بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

دلم از صومعه وصحبت شيخ است ملول

يار ترسا بچه وخانه خمّار كجاست

السابعة : قال بعض العارفين : اعلم أنّ للمقرّبين البالغين في الملكات الشريفة لذّات عظيمة قد فازوا بنعيم الأبد ، والسرور الدائم في حضرة جلال ربّ العالمين في مقعد صدق عند مليك مقتدر ؛ غير مخرجين عن لذّاتهم ، فيها ما تشتهي الأنفس ، وتلذّ الأعين ، جرد عن عوارض الهيولى ، سرد عن مزاحمة القوى ، مكحّلين بالأنوار الساطعة ، ينظرون إلى وجوههم المفارقة ، والنفس يومئذ كلّها وجه وكلّها عين.

وأمّا «أصحاب اليمين» فلهم لذّات دون الوصول إلى مرتبة السابقين ، وقد يخالط لذّات هؤلاء شوب من لذّات المقرّبين ؛ كما أشير إليه في شراب الأبرار (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتامُهُ مِسْكٌ) ... (١) إلى قوله (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢) وهؤلاء لهم العروج إلى مشاهدة الواحد الحقّ ، مستغرقين فيه.

وأمّا «الأبرار» من جملة أولئك فلهم ما وعد (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٣).

فنقول : «الكأس» في اللغة : الإناء بما فيه من شراب ، والشراب سمّي نفسه كأسا ، وعبّر به هاهنا عن العلم ، والمراد : إنّ النفوس الفاضلة الّتي

__________________

(١) المطفّفين : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) المطفّفين : ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) الإنسان : ٥.

١٢١

سمّاها بالأبرار إذا استعدّت لإفاضة العاليات عليها الكمال الّذي تمّ استعدادها له ، وهو أن يتمثّل فيها ما يتعقّله من الحقّ الأوّل عزّ سلطانه بقدر ما يستطيعه ، فإنّ تعقّل الحقّ الأوّل كما هو غير ممكن لغيره ، ثمّ ما يتعقّله من معلولاته الذاتيّة أعني الوجود كلّه بحسب استعدادها تمثّلا يقينيّا خاليا عن شوائب الظنون والأوهام ، مبرّأ عن جلابيب الأبدان ، أفيض عليها دائما.

شبّه العلم بالكأس وهي الشراب لاستلزامها السكر والنشوة ، وإن كان فرقان ما بين النشأتين ، وفرقان ما بين اللذّتين والسكرين ، فإنّ أصحاب تلك التعلّقات هم بالحقيقة النشاوى من كأس المقرّبين ، السكارى من رحيق علّيّين ، والغرقى في بحار أسرار طور سينين ، الوالهين في ديار المقدّسين ، يقولون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

وقوله : (كانَ مِزاجُها كافُوراً) وصف لتلك الكأس ، وخصوص الكافور لكونه مستلزما للبياض الّذي هو أشرف الألوان المشرقة ، لاستلزامه الرائحة اللّذيذة.

ثمّ يكون كلّ واحد من الأوصاف المحسوسة قد شابهه وصف من الأوصاف العقليّة ، ولأجله وصف المشبّه وهو الكأس بما استلزم هذه الأوصاف المحسوسة.

أمّا البياض ، فلأنّه أشرف الألوان المشرقة الصافية ، وأبعدها عن الكدورات ، ولذلك كان أحبّ الثياب إلى رسول الله البيض ، ولتلك التعلّقات لمّا كانت براءة عن شوائب الأوهام ، وكدورات الخيال ، كانت في غاية

__________________

(١) التحريم : ٨.

١٢٢

الإشراق والصفاء ، فاستحقّ اسمها وهو الكأس هاهنا أن وصف بالامتزاج بما استلزم البياض لتلك المشابهة.

وأمّا الرائحة ، فلأنّ رائحة الكافور لمّا كانت أبلغ الروائح ، وكان الإدراك العقليّ كرائحة من الإفاضات العالية الّتي هي فوق ما يصفه الواصفون ، استحقّ الكأس أن وصف بالمستلزم لتلك الرائحة ، وإن كان فرقان ما بين الرائحتين ، وفرقان بين اللذّتين.

ثمّ مع هذه الفوائد كلّها فيه لطف لطيف لا يخفى ، بل لطائف لا تحصى ؛

منها : أنّ من خواص الكافور إزالة الحرارة الراسخة المهلكة المتمكنة في جوهر ذات الشخص ، فشبّه العلوم والفضائل المزيلة للجهالات وسائر المهلكات بذلك.

