بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

لتفسير الحديث وجوه أخرى تطول بذكرها الرسالة ، وقد ذكرنا بعضها في «أسرار العارفين» ولا يخفى أنّ بعضها ممّا يأباه ظاهر الحديث ، إلّا أنّا ذكرناه للإشارة الإجماليّة إلى بعض المذاهب الشاذّة.

قال الله عمّت رحمته : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

أقول : لقد أشار تعالى إلى كمال عدله ولطفه بالإنسان حيث هيّأ له الأسباب الّتي توصله إلى مقام فعليّة ما استعدّت مهيّة له في أزل الآزال ، وهو الترقّي بحسب حاله ، والكمال بما يليق بكينونيّته ، فإنّ ذلك هو الغرض المقصود في خلق الإنسان كما مرّ له البيان.

وقد عرفت أنّه تعالى ما خلقه ليستكمل شيئا من هويّته ، كيف وقد كان غنيّا عن كلّ شيء قبل خلق كلّ شيء ، مثل غنائه عن كلّ شيء بعد خلق كلّ شيء ، فما غيّر ذاته الغنيّة شيء ، بل هو الآن غنيّ عن كلّ شيء ، كما كان قبل ما كان لما كان ، فما دعاه إلى خلق شيء حاجته إلى وجود ذلك الشيء في جلب منفعة أو دفع مضرّة حتى يقضي بذلك حاجته ، ويستكمل به كينونيّته ، بل قضى بذلك ذاته من حيث هو لفيّاضيّته ورحمته ، إذ لا يتصوّر البخل في مبدأ الفيّاض المطلق ، فأفاض الوجود على الماهيّات ليستكملن ويفزن بلذّات الوجود ، ويطربن في روض رياض الشهود.

من نكردم خلق تا سودى كنم

بلكه تا بر بندگان جودى كنم

ولا يخفى أنّ من تلك الأسباب بل من أجلّها العقل اللامع الملكوتيّ المجرّد عن شوائب الهوى النفسانيّ ، قد منّ الله على ذلك النوع به ، وفضّله به على سائر أنواع الخلق ، وهو الجوهر البسيط الصافي الّذي يهدي الله به

٦١

الإنسان إلى معرفة حقائق الأشياء وتميّز الحقّ عن الباطل ، والطيّب عن الخبيث ، والجنّة عن الجحيم ، والكامل عن الناقص ، وغير ذلك.

وهو أفضل ما خلقه الله من الروحانيّات الساذجة ، وهو الرسول الباطنيّ من الله على خلقه ، كما يدلّ عليه بعض الأخبار المرويّة عن آل الله.

وبذلك لقد فسّر قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) أي لا نعذّب أحدا بأعماله إلّا بعد أن نعطيه العقل المميّز بين الأمور ؛ الّذي يعرف به الحسن عن القبيح ، والواجب عن المباح والمحظور ، فهو منشأ الأمر والنهي ، وعلّة التكليف ، وبه يثاب ويعاقب.

كما روي في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال : لمّا خلق الله العقل استنطقه ، ثمّ قال له أقبل؟ فأقبل ، ثمّ قال له أدبر؟ فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ، ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا فيمن احبّ ، أما إنّي إيّاك آمر ، وإيّاك أنهى ، وإيّاك أعاقب ، وإيّاك أثيب (٢).

وفيه عن موسى بن جعفر عليه السلام قال : إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول (٣).

وهذا معنى ما قيل : إنّ العقل هو الوصف الّذي يفارق به الإنسان سائر البهائم ، وهو المستعدّ لقبول العلوم النظريّة ، وتدبير الصناعات الفكريّة ... إلى آخره.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) الكافي ١ : ١٠.

(٣) الكافي ١ : ١٦.

٦٢

فحاصل التفسير : إنّا أوضحنا للإنسان الطريق الصواب بمصباح العقل الصافي ، فإنّ كدّره بشوائب الأغراض النفسانيّة فقد كفر ، وإلّا فهو من الشاكرين الواصلين إلى ما هو الغرض الأصليّ المقصود لإبراز صفة الخلّاقيّة.

ومن تلك الأسباب : الأنبياء الصادقون الّذين دعو الخلق إلى الحقّ بالمعجزات الباهرات ، والآيات البيّنات ؛ لما فيهم من القوّة القدسيّة الملكوتيّة الّتي لا تصل إليها أيدي غيرهم من مراتب الخلق ، فإنّهم لقربهم من الحقّ في عالم الأزل استضاؤا من نور شمس الحقيقة أكثر ممّا استضاء منه من عداهم ، فلذا فازوا بمقام النبوّة والرسالة في ذلك العالم ، وما كان ذلك إلّا لأجل ما استعدّت له ماهيّاتهم في القديم ، فلا لأحد أن يقول لم ما جعلني الله نبيّا أو رسولا ، فإنّ الله ما جعل ذلك إلّا بعد ما كان لهم من المقام في الأوّل ، فتخصيص المقام بهؤلاء في عالم الشهود له مرجّح قطعا ، وهو الاستعداد الأزليّ في الغيب الأوّل ، وليس ذلك الاستعداد لكلّ أحد حتّى يدّعي ذلك المقام ، بل خاصّ بهؤلاء قطعا.

