بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

الفوز بالجذبة ، وإلّا لما كان ذلك له ميسّرا :

دوش وقت سحر از غصّه نجاتم دادند

واندر آن ظلمت شب آب حياتم دادند

بيخود از شعشعه پرتو ذاتم كردند

باده از جام تجلّى صفاتم دادند

أو سالك مجذوب تقدّم سلوكه على جذبته ؛ كما قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ... (١) إلى آخره ، أي الّذين يسلكون في طريق حبّنا لنجذبنّهم بجذبات العناية إلى أعراش الوصال ، ونهدينّهم إلى شعاشع أنوار الجمال.

كيف ولا ينفع السلوك لو لا جذبة الحقّ وعنايته ، فإنّه هو الهادي إلى عرش البقاء ، والداعي إلى مقام الصفاء :

اگر از جانب معشوق نباشد كششى

كوشش عاشق بيچاره به جائى نرسد

زاهد ار راه برندى نبرد معذور است

عشق كاريست كه موقوف هدايت باشد

أو مجذوب سالك تقدّم جذبته على سلوكه ، وإليه الإشارة بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي : إنّا جذبناه إلينا إمّا سالكا أو غير سالك ، فمن سلك بعد جذبته يلتذّ بالوصال ، ومن كسل يعذّب بنار الانفصال.

الثامن : في قوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) ... إلى آخره ، إشارة

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

٢٠١

إلى مقام آخر غير ما ذكر ، فإنّ الطائف فيما مرّ هو الحقّ تعالى بدلالة التعظيم المستفاد من البناء للمفعول ، وفي المقام غيره تعالى ممّا اصطفاه واجتباه ، والإعراض عن ذكر المطوف به في ذلك المقام لعلّ وجهه الذكر في المقام الأوّل ، فيستغني عن الذكر ثانيا ، وإن كان بين المطوف بهما فرقان بيّن ، لأنّ ما يطوف به الحقّ أعلى ممّا يطوف به غيره بمراتب شتّى كما لا يخفى.

أو الكشف عنه في سورة الواقعة ؛ كما قال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ * وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ... (١) إلى آخره.

ثمّ المراد بالولدان قيل : الغلمان الباقون الّذين لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيّرون.

وقيل : مخلّدون أي مقرّطون ، يقول : خلّد جاريته ، إذا جعل في أذنيها قرطا.

واختلفوا فيهم فقيل : إنّهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيّئات فيعاقبوا عليها ، فانزلوا هذه المنزلة.

وقيل : هم من خدم الجنّة على صورة الولدان خلقوا لخدمة أهل الجنّة. وذلك هو الأجود ، فإنّ أطفال أهل الدنيا الّذين يدخلون الجنّة يصيرون كبارا

__________________

(١) الواقعة : ١٠ ـ ٢٤.

٢٠٢

كسائر الرجال فيتمتّعون بالأزواج والمآكل والمشارب مثلهم ؛ لعموم قوله عليه السلام : يدخل أهل الجنّة الجنّة جردا مردا مكحّلين أبناء ثلاثين أو ثلاثة وثلاثين سنة (١).

وقوله عليه السلام : أهل الجنّة جرد مرد مكحّلين لا يغيّر شبابهم ، ولا تبلى ثيابهم (٢).

واستدلّ أيضا بأخبار أخر لا أرى فيها دلالة على المدّعى ، بل يمكن المناقشة فيما استدللنا به ، فإنّ أهل الجنّة هم الّذين استحقّوها بعملهم وإيمانهم ، والأطفال ليس لهم تلك الأهليّة حتّى يندرجون في عموم أهل الجنّة ، نعم يمكن الاستدلال بما روي من أنّ إبراهيم ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله يتمّ رضاعه في الجنّة. فتأمّل.

وما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله من أنّه سئل عن أطفال المشركين ، فقال : هم خدم أهل الجنّة (٣). لا يدلّ على القول الأوّل ، لعدم استلزام كونهم خدما أن يكونوا ولدانا حتّى يفسّر الولدان المخلّدون بهم ، فالمسألة غامضة ، وحلّها يستدعي تفصيلا من القول ، وضيق الوقت يمنعني عنه ، فنرجع إلى ما كنّا فيه فنقول :

إنّما شبّههم باللؤلؤ المنثور ، أي : المنتشر ، لما لهم من الصفاء والبهاء ، وحسن المنظر واللقاء.

__________________

(١) الصوارم المهرقة : ٣٣٩.

(٢) انظر : الاختصاص : ٣٥٨.