انتهى ملخّص كلامه ، ومحصّل مرامه ، وهو جيّد إلّا أنّ الحصر فيما ذكر لا يقول به المحقّقون من المتشرّعة ؛ كما مرّ مثله فيما مرّ ، فتدبّر.

الثامنة : ذكروا في انتصاب «عينا» وجوها :

منها : أن يكون بدلا من «كافورا» فالمراد به عين الكافور الّتي أشرنا إليها في مطاوي ما ذكر ، فالبدل بدل الكلّ من الكلّ وهو المطابق.

ومنها : أن يكون بدلا من قوله «من كأس» أي يسقون من عين ، ثمّ حذف الجار ، فوصل الفعل إليه.

وضعّف بأنّ الحذف خلاف الأصل ، وبأنّ العين على تقديره تصير مقصودة بالكلام دون الكأس ، لأنّ المبدّل منه إنّما هو في حكم السقوط ، فيلزم التعطيل وإلغاء الأصل ، فليتأمّل.

١٢٣

ومنها : أن يكون منصوبا على المدح ، والتقدير أعني أو أريد أو أمدح.

وضعّف بأنّه يلزم حينئذ أن يكون المقصود من الكأس هو المقصود من العين ، لكن التباين أولى من الترادف.

ومنها : أن يكون منصوبا بنزع الخافض ، أي من كأس في عين أو من عين.

أقول : ويحتمل انتصابه على الحاليّة من قوله «من كأس» وهي لا تستلزم الاشتقاق دائما ، وإنّما هو حكمها الأغلبيّ ، ففيه إشارة إلى أنّ الكأس الّتي يشربون منها ليست بحيث ينفد شرابها بعد الشرب منها ككؤس الدنيا ، بل هي على حالها كالينبوع الّذي كلّما شرب منه يكثر ماؤه ويزيد صفاؤه ، فعلم العارف بمراتب التوحيد يترقّى في كلّ حين بحسب سعيه ، ولا يتبدّل بالجهل أبدا ، وإن بذل للمستعدّين الطالبين.

كيف وهو كالنور الّذي يستضاء منه ، فكما أنّه لا ينقص بكثرة ما يستضاء منه ، كذلك علم العارف لا ينقص بكثرة التعلّم منه. وذلك واضح.

التاسعة : قال العارف : اعلم أنّ المراد بالعين هو العقل العاشر من العقول العشرة المنتهية إلى الينبوع الأكبر ، وهو الواجب الأوّل جلّ ذكره وذلك العقل هو المسمّى بالعقل الفعّال أي الفاعل لكلّ ما في العالم السفليّ ، وإنّما أطلق اسم العين عليه لأنّ العين لمّا كانت هي الينبوع الّذي يروي العالم وينتفع به ويأخذ كلّ شخص حصّته للشرب والزرع وأنواع الانتفاعات ، وكان العقل لكثرة إفاضته بحسب الاستعدادات المختلفة يأخذ كلّ ممكن منه بحسب إمكانه حصّته ، كان بينهما مشابهة من هذا الوجه ، فأطلق اسم العين عليه لأجلها.

١٢٤

ولأجل تلك المشابهة كان المعبّرون كثيرا ما يعبّرون الماء الصافي بالعلم ، والينبوع الحسن الجاري بالرجل الفاضل ؛ وإن كان الينبوع الحقّ للكلّ هو المبدأ الأوّل جلّ وعلى ، ثمّ العقل الثاني ، ثمّ الثالث هكذا إلى العقل العاشر.

إلّا أنّ هذا العقل هو الفاعل الأقرب لما في هذا العالم.

وإذا فهمت ذلك بيّن حينئذ سرّ قوله : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي ينال كلّهم في كلّ وقت ما يستحقّه بحسب إمكانه واستعداده. انتهى ملخّص مقاله.

العاشرة : جملة «يفجّرونها» في محلّ النصب على الحاليّة.

وقيل على الوصفيّة.

أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم.

والتفجير : تشقيق الأرض بجري الماء.

قيل : وأنهار الجنّة تجري بغير أخدود ، فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خطّه خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع ويجري بغير تعب.

هذا حاصل ما ذكره المفسّرون.

وأقول : في نسبة التفجير إلى أنفسهم إشارة إلى أنّهم بجهدهم وسعيهم لقد بلغوا ذلك المبلغ ، وفازوا بذلك المقام ، أي يفجّرون ينبوع العلم والحكمة من أرض هويّتهم برياضتهم واجتهادهم بحسب القوّة ، فكلّ يفجّر بقدر استطاعته واستعداده ، وفيه إشعار لطيف بأنّ الإنسان من حيث هو قابل لذلك المقام وهذه العلوم مكنونة فيه يحتاج في استخراجها إلى رعاية أسبابه المعدّة لذلك ؛ كالتصفية والتزكية المعتبرتين عند أهل الذوق

١٢٥

والحال ، وتحقّق تلك العلوم والمعارف في الهويّة الإنسانيّة إنّما هو كتحقّق النار في الزناد.