صد هزاران طفل سر ببريده شد

تا كليم الله صاحب ديده شد

فما اشتهر من بعض جهلة الصوفيّة من أنّ إنّه يمكن لكلّ أحد أن يفوز بمقام النبوّة والولاية بالرياضات والعبادات ؛ كما يقال :

از رياضت هركسى كامل شود

وز عبادت مرد حق واصل شود

ناش عن الجهالة والغرور ، كيف فلو عبد الله عبد بين الركن والمقام إلى ألف ألف عام ، وزكت نفسه ، وصفت عن جميع شؤونات الهوى ليس له

٦٣

الفوز بمعرفة ذلك المقام ، فضلا عن وصوله إليه.

خليليّ قطّاع الفيافي إلى الحمى

كثير وأمّا الواصلون قليل

وبالجملة : لا ريب في أنّ هؤلاء الصافين الفائزين بحقائق الأمور أسباب جليلة لإكمال النفس وهدايتها إلى مقام قرب الحقّ ، كيف وهم الأطبّاء المعالجون لأرواح الخلق بحسب ما يرونه ويعرفونه بمعارفهم الواقعيّة ، فيعالجون كلّا بحسب حاله ؛ إذ الناس نفوسهم مريضة ، وعقولهم بشوائب الجهل مغشوشة ؛ كما قلت :

خلق جمله گمرهانند وعليل

أنبياء حق طبيبند ودليل

أوليا جمله دليل اين رهند

مردمان بى اوليا بس گمرهند

كيف وجميع الامّة أطفال غير مميّزين لما شاب عقولهم من الهوى النفسانيّ ، فليس لهم بعد ذلك أن يميّزوا الخير من الشرّ ، والطيّب من الخبيث ، وهؤلاء الأنبياء عليهم السلام بمنزلة الآباء ، لأنّهم يعرفون كلّ ذلك ، فلهم أن يربّون الامّة ، ويصلحون ما أفسدوا ، ويزجرون عمّا به هلكوا ، ويأمرونهم بما فيه خيرهم ؛ كما قال صلّى الله عليه وآله : أنا وعليّ أبوا هذه الامّة (١). أي نربّي جميع أصناف الخلق بما نراه ونعرفه.

خلق اطفالند جز مست خدا

نيست بالغ جز رهيده از هوا

والحاصل : إنّهم عليهم السلام يهدون الخلق إلى مقام السعادة كلّا بحسب استعداد هويّته ، فللكلّ أن يسعدوا إن أجابوهم في دعوتهم إلى الحقّ ، لما مرّ من أنّ الناس كلّهم مستعدّون لكلمة التوحيد ، ومقام الإيمان

__________________

(١) انظر : تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : ٣٣٠ ، علل الشرائع ١ : ١٢٧.

٦٤

والتجريد في الجملة ، إلّا أنّ بعضهم لإصرارهم في الإنكار والاستكبار لقد ضيّعوا ما كان فيهم من الاستعداد للرشاد ، فتمّت حجّة الله عليهم في المعاد. وقد دلّت على ذلك أخبار كثيرة لا يبقى معها الريب لمن نال السداد ، وهنا مذاهب اخرى لا تخلو عن الفساد.

منها : ما اختاره القيصريّ في «شرح الفصوص» وتبعه في ذلك جمع من الصوفيّة وهو : إنّ الله تعالى بعث الأنبياء على جميع الناس لهدايتهم إلى الكمال المقرّر لهم في الحضرة العلميّة باقتضاء استعداداتهم القديمة ، سواء كان ذلك الكمال إيمانا أو كفرا ، فأكمل الأنبياء سعادة المؤمنين ، وشقاوة الكافرين ، وأبرزوا هاتين الصفتين بالدعوة ، فمن أجابهم فيها برزت سعادته وكملت ، ومن أنكرهم برزت شقاوته وكملت ؛ كما قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً) ... (١) إلى آخره.

ومنها : ما سمعته من بعض العارفين من أنّ الأنبياء إنّما بعثوا على المعتدين المفسدين في بلاد الله ، والعاتين على عباد الله ، ليرشدوهم إلى الهدى وطريق الحقّ ؛ كي لا يفسدوا في الأرض بدعوى باطلة وغيرها من التسويلات الشيطانيّة ، فأمروهم بالعبادات والطاعات لتحسم مادّة فسادهم بانقيادهم ، وما كانوا مبعوثين على الفقراء الخاضعين المطيعين الّذين لم يريدوا في الأرض علوّا ولا فسادا ، فإنّ البعث لا ينفعهم ؛ إذ الغرض منه ما كان إلّا رفع الفساد ، ولا فساد فيهم حتّى يصلحه.