(٣) بحار الأنوار ٨ : ١٠٨.

٢٠٣

وقيل : للونهم وكثرتهم.

وقيل : لانتشارهم في الخدمة.

هذا ما اقتضاه ظاهر التفسير.

وتحقيق القول على ما ذكره بعض العارفين : إنّ المراد بالولدان العقول الفعّالة المجرّدة الّتي يفوزون بها ، ويحصل لهم بها الكمالات الروحانيّة ، والمشاهدات العقلانيّة ، والمقابلات لصفاء مرايا نفوسهم لمرايا الملكوت ، فلا يخفى عليهم شيء من العلم والعرفان والحكمة والبيان ، فيطّلعون على حقائق القرآن ، ويفوزون بما أعدّه الله للإنسان ، فإنّ النفس الإنسانيّة إذا صفت عن التوجّهات الغيريّة ، ونقت عن التعلّقات العرضيّة ، تتوجّه إلى مقام الملكوت ، وتتقابل للوح مرآة اللاهوت ، فينتقش فيها جميع ما انتقش في لوح الحقّ ، فيكشف له ما لا عين رأيت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وهذا هو السرّ في اطّلاع الأنبياء والأصفياء على الأمور الغيبيّة الّتي لم يطّلع عليها غيرهم.

وهذا هو المجمل ممّا أردنا بيانه ؛ إذ ضيق الوقت يمنعني عن التفصيل ، وقصور فهم المستمع يحملني على التعطيل.

والتخليد إشارة إلى دوام كلّ منهم بدوام علّته ، وإنّما شبّههم باللؤلؤ المنثور لأنّه على اللّون الأشرف مع الصفاء.

وأيضا في المنظوم خلل ليس في المنثور ، وفي النثر إشارة إلى تغاير مراتبهم على ما عرفت من أنّ لكلّ مقامات بحسب إمكاناتهم ، فليس

٢٠٤

درجاتهم متقاربة حتّى يشبّهوا باللؤلؤ المنظوم ، نظرا إلى أنّ النظم يستلزم القرب والتقارب ، وأمّا النثر فليس مستلزما لذلك ، بل مستلزم لخلافه.

وهنا إشكال أورده جماعة وهو الحسبان من باب الظنّ والمعارف يومئذ علميّة عارية عن شوب الظنون.

وأجيب بأنّ المراد : إنّك إذا تصوّرتهم في عالم الخيال وأنت في ذلك البدن لخلتهم وحسبتهم لؤلؤا منثورا.

وبوجوه اخرى لا مجال لنا في الإشارة إليها ، لضيق الوقت.

التاسع : قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ) ... إلى آخره بفتح الثاء : اسم إشارة إلى المكان البعيد ، أي : وإذا زال الحجاب الّذي بينك وبين عالم القدس ففزت بمشاهدة ذلك المقام الأرفع الّذي لا يصل إليه أيدي غير الصافين لترفّعه وتشرّفه وبعده رتبة رأيت ما أعدّ الله لهم من النعمة الخطيرة الّتي هي الاتّصال بالمبدأ الأعلى ، والانقطاع عن الدار السفلى ، والتشرّف بالإفاضات العليا.

والملك الكبير الّذي لا يزول ولا يفنى وهو حقيقة الولاية الصافية والمحبّة الخالصة ، فإنّها مورثة للبقاء السرمديّ الّذي لأجله خلقت النفوس الإنسانيّة ؛ كما قال : خلقتم للبقاء لا للفناء ... (١) إلى آخره. أي للبقاء ببقاء الحقّ بعد الفناء الكلّيّ عمّا في الإمكان.

ويرى العارف في ذلك البقاء والفناء نفسه عين الوجود الكلّيّ الموصوف بجميع الصفات الجماليّة والجلاليّة ، لا بمعنى أنّه شاعر في ذلك الحال بنفسه وذاته ، بل لا يرى لنفسه وجودا سوى وجود الحقّ ، لكمال

__________________

(١) غرر الحكم : ١٣٣.

٢٠٥

استغراقه في لجّة الأحديّة ، وطمطام يمّ السرمديّة ، بحيث لا سبيل للاثنينيّة إلى ذلك المقام أصلا ، بل المقام مقام الوصل والاتّصال ، وكشف أنوار الجمال والجلال. وهذا هو الملك الكبير الّذي هو فوق كلّ شيء ؛ يؤتيه من يشاء من عباده الصالحين :

از باده عشق در ازل مست شديم

وز مستى ان شراب از دست شديم

اوّل زوجود خويش فانى گشتيم

آخر ببقاى ذات حق هست شديم

وتفصيل ذلك المقال مكنون عند أهل الحال ، وإفشاؤه مضلّ للجهّال بطرق الضلال.

