بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

في الحقّ ، وبذل الكلّيّة في الله.

الثاني : التذكّر للطائف صنع الله ، ومحاسن خلقه ، وهو عبارة عن العلم بحقائق الأشياء وخواصّها وأوصافها ، وذلك يهذّب الأخلاق ، ويسدّد الأعمال ، ويقوّي العبد على طاعة الله ، ويهديه إلى حقائق حكمة الله ، ويرشده إلى لطائف تجلّيات نور الله.

وذلك العلم لا يحصل إلّا بالنظر فيما يتوقّف عليه وجوده من الأسباب ، وأنّ الله أوجده عن عدم ، وخلقه ولم يك شيئا ، وصوّره في أحسن الصور ، وجعل له سمعا يسمع به كلمات الله ، وبصرا يرى به آيات قدرة الله ، ويشاهد به أنوار وجه الله ، وجوارح بها يقدر على أداء طاعة الله ، وربّاه بأحاسن التربية ، وأنعم عليه نعما ظاهرة وباطنة ، فيفتح عليه أبواب لطائف الصنعة في خلقه ، ويرى عجائب الحكم في تركيب خلقته من العظام والعروق ، وغير ذلك ؛ على ما وقف عليه أصحاب التشريح ، فيجد فيها إشارات لطيفة تدعوه إلى وجوب شكر المنعم وطاعته ؛ على وفق ما أمر به ، وإجابة داعيه ، والإقامة بحقّ عبوديّته مخلصا له الدين ، فإذا فاز العبد بذلك المقام جعل الله في قلبه نور الفرق بين الحقّ والباطل ؛ كما قال : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١).

الثالث : التذكّر لمعاني الأعمال والأحوال ، وهو يرشد العبد إلى أنّها منن من الله ، فإنّ الدواعي الباعثة عليها ، واختيارها على الوجه الّذي ينبغي ؛ إمّا من عند الله ، أو من عنده ، فإن كان الأوّل ثبت المطلوب ، وإن كان الثاني فحصول الداعية والاختيار ؛ إمّا باختياره ، أو باختيار الحقّ ، فإمّا أن يتسلسل ، أو ينتهي

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

٣٠١

إلى اختيار الحقّ ، والتسلسل باطل ، فثبت أن يكون باختيار الحقّ.

وبعض العارفين لقد جعل تلك الأنواع للتفكّر ، وفرّق بينه وبين التذكّر بأنّ التفكّر لا يكون إلّا بعد فقدان المطلق ، لاحتجاب القلب بصفات النفس ، فيلتمس البصيرة مطلوبة.

وأمّا التذكّر ، فهو عند رفع الحجاب ، وخلوص خلاصة الإنسانيّة عن قشور صفات النفس ، والرجوع إلى الفطرة الأولى ، فيتذكّر ما انطبع فيها في الأزل من التوحيد والمعارف بعد النسيان بسبب التلبّس بغواشي تلك النشأة ؛ كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (١).

وقال : وأبنية التذكّر ثلاثة أشياء :

الأوّل : الانتفاع بالعظة ، وهو أن يأمر النفس بسماع الوعد والوعيد ، فينفعل من الوعد بالرجاء الباعث على الاجتهاد في العمل لتحصيل المرجوّ ، ومن الوعيد بالخوف الباعث على التقوى.

الثاني : الاستبصار ، أي طلب التبصّر بنور البصيرة ، والسعي في طلب النجاة والسعادة والكمال.

الثالث : الظفر بثمرة الفكرة ، وهو على نوعين :

أحدهما : العمل بمقتضى العلم الحاصل بالفكر الصائب في الأعمال ، والإخلاص ، فإنّه يوجب العمل الصالح ، ومن عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم.

والثاني : حصول المعارف والحقائق الكامنة في الاستعداد الفكريّ ، فإنّ

__________________

(١) طه : ١١٥.

٣٠٢

الفكر معدّ لقبول المعنى الفائض بحسب الاستعداد ... إلى آخره.

وإنّي أنا لا أرى فرقا بينهما بوجه ، ولذلك نوّعنا التذكّر على ما نوّعوا به التفكّر ، فعليك بالتدبّر ، لتكون من الفائزين بلذّة معرفة الله.

السادسة : لا بأس بتفسير السبيل بمبادئ السلوك الّتي يبتني عليها قطع الأودية بنور القوّة القدسيّة ، وهي عشرة تسمّى عند الصوفيّة بالأصول.

الأوّل : القصد ، وهو إجماع الهمّ على الحركة نحو المطلوب.