__________________

(١) التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٦٥

ألا ترى أنّ السلطان لا يبعث الحاكم إلى بلاده إلّا لرفع الفساد ، ودفع عتوّ العاتين ، ولا يخفى أنّ ذلك المذهب في غاية السخافة ، والجواب عنه واضح على من تدبّر.

ومنها : إنّهم بعثوا لهداية المؤمنين خاصّة ، فإنّ الكفّار قد سبق في علمه تعالى أنّهم لا يؤمنون ، فكان الغرض الأصليّ من البعث هو دعوة المؤمنين إلى طرق الهداية ، وفي ذلك المذهب أيضا ما لا يخفى.

ومنها : إنّه كما يكون بين أسماء الحقّ تضادّ وتقابل كذلك يكون ذلك بين مظاهر الأسماء ؛ إذا للأسماء الإلهيّة قضيّة الظهور في مظاهر الأكوان والبروز في مجالي الأعيان ، فكما أنّ الأسماء الجماليّة تقتضي البروز والاشتهار ، كذلك الأسماء الجلاليّة تقتضي الظهور والإظهار ، وكما أنّ اسم الهادي يتحلّى في مجالي المؤمنين والأبرار ، كذلك المضلّ يظهر في مظاهر المشركين والكفّار ، كذا قيل.

فيجب أن يكون بين المظاهر المختلفة حاكم عدل يميّز بينها ، ويفصل حقّها عن باطلها ، ويظهر حقائقها ليطّلع العارفون على حقائق كلّ شيء ، وعلى الأسماء المربّية لكلّ شيء ، فإنّ لكلّ اسم مظهر في ذلك العالم يربّيه بتأثيره الكامن فيه ؛ وهو الأنبياء الّذين كنفس واحدة ؛ كما عرفت ، فالغرض من بعثتهم هو إبراز السعادة والشقاوة خاصّة.

بوارق

الأولى : المراد بالهداية في تلك الآية هو إراءة الطريق بقرينة التفصيل ، وتطلق على الإيصال أيضا ، وهو غير مراد من الآية قطعا ؛ إذ لا وجه للتفصيل

٦٦

بقوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) لأنّ الفائز بالغرض من الهداية بحقيقة الفوز لا يختار الضلالة أصلا ، كيف وهل يختار العاقل الجحيم على النعيم الدائم ، والظلمة على النور ، والمحنة على السرور؟

فارتداد القوم عن الإيمان بعد تلبّسهم به دليل واضح يكشف عن عدم إيمانهم أوّلا ، وعدم التذاذهم بلذّات الإجابة ، فهم لقد كانوا كافرين في أوّل المرتبة غير مؤمنين في حين ، فإنّهم لو كانوا بحيث استشمّوا من الإيمان ومقام العرفان رائحة ، أو سمعوا لمفردات الحقّ رنّة لما رجعوا ، فإنّ الملتذّ من الشيء لا يكفّ عنه اختيارا ، والخارج عن الظلمات لا يرجع إليها ، فهؤلاء محرومون عن لذّة الإيمان ومحجوبون عن نور العرفان.

وقال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (١).

الثانية : في نسبة الهداية إلى ذاته تعالى إشعار بأنّ الشيء ينسب إلى المبدأ الأعلى ، فإنّه هو العلّة التامّة الجاعلة لجميع العلل ، فكلّ العلل أسباب مجعولة وآلات مقرّبة مستندة إلى العلّة الأولى ، فإنّه لو لم تكن العلّة الأولى لما تحقّقت تلك العلل ، كيف وعلّيّتها إنّما هي بعلّيّة الأولى ، فإليها ينبغي أن تستند الأمور الحاصلة من العلل المتوسّطة وإن كان الاستناد إليها جائزا أيضا.

قال المحقّق الطوسيّ في «شرح الإشارات» : قد شنّع عليهم أبو البركات البغداديّ بأنّهم نسبوا المعلولات الّتي في المراتب الأخيرة إلى المتوسّطة ، والمتوسّطة إلى العالية ، والواجب أن ينسب الكلّ إلى المبدأ الأوّل ، ويجعل

__________________

(١) النساء : ١٣٧.

٦٧

المراتب شروطا معدّة لإفاضته تعالى ، وهذه مؤاخذة تشبه المؤاخذات اللفظيّة ، فإنّ الكلّ متّفقون على صدور الكلّ منه تعالى ، وأنّ الوجود معلول له على الإطلاق ، فإن تساهلوا في تعاليمهم لم يكن منافيا لما أسّسوه وبنوا مسائلهم عليه ... إلى آخره.