وقيل : الملك الكبير استئذان الملائكة عليهم وتحيّتهم بالسلام.

وقيل : هو إنّهم لا يريدون شيئا إلّا قدروا عليه.

وقيل : هو أنّ أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه.

وقيل : هو الملك الدائم الأبديّ في نفاذ الأمر ، وحصول الأمانيّ ، ثمّ في التعليق بكلمة الشرط إشارة إلى ما قرّرناه سابقا من أنّ العبد لا يدرك حقيقة الدرجات واللذّات بكنهها إلّا بعد الوصول إليها ؛ كالصبيّ الّذي لا يدرك لذّة الجماع على الوجه المفصّل إلّا بعد البلوغ إلى حدّ الرجال ، فمعنى الآية : إذا وصلت إلى ذلك المقام تدرك النعمة الّتي أعدّ الله إيّاها لأهل ذلك المقام.

ومفهومه أنّك قبل الوصول إلى ذلك الحصول لا يمكن لك القبول حقّ القبول. وفي المقام تفاصيل قد أشرنا إلى بعضها فيما سبق.

العاشر : في قوله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) ... إلى آخره قراءتان :

٢٠٦

الأولى : وهي المشهورة : نصب الياء على الحاليّة من الضمير المجرور في قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) (١).

وقيل : عطف على ما انتصب على الحال في السورة. وفيه نظر ، لعدم الحرف العاطف ، وكونه محذوفا خلاف الأصل.

وقيل : على الظرفيّة ، فإنّ العالي بمعنى الفوق ، فجرى مجراه في الظرفيّة.

الثانية : سكون الياء ، فالرفع مقدّر استثقالا ؛ كما في القاضي على الابتدائيّة ، والخبر «ثياب سندس» ولا يجب مطابقة المبتدأ والخبر إلّا إذا كان الخبر مشتقّا ، وليس كذلك في المقام ، فلذا لم يراع المطابقة.

وقيل : اسم الفاعل هنا قائم مقام الجمع ؛ كما قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ) ... (٢) إلى آخره.

وقيل : الرفع مقدّر على أنّه صفة لولدان ، أي : يطوف عليهم ولدان مخلّدون عاليهم ثياب ... إلى آخره.

قال الطبرسيّ رحمه الله بعد نقل ذلك القول عن بعض الفضلاء : ألم ينظر في خاتمة هذه الآية إلى قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) ... إلى آخره ثمّ قوله عقيب ذلك (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) فيعرف أنّ الضمير في «عاليهم» هو بعينه في «وسقاهم» وهو ضمير المخاطبين في لكم ، وهذا الضمير لا يمكن أن يعود إلّا إلى الأبرار المثابين المجازين دون الولدان المخلّدين الّذين هم من جملة ثوابهم وجزائهم. انتهى.

__________________

(١) الواقعة : ١٧.

(٢) الأنعام : ٤٥.

٢٠٧

أقول : ما قاله بعض الفضلاء ليس ممّا ينكر عليه بما أنكر عليه الطبرسيّ رحمه الله ، وما ادّعاه من القطع على أنّ الضمائر راجعة إلى الأبرار غير مسلّم ، لاحتمال أن تكون تلك الدرجات للولدان ، وذلك مزيد لدرجات الأبرار أيضا.

نعم الضمير في لكم يخاطب به الأبرار خاصّة ، وهو لا يستلزم كون الضمائر كلّها لهم. وذلك واضح لا يخفى على من تأمّل منصفا.

وفي قوله (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) قراءات ؛ إذ منهم من رفع «خضر» وجرّ «وإستبرق».

أمّا الأوّل ، فإنّ «خضرا» صفة مجموعة لموصوف مجموع.

وأمّا الثاني ، فللعطف ، والتقدير : وثياب إستبرق.

ومنهم من جرّ «خضر» على كونه صفة لسندس ؛ كما في قولهم الدينار الصفر ، ورفع «وإستبرق» عطفا على الثياب ، فالمضاف محذوف قام المضاف إليه مقامه فرفع.

ومنهم من قرأ برفعهما.

ومنهم من قرأ بجرّهما. ولكلّ وجهة.

ثمّ السندس هو الديباج الرقيق الفاخر الحسن ، والإستبرق الديباج الغليظ الّذي له بريق.

