشهورة ؛ كما لا يخفى على من تتبّعها.

__________________

(١) الرحمن : ١ ـ ٤.

(٢) القيامة : ١٧ ـ ١٩.

٢٥

ويدلّ على ذلك التفسير ، تفسير «الإنسان» في قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١) بـ «عليّ عليه السلام». أي : حمل «عليّ» الولاية الخاصّة واتّصف بها ، وكان مظلوما لتصدّي غيره الغير المستحقّ لبعض خواصّها ، مجهول القدر والمقام بين أكثر الناس.

فإنّهم لو كانوا عرفوه بالنورانيّة والروحانيّة لما اختاروا غيره عليه ، وما جعلوا غيره متبوعا!

فإنّ مقامه عليه السلام مقام ساذجيّ لا يدركه ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان سوى الإجمال منه ، كدرك الأدنى مقام الأعلى ، وذلك واضح ، فمن أدرك مقامه عليه السلام ورتبته في القرب ولو إجمالا لا يصطفي عليه غيره بحقيقة الإيمان ، فإعراضهم عنه عليه السلام ونصبهم غيره دليل بيّن على أنّهم ما عرفوا نورانيّته فضلّوا ولم يهتدوا سبيلا.

وهذا التفسير أيضا ممّا لم يذكره أحد من المفسّرين ، فاغتنم وكن من الشاكرين.

قال الله جلّ برهانه : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

أقول : ليس المراد من «الإنسان» في تلك الآية المشيّة التي عبّر عنها بـ «الإنسان» في الآية المتقدّمة ، لأنّها كما عرفت ما خلقت من النطفة ، بل

__________________

(١) الأحزاب : ٧٢.

٢٦

خلقها الله من نفسها ، وخلق الأشياء كلّها منها وبها ، وهي بأجمعها راجعة إليها ، ساجدة لها ، متحيّرة فيها ، مقبلة عليها ، فهي الحاكمة على الكلّ في الكلّ ، والمشهودة في الكلّ للكلّ ، والمحيطة بالكلّ ، والسارية في الكلّ.

فالكلّ بوجودها قائمون ، وفي اكتناه مقامها متحيّرون ، فهي العلّة الثانويّة لوجود كلّ شيء ، والمبدأ لخلق كلّ شيء ؛ كما قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (١).

وقال عليه السلام : إنّ الله خلق الأشياء بالمشيّة (٢).

ولعلّ هذا هو السرّ في تكرار لفظ «الإنسان» مع أنّ المقام مقام الإضمار ؛ كما لا يخفى.

نعم يحتمل كونها مرادة منه في تلك الآية أيضا بملاحظة أنّه تعالى أراد أن يخبر عن الخلق الجديد الثانويّ للمشيّة ، وهو إبرازها في الهيكل الناسوتيّ العنصريّ الجسمانيّ ، أي لقد أتى على المشيّة حين من الدهر كانت روحانيّة ساذجيّة غير مكبولة بالجسد العنصريّ ، ثمّ ألبسناها لباس العنصريّات ، وخلقناها من النطفة ؛ وهي ماء الرجل والمرأة.

وأكثر المفسّرين لقد فسّروا «الإنسان» بولد آدم عليه السلام خاصّة نظرا إلى أنّهم خلقوا من النطفة الكذائيّة دون آدم عليه السلام ، فإنّه خلق من صلصال من طين على التفصيل المسطور في كتب الأخبار.

وبعضهم بجميع أفراد البشر ، فيشمل آدم عليه السلام أيضا نظرا إلى أنّ

__________________

(١) النساء : ١ ، الأعراف : ١٨٩ ، الزمر : ٦.

(٢) الكافي ١ : ١١٠.

٢٧

باب التغليب واسع ، ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى ذلك الاعتذار لو فسّرت النطفة بالمادّة منيّا كانت أو غيرها ، وسيأتي إلى ذلك الإشارة إن شاء الله.