الثاني : العزم ، وهو أوّل الشروع في الحركة ومبدؤه ، وهو أعلى من القصد.

الثالث : الإرادة ، وهي الإجابة لدواعي الحقيقة طوعا بحكم الفطرة ؛ كما قال : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (١) وذلك لا يكون إلّا بجاذب نور الكشف ، وقبول صفاء الفطرة.

والمراد بالدواعي ما يسنح في سرّ العبد من الخواطر الحقّانيّة الباعثة على الطلب ، الجاذبة إلى الحقّ.

الرابع : الأدب ، وهو رعاية الحدود المحدودة في الشريعة مع الحقّ والخلق من غير الزيادة ، فيقع في الغلوّ ، ولا النقصان فيقع في الجفاء.

أمّا الغلوّ ؛ فكما فعلت النصارى في إكرامهم السيّد المسيح عليه السلام ، فإنّهم أفرطوا في إكرامه ؛ حتّى كفروا ، وكما فعلت النصيريّة في إطراء عليّ عليه السلام ، ويدخل فيه الإسرافات المذمومة في الوضوء والغسل والنيّة وسائر الأمور الشرعيّة.

__________________

(١) الأحقاف : ٣١.

٣٠٣

وأمّا الجفاء ، فكما يفعل بعض الناس حيث يتركون الفرائض ، ويهملون الآداب ، ويتركون حقوق الناس ، ويدعون هجوم الانبساط ، فيفشون الأسرار المخفيّة الّتي أمروا بكتمانها ، لعنهم الله لعنا وبيلا.

فمن الأدب : المواظبة التامّة على العبادات الشرعيّة من الصلاة والصيام وغيرهما ؛ ممّا أكدّ فيه الأمر من الله ورسوله وأولي الأمر من آله صلّى الله عليه وآله.

وحمل الكتاب والسنّة على المفهوم من الأوّل المتبادر إلى فهم الناس من سماع اللفظ ، أي ما يفهم من اللفظ عموم الخلائق أوّلا ، فلا يرتكب التكلّف بأن يؤوّل اللفظ إلى معنى آخر من بطون القرآن ، ويتجاوز ظواهره إلى بواطنه ، بل الواجب عليه في ذلك المقام الإيمان الواقعيّ بما اشتمل عليه ظاهر القرآن ، من غير أن يدّعي عند الناس إدراكا وراء إدراك العامّة.

كيف وتلك الدعوى ربّما تستلزم عدم الإيمان بالظواهر المعمولة بحيث يزعم أنّه ليس مكلّفا بها أصلا ، بل ينكر على العاملين بها ويستهزئ بهم والله يستهزئ به.

فيا سبحان الله! كيف يرضى بذلك وجميع مراتب القرآن ظاهره وباطنه ولطائفه وإشاراته وعباراته وحقائقه معمولة كلّ في مقامه ، من غير أن يستغني الفائز بباطنه عن العمل بظاهره.

كيف وهذا قول بعض الصوفيّة الملعونة ، وتبعهم في ذلك شرذمة ملعونون في زماننا هذا ؛ حيث فسّروا جميع ألفاظ القرآن بما ارتضته أهواؤهم من التأويلات الّتي أكثرها غير منصوص من المعصوم عليه السلام ،

٣٠٤

فعملوا بالتأويل ، وتركوا الظاهر ضلالا عن السبيل.

ألا تراهم يؤوّلون إقامة الصلاة بإقامة الولاية لعليّ عليه السلام ، وهو [و] إن كان من التأويلات المقبولة ، إلّا أنّهم يدّعون عدم إرادة الظاهر أصلا ، فلا يوجبون الصلاة الظاهريّة لعنهم الله.

وكذا يؤوّلون الصيام بالإمساك عن محبّة غير الله ، والإعراض عن غير ولاية الله.

والزكاة بتزكية النفس عن الأخلاق الرذيلة.

والحجّ بالدخول في حرم قرب الله ، وقصد الاتّصال بعين جذب الله.

والوضوء بتخلية القلب وتطهيره عن دنس العيوب.

والغسل بصرف الالتفات عن غير الله.

وهكذا يؤوّلون جميع ألفاظ القرآن والسنّة ، ويدّعون أنّ المراد بها غير معناها الظاهريّ المتبادر إلى أفهام العامّة ، وعلى تأويلها جرت أعمالهم ؛ بمعنى أنّهم تركوا رعاية الأعمال الظاهريّة ، وادّعوا الفوز بالألباب ، والاستغناء عن قشور الأصحاب.