وقال فخر الدين الرازيّ في «المباحث المشرقيّة» : الحقّ عندي أنّه لا مانع من إسناد كلّ الممكنات إلى الله ، لكنّها على قسمين :

منها : ما إمكانه اللازم لمهيّة كاف في صدوره عن الباري تعالى ، فلا جرم يكون وجوده فائضا عن الباري من غير شرط.

ومنها : ما لا يكفي إمكانه ، بل لا بدّ من حدوث امور قبل حدوثه ، لتكون الأمور السابقة مقرّبة للعلّة الفيّاضة إلى الأمور اللاحقة ... إلى آخره.

والحاصل : أنّ الهداية مستندة إلى الله تعالى ، فالمتصدّون لأمرها من الأنبياء وغيرهم أسباب جعلها الله واسطة لإفاضة الفيض إلى الخلق ، فلا يهدونهم إلّا بقدرة الله ، ولا فعل لهم في ذلك ، فلو نسبت إليهم فالنسبة مجازيّة ؛ من قبيل نسبة المعلول إلى العلل المتوسّطة ، وكذلك أمر الإضلال ، فإنّه تعالى يضلّ الخلق بأسباب جعلها ؛ كما قال (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (١) وما أورد على ذلك من لزوم الجبر والظلم غير وارد ، والجواب عنه يعرف من مطاوي ما أسلفناه ، فلا حاجة إلى التفصيل.

الثالثة : قد عرفت أنّ في النسبة المذكورة إشعارا بأنّ الاهتداء بالأنبياء هو الاهتداء بالحقّ تعالى.

__________________

(١) الرعد : ٢٧ ، النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨.

٦٨

وفيها : أيضا إشعار بأنّه بعد الوصول إلى المطلوب لا ينبغي الإعراض عن الدليل ، فإنّ الإعراض عن الأنبياء هو الإعراض عن الحقّ ، كما تدلّ عليه الآيات القرآنيّة ، بل الدليل في المقام نفس المدلول ، فإنّ الغرض الأصليّ من الهداية هو المعرفة بحقّ مظاهر الحقّ لا بالحق ، فإنّه لا سبيل إليها أصلا كما عرفت.

ففي النسبة إشعار بأنّ الطاعة لهم هي طاعة الحقّ ؛ كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) فمعصيتهم هي معصيته ، فهم الملحوظون في غرض الهداية ، فكيف يعرض عنهم بعد الفوز بمقام الهدى؟.

وتوضيح المقال أنّ الواسطة الموصلة على وجهين :

الأوّل : أن لا تكون في نفسها ملحوظة مقصودة ، بل الاشتغال بها إنّما يكون لأجل الوصول إلى غيرها المقصود ، والدلالة إليه بحيث لا حاجة إليها تبقى بعد الوصول إلى المطلوب المدلول كالدلالة ، فإنّ لك حاجة إليها قبل الوصول إلى العروس ، وبعده تختار الفرار عنها لعدم الحاجة إليها حينئذ ، وفقدان الفائدة فيها ، بل ربّما تكون حاجبة ، وكالمصباح الّذي تستضيء به في الظلمة إلى حين زوالها ، فإنّه إذا زالت الظلمة وأضاءت الأمكنة بنور الشمس لا يبقى لك حاجة إليه أصلا ، فإنّك حينئذ تستضيء بنور الشمس ، وتستغني به عن المصباح ، ويقال لك : أطفئ المصباح فقد طلع الصباح.

وقد عدّ بعض العارفين من ذلك القبيل العلم الرسميّ وكتبه ، فإنّها دالّة إلى العلم الحقيقيّ ، وبعد الفوز به لا ينبغي الاشتغال بغيره ، وقد حكي أنّ عارفا بعد ما حصّل العلم ثلاثين سنة ألقى جميع كتبه في البحر وقال : نعم

٦٩

الدليل كنت! ولكنّ الاشتغال بالدليل بعد الوصول إلى المدلول محال.

وبعضهم العقل المعتاد الجزئيّ ، فإنّه بعد الفوز بالعقل الكلّ يستغنى عن ذلك العقل ، ولا ينبغي العمل بقضيّته.

ولا يخفى أنّ المقدّمات الموصلة وإن لم تكن في أنفسها مقصودة ، إلّا أنّه لا ينبغي الاستخفاف بها واستحقارها بعد الوصول إلى ما هو الغرض منها ، كيف وهي الأسباب الّتي لولاها لما كنت واصلا إلى المطلوب أبدا ، فيجب عليك شكرها والثناء عليها من تلك الجهة. ولنعم ما قيل :

هزار بوسه زنم هر زمان به پاى خودم

براى آنكه رسانيد او به كوى توأم

الثاني : أن تكون في نفسها ملحوظة أيضا بمعنى أنّها تكون مقصودة مع ما يترتّب عليها ، فبعد الوصول إلى الغرض الثاني لا يعرض عنها ، فإنّها الغرض الأوّل أيضا.

