بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

الحسّيّة ، وإلّا لما كانوا مواظبين عليها في جميع الأحيان ، مرجّحين إيّاها على كلّ شغل وعمل ، ألا ترى إلى الملائكة كيف لا يلتذّون من الطعام والشراب ، بل لا يشتهونهما أصلا ، فإنّهم يلتذّون بالتسبيح والتهليل وغيرهما لبعدهم عن الشهوات النفسانيّة.

كيف وهم عقول صرفة لا نفس لهم تأمرهم بالسوء والفحشاء ، فمن كان لذّته في العبادات فهو من زمرة الملائكة الّذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : أمّتي على ثلاثة أصناف : صنف يشبّهون بالملائكة ، وصنف يشبّهون بالأنبياء ، وصنف يشبّهون بالبهائم ، أمّا الّذين يشبّهون بالأنبياء فهمّتهم الصلاة والزكاة ، وأمّا الّذين يشبّهون بالملائكة فهمّهم التسبيح والتهليل والتكبير ، وأمّا الّذين يشبّهون بالبهائم فهمّهم الأكل والشرب (١).

والحاصل : إنّ تلك العبادات لعدم ملاءمتها للنفس وصعوبتها لها تمنعها عن الطغيان إلى العصيان ، والتعدّي عن مقام الإيمان ، إلى ظلمات العدوان ، فكلّما كانت تلك الطاعات أصعب كان تذليلها للنفس أشدّ ، وتأثيرها في إصلاحها أقوى ، وهذا هو السرّ في قوله عليه السلام : أفضل الأعمال أحمزها (٢).

أي : ما كان مشقّته أكثر ، وعن الراحة أبعد ، فإنّ ذلك أكثر تأثيرا في مقام المجاهدة مع النفس ، وغلبة العقل عليها ، ألا ترى أنّه إذا كان الأسلحة أكثر

__________________

(١) جامع الأخبار : ١٠١.

(٢) مفتاح الفلاح : ٤٥.

٢٦١

كان رجاء الغلبة على العدوّ أقوى ، فإنّ بالأسلحة تكسر صولته ، فربّما ينقاد للغالب ويرجع إلى طاعته وأمره لزوال ما يقتضي طغيانه وجرأته على المعاداة ، فالنفس هي العدوّ المبين الّذي أخبر الله عنه ، وأمرنا بالحذر منه ؛ كما قال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (١).

وقال : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢).

وأيّ شيطان أخبث من النفس ، وأيّ عدوّ أعدى منها ، كيف وهي الّتي تحمل العبد على أن يسلك غير مسلك مولاه ، وتضلّه عن سبل صلاحه وهداه.

فينبغي على العاقل الحذر من شهواتها ، والتجنّب عن هواها ، ليغلب العقل اللامع الملكوتيّ عليها وعلى جنودها ، فيلوح شعشعان أنوار العرفان عن سماء قلبه ، وتطلع شموس الإيقان عن جهة فؤاده ، ويلتذّ بمقام العرفان الاستكشافيّ ، ويستغني به عن العرفان الاستدلاليّ ، فيجد لذّة الطاعات لله تعالى لزوال ما يمنع عن ذلك الوجدان بمغلوبية النفس وكسر شهواتها.

وهذا ـ أي كون أصعبيّة العمل أكثر تأثيرا من قمع النفس والغلبة عليها والرغبة في الطاعات والعبادات ، وتصفية القلب عن الشائبات ـ هو السرّ في أفضليّة العبادة في الليل ، وتواتر الأخبار في سهر الليالي ، فإنّ النفس في الليل مائلة إلى الاستراحة واستقرار الأعضاء للراحة ، فإذا منعتها عن قضاء شهوتها

__________________

(١) فاطر : ٦.

(٢) يس : ٦٠.