فكما أنّ في استخراجها وإيرائها منها يحتاج إلى بعض الأسباب المعروفة كذلك يحتاج في استخراج العلوم والحقائق من كينونة الإنسان إلى التصفية والتزكية ؛ كما قال عليه السلام : ليس العلم في السماء حتّى ينزل إليكم ، ولا في الأرض حتّى يصعد إليكم ، بل هو مكنون فيكم ، تخلّقوا بأخلاق الروحانيّين يظهر لكم.

أي تصفّوا نفوسكم وتزكّوها ، فإنّ ذلك سبب بروز العلم ، وظهور العرفان.

وقال تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١) أي إن تأتمروا بما أمركم الله وتنتهوا عمّا نهاكم الله خوفا من غضب الله القهّار ترتفع غواشي نفوسكم ، وتزول كدورات قلوبكم ، فيلوح نور عقولكم ، فتميّزون به الحقّ عن الباطل ، والخير عن الشرّ ، والقرب عن البعد إلى غير ذلك ، فلا تضلّون عن طريق الحقّ أبدا.

وذلك الاستعداد هو العقل المطبوع الّذي أشار إليه عليّ عليه السلام حيث قال :

رأيت العقل عقلين

فمطبوع ومسموع

فلا ينفع مسموع

إذا لم يك مطبوع

كما لا تنفع الشمس

ونور العين ممنوع

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

١٢٦

أي الاستعداد الأصليّ هو المنشأ لفهم ما يسمعه ويتعلّمه ؛ إذ لولاه لما كان الإنسان إلّا كسائر البهائم الّتي لا تدرك شيئا من المعارف والعلوم الإلهيّة ، فيا أيّها الإنسان لا تكسل عن تفجير ينابيع الحكمة من أرض ذاتيّتك ، فإنّ العلم والحكمة كلّها فيك ، ليست خارجة عن هويّتك ، كيف وفيك معنى كلّ شيء ؛ كما قال :

دواؤك فيك وما تشعر

وداؤك منك وما تبصر

فاطلب حقائق كلّ شيء من نفسك ، واستخرجها من ذاتك بالتصفية والتزكية ، فإلى متى تسعى في غير أرض هويّتك لغير ذاتيّتك ، وتسير في بوادي الغفلة عن المودعات في كينونيّتك ، وتهيم في فيافي الضلالة عن طرق الأسرار المكنونة في خزينة نفسانيّتك.

سالها دل طلب جام جم از ما مى كرد

آنچه خود داشت زبيگانه تمنّا مى كرد

گوهرى را كه بپرورد صدف در همه عمر

طلب از گمشدگان لب دريا مى كرد

قال الله عزّ سلطانه : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً).

أقول : لمّا أخبرنا بمقام الأبرار الأخيار ، وما فازوا به من الكمالات الروحانيّة ، واللذّات العقلانيّة ، فشاقت النفوس إلى ذلك المقام ، وظنّ كلّ أحد أنّه في زمرة هؤلاء الكرام ، بيّن لنا أوصافهم الّتي بها وصلوا إلى تلك

١٢٧

الرتبة ، وعلاماتهم الّتي بها سمّوا بالأبرار على الحقيقة ، ليميّز الأبرار عن الفجّار ، والأخيار عن الأشرار ، ولئلّا يدّعي كلّ أحد الفوز بحقائق الأسرار ، ومراتب الأخيار ، فإنّ لكلّ حقيقة وصف تعرف هذه به ، ولكلّ معنى صورة تستدلّ بها عليه ، ولكلّ مسمىّ اسم ينبأ به عنه.