ألا ترى أنّه قد يشرب العسل للشفاء واللذّة ، وتحقّق الشفاء به لا يحملك على الإعراض عن شربه بعد ذلك ، لأنّ الالتذاد أيضا من الأغراض المقصودة منه.

ومن ذلك القبيل الأنبياء والأولياء فإنّ المهتدي إذا فاز بمقام القرب الإلهيّ المقصود من الهداية ليس له أن يعرض عنهم عليهم السلام فإنّ في صحبتهم والثناء عليهم لذّات مقصودة لا توجد في صحبة غيرهم أصلا ، ولا يدركها إلّا من عرفهم بحقيقة النورانيّة ، فالعارف الروحاني الصافي عن شوائب الطبيعة إذا نظر إليهم لا ينظر إلّا إلى روحانيّتهم ، فيرى مقامهم أرفع

٧٠

من مقام كلّ شيء ، فيزداد شوقه إلى مصاحبتهم ، ولا يزال يعشقهم ويبذل فيهم محبّته بحيث لا يرى لنفسه وجودا في طمطام يمّ وجودهم الشريف ، كيف ولا يختار الجنّة على صحبتهم ، بل هي جنّة العارف يلتذّ بها.

با بهشت عدن ما را كار نيست

كوى جانان روضه رضوان ماست

ولا تتعجّب من ذلك أيّها السامع لتلك الكلمات ، أما ترى أنّ شخصا لو افتتن بوجه جميل وعشقه كيف لا يصبر ولا يرضى إلّا بصحبة معشوقه ، وتصير همومه كلّها فيه همّا واحدا :

هر كجا تو با منى من خوشدلم

گر بود در قعر چاهى منزلم

مع أنّ ذلك الجمال يفنى ويتغيّر بتغيّر الأحوال والأطوار الّتي تمضي على صاحبه ، فالجمال الحقيقيّ الروحانيّ الّذي لا يتغيّر أبدا ، بل يزيد بهاؤه كلّ حين إذا عشقه العارف ، كيف يكفّ عنه ويرضى بالمفارقة عن صاحبه ، كلّا ما عرف الأنبياء بالنورانيّة أحد إلّا وقد عشقهم بحقيقة العشق ، ولاذبهم في جميع أحواله ، وأثنى عليهم في جميع مقاله ، وتمسّك بعروة حبّهم ، وإن ألحّ العاذل وأصرّ اللائم.

وأمّا الّذي جهل بحقّهم وحرم عن درك محبّتهم ، فلكمال جهله ، وانهماكه في الغفلة يرى النبيّ صلّى الله عليه وآله كواحد من الناس ويقول أبشرا منّا واحدا نتّبعه ، ويتعجّب من الّذين يؤمنون به ، ويثنون عليه ، ويطيعونه في جميع أوامره ونواهيه ، ويحمل ذلك على سفاهتهم وجهالتهم ؛ كما أشار إليه بقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ

٧١

كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

حال دل زليخا آنكس نكو شناسد

كو از براى يوسف دست بريده دارد

گرش ببينى ودست از ترنج بشناسى

روا بود كه ملامت كنى زليخا را

راز درون پرده ز رندان مست پرس

كين حال نيست زاهد عالى مقام را

وظنّي أنّ بعض المتصوّفة قائلون بأنّ العبد المرتاض إذا وصل إلى مقام القرب بهداية الأنبياء يجب عليه أن يصفّي قلبه عن أن يخطر فيه أسماؤهم عليهم السلام وإلّا فما فاز بحقيقة التوحيد ؛ إذ التوحيد الحقيقيّ عبارة عن إخلاص القلب عن جميع ما سوى الحقّ كائنا ما كان.

توحيد به عرف صوفى صاحب سير

تخليص دل از توجّه اوست به غير

وهذا الكلام لا أرى له معنيا محقّقا ، بل هو لفظ لا حقيقة له ولا مصداق ؛ كأكثر ما يقوله المتصوّفة ويدّعونه في كلماتهم وأشعارهم.

ومن ذلك القبيل أيضا ـ أي من القسم الثاني ـ العبادات الّتي جعلها الشارع المقدّس وعمّمها لجميع المكلّفين ليستكملوا بها ، ويهذّب بها نفوسهم العاتية ، ويصفّي بها قلوبهم القاسية ، فيلتذّوا بحقيقتها وروحانيّتها ، ويتعرّجوا بها إلى عوالم القدس ، ومعالم الأنس.

__________________

(١) البقرة : ١٣.