وبعضهم زعموا أنّ الظاهر من القرآن إنّما هو تكليف أهل الظاهر ، فإنّهم لا يدركون أزيد من ذلك ، فلا يكلّفون إلّا وسع أنفسهم ، وما هو في إمكانهم واستعدادهم.

وأمّا أهل الباطن ، فغير مكلّفين بالظاهر أصلا ، بل تكليفهم العمل بالباطن ، وهؤلاء لقد ضلّوا عن السبيل ، وما اقتفوا بالدليل ، أو ما رأوا الأنبياء والكمّل كيف ما تركوا المواظبة على الأعمال الظاهريّة أصلا.

٣٠٥

والقول بأنّ ذلك كان تعليما منهم للعوامّ ، يردّه عدم اطّلاعنا بإباحتهم ترك تلك الأعمال لأصحابهم الخواصّ الّذين كانوا من أهل خلوتهم وأسرارهم.

كيف ولو كان ذلك مرويّا عنهم لاطّلع عليه سلسلة أهل الحقيقة والباطن ، مع أنّ الصافين منهم لا يقولون به أصلا.

وتفصيل المقال موجب للتطويل ، وقد أشرنا إلى فساد عقائدهم في كتابنا الكبير المسمّى بقماميس الدرر وغيره.

الخامس : اليقين ، وهو العرفان بالاعتقاد على الوجه الكامل ، وقد عرفت مراتبه.

السادس : الأنس ، وهو ما يوجب الراحة بالجمعيّة ، والنجاة من التفرقة والوحشة.

السابع : الذكر ، وهو التخلّص من الغفلة. والنسيان ، وهو يحصل بنسيان النفس ، والتوجّه إلى الجهة العليا ، وهي جهة العبد مع الحقّ ، والإغماض عن الجهة السفلى الّتي هي جهته مع المهيّة الظلمانيّة.

الثامن : الفقر ، وهو أن لا يرى الملك إلّا لله ، فيقطع بأنّه لا يملك نفسه لكونه عبدا ، ولا ملك للعبد ، فهو وما ينتسب إليه كلّه لله.

ولذا قيل : من لم يخرج عن نفسه لله ، ولم يصل إلى حقيقة معنى قوله (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) (١) أي ذاتي وهويّتي له تعالى فقد ادّعى الملك ، ولم يصحّ له الفقر.

__________________

(١) آل عمران : ٢٠.

٣٠٦

التاسع : الغناء ، وهو اسم لمالكيّة الحقّ ، فإنّ الملك التامّ لله وحده ؛ كما قال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١) والعبد في ذلك المقام يقطع بأنّ الغنيّ المطلق ليس إلّا الذات البحت المجرّد عن جميع الشؤونات ، والمقدّس عن كلّ الصفات.

العاشر : مقام المرادين ، وهم الضناين الّذين ضنّ الله بهم على البلاء ؛ كما قال صلّى الله عليه وآله : إنّ لله ضناين من خلقه ألبسهم النور الساطع ، وغذّاهم في رحمته ، يضنّ بهم على البلاء.

قيل : ومعنى «ألبسهم النور الساطع» : نوّرهم بنور جماله. وذلك النور هو الّذي جاء في الخبر : إنّ الله خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ.

هذا بيان مجمل من مبادئ السلوك ، ولكلّ منها مراتب يفصّل القول فيها في غير تلك الرسالة ، فهي السبيل إلى الحقّ وقربه ، فمن سلك بغير هذه المبادئ فقد أخطأ السبل ، كيف ولكلّ مقصد مسلك يوصل السالك فيه إليه ، وبغيره لا يمكن له الوصول أبدا ؛ إذ الوصول إلى المقصود مسبوق بقطع الأودية على الوجه المحمود ، وذلك واضح.

قال الله تعالى :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

أقول : لمّا أوضح السبل لكافّة عباده بأن بيّن لهم طريق الرشد والضلالة ،

__________________

(١) غافر : ١٦.

٣٠٧

وأبان لهم درجات العلم ودركات الجهالة ، فأعطاهم الاختيار حتّى يختاروا ما يشاؤون من مسلك الأخيار والأشرار ، أشار في هذه الآية الشريفة إلى اختلاف استعدادتهم ، وتفاوت إمكاناتهم في ذلك الاختيار.

بمعنى أنّ الحقّ تعالى لقد بيّن للكلّ سبيل الهدى والعرفان ، وأفاض على الكلّ أمطار العلم والإيقان ببيان واحد ، وإفاضة واحدة ، إلّا أنّ القابلين لقد اختلفت طرقهم في أمر السعادة والشقاوة لاختلاف قبولهم ، واستعدادهم الأزليّ من غير أن يتفاوت فيض الفيّاض بالنسبة إليهم.