ولا ريب أنّ الحقيقة والمعنى والمسمّى هي الباعثة على الاسم والصورة والوصف ، بمعنى أنّ تلك الأمور لا بدّ من أن يعرفها كلّ محتاج إليها لتسهل الإشارات والمكالمات والخطابات ، ولا تعرف غالبا إلّا بالأمور اللفظيّة الّتي تدلّ عليها ، وتنبأ عن آثار هويّتها ؛ إذ لولاها لانسدّ باب التفهيم والتفهّم ، والتعريف والتعرّف ، وليست تلك الألفاظ والأسماء مغيّرة للحقائق إذا استعملت في غير مسمّياتها الأصليّة اللائقة ، ألا ترى إنّك لو سمّيت الخلّ بالعسل لا يغيّر حقيقة الخلّ وصفته الّتي هي الحموضة إلى حقيقة العسل وصفته الّتي هي الحلاوة ، فلا تأثير للاسم في الحقيقة الذاتيّة أصلا ، وإنّما شأنه الدلالة على الحقيقة أو وصفها ، وهي أمر اعتباريّ لا يؤثّر في شيء ، ولا يغيّر شيئا ، ولا مدخل له في الوصف الواقعيّ الّذي للحقيقة ، بل الحقيقة بوصفها ثابتة محقّقة في نفس الأمر سواء وضع لها اسم يدلّ عليها أم لا ، لما عرفت من أنّ وضع الاسم إنّما هو للتعريف لا للتحقيق والتكوين.

بمعنى أن يكون تحقّق الحقيقة بالاسم ، كيف والاسم مغاير للمسمّى تغايرا كلّيّا لا رابطة بينهما إلّا في صرف الدلالة المقتضية للدالّ والمدلول ، كيف والاسم حروف يتلفّظ بها اللافظ ، فهي غير مستقلّة في أنفسها محتاجة في تحقّقها إلى اللّافظ بها ، والمسمّى هويّة صرفة مستقلّة في حدّ ذاتها غير

١٢٨

متغيّرة بتغيّر الاسم ولا مختلفة باختلافه ، فإنّه يختلف بالعربيّة والعجميّة وغيرهما ، وتتبدّل حروفه باختلاف الأعصار ، ولا يوجب ذلك الاختلاف والتغيّر الاختلاف في الذات والتغيّر في الصفات ، لعدم الرابطة المعنويّة بينهما ؛ كما قلت :

اسم را كى در حقيقت مدخل است

اسم عين ذات بودن مشكل است

زهر شيرين نيست از اسم عسل

هم عسل كى تلخ گردد زين مثل

إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي أن يخفى عليك أنّ للسعادة حقيقة ذاتيّة ، وللشقاوة حقيقة ذاتيّة أخرى لا مناسبة بينهما أصلا ، بل المتحقّق بينهما التباين الكلّيّ والتضادّ الواقعيّ ، ولكلّ منهما اسم ووصف أي علامة ، فالأوّل يستحقّه كلّ منهما بالثاني ، أي العلامة تصحّح إطلاق الاسم على المسمّى ، وتجعله مصداقا واقعيّا للاسم ، بخلاف الاسم ، فإنّه لا حكم له على المسمّى أصلا.

وتوضيح ذلك : أنّ للسعيد حقيقة بها صار السعيد سعيدا في نفس الأمر الواقعيّ بينه وبين الحقّ تعالى ، وعلامة مصدّقة له في دعواه السعادة ، وهي أمور أشار الله إليها في الآية وفي غيرها من الآيات ؛ كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٢).

__________________

(١) الأنفال : ٢.

(٢) النمل : ٣ ، لقمان : ٤.

١٢٩

حيث حصر المؤمنين في الّذين علاماتهم هذه من اضطراب القلب عند ذكر الحقّ ، كما يضطرب قلب الحبيب بذكر المحبوب ، وزيادة الإيمان والإيقان بوجود الحقّ عند تلاوة آيات الحقّ والتوكّل على الحقّ وهو الإعراض عمّا سواه ، وإقامة الصلاة وهي الإقرار بولاية عليّ عليه السلام والدخول في زمر شيعته ، وإيتاء الزكاة ، وهو تصفية النفس وتزكيتها والإيقان بالآخرة ، أي بالمقام الأعلى وراء ذلك الحسّ الظاهريّ.

وهذه علامات المؤمن يعرف بها ؛ كما قال : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (١) أي آيات لائحة في هويّاتهم من أثر الفناء عن غير الحقّ في الحقّ للحقّ يعرفون بها ، واسما يستدلّ به على المفهوم أوّلا ، وعلى المصداق بملاحظة تحقّق العلامات ، فإنّها كما مرّ تجعل الحقيقة مصداقا واقعيّا لذلك الاسم.