٧٢

فمتى تحقّق لأحد منهم ذلك المقام بحقيقته لا يسقط عنه التكاليف أصلا ، لعدم الفائدة لها حينئذ ، لأنّ لها في ذلك المقام فوائد أخرى يدركها الفائز بها ، بل يتعرّج بها إلى مقام أعلى ممّا فيه ؛ إذ لا نهاية لكمال الإنسان ، ولا غاية لمقام ترقّيها ، بل يترقّى من مقام إلى آخر بسعيه وجهده ؛ كما قال : (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) أما رأيت الأنبياء والكمّل كيف مع كمال مقامهم وفضلهم على غيرهم كانوا مواظبين على العبادات من الصلاة والصيام وغيرهما من الطاعات في الملاء والخلوات ، فيجب على غيرهم من الامّة متابعتهم في تلك الأمور بقدر القوّة والاستطاعة ، فإنّهم هم المقتدون الّذين جعلهم الله خلفاءه في بلاده لعباده :

آئينه ذات حق چو درويشانند

از هر جهتى قبله ما ايشانند

فكرم نرسد بگرد ايشان هرگز

زانرو كه بسى بزرگ وعالى شانند

والقول بأنّ مواظبتهم على تلك العبادات إنّما كانت لأجل تعليم الامّة الناقصة من باب الاضطرار لا لعبادة الحقّ تعالى كفر محض ، وقدح فيهم وفي إخلاصهم عليهم السلام لا يقول به إلّا الشقيّ الجاهل :

أتقدح فيمن شرّف الله قدره

وما زال مخصوصا به طيّب الثنا

رجال فهم سرّ مع الله صادق

ولا أنت من ذاك القبيل ولا أنا

في مذهب الواصلية من الصوفية

والمتصوّفة الخبيثة الّذين يسمّون أنفسهم بالواصليّة يزعمون أنّ العبد إذا وصل بالحقّ وصار حقّا يسقط عنه التكاليف كلها ، فلا ينبغي له العبادات ،

__________________

(١) النجم : ٣٩.

٧٣

فإنّها حاجبة بين العبد والربّ بعد الفوز بمقام الوصال ، وليس العبد حينئذ مأمورا بها لمكان الغاية في قوله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١).

وما حكاه «العلّامة الحلّيّ» رحمه الله في «النهج» عن بعض الصوفيّة مشهور ، والكلمة الّتي قرّروها في كتبهم وأشعارهم من أنّه «إذا جاءت الحقيقة بطلت الشريعة» مشهورة.

وكذا ما قالوه من أنّه لا تكليف لأولياء الله ، وغير ذلك من الترّهات الّتي تضحك منها الثكلى ، وتلك الكلمات متفرّعة على ما أسّسوه من أنّ العبد المرتاض إذا فنى عن نفسه يتّصل بالحقّ بحيث لا فرق بينه وبينه ؛ فيصير إلها محيطا بكلّ شيء ، فلا معنى للعبادة في حقّه ، بل يجب على غيره عبادته ؛ كما قيل :

در آن حين كه من حقّ مطلق شوم

نماند دوئى جملگى حقّ شوم

بود علم من علم بى منتها

به لاهوت وناسوت وأرض وسما

بود علم من علم حقّ قديم

نباشد به جز من خداى كريم

وبعضهم لقد أوّلوا مقالهم هذا بأنّ مرادهم بأنّه لا تكليف لأولياء الله ليس ما ذكر من سقوط التكليف ، بل المراد أنّه لا مشقّة فيه لهم كما تكون لغيرهم ، فإنّهم يلتذّون بالعبادات فكيف يكون ذلك لهم مشقّة ؛ كما قال : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٢).

ولا بأس بذلك التأويل ؛ حيث إنّ «نجم الدين» الّذي كان منهم قال في

__________________

(١) الحجر : ٩٩.

(٢) البقرة : ٤٥.

٧٤

بعض رسائله : يسقط التكليف عن عبادة الخواص ، بمعنى أنّ التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقّة ، فيعبدون الله بلا مشقّة وكلفة ، بل يلتذّون ويطربون.

وحكى عن «الخضر ميّ» أنّه كان يقول : انّ الناس يقولون إنّي حلوليّ ، وإنّي أقول بسقوط التكليف عن عباد الله ، وكيف أكون حلوليّا ولا أرى في الوجود سوى الله؟ وكيف أقول بسقوط التكليف ولي ورد من صبائي ما فاتني إلى هذا الوقت؟ ولكن أقول لا كلفة في عبادة عبّاده الخواص ... إلى آخره.

إلّا أنّا نسمع من بعض جهلتهم ذلك المقال ؛ أي التصريح بسقوط التكليف مطلقا للفائز بمقام الوصال.

في مذهب الفرقة البابيّة المبتدعة

وقد تبعهم في ذلك القال بعض الجهّال لعنهم الله في جميع الأحوال حيث زعموا سقوط العبادات الّتي تعبّدنا بها خاتم الأنبياء محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله عن جميع العباد.