بوارق

الاولى : في نسبته تعالى خلق الإنسان إلى نفسه إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه ؛ من أنّ الممكن الحادث محتاج إلى المؤثّر القديم ، فلا يمكن له الوجود بنفسه من غير تأثير المؤثّر الواجب.

وادّعى جماعة من الحكماء على ذلك أنّه ضروريّ أوّليّ ، فإنّ العقل بعد تصوّر الممكن من حيث يتساوى طرفاه بالنظر إلى ذاته ، وتصوّر المؤثّر المرجّح لأحد الطرفين على الآخر يجزم بأنّ الممكن محتاج في حصول الوجود أو العدم إلى المرجّح ويحكم ببداهة ذلك.

وبعضهم جعلوا بطلان وجود الممكن بنفسه من غير حاجة إلى العلّة القديمة نظريّا ، واستدلّوا عليه بوجوه كثيرة لا يخلو بعضها عن وهن.

منها : أنّ مهيّة الممكن تقتضي تساوي الطرفين ، ووقوع أحدهما بلا مرجّح مستلزم لرجحانه ، وهو مناف للفرض.

ومنها : أنّ الواجب ما كان بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى العلّة ، والممتنع ما كان ذاته منشأ لانتزاع العدم من غير حاجة إلى شيء آخر ، والممكن ما ليس ذاته منشأ لانتزاع شيء من الوجود والعدم ، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علّة ، فلو كان ذاته بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى ضمّ علّة لزم كونه واجبا ، فإنّ المستغني بنفس ذاته عن العلّة مطلقا هو الواجب القديم الّذي يعبّر عنه المشّائيّون بالوجود الحقيقيّ.

٢٨

والإشراقيّون بالنور العينيّ.

والمتألّهون بمنشأ انتزاع الموجوديّة.

والصوفيّة بمرتبة الأحديّة وحضرة الجمعيّة وعين الكافور والوحدة الحقيقيّة وغير ذلك ، واللازم باطل ، فلا بدّ من كونه مفتقرا إلى علّة ، وهو المطلوب.

ومنها : أنّ الممكن ما لم يترجّح لم يوجد ، لأنّ ذلك هو قضيّة الإمكان ، وذلك الترجّح أمر حادث لم يكن فيكون وجوديّا ، فلا بدّ له من محلّ ، وليس هو الأثر لتأخّره عن الترجّح ، فيكون هو المؤثّر ، وهو المطلوب.

ولهم أدلّة أخرى مذكورة في الكتب المبسوطة في الحكمة.

ويدلّ على ذلك أيضا بعض ما دلّ على وجوب وجود صانع حكيم ، كدليل الدور ونحوه. ولسنا نحن بصدد التفصيل.

ثمّ هل الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه إليها أم لا ، مسألة خلافيّة متفرّعة على أنّ علّة احتياج الممكنات إلى المؤثّر هل هي الإمكان أو الحدوث ، فمن قال بالأوّل ـ كما هو المشهور ـ قال بالأوّل ، ومن قال بالثاني قال بالثاني ؛ إذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج.

دليل المشهور : أنّ العقل حاكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه ، وما كان كذلك فهو محتاج إلى المرجّح المغاير حتى يرجّح أحد الطرفين ، فيعلم منه أنّ علّة الحاجة في الواقع هي الإمكان ؛ حيث رتّب العقل الاحتياج على تساوي الوجود والعدم ، وأنّه قد يتصوّر الممكن ولا يحصل العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ إمكانه حتّى لو فرض حادث واجب بالذات يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

٢٩

وبعد ثبوت أنّ علّة الحاجة هي الإمكان يتّضح القول بأنّ الممكن الباقي حال بقائه محتاج إلى المؤثّر ، فإنّ الإمكان لازم لمهيّة الممكن غير منفكّ عنها حال البقاء أيضا ، فإنّ الممكن إنّما يصير ممكنا بوصف الإمكان بالضرورة ، فمتى تحقّق العلّة وهي الإمكان يتحقّق المعلول وهو الحاجة بالبديهة ، ضرورة وجوب تحقّق المعلول بتحقّق علّته التامّة. وذلك واضح.