قال الصادق عليه السلام : يعلوهم الثياب فيلبسونها (١).

وقال ابن عبّاس : أما رأيت الرجل عليه ثياب ، والّذي يعلوها أفضلها.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨ : ١١٣.

٢٠٨

والحلية : الزينة ، والأساور : جمع الأسورة ، وهي جمع السوار.

قال الطبرسيّ رحمه الله : الفضّة الشفّافة وهي الّتي يرى ما وراءها كما يرى من البلّورة ، وهي أفضل من الدرّ والياقوت ، وهما أفضلان من الذهب ، فتلك الفضّة أفضل من الذهب والفضّة ، وهما أثمان الأشياء.

وقيل : إنّهم يحلّون بالذهب تارة ، وبالفضّة أخرى ، ليجمعوا محاسن الحلية ؛ كما قال الله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (١).

والفضّة وإن كانت دنيّة الثمن في الدنيا فهي في غاية الحسن ، خاصّة إذا كانت بالصفة الّتي ذكرناها. والغرض في الآخرة : ما يكثر الاستلذاذ والسرور به ، لا ما يكثر ثمنه. انتهى.

أقول : قد عرفت فيما سبق القول منّا من أنّ لتلك الأشياء حقائق لا يدركها إلّا الفائز بمقام القرب بحضرة الربّ تعالى.

قال بعض العارفين : والمراد بتلك الآية الإشارة إلى ما يحصل لهم من لباس الكرامة الإلهيّة الّتي أحلّتهم تلك المحالّ ، والمبالغة في التعبير عن تلك اللذّات والكمالات ، وفي قوله (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) إشارة إلى تحلية معاصم نفوسهم بأسورة الصور القدسيّة ، فكما أنّ المعاصم تتزيّن وتتحسّن بالأسورة ، وتكون ذلك كمالاتها ، كذلك النفوس تتزيّن بتلك الكمالات الروحانيّة ، وفرقان ما بين الزينتين ، وفرقان ما بين الحليتين. انتهى.

وفي قوله : «وسقيهم ربّهم» إشارة إلى ما مرّ من أنّ الله بعد ما يرى ويعلم استعدادهم لمقام المحبّة والولاية يجري على قلوبهم وذاتيّاتهم أنهار

__________________

(١) الكهف : ٣١ ، الحجّ : ٢٣ ، فاطر : ٣٣.

٢٠٩

الحكمة المتعالية ، والمعارف الحاليّة ، ويتجلّى على هويّاتهم بذاته الشريفة تجلّيا ذاتيّا ساذجيّا شعشعانيّا يتحقّق به محو الموهومات ، وكشف أستار الحجابات ، فلا يرى العبد في الوجود سوى الحقّ لاستغراقه في يمّ التوحيد ، واحتراقه في شعلات التفريد.

وفي الوصف بالطهور ـ وهو صيغة المبالغة ـ إشارة إلى أنّ ذلك الشراب طاهر في نفسه من الأقذار والأكدار بحيث لم تدنّسها الأيدي ، ولم تدسه الأرجل كخمر الدنيا ، ومطهّر لمن شربه بأن يخلّصه عن الآلام والهموم ، ويجعل همومه كلّها همّا واحدا ، وحاله في خدمة الحقّ سرمدا.

فأيّ طاهر أبعد عن شائبة النجاسات من تلك الأنوار المبرّأة عن نجاسة الوهم والخيال ، وأيّ مطهّر أبلغ ممّا يخلّص العبد عن العلائق الوهميّة ، والشؤونات العرضيّة ، والتوجّهات الغيريّة ؛ بحيث يغمّض نظره عن كلّ ما في الإمكان ، ويصرفه عن كلّ شيء إلى حضرة المحبوب المنّان.

قال الصادق عليه السلام : إنّ الورقة منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من الناس ، وعن يمين الشجرة عين مطهّرة مزكّية ؛ فيسقون منها شربة ، فيطهّر الله بها قلوبهم من الحسد ، ويسقط عن أبشارهم الشعر ، وذلك قول الله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) من تلك العين المطهّرة ... (١) إلى آخره.

والمراد بالعين المطهّرة المزكّية هي ينبوع الحكمة الإلهيّة ، فإنّ من فاز به يصفو قلبه عن كلّ غلّ وحقد وحسد وضلالة وقساوة وغير ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتخصيص الحسد بالذكر مشعر بأنّه منشأ أكثر الأخلاق

__________________

(١) الكافي ٨ : ٩٥.