٢٦٢

هذه فقد غلبتها وكسرت صولتها ، فحينئذ تفوز بما أعدّه الله للمجاهدين والمخالفين للنفس على أنّ القلب في الليل ذاهل غالبا عن أكثر التعلّقات الّتي تشغله في اليوم عن مناجاة الحقّ ، فربّما تحصل له الخلوة مع الحقّ المحبوب ، فيلتذّ بمقام الأنس ، ومحلّ القدس ، على أنّ العبادة في الليل أخلص من شوائب الرياء والشرك ، وأصفى عن شؤونات الكفر والوساوس.

قال طاووس الحرمين : إصلاح الإنسان في خمسة أشياء :

الاعتزال عن الخلق.

وسهر الليل.

والجوع الدائم.

وقراءة القرآن.

وذكر الموت.

وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله في وصيّته لعليّ عليه السلام : يا عليّ ، صلّ بالليل ولو ركعتين ، فإنّ المصلّي بالليل أحسن وجوها بالنهار.

وفي «العدّة» : إنّ العبد ليقوم في الليل فيميل به النعاس يمينا وشمالا ، وقد وقع ذقنه على صدره ، فيأمر الله أبواب السماء تنفتح ، ثمّ يقول للملائكة : انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التقرّب إليّ لما لم أفترضه عليه ؛ راجيا منّي ثلاث خصال : ذنبا أغفره ، أو توبة أجدّدها له ، أو رزق أزيده ، اشهدوا ملائكتي أنّي قد جمعتهنّ له (١).

وعن الباقر عليه السلام قال : كان فيما أوحى الله إلى موسى : كذب من

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٢١ ، ثواب الأعمال : ٤٢.

٢٦٣

زعم أنّه يحبّني فإذا جنّه الليل نام (١).

وروي أنّ في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلّي ويدعو الله إلّا استجاب له ، قيل : فإنّه ساعة من الليل ، قال عليه السلام : إذا مضى نصف الليل إلى ثلث الباقي (٢).

تنبيهات

الأوّل : قال الطبرسيّ رحمه الله : دخلت «من» للتبعيض ، والمعنى : فاسجد له في بعض الليل ، لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه.

وقيل : فاسجد له يعني صلاة المغرب والعشاء.

أقول : ويؤيّد كونها للتبعيض قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٣).

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) ... (٤) إلى آخره.

الثاني : قال بعض العارفين : الأمر بالسجود والتسبيح هو الأمر بالصلاة في الليل لاشتمالها عليهما ، وهي أفضل الأعمال البدنيّة.

وينبّهك على ذلك أنّه قد كرّر منها ما يوجب التوجّه إلى المقصد الأعلى الأقصى ، وهو اسم الله ، ثمّ وضعت فيها حركات وسكنات على هيئة

__________________

(١) الأمالي ، للصدوق : ٣٥٦ ، عدّة الداعي : ٢٠٧.

(٢) التهذيب ٢ : ١١٧ ، مفتاح الفلاح : ٢٩١.

(٣) المزّمّل : ٢ ـ ٤.

(٤) المزّمّل : ٢٠.

٢٦٤

مخصوصة جرت العادة بالإقدام بها بين يدي الملوك.

وأمّا كونها بالليل أفضل فلوجوه :

الأوّل : أنّ الالتفات فيه إلى الجانب العلويّ أتمّ ، لأنّ اشتغال الحواسّ بحركات الخلق ، وأصواتهم بالنهار مانع عن الالتفات إلى الحقّ ؛ بخلاف الليل ، فإنّ الحواسّ فيه متوفّرة على العبادة ، خالية عن التعلّقات الدنيويّة.

الثاني : أنّ الخضوع والتعبّد فيه أوفى.

الثالث : أنّ العبادة في الليل أبعد من الرياء ، لأنّه مستخف عن أعين الخلق.

أقول : ويدلّ على أنّ المراد بالسجود والتسبيح هو الصلاة بعض الروايات ، ولا حاجة إلى ذكره.