واستدلّ الآخرون بأنّ تأثير المؤثّر في الباقي محال ، لأنّه إن أفاد الوجود الّذي كان حاصلا يلزم تحصيل الحاصل ، وإن أفاد أمرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي ، بل في ذلك الأمر المتجدّد ، وبأنّ البناء كما يبقى بعد فناء البنّاء ، كذلك يجوز أن يبقى الممكن من غير احتياج إلى المؤثّر.

وأجيب عن الأوّل بأنّ المؤثّر يؤثّر في استمرار الوجود وبقائه ، فإنّ الحاصل بالحدوث ليس إلّا الوجود في زمانه ، وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه ، فإبقاء الوجود وإدامته من المؤثّر وهو غير حصول نفس الوجود.

وعن الثاني بأنّ الكلام في العلّة الموجدة وليس البنّاء موجدا للنباء ، وإنّما هو علّة لحركات الآلات ، وتلك الحركات علل عرضيّة معدّة لأوضاع مخصوصة بين تلك الآلات ، وتلك الأوضاع مفاضة من علل فاعليّة غير تلك الحركات المستندة إلى حركة يد البنّاء.

ويتّضح من ذلك كلّه أنّ الغنيّ المطلق عن كلّ شيء هو الذات الأحديّة ، فإنّها في مقامها الجليل ورتبتها الجليلة غير مفتقرة إلى شيء في الذاتيّة والوجود والبقاء التي هي شيء واحد بحقيقة الواحديّة في عالم الحقّ ، لأنّ

٣٠

ذلك من لوازم العينيّة المسلّمة ، وأنّ غيرها من الأشياء الممكنة محدثة بأمرها ، موجودة بإفاضة الوجود منها إليها لها ، باقية بإدامة رحمتها بها بحيث لو كان فيض الحقّ منقطعا عنها في أوّل الأمر لما كانت شيئا مذكورا.

وكذا لو انقطع الفيض الآن لما يبقى شيء. ونعم ما قيل : إنّ الممكن بالنسبة إلى فيض الحقّ كالمستضيء في مقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوؤه وصار مظلما.

الثانية : في تعليق «الخلق» على «الإنسان» وإيقاعه عليه إشعار بأنّ المهيّات غير مجعولات بجعل الجاعل ؛ كما هو مذهب بعض الحكماء.

والدليل على ذلك الإشعار أنّ تعليق أمر على الشيء فرع ثبوت ذلك الشيء ، فقوله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) (١) معناه إنّا أوجدنا مهيّة الإنسان الثابتة ، وألبسناها لباس الوجود ، وأصبغناها بذلك الصبغ ؛ كما يفعل الصبّاغ بالثوب ، فالمهيّة شيء ثابت أزلا ، والوجود شيء آخر يعرضها عروض الوصف بالموصوف.

كذا قد يخطر بالبال ، وللمناقشة فيه مجال ، لأنّ تعليق الأمر على شيء يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يكون ذلك الأمر من الأوصاف الصرفة التي ينفكّ عن الموصوف المتصوّر ؛ كزينة البيت ، وصبغ الثوب ، ونحو ذلك.

والثاني : أن يكون من الأوصاف اللازمة المقارنة التي هي في نفس الأمر مقدّمات وشرائط للشيء ؛ كبناء البيت ، ونسج الثوب.

__________________

(١) الإنسان : ٢.

٣١

ولا يخفى أنّ الأمر المعلّق إذا كان من الأوّل يجب ثبوت المعلّق عليه قبل التعليق ، ولا يستلزم المقارنة ، فإنّك إذا قلت : صبغت الثوب ، يفهم منه ثبوت الثوب أوّلا حتّى يصبغ ، وإذا كان من الثاني فلا يستلزم الثبوت السابق ، بل التعليق يدلّ على المقارنة ، فإنّك إذا قلت : بنيت البيت ، يفهم منه أنّ ثبوت البيت قارن بناءه ، وذلك واضح.