٢١٠

الرذيلة كما نراه ونشاهده عن بعض من عادانا خذله الله ولعنه.

وتفصيل القول في ذلك موجب للتطويل.

فطهارتهم عن الحسد هي طهارتهم عن كلّ عيب ونقصان ، فإنّه حينئذ يلوح له نور القطع بأنّ الله تعالى يعطي كلّا بحسب إمكانه واستعداده من غير أن يبخل عن شيء ، وبأنّ من ليس مستعدّا لمقام لا يصل إليه أبدا لعدم القابليّة في هويّته.

والمراد بإسقاط الشعر هو تجريدهم عن جميع الشؤونات الإمكانية الحاجبة بين العبد ، وفوزه بمحلّ الكرامة الأبديّة ؛ كما قال جرد مرد ... إلى آخره.

وهذا هو التزكية الواقعيّة الّتي يفوز بها المؤمنون ، ويحرم عنها المنافقون ؛ كما قال : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) إلى قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ... (٢) إلى آخره. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣).

قال صاحب العرائس في تفسير قوله (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) ... إلى آخره ، أخبر الله عن سقي أرواح أوليائه ... (٤).

__________________

(١) آل عمران : ١٦٤ ، الجمعة : ٢.

(٢) المائدة : ٥٤ ، الحديد : ٢١ ، الجمعة : ٤.

(٣) البقرة : ١٧٤.

(٤) هنا عبارة غير مقروءة.

٢١١

وفي قوله : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) إشارة إلى استحقاقهم لذلك المقام بحسب ما قدّمت أيديهم من كسب الأخلاق الجميلة ، وتحصيل المعارف الجليلة ، واستعدادهم للفوز بتلك اللذّات الملكوتيّة ، والدخول في لجج الأحديّة.

كيف وتلك الملكات الراسخة تظهر حقائقها متمثّلة في ذلك العالم الروحانيّ ، فيلتذّ بها أربابها في جنّة القرب ؛ على التفصيل الّذي عرفته غير مرّة.

وفي الالتفات عن الغيبة إلى الخطاب التفات لطفانيّ من الحقّ إلى هؤلاء الأبرار في مقام المحاضرة ، حيث توجّه إليهم مخاطبا لهم توجّه المعشوق إلى العاشق الشائق ، ففيه كمال العناية الأزليّة من حضرة الحقّ إلى العاشقين الشائقين من عباده ، فإنّ للعاشق لذّة عظيمة في محاضرة معشوقة ، والمكالمة معه بحيث لا شيء ألذّ منها عنده. ولذلك المقام تفاصيل يمنعني عن ذكرها ضيق الوقت ، وهجوم الملال وكثرة الكلال.

وفي قوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) إشارة إلى صحّة طرق سلوكهم ، بمعنى أنّهم لقد راضوا نفوسهم بالرياضات الشرعيّة والطاعات المأمورة بها من عند الحقّ تعالى ، فإنّ تلك الرياضات والطاعات مقبولة مرضيّة بقبول الحقّ ورضائه ، لأنّها ممّا أراده الله وأحبّه بخلاف الرياضات الشاقّة الّتي لم يؤمر بها ، أو نهي عنها في الشريعة المحمّديّة صلّى الله عليه وآله كالّتي وضعها الصوفيّة والجوكيّة ممّا نهى الله ورسوله عنه نهيا مؤكّدا ؛ كما لا يخفى على المتتبّع في الأخبار ، وهي وإن كانت غير خالية عن بعض

٢١٢

التأثيرات كما شاهدناه وسمعناه ، إلّا أنّها تبعد العبد عن درجات القرب السبحانيّ ، وتحجب بينه وبين مقام القدس الأزلانيّ ، فإنّ بالصراط المستقيم يهدى السالك إلى المقصود ، ويفوز الطالب بمراتب الشهود ، ويتشرّف بالمقام المحمود. وليس الصراط المستقيم الّذي لا يضلّ سالكه إلّا الشريعة المحمّديّة الّتي شرّعها خاتم مراتب النبوّة صلّى الله عليه وآله ، وهي الطريق الأسدّ إلى الله تعالى ، فمن لزمها وصل إلى الحقّ ، ومن تركها يضلّ عن الهدى ، ولا يصل إلى الحقّ أبدا ؛ إذ المقاصد تطلب بالمسالك ، والمطالب تنال بالمدارك.