فإطلاق ذلك الاسم على ذلك المصداق بالإشارة الحسّيّة أو العقليّة ؛ إطلاق حقيقيّ لتحقّق العلامة ، وعلى غيره ممّا لم تتحقّق فيه العلامات الواقعيّة ليس حقيقيّا ، بل ولا مجازيّا ، لرعاية المناسبة في المجازات ، ولا مناسبة هنا أصلا ، فإطلاق لفظ السعيد على الشقيّ لا يجعله سعيدا في نفس الأمر ، ولا يجري عليه أحكام السعداء ، ولا يثبت له مقام الصلحاء ، بل هو شقيّ في نفس الأمر الواقعيّ ؛ كما أنّ إطلاق اسم العسل على السمّ لا يجعله حلوا ، ولا يغيّر حقيقته وآثاره ومضارّه إلى حقيقة العسل ومنافعه.

ألا ترى إلى الله كيف منع الأعراب عن أن يقولوا آمنّا ولم يدخل الإيمان

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

١٣٠

في قلوبهم ، وأمرهم أن يقولوا أسلمنا ، وما كان ذلك إلّا لأجل أنّهم سمّوا أنفسهم مؤمنين ، ولم يكونوا متّصفين بصفاتهم ، ولم تكن فيهم علامات المؤمنين ، وقال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) فكذّبهم فيما انتسبوه إلى أنفسهم من الإيمان بالرسول ، لأنّهم ما كانوا مؤمنين على الحقيقة ، بل غيّروا أسماءهم ، حيث سمّوا نفوسهم الكافرة بالمؤمنة ، فلا مدخل للاسم في الذات والحقيقة ، بمعنى أنّ الشقيّ لا يصير سعيدا بمحض اسم السعيد وإطلاقه عليه ، بل يجب في صحّة ذلك الإطلاق تحقّق الحقيقة والعلامة الدالّة عليها ، وكذلك السعيد لا يصير شقيّا بإطلاق اسم الشقيّ عليه ، فإنّ المعتبر هو حقيقة المسمّى ؛ كما قلت :

معتبر ذات است وفعلى صفات

كى شود حق ز اسم حق لات ومنات

وصف هر چيزى تميز ذات اوست

كيف هر ذاتى يكى زآيات اوست

وللإشارة إلى ذلك التقرير لقد عدّ للأبرار الفائزين بلذّة الأسرار أوصافا وعلائم أربعة حتّى يعرفوا بها ، ولا يدّعي كلّ أحد مقامهم ، وهي : الوفاء بالنذر ، والخوف من الحقّ ، والإطعام على المستحقّ ، والإخلاص لوجه الحقّ ، على التفاصيل الّتي تأتيك ، فمن اتّصف بتلك الصفات الخيار فهو من الأبرار ، والعاري عنها يعدّ من زمرة الأشرار.

نه هركه چهره برافروخت دلبرى داند

نه هركه آئينه سازد سكندرى داند

__________________

(١) المنافقون : ١.

١٣١

هزار نكته باريكتر زمو اينجاست

نه هركه سر نتراشد قلندرى داند

بوارق

الأولى : الإيفاء بالنذر هو الدخول في لجّة التوحيد ، والاستغراق في طمطام يمّ التجريد ، والإعراض عن الوجوه الإمكانيّة ، والكثرات الوجوديّة الوهميّة ، والانقطاع عن كلّ ما في عالم الإمكان إلى ساحة الملك المنّان بأن لا يرى في الوجود شيئا متّصفا بالوجود سوى الحقّ ، ويعلم أنّ وجودات كلّ شيء سوى بارئها لا حقيقة لها ، بل هي موهومات صرفة ، ومتخيّلات محضة ؛ أصلها الأعدام ومرجعها إلى العدم الصرف ، فإنّها كما عرفت امور ظلّيّة إبداعيّة ، فإنّ ذلك هو الميثاق الّذي عاهد الله به عباده في العالم الأوّل ؛ كما قال : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) (١) (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ... (٢) إلى آخره.

وقال : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٣).

أي لقد أخذنا ميثاقكم أن لا تذلّوا في طاعة نفوسكم الشقيّة الأمّارة بالسوء ، فإنّها تأمركم بالسوء والفحشاء ، لكمال بعدها عن ساحة الحقّ جلّ ذكره ، ولظهور عداوتها لكم ؛ حيث تسلككم مسالك الردى والضلالة ،

__________________

(١) البقرة : ٨٤.

(٢) هود : ٢٦.

(٣) يس : ٦٠ ـ ٦٢.

١٣٢

وتضلّكم عن شريعة الهداية ، فتتركون محرومين عن مشاهدة شعاشع أنوار المشيّة المحجوبة في سماء هويّتكم ، وتكونون من الخاسرين ، وأن ادخلوا في لجّة التوحيد ، واستغرقوا في قواميس التجريد ، واحترقوا في أخاديد التفريد ، لكي تفوزوا بشمّ نفحات الإخلاص ، ومشاهدة لوائح الخلاص ، فإنّ هذا هو الصراط المستقيم الّذي سلك فيه كلّ مخلص من المؤمنين.