ولعلّ «الخلق» من ذلك القبيل ، أي أوجدنا الإنسان وجعلنا مهيّته مهيّة مقارنة لوجوده ، بمعنى أنّا جعلنا المهيّة المعقولة موجودة في الخارج بالجعل البسيط الّذي [هو] عبارة عن موجوديّة المهيّة في الخارج من غير أن تكون شيئا ثابتا في نفسها قبل ذلك ، فيصبغها الجاعل بصبغ الوجود ؛ كفعل الصبّاغ.

والحاصل أنّ فعل الحقّ للمهيّة وجعله لها هو بعينه إيجادها في الخارج ، واتّصافها بالوجود مقارن لثبوتها ، بل لا تمايز بينهما في الخارج حينئذ أصلا.

نعم يحصل التمايز بالتحليل العقليّ ، وهما في غير خزينة العقل شيء واحد ثابتان في آن واحد ، ألا ترى أنّ المتحرّك إذا تحرّك لا يجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة ، بل يفعل الحركة ، وبمجرّد فعله لها تصير موجودة.

وكذا الخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا ، بل يفعل الخطّ ، وبمجرد فعله يصير موجودا في الخارج.

وهكذا ، لا الجعل المركّب الّذي [هو] عبارة عن جعل الماهيّة إيّاها أوّلا ، ثمّ إطراء الوجود عليها بحيث يكون كلّ منهما متميّزا عن الآخر ، فإنّ

٣٢

ذلك باطل للزوم الجبر المنفيّ عقلا وشرعا ، ولاستلزام وقوع الشكّ في كونها مهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر الجاعل. وهو باطل ، فتأمّل.

وهنا مسلك آخر لبعض الحكماء ، وهو أنّ الماهيّات قديمة أزليّة ثابتة بنفسها من نفسها غير مجعولة بجعل الجاعل ، ولا تأثير للباري فيها لأزليّتها ، وإنّما الباري خلعها خلعة الوجود ، وصبغها بصبغ الوجود ؛ كما قال : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (١) فزمان الإيجاد غير زمان الثبوت متأخّر عنه ، كيف وهي الحقائق الأزليّة الّتي أشار إليها عليّ عليه السلام في دعاء «سهم الليل» حيث قال : اللهمّ إنّي أسألك بالحقائق الأزليّة ... (٢) إلى آخره ، فتأمّل.

فقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) معناه : إنّا أبدعنا وجوده وأثّرنا فيه لا في مهيّته ، والقول بأنّ الوجود أمر اعتباريّ لا يصلح ، لكونه أثرا للمؤثّر ممّا لا نفهمه.

والحاصل أنّه تعالى لقد أشار في تلك الآية إلى تأثيره الاختراعيّ بالنسبة إلى الوجود خاصّة ، وهو التأثير الإبداعيّ على هذا المسلك ، لا بالنسبة إلى المهيّة لأزليّتها ، وبعض الحكماء يطلقون التأثير الاختراعيّ على إفاضة الأثر على قابل كالصور والأعراض على المادّة القابلة ، والإبداعيّ على إيجاد الأليس عن الليس المطلق.

الثالثة : قال بعض العارفين : إنّ التقديم مع التأكيد والتقرير في قوله : (إِنَّا

__________________

(١) البقرة : ١٣٨.

(٢) انظر : البلد الأمين : ٣٤٩ ، مصباح الكفعميّ : ٢٦٥.

٣٣

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) مفيد للحصر ، وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهّم من إسناد التصوير إلى المصوّرة ، فإنّ الفطرة السليمة تشهد بأنّ المصوّرة مركّبة كانت أو بسيطة لا تمكّن لها من هذا التصوير العجيب والتشكيل البديع الغريب ، فإنّ البنيّة البهيّة الإنسيّة خلقت بوجه يترتّب عليها بأجزائها منافع شتّى.

وقد أشار الحكماء إلى خمسة آلاف منها ، وقالوا : إنّ الحدس الصائب يحكم بأنّ الّذي لم يدرك من منافعها أكثر بكثير ممّا أدرك.