وقالوا : إنّهم لقد كملوا في ذلك الزمان وفازوا بألباب العبادات ، وهي مراتب التوحيد ، ومقامات التجريد ، فلا حاجة لهم إلى قشورها ، فإنّ الفائز باللبّ يستغني عن القشر ، والملتذّ بالمقام الألذّ لا يتوجّه إلى المقام الأدنى ، ألا ترى أنّ المولود في أوّل ولادته إلى مدّة يلفّ بخرق كثيفة وهي لائقة بحاله في تلك المدّة ولا تليق بحاله في زمن التميّز والبلوغ ، فالناس من عصر الخاتم صلّى الله عليه وآله إلى ذلك العصر كانوا أطفالا متعبّدين

٧٥

بالقشور الظاهرة ، وقد صاروا في ذلك العصر مميّزين ، بل بالغين ، فيجب أن لا يتوجّهوا إلى ما كانوا به متعبّدين في الزمن الأوّل ، وينبغي لهم أن يسعوا في تهذيب النفس وتصفيتها عن شوائب الطبيعة ، وتحصيل الحالات الإلهيّة الّتي هي الغرض من تلك العبادات.

فيا سبحان الله! كيف أضلّهم الشيطان ، وتركهم في ظلمات الضلالة وهم لا يبصرون ، فو الّذي برأ النسمة وشرّف الكعبة لقد ضلّت تلك الفرقة الطاغية عن دين محمّد صلّى الله عليه وآله واستهانوا بملّته السمحة الحنيفة فأضلّوا كثيرا من حمقاء الامّة ، فلعنهم الله بما قالوا وأعدّ الله لهم عذابا أليما.

ولقد فصّلنا الردّ عليهم في بعض رسائلنا الشريفة ، ومؤلّفاتي المنيفة.

فيا أيّها المهتدي بأنوار القدس ، لا يغرّنّك هؤلاء الشياطين بكلماتهم وأحوالاتهم الّتي جعلوها شركا لصيد الجهّال ، فإنّهم ربّما يتلبّسون بلباس أهل الحال فيضلّون الجهّال ، فراقب نفسك لا يغرّوها بحيلهم ، فإنّهم كملحد في صورة الموحّد ، وزنديق في هيئة الصدّيق :

اى بسا إبليس آدم روى هست

پس به هر دستى نبايد داد دست

صوفى نهاد دام وسر حقّه باز كرد

بنياد مكر با فلك حقّه باز كرد

گويند جماعتى كه راهى داريم

وز كسوت عارفان پناهى داريم

گر تاج نمد كمال ايشان باشد

ما نيز ازين نمد كلاهى داريم

الرابعة : المراد بالسبيل هو سبيل التوحيد ، فإنّه الصراط المستقيم ، وبه يتوصّل إلى جنّات قرب الحقّ ، وبساتين جذبة الصدق ، فإنّ الفائز بذلك المقام عار عن جميع الشؤونات العرضيّة العارضة للفطرة الأصليّة وهي

٧٦

فطرة الإسلام ؛ كما قال : كلّ مولود ولد على فطرة الإسلام إلّا أنّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه (١).

فالفطرة الذاتية الّتي فطر الناس عليها هي التوحيد وما يعرضها من الشؤونات المنافية لذلك المقام ، فهو أمر عرضيّ يمكن رفعه ببعض الأسباب المعدّة لذلك ، فذلك المقام ميسّر لكلّ أحد إن استعان بما اعدّ لذلك من الأسباب ، لأنّ الذاتيّ للشيء لا يرفع غالبا وإنّما المرفوع الأمر العرضيّ.

وقد أشار إلى ذلك بقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (٢) أي سهّل له طريق التوحيد بإعداد الأسباب الموصلة.

ويحتمل أن يكون المراد بالسبيل هو حبّ عليّ عليه السلام وأولاده الأئمّة ، فإنّه هو الطريق إلى الجنّة العالية ، كيف لا؟ وقد دلّت أخبار كثيرة على أنّه : لو عبد عبد بين الركن والمقام ألف سنة ثمّ لقى الله بغير محبتّهم أكبّه الله على منخره في النار خالدا فيها ما دامت السماوات والأرض (٣).

كيف ويسأل الناس يوم القيامة عن حبّ هؤلاء الأطهار ؛ فمن كان في قلبه ذرّة من حبّهم لا يدخل الجحيم ، بل يتنعّم بنعيم الجنّة خالدا فيها ، ومن حرم عن ذلك يحرم عن لذّات الجنّة ويخلّد في النار مهانا.

كيف وهم العلل الغائيّة لخلق عالم الإمكان ، والأقطاب لدائرة العرفان.

__________________

(١) انظر : عدّة الداعي : ٣٣٢ ، عوالي اللآلي ١ : ٣٥.

(٢) عبس : ١٧ ـ ٢٠.

(٣) انظر : الصراط المستقيم ٢ : ٤٩ ، المناقب ٣ : ١٩٨.