وتلك الرياضات الّتي ابتدعها المبتدعة من الصوفيّة منهيّ عنها في تلك الشريعة ، ولا يتعلّق النهي بشيء إلّا بعد كمون الفساد في حقيقته ؛ يعرفه الكامل الواقف على حقائق الأمور ، العارف بمصالحها ومفاسدها في عالم الظهور.

فكفى النهي الصادر عن خليفة الحقّ ونائبه في قبح تلك الأعمال المخترعة وفسادها ، وعدم تأثيرها في الوصول إلى القرب. كيف وهي حاجبة عن ذلك المقام لمكان النهي ، بل لو لم يكن لتلك الأعمال مفسدة واقعيّة كفى في وجوب الاحتراز عنها النهي لوجوب إطاعة الكامل الحكيم على الناقص الجاهل بالصراط المستقيم ، فمعصيته بعدم الاحتراز أكبر الحجابات عن الفوز بالمقامات ، كيف وقد قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١).

__________________

(١) الحشر : ٧.

٢١٣

وقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١).

وفي المقام مطالب كثيرة نخاف بذكرها الإطالة للمقالة ، ولقد فصّلنا القول في الرياضات الشرعيّة وشرائطها في كتابنا المسمّى بأسرار العارفين.

اختتام : روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال : إنّ الله يبعث إلى الجنّة رسولا من عنده فيقول لهم : يا أهل الجنّة ، ألا تأخذون زينتكم؟ فيلبسون من أحسن لباسهم وأحسن حليّهم مع حليّ وحلل يؤتون بها من عند ربّهم ، يضعون الأكاليل على رؤوسهم ، فينطلقون جميعا حتّى يدخلوا على ربّ العزّة جلّ جلاله في موضع يسمّى السوق ، فيها مجمعهم ، فيأتون مجالسهم ، فيوضع المنابر للأنبياء والرسل ، ويوضع الكرسيّ للصدّيقين والشهداء ، ويوضع النمارق والفرش لسائر المسلمين.

ثمّ يقول لهم الربّ عند ذلك : مرحبا بعبادي وجيراني وأصفيائي وأوليائي وأهل طاعتي ؛ الّذين أطاعوني في الدار الدنيا ، واتّبعوا أمري.

ثمّ يقول : أطعموني! فيؤتون بأنواع الأطعمة ، ويسعى عليهم ما شاء الله من الخدم حتّى لقد يسعى على الرجل الواحد أربعة آلاف خادم ، في أيديهم صحائف من ذهب وفضّة وأكواب منها ، وما من صحيفة إلّا فيها طعام ليس في الأخرى ، كلّما أكل منها لقمة تغيّرت في فمه لونا آخر.

ثمّ يقول الله : مرحبا بعبادي وجيراني وأصفيائي وأهل طاعتي الّذين أطاعوني في دار الدنيا ، واتّبعوا أمري ، اسقوهم!

__________________

(١) الفتح : ١٧.

٢١٤

فيسعى عليهم غلمان كأنّهم لؤلؤ مكنون بألوان الأشربة ، منها عسل مصفّى ، ومنها خمر لذّة للشاربين ، ومنها لبن لم يتغيّر طعمه ، ومنها ماء غير آسن.

ثمّ يقول الله : مرحبا بعبادي وجيراني وأصفيائي وأوليائي وأهل طاعتي ؛ الّذين أطاعوني في الدار الدنيا ، واتّبعوا أمري ، فكّهوهم!

فيسعى عليهم غلمان كأنّهم لؤلؤ مكنون بأنواع الفاكهة والثمار الّتي لا يشبه بعضها بعضا.

ثمّ يقول ربّهم : أنا ربّكم الواحد القهّار الواسع فاسألوني أعطكم! فيقولون : ربّنا نسألك رضاك عنّا ، فيقول الله : قد رضيت عنكم ، فيخرّون سجّدا ، فيقول الله : عبادي ليس هذا حين عمل إنّما هذا حين نصرة وجدة ، فيرفعون رؤوسهم ووجوههم تشرق من النور.

ثمّ يتجلّى لهم ربّهم فينظرون إليه بلا كيف ، ثمّ يأذن لهم فيرجعون إلى منازلهم وأزواجهم راضين مرضيّا عنهم ، فينصرفون إلى خيام من درّ مجوّفة مكلّلة بالياقوت والزمرّد ، لكلّ واحدة منها سبعمائة باب ، عليها الحجبة والخدم من أهل الجنّة ، فإذا دخلوا على أزواجهم ولهم ريح طيّبة وألوان مشرقة ما خرجوا بمثلها من عندهنّ ، فتقول لهم أزواجهم من الحور العين : مرحبا بكم يا أولياء الله ، لقد جئتمونا بألوان وريح ما خرجتم بها من عندنا ، فيقولون لهنّ ونحن نرى على وجوهكنّ من النور ، ونراها مشرقة ، ونجد لكنّ ريحا طيّبة ما خرجنا من عندكنّ عليها ، لقد ازددتن حسنا أضعافا مضاعفة ، فينادي عند ذلك ملك من عند الرحمن : كذلك أنتم عباد الله

٢١٥

وأوليائه ، يجدّد لكم نعمتكم كلّ يوم.