ولو فسّر بظاهر القول لما كان ممنوعا ، فالمراد السجود الكامل الجامع للشرائط الظاهريّة والباطنيّة ، والتسبيح كذلك ؛ إذ الأمر بالشيء طلب الصحيح الكامل سيّما أمر العاشق معشوقه ، فإنّ العاشق لا يزال يسعى في أداء المأمور به على الوجه الأكمل المحبوب عند العاشق ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا أسامة ، عليك بالسجود ، فإنّه أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا كان ساجدا ، وما من عبد سجد لله سجدة إلّا كتب الله له بها حسنة ، ومحا عنه سيّئة ، ورفع له درجة ، وأقبل الله عليه بوجهه ، وباهى به ملائكته ... (١) إلى آخره.

وفي «مصباح الشريعة» : ما خسر والله قطّ من أتى بحقيقة السجود ولو

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ : ٤٧٥.

٢٦٥

كان في العمر مرّة واحدة ، وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال شبيها بمخادع نفسه ، غافل لاه عمّا أعدّ الله للساجدين من أنس العاجل ، وراحة الآجل ، ولا بعد عن الله أبدا من أحسن تقرّبه في السجود ، ولا قرب إليه أبدا من أساء أدبه ، وضيّع حرمته بتعلّق قلبه بسواه في حال سجوده ، فاسجد سجود متواضع لله ذليل علم أنّه خلق من تراب يطأ الخلق ، وأنّه ركّب من نطفة يستقذرها كلّ أحد ، وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسرّ والروح ، فمن قرب منه بعد من غيره ، ألا ترى في الظاهر أنّه لا يستوي حال السجود إلّا بالتواري عن جميع الأشياء ، والاحتجاب عن كلّ ما تراه العيون ، كذلك أمر بالباطن ، فمن كان قلبه متعلّقا في صلاته بشيء دون الله فهو قريب من ذلك الشيء ، بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته ، قال الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (١).

وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : قال الله لا أطّلع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعة وجهي ، وابتغاء مرضاتي ، إلّا تولّيت تقويمه وسياسته ، ومن اشتغل بغيري في صلاته فهو من المستهزئين بنفسه ، مكتوب اسمه في ديوان الخاسرين (٢).

الثالث : قال بعض الصوفيّة : ركوع العبد عبارة عن فنائه فناء جزئيّا ، وهو انعدام وجود العبد بواسطة استيلاء نور الحقّ في قلبه ، مع شعوره بذلك. وسجوده عبارة عن فنائه فناء كلّيّا ، وهو الانعدام مع انتفاء الشعور من كثرة

__________________

(١) الأحزاب : ٤.

(٢) مصباح الشريعة : ٩١.

٢٦٦

استغراقه في لجّة التوحيد ، بحيث لا يرى ثمّة إلّا الوجه الباقي لله الواحد القهّار.

وهذا هو مقام جمع الجمع وعين الجمع الّذي يظهر فيه سرّ الربّانيّة ، ونور الصمدانيّة ، في جميع جهات العبد :

گفتمش كى زتو يابم اثرى گفت اندم

كه نماند زتو اندر دو جهان هيچ اثر

گفتمش هيچ توان در تو رسيدن گفت

در من آنكس برسد كو كند از خويش گذر

قال الله تعالى :

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً).

أقول : لقد أشار تعالى في تلك الآية إلى خسران الّذين اتّبعوا أهواءهم ، واستراحت أنفسهم بقضاء قضاياها وما اشتهته من الأمور المضلّة الّتي بها تغلب على العقل وجنوده ، ويطفأ نور ملكوتيّته ، فاختاروا اللذّات الحسّيّة العاجلة الفانية على اللذّات الحقيقيّة الدائمة ، حيث ما اتّبعوا النبيّ صلّى الله عليه وآله في أوامره ونواهيه وأفعاله من العبادات والرياضات المذكورة من السجود بالتذلّل عند حضرة الحقّ ، والتسبيح والتقديس لذاته المجرّدة عن صفات كلّ ما في الإمكان من العيب والنقصان ، فلو كانوا متّبعين له حقّ الاتّباع ، متأسّين به في تلك الرياضات لما اشتروا اللذّة العاجلة باللذّة الروحانيّة الباقية ، لأنّهم حينئذ يجدون اللذّات الروحانيّة بكسر شهوات النفس بالمتابعة والانقياد ، فيستغنون بها عن اللذّة العاجلة ؛ إذ الواجد للأعلى