٧٧

كيف وقد اصطفاهم الله على من دونهم من أصناف الخلق ، وأوجب على الكلّ إطاعتهم ومتابعتهم في أمر الحقّ ، فبهم فليتمسّك المتمسّكون ، ويعتصم المعتصمون :

وكلّ لهم سؤل ودين ومذهب

ووصلكم سؤلي وديني هواكم

وأنتم من الدنيا مرادي وهمّتي

مناي مناكم واختياري رضاكم

وقيل : المراد بالسبيل هو الطريق إلى تكميل النفس ، فإنّ به يتوصّل إلى السعادة القصوى ، والجنّة العليا.

وقيل : المراد طريق المعرفة في الدين ، الّذي يتوصّل به إلى ثواب الأبد ، ويلزم كلّ مكلّف سلوكه ، وهي أدلّة العقل والشرع الّتي تعمّ جميع المكلّفين.

وقيل : المراد سبيل الهدى والضلال.

وقيل : المراد سبيل الفجور والتقوى ؛ كما قال (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١).

أقول : يمكن إرجاع الكلّ إلى أحد الوجهين اللذين أشرنا إليهما فيما سبق.

الخامسة : قيل في تفسير الآيات : إنّ الإنسان خلق من أمشاج لا للعبث ، بل للابتلاء والامتحان ، ثمّ اعطي ما يصحّ معه الابتلاء وهو السمع والبصر اللذان هما أشرف الحواسّ ، ولهذا خصّا بالذكر.

وفيه إشارة إلى أنّ الحواسّ السليمة أسباب كلّيّة لتحصيل الكمالات

__________________

(١) الشمس : ٨.

٧٨

النفسيّة ، فمن فقد حسّا فقد علما.

ثمّ أوضح له بواسطة أن آتاه العقل السليم سبيل الهدى والضلال ، فقوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) حالان من فعل «هديناه» أي مكّنّاه وأقدرناه في هاتين الحالتين فعلى هذا ، تقديره : هديناه السبيل ، فيكون إمّا شاكرا وإمّا كفورا ، وفيه جهة الوعيد ، أي وإن شاء فليكفر ، وإن شاء فليشكر.

أقول : لا يخفى أن تقديره بقوله فيكون إمّا شاكرا ... ينافي ما بنى عليه من كونهما حالين ، لأنّهما على تقديره يكونان خبرين لفعل «الكون» المحذوف.

وقيل : هما حالان من السبيل على الإسناد المجازيّ. وفيه ما لا يخفى من التكلّف.

السادسة : قيل إنّ «إمّا» في الآية للتفصيل وهو المشهور.

وقيل : للإبهام ؛ كما في قوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (١) فالمعنى هديناه السبيل ثمّ جعلناه تارة شاكرا وتارة كفورا.

وقيل : للشرط ، وأصلها «إن» و «ما» زائدة للتأكيد ؛ كما في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (٢).

قيل : وفيه نظر ، لوجوب أن يلي أداة الشرط الفعل ، ولا فعل في الكلام وفيه أنّ المقدّر كالمذكور ؛ إذ التقدير : إمّا كان شاكرا فنكرمه بالجنّة ، وإمّا كان كافرا فندخله النار ولا يخفى ما فيه من التكلّف.

__________________

(١) التوبة : ١٠٦.

(٢) البقرة : ٣٨ ، طه : ١٢٣.

٧٩

السابعة : قال الباقر عليه السلام في تفسير الآية : إمّا آخذ فشاكر ، وإمّا تارك فكافر (١).

وقال الصادق عليه السلام : عرفناه إمّا آخذا وإمّا تاركا (٢).

أقول : لعلّ المراد الأخذ بولاية عليّ عليه السلام وتركها فإنّ الآخذ شاكر ، والتارك كافر.

وتحقيق ذلك أنّ عليّا عليه السلام لمّا فاز بمقام الولاية الخاصّة كان مبيّنا لجميع الأحكام الإلهيّة الّتي أوحاها إلى محمّد صلّى الله عليه وآله وعارفا بحقائقها على ما هي عليه ، ولم يكن أحد غيره لائقا لذلك المقام الشريف ، ومستحقّا له ، فما ترك الرسول حكما إلّا وقد بيّنه عليّ وصيّه حتّى ما كان للأمّة أن يضلّوا بعده صلّى الله عليه وآله ، لأنّ الوصيّ هاد للأمّة بعد النبيّ ، فله عليه السلام حقّ عظيم على الأمّة.

كيف وقد أنعم عليهم بنعماء روحانيّة ؛ حيث هداهم السبيل إلى الحقّ ، وكشف عن أسرار التوحيد ، وألاح لهم أنوار التجريد.

وذلك واضح على من تتّبع كلماته عليه السلام وخطبه ودعواته ، فهو المنعم وواسطة الفيض من الحقّ إلى الخلق ، فيجب شكره على الخلق ، لشهادة العقل بوجوب شكر المنعم.

وقال عليه السلام : من لم يشكر المنعم من المخلوق لم يشكر الخالق (٣).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٣٨٤.

(٢) التوحيد : ٤١١.

(٣) انظر : عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٤.

٨٠