ثمّ يتّكئ أولياؤه على الفرش المرفوعة ، والسرر الموضونة ، والنمارق المصفوفة ، فتأتيهم ملائكة من عند الرحمن ، فإذا وصلوا إلى الأبواب استأذنوا فيؤذون لهم ، فيدخلون ويقومون بين يديهم ، ويقرأونهم السلام من ربّهم ، ويبلّغونهم التحيّة منه تعالى وهم جلوس مع أزواجهم من الحور العين كأنّهنّ بيض مكنون لم يمسسهنّ إنس قبلهم ولا جانّ ، متّكئات معهم على فرش بطائنها من إستبرق ، وعلى رفرف خضر وعبقريّ حسان ، فينادين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها : نحن الخالدات فلا نموت ، ونحن الناعمات فلا نيأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنّا له. انتهى.

أقول : لا يخفى أنّ في ذلك الحديث إشارات خفيّة ، وكنايات لطيفة ، وحقائق أنيقة ، ودقائق حقيقة لا يدركها إلّا من اصطفاه الله لفهم الأسرار الخفيّة ، ودرك الرموز الدقيقة ، وبصّره بحقيقة الحكمة ، ومراتب المعرفة ، ولكن ليسوا من الّذين خالفوا الله فأفشوا أسراره لمن لم يستعدّ لها.

كيف وإفشاء الأسرار لغير الأبرار يسلك الشخص مسلك الفجّار ، وما أسطره في تلك الرسالة وسطرته في بعض رسائلنا ليس من الأسرار المكنونة المرموزة ، كيف وأسرار أهل الحال ، لا يحيط بها المقال :

مشكل خويش بر پير مغان بردم دوش

كو بتأييد نظر حلّ معمّا مى كرد

٢١٦

ديدمش خرّم وخندان قدحى باده بدست

واندر آن آئينه صد گونه تماشا مى كرد

گفت ان يار كزو گشت سردار بلند

جرمش ان بود كه اسرار هويدا مى كرد

قال الله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً).

أقول : لمّا أشار إلى درجات الأبرار ، ودركات الفجّار ، عقّبه بما كرّم به النبيّ صلّى الله عليه وآله وفضّله على غيره ممّا هو في عالم الإمكان ، وأدّبه بأحسن الآداب ، فأمره بما فيه صلاحه وسبب تعرّجه إلى المعارج الروحانيّة الّتي يليق بها هويّته ، وإمكان ذاتيّته في حدّ رتبة أنانيّته الشريفة ، ونهاه عمّا لا يليق بمقام ولايته في مقام التوحيد ، ومحلّ التجريد ، تنبيها على أمور حقّقت بها المناسبة بين تلك الآية ، وما سبقها من الآيات.

منها : إنّ الأبرار الكمّل الواقفين تحت مقام الولاية الخاصّة والرسالة ، وإن بلغوا في الطاعات والرياضات مبلغا كريما ، وسعوا في تصفية سواذج جواهر نفوسهم سعيا بليغا لا يمكن لهم إدراك مقام الولاية والرسالة بمعنى اللياقة لذلك المقام ، فإنّه فوق مقاماتهم الّتي قرّرت لهم بحسب استعداداتهم وإمكاناتهم الأزليّة ، فمن المحال أن يفوزوا به ، كيف وهو لا ينبغي إلّا لمن استعدّت ذاتيّته له أزلا ، وليس هذا إلّا الّذي اصطفاه الله فخلقه وليّا أو نبيّا ؛ كما قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ... إلى آخره.

٢١٧

أي يعلم القابل لذلك المقام فيفيض عليه بإفاضات العنايات الأزليّة لإمكان ذاتيّته ، فهؤلاء الأبرار لهم الترقّيات والتعرّجات في حدود ذاتيّاتهم ورتبتهم إلى المقامات المقرّرة لتلك الحدود في عوالم الشهود ، وإلى المقرّر للأنبياء والمرسلين وأوصيائهم ، فإنّ لهم مقامات فوق ما يصفه الواصفون ، ويدركه العارفون.