قال جالينوس في آخر كتابه لشرح منافع الأعضاء : إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق ، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح اخرى ليس إلّا فعل حكيم خبير قدير. انتهى.

ثمّ إنّ الغزاليّ أسند أفعال المصوّرة ، بل أفعال القوى كلّها إلى الملائكة ، وإنّي أستفيد من هذه الآية وغيرها ردّ هذا أيضا ، فإنّ من تفطّن بها تأكيدا وحصرا وعرف أنّ الإنسان في العلم والعرفان أكثر من الملك بكثير ، ونبّه بأنّ الخالق الفاعل لهذا التصوير عليم بالمنافع خبير حكيم ، علم أنّه ليس ذلك إلّا فعل فاعل الكلّ ومصوّره ، وأنا أرى أنّه كما يستفاد من إتقان العقل وأحكامه علم العقل كما قرّروه واستدلّوا به على علمه تعالى ، كذلك يستفيد اللبيب البصير الخبير من حال إتقان المصنوع كيفيّة وكمّيّة علم الصانع ، بل كثيرا من صفاته. انتهى ملخّص كلامه.

وحاصله يرجع إلى ما قرّرناه من افتقار الممكن إلى المؤثّر الواجب ، ومن أنّ الممكن لا يجوز أن يصير منشأ لوجود نفسه ، فلا يمكن أن يصير منشأ لوجود غيره إلّا بالتوسيط ، ومن أنّ فاقد الشيء لا يصلح لأن يكون موجدا له ؛ كما قيل :

٣٤

ذات نايافته از هستى بخش

كى تواند كه شود هستى بخش

ولكن ما استفاده من بطلان التفويض والتوسيط فغير مستفاد ، لأنّ الشيء كثيرا ما يستند إلى العلّة التامّة ، فيقال : أثمر الله ، وأنبت الله.

ولا ريب في أنّ الله هو العلّة لجميع العلل ، فكيف ينكر عليه في نسبته الخلق إلى ذاته خاصّة مع الحصر ، كيف ونسبة الشيء إلى غير العلّة التامّة من العلل المعدّة مجازيّة ؛ يقال : أثمر الشجر ، وأنبتت الأرض ، وإن صحّت تلك النسبة أيضا.

ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) (١) وقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٢) كيف نسب التوفّي تارة إلى نفسه ، وتارة إلى الملك.

ولا ريب أنّ الأوّل حقيقيّ ؛ كما قال : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (٣) وإن كان بواسطة الغير.

ألا ترى أنّ الأشياء كلّها خلقت من المشيّة مع أنّه ينسب الخلق إلى الحقّ ؛ كما قال : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) وربّما ينسب إلى المشيّة ، نظرا إلى كونها واسطة ؛ كما قال عليه السلام : أنا خالق السماوات والأرض بإذن ربّي.

وذلك واضح ، فليس في الآية دلالة على أنّ الله خلق الإنسان بمباشرة ذاته من غير أن يفوّض إفاضة الوجود إليه إلى غير ، وإن كان القول بالتفويض

__________________

(١) النحل : ٧٠.

(٢) السجدة : ١١.

(٣) غافر : ٦٨.

(٤) الزمر : ٦٢.

٣٥

بذلك المعنى باطلا بدليل آخر ، وهنا أبحاث كثيرة لا يسعها المقام ، ولا يتحمّلها أكثر الأنام.

الرابعة : يحتمل أن يكون المراد من النطفة ما هو المنشأ للوجود وهو المشيّة الأزليّة الّتي هي العلّة لوجود الأشياء الممكنة كما عرفت ، وتخصيص الإنسان بالذكر لأنّ له من المقام والشرف ما ليس لغيره من الأشياء الّتي خلقت من المشيّة وبها.

وفي توصيف النطفة بالأمشاج الّتي هي الأطوار المختلفة إشارة إلى تطوّرات المشيّة وتحوّلاتها وترقّياتها وتعرّجاتها في حدّ ذاتها ، فإنّها لا تزال يفيض الحقّ إليها في جميع الأحوال والأعصار بحسب ما يعلمه من المصلحة والقوّة.