كيف ولا يضلّ عنه من سلكه مهتديا بمصابيح أنوار الوجه القديم ، وسواذج أسرار بهاء الذات الكريم ، فلا تشركوا بي بأن تروا غير طلعتي في بساط الشهود ، وتنظروا إلى غير وجهتي في عالم الوجود فإنّ ذلك لقد أهلك كثيرا من الناس بالعمى والجهالة ، وتركهم في فيافي الردى والضلالة.

أفليس لكم العقل الصافي اللامع لتهتدوا بنوره ، وتعرفوا أنّ ذلك الشرك محبط لمراتب التوحيد ؛ كما قال : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١).

أي من الّذين عرفوا الله فعبدوه خالصا مخلصا بحيث ما خطر على قلوبهم ذكر شيء غير الله.

كيف وليس لشيء ذكر في عرش التوحيد سوى الحقّ الواجب تعالى ، فإنّ ذكر الشيء فرع وجوده ، ولا وجود لغير الحقّ في عالم التوحيد ؛ كما قال : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِذا ذُكِرَ اللهُ

__________________

(١) الزمر : ٦٤ ـ ٦٦.

١٣٣

وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١).

أي الّذين ما فازوا بالدار الآخرة وهي دار التوحيد لا يدركون مقام الواحديّة الصرفة الخاصّة بالحقّ جلّ شأنه بحيث إذا ذكره الفائز به تراهم تشمأزّ قلوبهم لبعدها عن ساحة الإدراك ، ولكنّهم لتوجّههم إلى عالم الكثرة وخوضهم فيه تراهم يستبشرون بذكر سوى الحقّ تعالى (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (٢).

أي : قل إنّي أدخل لجّة الأحديّة وبيت المحبّة الخالصة الّذي أمر الناس كلّهم بأن يدخلوا ؛ كما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٣) أي : ادخلوا تلك اللّجّة الشريفة بعد محو الوجود الموهوميّ في بحر الوجود الكلّيّ الحقيقيّ ، فإنّ العابد لله بما أراد الله هو الّذي لا ينظر إلى نفسه بمعنى أنّه لا يرى نفسه عابدا والحقّ معبودا ، فإنّ ذلك لشرك مبين.

بل يرى الحقّ معبودا خاصّة من غير أن يكون في ساحة عبادته ذكر لنفسه بأنّه عابد لله ، فإنّ العبادة هي التوجّه إلى الشيء وذكره ، فتوجّه العبد إلى نفسه حين توجّهه إلى الحقّ عبادة للنفس والحقّ ، فمن كان هذا شأنه فقد

__________________

(١) الزمر : ٤٣ ـ ٤٥.

(٢) الزمر : ١٤ ـ ١٥.

(٣) البقرة : ٢١.

١٣٤

أشرك في عبادة الله عبادة غير الله ، فالعبادة الحقيقيّة الّتي أرادها من الخلق هي أن لا يشعروا في حين العبادة بأنانيّتهم ونفسانيّتهم أصلا ، بل أخلصوا شعورهم في الحقّ تعالى ، فإنّ ذلك هو كمال التوحيد ، وهو الصراط المستقيم الّذي يضلّ من يطلب في غيره سبيلا.

خواهم كه شوم پاك وز هستى برهم

يابم ره معراج وزپستى برهم

ابروى حبيب را كنم قبله خويش

باشد كه ز عجب وخودپرستى برهم

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بأخذ الميثاق عليهم هو ما كان بينهم وبين الحقّ عند الاختراع.

وتوضيح ذلك أنّه لمّا خلع الله الخلق بخلعة الوجود عرّفهم بأنّ ذلك الوجود إنّما هو من الله جلّ نعمته ، لا من غيره ؛ أنعم به عليهم ، فعاهدهم على أن يشكروا لتلك النعمة العظيمة ، بأن لا يكفروا به ، ولا يعبدوا من دونه شيئا.

وذلك بعد أن ينظر إلى أنفسهم وما فيها من العوالم الغير المتناهية بنظر البصيرة ، فيعرفوا أنّ ذلك كلّه ما كان فكان ، وإن كان إلّا بمكوّن غير ذاته ، وغير ما هو في حدّ رتبته من الموصوف بصفة الإمكان ؛ إذ المحتاج في وجوده إلى غيره ليس له أن يفتقر إليه غيره في وجوده ، فيلوح له نور اليقين ، بأنّ الموجد لذلك كلّه هو الحقّ الواجب الغنيّ الّذي لا إله إلّا هو ، خالق كلّ شيء ، وكلّ إليه يرجعون.