وهذا هو السرّ في الإعراض عن خطاب ما سوى النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى الالتفات إلى خطابه ، وإفراد الضمير المتعيّن لإرادته صلّى الله عليه وآله. أي : ليس ذلك المقام إلّا لك ، فلا لغيرك اللياقة والاستحقاق لأن يوحى إليه كما يوحى إليك.

كيف والموحى إليه لا بدّ من أن يكون مستعدّا لاحتمال ما يستلزم الوحي إيّاه ، فلقد خالفنا في ذلك المشاركيّة من الصوفيّة ؛ حيث زعموا أنّهم مشاركون للأنبياء في الوحي وغيره من مقامات النبوّة ودرجات الرسالة ، بل زعم بعضهم أنّهم أفضل من الأنبياء ، وأكرم منهم عند الله ، فإنّهم مشاركون معهم في رتبة النبوّة ، ولكنهم ليسوا مكلّفين بالدعوة ، بل لهم أن يدعوا وأن لا يدعوا بخلاف الأنبياء ، فإنّهم مأمورون بالدعوة لا مناص لهم عنها. والمختار أفضل من المجبور.

وقالوا أيضا : لا واسطة بينهم وبين الحقّ ، بخلاف الأنبياء. وهذه المقالة هي كلمة الكفر الخبيثة لا يقولها إلّا الضالّون عن ثنيّات الهدى.

ومثلها القول بجواز فناء ناسوتيّة الخلق في لاهوتيّة الحقّ ، وبرؤية الذات عيانا والتكلّم معه شفاها ، وباتّحاد الروح مع الحقّ ، وغير ذلك من

٢١٨

الأقوال الواهية الّتي أجمعت الإماميّة ، بل أكثر المسلمين على كفر صاحبها.

ومنها : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله نعمة الله العظيمة بعد نعمة الوجود أنعم الله ببعثه على الخلق ليهديهم إلى سبل النجاح ، ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، ويعرّفهم المسالك إلى المعرفة ، ويزكّيهم عن الوساوس البلسانيّة ، فالناس بمتابعته يصيرون أبرارا أخيارا يستحقّون الفوز باللذّات الروحانيّة ، فلا يمكن لهم الوصول إلى المقامات الّتي أشير إليها في الآيات السابقة إلّا بواسطته ، أعني الانقياد لأمره ونهيه ؛ كما قال : لولاكم لما عرف الله ، ولولاكم لما عبد الله.

أي : المعرفة الحقيقيّة هي ما تحصل بتعريفكم وتعليمكم ، والعبادة الصحيحة المؤثّرة هي الّتي تأمرون الناس بها وتعلّمونهم إيّاها.

كيف والمعرفة بدون تعريفهم جهل محض ، والعبادة بدون أمرهم جحد صرف :

زملك تا ملكوتش حجاب بردارند

هر آنكه خدمت جام جهان نما بكند

طبيب عشق مسيحادم است ومشفق ليك

چه درد در تو نبيند كرا دوا بكند

ومنها : أنّ النبيّ ميزان لمعرفة الشاكر والكافر ، فمن أقرّ بمقامه وما جاء به من عند الله فقد دخل في زمرة الشاكرين ، ومن أنكر مقامه وما جاء به فقد سلك مسلك الكافرين ، فما سبق إليه الذكر من الدرجات الرفيعة ، والمقامات السنيّة فهو لمن عرف محمّدا واتّبعه.

٢١٩

وما ذكر أيضا من الدركات والاحتجابات فهو لمن أنكره وخالفه ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، وقد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ، ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها ، وما أنا عليكم بوكيل ، وقد جاءكم بصائر من ربّكم ، فمن أبصر فلنفسه ، ومن عمي فعليها ، وما أنا عليكم بحفيظ ، أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ، الله نزّل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ، ومن يضلل الله فماله من هاد ، مثل الفريقين كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكّرون.

بوارق

الأولى : في تأكيد الكلام بـ «أنّ» والضمير وإعادة المصدر إشارة إلى أنّ ما يقوله النبيّ صلّى الله عليه وآله ويأمر به وينهى عنه ليس من عنده ، بل الحقّ تعالى يقول بلسانه ويأمر وينهى ببيانه ؛ كما قال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ... (١) إلى آخره.

وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ... (٢) إلى آخره.

وقال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣).

__________________

(١) النجم : ٣.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) آل عمران : ٣١.

٢٢٠