كيف وفيّاضيّته عامّة ، حيث لا يتصوّر بخل في فيضه أصلا ، وعدم استفاضة غير القابل المفاض عليه ، لعدم استعداده ، وإمكانه الناشئ من جهته الذاتيّة لا يوجب نقص الفيّاض وبخله ، بل نقص المحلّ لعدم قبوله :

قبول ماده شرط است در إفاضه فيض

وگر نه بخل نيايد زمبدء فيّاض

أما ترى إلى الشمس حين تطلع من المشرق تشرق كلّ الأمكنة ، وتطلع على كلّها ؛ من غير أن يقصر نورها عن البلوغ إلى جميع الجهات ، إلّا أن يكون لمكان حاجب عن الاستضاءة بنور الشمس ، فإنّه يحرم عن فيض النور لا لنقص في الشمس ، فإنّها في مقام يمكن لها إضاءة كلّ الأمكنة ، بل لنقص في ذلك المكان للحجاب المانع عن قبول النور.

فإيضاح الله تعالى سبله إنّما كان لجميع خلقه من غير أن يخصّ بعضا دون بعض ، حتّى يلزم الظلم ؛ كما قال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) ... إلى آخره.

إلّا أنّ الناس قد اختلفوا بحسب تفاوت إمكاناتهم الأزليّة ، فاهتدى بالسبيل من استعدّ للهداية ، وضلّ عنها من استعدّ للضلالة.

٣٠٨

وإنّما حصل التميّز بين الفريقين والتفريق بين الصنفين ببعث الرسل والكمّل ، فمن قصد طاعتهم حقّ القصد ، وأجابهم حقّ الإجابة ، فهو من الفرقة السعيدة ، ومن تولّى عنهم ، واتّخذ سبيلا غير سبيلهم ، فهو من الفرقة الشقيّة.

فالإجابة علامة الهداية ، وهي كاشفة عن الاستعداد الأزليّ لمراتب المعارف ، والإنكار آية الشقاوة ، وهو كاشف عن عدم القبول أوّلا ؛ كما قال : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١).

وقال : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٢). أي : لا يمكن لك هداية من ليس مستعدّا لمقام الهداية ، وإنّما تهدي من استعدّ لها في الأزل.

وبالجملة : فحاصل معنى الآية الشريفة أنّكم لا تختارون في ذلك المشهد شيئا من أمر السعادة والشقاوة ، إلّا والله تعالى يعلم ذلك في الأزل من قضيّة استعدادكم ، فمن عمله سعيدا أي مستعدّا لذلك المقام يظهر في ذلك المشهد بالسعادة ، أي إجابة الرسل ، والإقرار بمقاماتهم.

وكذلك من علمه شقيّا في الأزل يظهر بالشقاوة في ذلك المشهد ، فالمشيّة المنتسبة إلى الله بمعنى العلم الأزليّ والقضاء الإلهيّ الأوّليّ ؛ كما في

__________________

(١) القصص : ٥٠.

(٢) الروم : ٥٢ ـ ٥٣.

٣٠٩

قوله عليه السلام : «نهى الله آدم عن أكل الحنطة وشاء أن يأكله» أي : وعلم ذلك منه في الأزل «وأمر إبليس بالسجود ، وشاء أن لا يسجد» أي : وعلم الإنكار منه أزلا.

وبمعنى تلك المشيّة الإرادة فيما روى ثابت بن سعيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال عليه السلام : يا ثابت ، ما لكم والناس! كفّوا عن الناس ، لا تدعوا أحدا إلى أمركم ، فو الله لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه ، ولو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلّوا عبدا يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلّوه ، كفّوا عن الناس ... (١) إلى آخره.

بوارق

الأولى : قيل في تفسير الآية ، أي (وَما تَشاؤُنَ) اتّخاذ الطريق إلى مرضات الله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إجباركم عليه ، وإلجاءكم إليه ، فحينئذ تشاؤون ولا ينفعكم ذلك.

وهذا كما قال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢).

وقال : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ... (٣) إلى آخره.

والأولى أن يقال : إنّ في تلك الآية مخاطبة من الله إلى المتّخذين سبيلا

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٥.

(٢) السجدة : ١٣.

(٣) النحل : ٩.

٣١٠

إلى ربّهم لا إلى كافّة الناس ، أي وما تختارونه من سبيل الحقّ وتحبّونه هو الّذي يحبّه الله ويريده منكم ؛ إرادة طلبيّة ، فإنّه تعالى لا يرضى لعباده الكفر.