٢٦٧

مستغن عن الأدنى ، بل غير ملتفت إليه أصلا ، لأنّه حينئذ ـ أي حين التفاته إلى ذلك المقام الأدنى ـ يفوت التفاتة إلى الأعلى ، فيحرم عن إدراك اللّذة في ذلك الحين ، لاستحالة الالتفات إلى الشيئين المتضادّين ، وإدراك اللذّتين في حين واحد ؛ كما قال : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (١).

وهذا هو السرّ فيما ورد من أنّه لا يجتمع في قلب حبّ الدنيا والآخرة ، أو حبّ الله وحبّ غيره.

وفي «مصباح الشريعة» : المغرور في الدنيا مسكين ، وفي الآخرة مغبون ، لأنّه باع الأفضل بالأدنى ... (٢) إلى آخره.

ثمّ لا يخفى أنّ التخلّص من ذلك الحبّ ـ أي حبّ اللذّة العاجلة ـ إنّما يكون بالطاعات والعبادات المقمعة لشهوات النفس ، بشرط كمالها وتماميّتها بسبق المعرفة ؛ إذا العبادات الغير المسبوقة بها لا يترتّب عليها الآثار المقرّرة لها ؛ إذ تأثير الشيء إنّما هو بعد كماله بما هو في حدّه ، وكمال العبادات إنّما هو بالمعرفة الحقيقيّة الّتي أشار إليها عليّ بن الحسين عليه السلام حيث قال : يا جابر ، أو تدري ما المعرفة؟ المعرفة إثبات التوحيد أوّلا ، ثمّ معرفة المعاني ثانيا ، ثمّ معرفة الأبواب ثالثا ، ثمّ معرفة الإمام رابعا ، ثمّ معرفة الأركان خامسا ، ثمّ معرفة النقباء سادسا ، ثمّ معرفة النجباء سابعا ... (٣) إلى آخره.

__________________

(١) الأحزاب : ٤.

(٢) مصباح الشريعة : ١٤٢.

(٣) بحار الأنوار ٢٦ : ١٢.

٢٦٨

فكأنّه عليه السلام قد حصر أصول المعرفة في سبع درجات :

الأولى : معرفة الحقّ بما هو عليه من الكمال والوحدانية لا بمعنى أن يطّلع على كينونيّته الساذجيّة ، ويكتنه حقيقته الذاتيّة ، فإنّ ذلك لمحال لا يدركه شيء ، ولا يدلّ عليه شيء ، كيف وكلّ شيء ممكن ، وقد ثبت امتناع اقترانه بالممكن ، كيف ولا وجود للمكن في رتبة الواجب حتّى يصحّ له الاقتران ، فإنّ كلّ ما يطلق عليه الشيئيّة ممّا سوى الحقّ خلقه وإبداعه ، فكيف يمكن أن يكون الخلق مقترنا بالخالق ، دالّا على هويّته ، كيف وليس الدليل على الذات إلّا الذات ؛ إذ غير الذات واقع تحت مقام الذات ، فلا يمكن أن يستدلّ به على الذات ، فسبحان الذات من أن يقع عليه الدلالات من غير الذات.

ومن ذلك ردّت الدلائل الّتي أقاموها على وجود الصانع ووحدانيّته ، وغير ذلك من صفاته ، وقد شهدت أنفسهم على ذلك الردّ حيث استدلّوا بما اخترعته أنفسهم من الأدلّة والبراهين على الحقّ ، مع أنّ تلك الأدلّة من أفراد الممكن ، فكيف تجعل أدلّة على الواجب المطلق تعالى.