١٣٥

ويقطع حينئذ بأنّ العبادة لا تصلح إلّا لمن هو في مرتبته غير مفتقر إلى شيء من دونه في شيء.

كيف والعبادة نوع من الشكر ، بل هي كلّ الشكر وكماله ، والشكر لا يستحقّه إلّا المنعم الحقيقيّ ، وأيّ منعم أحقّ بالشكر من المنعم الّذي أنعم على الخلق بالوجود الّذي لا يتصوّر فوقه نعمة؟

فالناظر كذلك بحقيقة النظر يستدلّ بوجوده على كمال مقام الحقّ ، فيشهد بما يترتّب على وجوده من الآثار والأطوار على غناء الحقّ وكماله وتقدّسه عن وصف الواصفين ، ومعرفة العارفين ، ويتشعشع على قلبه نور اليقين ، بأنّه لا يقدر على شكر واحدة من نعماء الحقّ ، فضلا عن استقصاء جميع نعمائه وآلائه الّتي أنعم عليه في حدّ رتبته ومقام كينونته!

كما قال الحسين عليه السلام في دعاء يوم عرفة : وأنا أشهدك يا إلهي بحقيقة إيماني ، وعقد عزمات يقيني ، وخالص صريح توحيدي ، وباطن مكنون ضميري ، وعلائق مجاري نور بصري ، وأسارير صفحة جبيني ، وخرق مسارب نفسي ، وحذاريف مارن عرنيني ، ومسارب صماخ سمعي ، وما ضمّت وأطبقت عليه شفتاي ، وحركات لفظ لساني ومغرز حنك فمي وفكّي ، ومنابت أضراسي ـ إلى قوله ـ أن لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب لو عمّرتها أن أؤدّي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلّا بمنّك الموجب عليّ به شكرا آنفا جديدا ، وثناء طارفا عتيدا.

أجل ولو حرصت أنا والعادّون من أنامك أن نحصي مدى إنعامك سالفة وآنفة ما حصرناه عددا ، ولا أحصيناه أمدا ، هيهات أنّى ذلك! وأنت المخبر

١٣٦

عن نفسك في كتابك الناطق ، والنبأ الصادق (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) (١) إلى آخره.

ثمّ إن أصرّ الناظر المتدبّر في ذلك النظر ، وأدام نظره في ذلك يرى الحقّ تعالى متجلّيا في كلّ شيء ، متعرّفا ذاته في مرآة كلّ شيء ، متصرّفا في كلّ شيء ، مع كلّ شيء ، وسلطانا على كلّ شيء ، وحافظا لكلّ شيء ، وقريبا من كلّ شيء ، فلا يحجب الحقّ عن بصيرته في كلّ شيء ، ولا يجهل بالحقّ في كلّ شيء ، بل يشاهد أنوار الحقّ متشعشعة في حقيقة كلّ شيء ، ويلاحظ لوامع الحقّ لائحة في كينونة كلّ شيء ؛ كما قال عليه السلام : إلهي علمت باختلاف الآثار وتنقّلات الأطوار أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء حتّى لا أجهلك في شيء ... (٢) إلى آخره :

همه آيات او ظاهر همه برهان او باهر

ولى كو ديده بينا ولى كو قلب نورانى

منوّر كرده خورشيد رخش آفاق وانفس را

تو از كورى نمى بينى زنادانى نمى دانى

جهان را بين منوّر گشته زاشراقات انوارش

هوا را بين معطّر گشته از أنفاس رحمانى

أيا مجنون نظر بگشا همه ليليست اين صحرا

تو اندر جستجو تا كى ز حيرانى به حيرانى

__________________

(١) انظر : مفاتيح الجنان (دعاء يوم عرفة) للإمام الحسين عليه السلام.

(٢) راجع : مفاتيح الجنان ، دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة.

١٣٧

ألا وامق نگاهى كن ببين آن نور عذرا را

كه عالم از فروغ او سراسر گشته نورانى

ولكنّك إذا فزت بذلك المقام ـ أي مقام مشاهدة الحقّ في الخلق ، والاستدلال بالخلق على الحقّ ـ لقد ترقّيت عن مقام الكفر والجهالة إلى أوّل مقام الإيمان ، ولنك ما تمحّضت للتوحيد ، وما أخلصت للتجريد ، فإنّك لقد شاهدت الحقّ مع الخلق بحيث توجّهت إلى الخلق أوّلا ، ثمّ إلى الحقّ.