فالمراد بالمشيّة هنا الإرادة المحبوبيّة ضدّ الكراهة ؛ كما قال : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) ... (١) إلى آخره.

ولهذا أيضا نفسّر قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢) أي : وما تحبّونه من الاستقامة في الدين القيّم هو محبوب الحقّ تعالى الّذي أراده منكم ، ففي الآية إشارة إلى صحّة ما اعتقدته الإماميّة من أنّ الله تعالى مريد للطاعات ، ومحبّ لها ، وراض عن فاعلها ، ومكره للمعاصي ، ومبغض لها ، وهو ساخط على فاعلها.

والأشاعرة زعموا أنّه مريد لجميع الكائنات طاعة كانت أو معصية ، بل هو راض عن فاعل العصيان.

وعن بعضهم أنّه تعالى محبّ للفساد ، وراض بالكفر.

وعن بعض : أنّه مريد لما أراده الشياطين ، ومكره لما أراده الأنبياء والمرسلون.

وعن بعض : أنّه أراد ذمّ نفسه ، ومدح الشيطان.

وجوابهم بعد دلالة القرآن والأخبار نبويّة ووصويّة من العلويّة إلى العسكريّة على خلاف دعواهم والردّ عليهم : الإعراض عن المكالمة معهم ،

__________________

(١) الحجرات : ٧.

(٢) التكوير : ٢٧ ـ ٢٩.

٣١١

فإنّهم لقد خاضوا في قاموس الجهالة ، وتاهوا في فيافي الضلالة ؛ حيث نسبوا إلههم إلى ما يخجل اللسان عن تقريره ، ويمتنع القلم عن تحريره ، وإنّني أنا في مقامي هذا لبريء منهم ومن إلههم الّذي أثبتوه ، وتعالى ربّي عما يصفه الجاهلون.

ويحتمل أن يكون في الآية إشارة إلى أنّ المشيّات كلّها متلاشية في مشيّة الحقّ ، والإرادات بأسرها مستغرقة في طمطام إرادة الحقّ ، بمعنى أنّ جميع إرادات العباد إلى الله مستندة ، وجميع مشيّاتهم إلى مشيّته راجعة ، فإنّه تعالى خالق القوى والقدر ، وجاعل الأشكال والصور.

كيف وإن من شيء إلّا وهو من آثار خلقه ، وآيات إبداعه وصنعه ، فما يريد العبد شيئا إلّا وإرادته مخلوقة لله ، وما يشاء أمرا إلّا ومشيّته حادثة بأمره ، فكلّ الإرادات إلى الحقّ مستندات ، وجميع المشيّات إلى الحقّ راجعات.

بمعنى أنّه خالق الكلّ ، ومبدع الكلّ ، ومحدث الكلّ ، فلا يلزم التسلسل أصلا ، فإنّه يلزم لو قلنا بأنّ حصول الدواعي إنّما هو بأمر العبد لا الحقّ تعالى وما يتوهّم من ظاهر ذلك التقرير من لزوم الجبر والظلم سيجيء الجواب عنه فيما سنختاره في تلك المسألة.

الثانية : اختلف أهل التوحيد في المشيّة ؛ هل هي من الصفات الفعليّة الحادثة كالكلام وغيره ممّا يصحّ نفيه عنه؟ أو من الصفات الذاتيّة؟

فالمشهور الأوّل ، وهو الحقّ. وذهب الشاذّ من مخالفينا إلى الثاني لوجهين :

أحدهما : أنّه لو كانت من صفة الفعل لزم التسلسل.

وتقريره أنّ الممكنات مخلوقة بالمشيّة ، فلو كانت قديمة وإلّا

٣١٢

لاحتاجت إلى مشيّة اخرى ، وهكذا.

والجواب ظاهر ، فإنّه تعالى خلق الأشياء بالمشيّة ، والمشيّة بنفسها ، ألا ترى أنّ الأشياء تعلم بالعلم ، والعلم لا يعلم إلّا بنفسه ، وكذا الوجود يعرف بنفسه ، مع أنّ الأشياء تعرف به ، والتمثيل بالملح والدهن والسكّر وغير ذلك يدلّك على المطلق.

الثاني : أنّ المشيّة إمّا قائمة بالذات ، وإمّا بنفسها ، وإمّا بغيرهما.

وعلى الأوّل إمّا قديمة ، أو حادثة ، والأوّل هو المطلق ، والثاني موجب للمحال ، وهو وقوع القديم محلّا للحادث.

وعلى الثاني يلزم اتّحاد العارض والمعروض.

وعلى الثالث يلزم كون صفة الشيء عارضا لشيء آخر.