كيف ولا دليل على وجود الحقّ إلّا الحقّ ، ولا على وحدانيّته إلّا ذاته ، فمن ادّعى معرفته فقد كفر ، ومن سأل عن التوحيد فقد تزندق ، ومن أجاب عنه فقد كفر ، بل بمعنى حصول القطع والجزم له بتقدّسه عن معرفة كلّ شيء ، وتجرّده عن وصف كلّ شيء ، وتساميه عن ثناء كلّ شيء ، وتعاليه عن ذكر كلّ شيء ، ولا يفوز بذلك المقام إلّا من ورد شريعة التوحيد ، ودخل لجّة الأحديّة ، فإنّه حينئذ يعرف الحقّ بذلك العرفان عرفانا استكشافيّا في

٢٦٩

حدّ ذاته ورتبته بحيث لا يصلح ذلك لغيره ، ولا غير ذلك له.

وهذه المعرفة ليست معرفة حقيقيّة ، بل معرفة إمكانيّة بحسب طاقة العارفين ؛ إذ المعرفة الحقيقية بالذات ليست إلّا للذات :

در ره عشق نشد كس بيقين محرم راز

هركسى بر حسب فهم گمانى دارد

الثانية : معرفة المعاني ، أي معاني أسماء الحقّ تعالى ومظاهرها كما قال : وأمّا المعاني فنحن معانيه وظاهره فيكم ، اخترعنا من نور ذاته ، وفوّض إلينا أمور عباده ، فنحن نفعل بإذنه ما نشاء ، ونحن إذا شئنا شاء الله ، وإذا أردنا أراد الله ، ونحن أحلّنا الله هذا المحلّ ، واصطفانا من بين عباده ، وجعلنا حجّته في بلاده ، فمن أنكر شيئا وردّه فقد ردّ على الله ، وكفر بآياته ، وأنبيائه ورسله ... إلى آخره.

وهذه هي المعاني الّتي أشار إليها في دعاء رجب : «اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك ، المأمونون على سرّك ، المستبشرون بأمرك ، الواصفون لقدرتك ، المعلنون ، لعظمتك ، أسألك بما نطق فيهم من مشيّتك ، فجعلتهم معادن لكلماتك ، وأركانا لتوحيدك ، وآياتك ومقاماتك الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان ، يعرفك بها عن عرفك ، لا فرق بينك وبينها إلّا أنّهم عبادك وخلقك.

إلى أن قال : فبهم ملأت سماءك وأرضك ، حتّى ظهر أن لا إله إلّا أنت ... إلى آخره.

ولا يخفى أنّ أفضل تلك المعاني هو المظهر لاسم الذات أعني محمّدا صلّى الله عليه وآله الّذي هو فوق كلّ شيء بعد مقام الحقّ تعالى ، فيجب

٢٧٠

الإقرار بأنّه أوّل مخلوق خلق من نور الذات بنفسه لنفسه ، لا من شيء قبل خلق كلّ شيء ، لا يساوقه ذكر ، ولا يقارنه حكم ، ولا يشابهه نعت ، ولا يعادله وصف ، ولا يليق به ثناء من غير الحقّ ، ولا مدح من غيره ، ولا يماثله في سلسلة الإمكان شيء ، ولا يقاربه في دائرة الإبداع مخلوق ، ولا يوازيه في عوالم الاختراع موجود.

كيف وهو المختصّ بمقامات عالية ليس لغيره حتّى سائر المعاني إدراكها ، والاطّلاع على كنهها ، واستقصاء مراتبها.

منها : مقام النقطة البدئيّة المتنزّلة عن سماء غيب الهويّة المطلقة ، بمعنى أنّه صلّى الله عليه وآله أوّل كلّ شيء بحيث لم يسبقه ذكر شيء ، وهو في ذلك المقام صرف الهويّة ، وآية الأحديّة ، ونقطة المشيّة في أوّل مقام الفعل ، والإشارات كلّها عن ذلك المقام مقطوعة ، والدلالات بأسرها عن الاقتران به ممنوعة.