وهذا شرك بيّن عند أهل الصفاء والتوحيد ، فإنّ كمال التوحيد هو أن لا يخطر ذكر الغير في مقام ذكر الحقّ ، ولا ينظر إلى شيء من أرباب الإمكان في مقام النظر إلى الحق المنّان.

وهذا هو المنهج النهّاج ، ومسلك النجاح ، وذلك هو مقام الرجوع عن الآثار إلى سرّ حقائق الأنوار.

ولقد أشار إلى ذلك المقام مولانا الحسين عليه السلام في دعاء يوم عرفة : «إلهي! تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار ، فاجمعني عليك بحرمة توسّلي إليك ، كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده يفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا.

إلهي! أمرتني بالرجوع إلى الآثار ، فأرجعني إليك بكسوة الأنوار ، وهداية الاستبصار ؛ حتّى أرجع إليك كما دخلت إليك منها ، مصون السرّ عن

١٣٨

النظر إليها ، ومرفوع الهمّة عن الاعتماد عليها ، إنّك على كلّ شيء قدير.

إلهي! هذا ذلّي ظاهر بين يديك ، وهذا حالي لا يخفى عليك ، منك أطلب الوصول إليك ، وبك أستدلّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، وأقمني بصدق العبوديّة بين يديك.

إلى قوله : أنت الّذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتّى عرفوك ووحّدوك ، وأنت الّذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ، ولم يلجأوا إلى غيرك ، أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، وأنت الّذي هديتهم حتّى استبانت لهم المعالم ، ماذا وجد من فقدك ، وما الّذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلا ، ولقد خسر من بقي عنك متحوّلا.

إلى قوله : أنت الّذي لا إله غيرك ، تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيء ، وأنت الّذي تعرّفت إليّ فرأيتك ظاهرا في كلّ شيء ، فأنت الظاهر لكلّ شيء.

يا من استوى برحمانيّته فصار العرش عينا في ذاته ، محقت الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار ... إلى آخره.

والإمام عليه السلام لقد أشار في تلك الفقرات الشريفة الّتي لم نر مثلها من غيره إلى لباب لباب العرفان ، وحقائق حقائق الإيقان ، واستوفى فيها جميع المعارف الإلهيّة ، والحقائق الربّانيّة ، على وجه لا يطّلع عليه إلّا اللّبيب البصير الخبير.

الثانية : لا بأس بتفسير الإيفاء بالنذر بالدخول في بيت الولاية ، أي الإقرار بنبوّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وأنّه أفضل من كلّ شيء ،

١٣٩

وأنّ دينه باق إلى يوم القيامة ، وبمقام أوصيائه الاثني عشر ، وأنّهم خير الناس بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وأنّ غيرهم غير مستحقّ لمقام الولاية والنيابة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وأنّهم هم المعصومون عن النقائص والتوجّهات الغيريّة ، المقدّسون عن الشؤونات العرضيّة ، فإنّ الله تعالى لقد أخذ من الخلق ميثاقهم على الإقرار بحقّهم ، والاعتراف بمقامهم عليهم السلام حيث قال لهم : ألست بربّكم ، ومحمّد نبيّكم ، وعليّ وليّكم ، والأئمّة من ولده أولياؤكم وأئمّتكم؟ فأجابوا جميعا بقولهم : بلى ، لقد شهدنا بذلك كلّه ، وأقررنا به ، فمن بقي على إقراره واعترافه في ذلك العالم العنصريّ فقد وفى بالعقود والمواثيق الّتي أخذها الله منه في العالم السابق ، ومن نسي ما كان منه في الأوّل ، وأنكر مقامهم عليهم السلام فقد نكث عهد الله ونقضه ؛ كما قال : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ...) (١) إلى آخره.

فالإقرار بهؤلاء المعصومين عليهم السلام من خواصّ صفات الأبرار ، فمن جهلهم ولم يعرف مقامهم فهو من الأشرار الّذين هدّدهم الله بعذاب النار في دار البوار.

فيا سبحان الله كيف ينكر فضائلهم وقد ملأت ما بين السماء والأرض ، بل كلّ شيء ممّا في سلسلة الإمكان ، كيف والحقّ معهم يدور ، وفضلهم في كلّ شيء لكلّ شيء مشهور ، كيف وقد نزل القرآن في مدحهم ومدح المؤمنين بهم ، وذمّ أعدائهم ومنكريهم.

ولنعم ما قيل : إنّهم قوم باشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره

__________________

(١) البقرة : ٢٧ ، الرعد : ٢٥.

١٤٠