والجواب أوّلا : أنّ ذلك منقوض بسائر صفات الأفعال.

وثانيا بأنّ المشيئة قائمة بالذات لا بقيام العارض على المعروض ؛ كالبياض على الجسم ، بل قائمة به بالقيام الصدوريّ كالشعاع بالشمس ، فالحقّ الّذي يجب الإقرار به هو المذهب الأوّل.

ويدلّ عليه ما روي عن الرضا عليه السلام أنّه قال : المشيّة والإرادة من صفات الأفعال ، فمن زعم أنّ الله لم يزل شائيا ، فليس بموحّد (١).

وعن صفوان بن يحيى قال : قلت له عليه السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال : فقال : الإرادة من الخلق : الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله : فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا

__________________

(١) التوحيد : ٣٣٧.

٣١٣

يهمّ ولا يتفكّر ، فهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر (١).

وعن سليمان قال : قلت له عليه السلام : أسألك؟ قال عليه السلام : سل عمّا بدا لك ، قال : قلت : ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة مثل حيّ وسميع وبصير وقدير؟ قال عليه السلام : إنّما قلتم حدثت الأشياء واختلفت ، لأنّه شاء وأراد ، ولم تقولوا حدثت الأشياء واختلفت ، لأنّه سميع بصير ، فهذا دليل على أنّها ليست مثل سميع ولا بصير ولا قدير.

قال : قلت : فإنّه لم يزل مريدا؟ قال عليه السلام : فإرادته غيره؟ قال : نعم ، قال عليه السلام : قد أثبتّ معه شيئا غيره لم يزل ، قال : ما أثبتّ؟ قال عليه السلام : أهي محدثة.

إلى أن قال عليه السلام : هي محدثة ، يا سليمان ، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزليّا كان محدثا ، وإذا لم يكن محدثا كان أزليّا (٢).

وقال الصادق عليه السلام : إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه لم يزل الله عالما قادرا ثمّ أراد (٣).

وقال عليه السلام : خلق الله الأشياء بالمشيّة ، وخلق المشيّة بنفسها (٤).

وتعليق الخلق على الشيء صريح في حدوثه كما لا يخفى ، والأخبار

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠٩.

(٢) التوحيد : ٤٤٤.

(٣) الكافي ١ : ١٠٩.

(٤) التوحيد : ٣٣٩.

٣١٤

على صدق دعوانا متواترة ، وقاعدة صحّة النفي الفارقة بين الصفات الفعليّة والذاتيّة تدلّك على ما اخترناه ، وهنا تفاصيل تطلب من الكتب المفصّلة.

الثالثة : قيل : في الآية دلالة على بطلان القول بالتفويض ، أي تفويض الله جميع امور عباده إلى أنفسهم أو إلى المعصومين من محمّد صلّى الله عليه وآله وعترته عليهم السلام.

ويؤيّده ما روي من أنّ القائم عليه السلام سئل عن المفوّضة ، فقال : كذبوا ، بل قلوبنا أوعية لمشيّة الله ، فإذا شاء شئنا ، ثمّ تلا هذه الآية (١).

وتفصيل القول في تلك المسألة يطلب من محلّ آخر.

الرابعة : قد استدلّ جماعة من المجبّرة بتلك الآية على صدق دعواهم ، وقد عرفت ما فسّرناها به ، وهو يبطل الاستدلال قطعا ، وحيث انتهى القول إلى ذلك المقام فلا بأس بإشارة إجماليّة إلى مسألة الجبر والتفويض ، وذكر الأقوال فيها.

بيان لمسألة الجبر والتفويض

فنقول : قد اختلف في أفعال العباد على أقوال :

الأوّل ـ وهو مذهب الإماميّة كافّة ـ أنّ أفعالهم إنّما هي باختيارهم وإرادتهم وقدرتهم بإعانة الحقّ إن كانت طاعة ، وبخذلانه إن كانت معصية.

وهذا هو الأمر بين الأمرين الّذي أشير إليه في بعض الأخبار.

ويدلّ عليه ما في العيون من أنّه سئل من الرضا عليه السلام : هل لله مشيّة وإرادة في ذلك ، أي في الفعل؟ فقال : فأمّا الطاعات ، فإرادة الله ، ومشيّته فيها

__________________

(١) انظر : الغيبة ، للطوسيّ : ٢٤٦.

٣١٥

الأمر بها ، والرضا لها ، والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيّته في المعاصي النهي عنها ، والسخط لها ، والخذلان عليها.