كيف وذلك مقام الإمكان بلا مثل ، وشبه ، والإبداع بلا نظير ، فلا يشاركه صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام شيء ، ضرورة استحالة أوّليّة الشيئين ، وصدور غير الواحد عن الواحد من جميع الجهات ، فمعرفة ذلك المقام هو الإقرار به تعبّدا ؛ إذ العرفان الكنهيّ هنا محال إلّا على المماثل له صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام ، وليس كمثله شيء حتّى يطّلع على مقامه ، ويستكنه لجلاله وجماله ، فكما هو صلّى الله عليه وآله لقد اختصّه بذلك المقام ، كذلك اختصّه بمعرفة قيام نفسه في ذلك المقام ، كيف وليس لسائر المعاني ذكر في ذلك المقام.

٢٧١

ومنها : مقام النقطة الإمكانيّة الإبداعية ، وهو صلّى الله عليه وآله مذكور في ذلك المقام بالاسم والصفة بالذكر الأوّل الّذي لم يذكر قبله شيء بذلك الذكر.

والمراد بالصفة هي صفات المقام الأوّل حيث تعيّنت وذكرت ، فإنّها في الأوّل ما كانت مذكورة بتلك المثابة. وهذا معنى قوله : حتّى كنت سمعه وبصره ويده ... إلى آخره أي تتجلّى فيه الصفات بأجمعها في أوّل الإبداع وذكر الاختراع ، ويسمّى صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام بالآدم البديع ، والمذكور الأوّل ، والمتعيّن السابق ، ومرآة القرب ، وبلّورة الجذب.

ومنها : مقام النقطة الفصليّة ، بمعنى أنّه صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام واسطة لإيصال الفيض الأزلانيّ إلى تلك المعاني ، ولا يعرفه صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام أحد إلّا الله ونفسه ، والمعاني بحسب إمكانهم لا بالتحقيق الاستكناهيّ ، والعرفان الاستقصائيّ.

ومنها : مقام النقطة الوصليّة ، وهو صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام قطب لعالم الفؤاد ، ومركز لدائرة الإيجاد ، بمعنى أنّه القيّوم في مقامه الّذي لا حاجة له إلى غيره مع افتقار الغير إليه في الاتّصاف بالوجود التنزّليّ الشهوديّ ، فإنّ الكلّ حتّى الأنبياء مخلوق به ومذكور بذكره وهو غنيّ عن العالمين.

ومنها : مقام النقطة الأصليّة ، بمعنى أنّ الأنوار كلّها طائفة حوله صلّى الله عليه وآله في ذلك المقام ، والكلّ من شؤوناته وأثمار وجود أنانيّته.

ومنها : مقام النقطة الكونيّة ، بمعنى أنّه يجب على كلّ شيء في الإمكان

٢٧٢

الإقرار بنبوّته من أوّل الدهر إلى آخره في ذلك المقام ، هذا مجمل من بيان النقاط الشعشعانيّة المتلئلئة الّتي شرّف بها نبيّنا محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله.

الثالثة : معرفة الأبواب بأن يقرّ بأنّ النفس المقدّسة العلويّة عليها السلام هي اللائقة بمقام الوصاية ، والخاصّة بحمل الولاية المطلقة من غير أن يكون بينها وبين العقل الأوّل الفائز بالنقاط المذكورة فاصل.

كيف وهما كالنفس الواحدة ، لا يفصل بينهما شيء ، وهو عليه السلام لقد فاق بذلك المقام على كلّ ما في الإمكان ممّا سوى النبيّ صلّى الله عليه وآله ، فلا يعرفه أحد بمقامه هذا إلّا الله ورسوله دون غيرهما ؛ إذ كلّما تصوّره واقع في الرتبة السفلى ، فكيف يمكن له إدراك الرتبة العليا.

الرابعة : معرفة الإمام بمعنى أن يقطع ويقرّ بأنّ الاثني عشر من آل محمّد عليهم السلام القائمون مقام النبيّ صلّى الله عليه وآله والحاملون للولاية المطلقة بحسب الإمكان ، وعليّ عليه السلام أفضلهم لما له من المقام المذكور الّذي لا يعرفه فيه أحد إلّا الله ورسوله.