ألا ترى أنّ للنطفة تحوّلات وتنقّلات بحسب الاستعداد. وإن فسّرنا «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله حينئذ ، ففيه إشارة إلى مبادئ حاله صلّى الله عليه وآله ونهاية مآله.

أي لقد ترقّينا بمقام محمّد ، بأن جعلناه إنسانا كاملا في الأنس بالحقّ ، والفوز بنور الصدق بحيث لا مقام أعلى من مقامه ، ولا معراج أرفع من معراجه ، بعد ما كان في أوّل الأمر غير كامل واقعا موقع النطفة المستعدّة لتلك المرتبة ، وذلك في زمان تشكّله بشكل آدم عليه السلام ، فإنّه في تلك الصورة له مقام النطفة. وهكذا إلى أن برز في هيكله الشريف الّذي كان عليه في زمانه بعد وساطة سائر المراتب كمرتبة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى عليهم السلام.

٣٦

ولقد أشار إلى تلك المراتب والتحوّلات بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) ويناسب ذلك التفريع في قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلنا محمّدا في ذلك الهيكل الشريف والمقام المنيف ، سميعا لكلماتنا المنزّلة ، قابلا للحقائق الّتي ما أطلعنا على علمها أحدا من العالمين ، بصيرا بآياتنا الجماليّة والجلاليّة ، والبوارق الجذبيّة ، والبارقات الكشفيّة الّتي لا يستطيع لها مادّة سوى مادّته الشريفة الّتي استعدّت من الأزل.

وهنا مطالب مكنونة لم يعثر عليها سوى العارفين ، ولسنا نذكرها لما فيه من مظنّة ضلالة الغافلين.

وقيل : «النطفة» هي ماء الرجل الخارج من الصلب ، وماء المرأة الخارج من الترائب ، فما كان من عظم وعصب وقوّة فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم فمن المرأة.

وعن بعض الحكماء أنّ المراد بها العناصر المعروفة ، أي ركّبنا الإنسان من تلك العناصر على التفصيل المقرّر في مقامه.

و «الأمشاج» إمّا جمع لمشج ومشيج ، كالخلط والخليط ، والجمع أخلاط ، وإمّا مفرد بمعنى المشيج ، فيستقيم التوصيف ؛ كما في الثوب الأكياس ، أي نطفة مختلطة من الماءين.

وقيل : أي نطفة أطوار متغيّرة من حال إلى حال ؛ طورا علقة ، وطورا

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٣٧

مضغة ، وطورا عظاما ، إلى أن صار إنسانا.

وقيل : مختلفة اللون ، فإنّ نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.

وقيل : أي نطفة مشجت بدم الحيض ، فإذا حبلت ارتفع الحيض. والكلّ محتمل.

الخامسة : قال الطبرسيّ رحمه الله : «نبتليه» في موضع نصب على الحال (١). انتهى.

أقول : هذا على المذهب المشهور متعيّن ، وأمّا على مذهب من أجاز تقديم الوصف على الموصوف سيّما في مقام يراعى فيه السجع فالتعيين لا دليل عليه ، فيحتمل كونه في موضع النصب على الوصفيّة لقوله : (سَمِيعاً بَصِيراً) بل هو الأقوم لأنّه لا وجه للابتلاء قبل جعله سميعا بصيرا ؛ إذ المراد به هو الاختبار بالتكليف ليظهر حاله من السعادة والشقاوة إلّا على تفسير «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله والنطفة الأمشاج بمراتب المشيّة ، فإنّه صلّى الله عليه وآله لقد اختبر بالتكاليف في تلك المراتب السابقة بحسبها ، وفي المرتبة الأخيرة الّتي هي نهاية المراتب بحسبها.

والإخبار عن جعله سميعا بصيرا بحسب تلك الرتبة لا ينفي كونه سميعا بصيرا في غيرها من المراتب بحسبها ، فإنّ للإنسان الواحد تكاليف مختلفة في الأزمنة المختلفة. وذلك واضح.