وفي الكافي : لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين. فقلت : ما أمر بين أمرين؟ قال : مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الّذي أمرته بالمعصية (١).

وعن أبي جعفر عليه السلام قال : مكتوب في التوراة : يا موسى ، إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك ، وأمرتك بطاعتي ، ونهيتك عن معصيتي ، فإن أطعتني أعنتك ، وإن عصيتني لم أعنك على معصيتي ، ولي المنّة عليك في طاعتك ، ولي الحجّة عليك في معصيتك لي (٢).

فليس العباد مجبورين على أعمالهم كما زعمه من ستعرفه ، والأدلّة على ذلك كثيرة لا تحصى ، منها : الآيات القرآنيّة ، وهي أكثر من أن تحصى.

ومنها : الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة عن العترة عليهم السلام ، قال الرضا عليه السلام : من زعم أنّ الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذّبنا عليها فقد قال بالجبر.

إلى أن قال : القائل بالجبر كافر (٣).

وقال عليه السلام : من زعم أنّ الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلّفهم

__________________

(١) انظر : عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٢٤.

(٢) الأمالي ، للصدوق : ٣٠٨ ، روضة الواعظين ٢ : ٤٢١.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ١٢٤.

٣١٦

ما لا يطيقون ، فلا تأكلوا ذبيحته ، ولا تقبلوا شهادته ، ولا تصلّوا وراءه ، ولا تعطوه من الزكاة شيئا (١).

وفي التوحيد : خرج أبو حنيفة ذات يوم من عند الصادق عليه السلام فاستقبل موسى بن جعفر عليه السلام ، فقال له : يا غلام ، ممّن المعصية؟

قال : يا شيخ ، إمّا أن يكون من الله وليس من العبد شيء ، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.

وإمّا أن يكون من العبد ومن الله والله أقوى الشريكين ، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الأصغر بذنبه.

وإمّا أن يكون من العبد وليس من الله شيء ، فإن شاء عفى ، وإن شاء عاقب ... (٢) إلى آخره.

ومنها : اقتضاء الضرورة بالفرق بين الحركات الاختياريّة والاضطراريّة ، لأنّا نجد الفرق بين صدور الفعل منّا قصدا وصدوره كرها لوجود القدرة على الترك في الأوّل دون الثاني ، فلو كنّا مجبورين على الصلاة مثلا لما كان لنا القدرة على تركها ، وهو باطل بالضرورة.

ومنها : لزوم كونه تعالى ظالما ، لشهادة كلّ عاقل بظلم من صنع صنعا قبيحا ، ثمّ يعاقب به غيره.

أقول : ويمكن المناقشة في جميع ما ذكروه ، إلّا أنّ التعرّض لها يوجب التطويل ، وعسى أن يشار إليها في مطاوي ما سنذكره.

__________________

(١) كشف الغمّة ٢ : ٢٨٥.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٣٨٧.

٣١٧

وفي حياة النفس لبعض المتأخّرين : فمن قال بأنّ الفاعل للفعل الصادر من العبد هو الله من خير وشرّ وليس للعبد في شيء من أفعاله مدخل ولا سبب ، بل هو فاعل لفعل العبد ، فكما هو خالقه كذلك هو خالق فعله ، فقد نسب إليه الظلم ؛ حيث يلزمه أنّه تعالى أجبرهم على المعاصي ، ومع ذلك يعاقبهم عليها ، ويعذّبهم بها.

ومن قال بأنّ العبد هو فاعل فعله من غير مدخل لغيره في شيء ، بل هو مستقلّ في فعله لا مانع له منه ، وإلّا لما استحقّ الثواب والعقاب ، فقد عزل الله عن ملكه ، وأخرجه عن سلطانه.

والفريقان خارجان عن طريق الحقّ والصراط المستقيم ، والحقّ الحكم بالأوسط ؛ كما قال جعفر بن محمّد عليه السلام : لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين. يعني : لا جبر بأن يقال إنّ الله قد أجبرهم على المعاصي ، ولا تفويض بأن يقال فوّض الأمر إلى العباد ، بل أمر بين أمرين ، أي : العبد فاعل لفعله على جهة الاختيار من غير إكراه ولا إجبار ، ولكن بتقدير الله الساري في فعل العبد. انتهى.

أقول : ما ذكره من أنّ كلّ ذلك بتقدير الله الساري قريب ممّا نختاره عند التحقيق ، فليتأمّل.

الثاني : وهو مذهب أبي الحسن الأشعريّ وجهم بن صفوان أنّ الأفعال كلّها مستندة إلى الله ، واقعة بقدرته وحدها.