والتكاليف الّتي اختبر الله بها محمّدا إمّا تعمّ التكاليف الّتي كلّف بها

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٥ : ٦١١.

٣٨

لأجل نفسه من الطاعات والرياضات وما كلّف به لأجل الخلق كالدعوة إلى الإيمان والأمر بالعمل بما في القرآن ؛ كما قال (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ... (١).

ولقد كان محمّد عبده الخاصّ ورسوله الّذي اصطفاه واختبره بجميع أنواع الاختبارات ، فوجده قويّا لحمل التكاليف ، جليدا في طاعة الخالق ، صابرا على كلّ ما يصيبه في سبيل المرضاة ، راضيا بجميع ما جرى عليه ؛ كما قال : (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢) فأعطاه من الشرف والمقام ما لم يعط أحدا من العالمين ؛ حيث قال (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً) (٣) أي للكلمات الإلهيّة ، والتغنّيات اللاهوتيّة ، والترنّيات الهاهوتيّة ، والتفرّدات الملكوتيّة الإنسيّة (بَصِيراً) أي بمشاهدة الأنوار القدسيّة ، والشعاشع الجذبانيّة ، واللوامع الربّانيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ الابتلاء في ذلك الكلام وغيره ممّا نطق به القرآن ليس على حقيقته ؛ إذ حقيقة الابتلاء هو طلب الاطّلاع على المجهول ، ولا يتصوّر جهل على الحقّ الموصوف بجميع صفات الكمال على أكمل الاتّصاف.

كيف ولا يعزب عن علمه شيء ، وهو بكلّ شيء عليم.

كيف وهو العالم بما كان قبل أن يكون ، والمطّلع على أحوال كلّ شيء قبل خلق كلّ شيء ، فلا شيء إلّا وهو العالم به قبل وجوده ، والمطّلع على جميع أحواله قبل شهوده ، ولا تغيير في علمه أصلا.

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) القلم : ٤.

(٣) الإنسان : ٢.

٣٩

كيف ويعلم بكلّ شيء قبل خلقه كما يعلم به بعد خلقه ، وذلك من الواضحات الّتي قد برهنّا عليها في بعض فوائدنا الشريفة.

بل المراد منه إتمام الحجّة على الخلق ، وإعلامهم بما هم عليه من السعادة والشقاوة ، فإنّ السعيد هو المفطور على السعادة في بطن أمّه ، أي في قابليّته الأزليّة ، وكذلك الشقيّ مذوّت على الشقاوة من أوّل الأمر ، ولكن لمّا كان الفريقان لم يعلما بما هم عليه أوجدهم الله وابتلاهم بالتكاليف ، وأرسل إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ليطّلعوا على أحوالهم ، ولئلّا يكون لهم على الله حجّة يوم القيامة ؛ الّذي هو يوم بروز حقائق كلّ شيء بما هي عليه ، وهو اليوم المشهود فيه خفايا ذوات كلّ شيء ؛ كما قال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١) وقال : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٢) وهنا أبحاث كثيرة لا يفهمها كثير من الأنام.

هذا على المذهب المختار ، وأمّا على مذهب من زعم أنّ الله تعالى لا يعلم بالشيء إلّا بعد حصوله في الخارج ، ولا يلمع نور علمه على الشيء إلّا بعد البروز ، كما لا ينوّر الشمس مكانا إلّا بعد رفع الحاجب المانع عن الاستضاءة والاستنارة ، فالابتلاء على حقيقته ، فإنّه تعالى على ذلك يريد أن يطّلع على ما لم يحط به علمه.

ولا يخفى سخافة ذلك المذهب ؛ كما فصّلنا وجهها في بعض تحقيقاتنا.

السادسة : قد استفاد بعض العارفين من قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أنّ الإنسان بمزاجه في تركيبه استعدّ لهذه القوى ، فإنّ في «الفاء» المفيدة

__________________

(١) هود : ١٠٣.

(٢) الطارق : ٩.

٤٠