يعني أنّه ليس للعبد قدرة أصلا ، فهو مجبور في فعله ، مقسور في عمله ، واستدلّوا بوجوه :

٣١٨

منها : أنّه تعالى هو خالق كلّ شيء فإليه يستند كلّ شيء ، لأنّه مبدأ كلّ شيء.

وفيه أنّ كونه مبدأ لجميع المعلولات ، ومنشأ لكلّ المخلوقات ، لا يستلزم عدم القدرة للعبد. كيف وهو الخالق لها في العبد ، والجاعل للتمكّن فيه ؛ كما قال : أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ؛ عملت المعاصي بقوّتي الّتي جعلت فيك (١). فليتأمل.

ومنها : أنّ ما علم الله وقوعه واجب لا يمكن عدمه ، وإلّا يلزم الانقلاب في علمه ، وكذا ما علم عدم وقوعه ممتنع لا يمكن وقوعه ، والعبد غير قادر على الواجب والممتنع ، فلزم الجبر ، وهو المطلوب.

وأجيب عنه بأنّ العلم تابع لوقوع المعلوم ولا حق له ، واللاحق لا يؤثّر في السابق ، فليتأمّل (٢).

ومنها : أنّ العبد إمّا أن يفعل بالجبر ، أو بالاختيار ، فإن كان الأوّل يلزم المطلوب ، وإن كان الثاني ، فإمّا أن يتمكّن من الترك أو لا ، فعلى الثاني يلزم المطلوب ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون في الفعل رجحان أو لا ، فعلى الثاني يلزم ترجيح أحد طرفي الممكن ، وعلى الأول إمّا أن يمتنع من النقيض أو لا ، فعلى الثاني يلزم حصول المرجوح ، وعلى الأوّل يلزم المطلوب.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥٧.

(٢) يوجد في هامش هذه الصفحة تعليقة لبعض أصدقاء المؤلّف ، وهذا نصّه : أقول : وفي هذا الجواب نظر ، إذ قد تحقّق في محلّه أنّ علمه تعالى فعليّ منشأ لإيجاد المعلوم ، وسابقا عليه ، وما ذكره الحبيب إنّما يجري في علومنا المكتسبة من المعلومات العينيّة ، ولعلّ قول الفاضل المؤلّف ـ فليتأمّل ـ إشارة إلى ما ذكرنا ، فلا تغفل. لمحرّره محمّد حسين الأراكيّ.

٣١٩

وأجيب : أوّلا بأنّا نختار عدم الرجحان في الفعل ، والقول بلزوم المرجوح ممنوع ، لوجود المرجّح وهو القادر ؛ كما أنّ الجائع إذا حضره أرغفة كثيرة فله أن يأكل من أيّها شاء من غير مرجّح سوى إرادته.

وثانيا بالنقص في حقّه تعالى ، فإنّه إمّا أن يفعل بالجبر أو لا ، فعلى الأوّل يلزم كونه موجبا ، وقد ثبت أنّه مختار ، وعلى الثاني يلزم ما ذكرتم في حقّه أيضا ، فما كان جوابكم فهو جوابنا. ولهم أدلّة اخرى ، وهي مع جوابها مذكورة في الإرشاد والنهج والاستقصاء من كتب العلّامة رحمه الله وغيرها.

والمعتزلة لقد أنكروا عليهم بضرورة الفرق بين حركة المرتعش وحركة المختار.

وأجيب عنه في الرسالة المكتوبة لسعيد الدين محمّد الاستراباديّ بأنّ الأشعريّ لمّا تقرّر عنده أن لا مؤثّر في الوجود إلّا الله ، وأنّ ما عداه أسباب عاديّة ، والممكنات مستندة إليه من غير واسطة ، لزم على أصوله أن يكون خالق تلك الأفعال هو الله تعالى.

غاية الأمر أن تكون قدرة العبد وإرادته سببا عاديّا على نحو سائر الأسباب العاديّة ، فلا يلزم الشناعة الّتي يوردها المعتزلة عليه من أنّه يلزم أن لا يكون بين حركة المرتعش وحركة المختار فرق ، وربّما يدّعون البداهة في بطلان مذهبه ، حتّى نقل عن أبي هذيل العلّاف أنّه قال : حمار بشر أعقل من بشر ، فإنّ حماره يفرّق بين ما يقدر عليه وبين ما لا يقدر عليه ؛ من حيث إنّه إذا وصل إلى نهر صغير يمكنه العبور عنه يطأه ، وإن وصل إلى ما لا يقدر عليه العبور عليه لا يخوض فيه وإن أوجع بالضرب.

٣٢٠