الخامسة : معرفة الأركان ، بمعنى أن يقرّ بمقامات جميع الأنبياء وأوصيائهم ؛ من آدم إلى الخاتم صلّى الله عليه وآله ، وبأنّهم بمنزلة الأظلال بالنسبة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وعترته المعصومين ، كيف والكلّ قد دعوا الخلق بالنبوّة التبعيّة الظلّيّة ، وهؤلاء المعصومون لقد دعوهم بالدعوة الأصيلة الحقيقيّة.

السادسة : معرفة النقباء ومقامهم بعد مقام الأئمّة عليهم السلام ، وهم

٢٧٣

المستفيضون من أنوار أسرارهم ، فيفيضون إلى الناس ، فهم الواسطة لفيضهم عليهم السلام إليهم ، والحاملون لفيض الله إليهم بإذنه تعالى ، والمعلّمون لهم مصالحهم ومفاسدهم ، ولكنّ الناس لا يعرفونهم وهم بينهم.

وقيل : لا عدد لهم معيّنا.

وقيل : من الواحد إلى الثلاثين. وتفصيل القول موجب للتطويل.

السابعة : معرفة النجباء ومقامهم تحت مقام النقباء ، وهم الواسطة لوصول الفيض عليهم إلى ما سواهم من الناس ، وعددهم أربعون.

وقيل : لا عدد لهم.

وهم العلماء الّذين أمر الناس بمتابعتهم ، وأخذ الأحكام منهم في زمن الغيبة ، وهو زماننا هذا.

كيف وطاعتهم طاعة الله ، والردّ عليهم ردّ على الله ، والأخبار الواردة في ذلك المعنى متواترة مشهورة.

وبالجملة : فمن فاز بعرفان تلك المراتب حقّ العرفان يجد لذّات لا نهاية لها ، فيستغني عن اللذّات المحدودة العاجلة الفانية ، فلا يزال يسعى في الرياضات والطاعات والمجاهدات في سبيل الله ، والمناجاة في جميع الحالات. وأمّا من حرم عن عرفان تلك المراتب السبع فلا جرم يعمى عن مشاهدة الأنوار القدسانيّة المتلئلئة ، ويصمّ عن استماع تفرّدات طواويس الأحديّة ، ويبكم عن الاستنطاق بآيات جبروت الوحدانيّة ، وملكوت الصمدانيّة ، ويكلّ ذوقه عن إدراك لذّات مشاهدة وجه العزّانيّة ، فيؤثر اللذّة

٢٧٤

العاجلة على اللذّة الحقيقيّة الّتي ليس فوقها لذّة ، ولا لغيرها ذكر في مقام ذكر اللذّة ، وليس شيء أشدّ خسرانا من ذلك الغافل ؛ حيث لم يعرف رتبته ، وضيّع استعداده ، فتاه في فيافي الضلال حيران ، وعن لباس التوحيد عريان ، فبات في مهود النقصان ، وأصبح متلهّفا بالخسران ، فإنّه داخل في عموم (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (١) أي عرفوا المقامات السبعة ، وأقرّوا بمن هي له ممّا أشرنا إليه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) أي ما يصلح نفوسهم من العبادات والرياضات الممحّضة للقلب ، للتوجّه إلى حضرة الربّ (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) (٣) أي عرّفوا الناس ما عرفوه من المقامات بحسب إمكانهم واستعدادهم (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٤) أي عرّفوهم طرق العبادات والرياضات المانعة لشهوة النفس.

وروي أنّ المراد بالإنسان الّذي في الخسر هم أعداء العترة ، وبالّذين آمنوا المؤمنون بإيابهم عليهم السلام ، وبالعمل الصالح المواساة مع الإخوان ، وبالحقّ الإمامة ، وبالصبر العترة. انتهى.

بوارق

الأولى : قال بعض العارفين رحمه الله : هذه إشارة إلى النفوس المقهورة في يد شياطينها ، والعاجلة هي الحياة الدنيا وزينتها ، واللذّات الحاضرة الحسّيّة ، أي يولّون وجوههم شطرها ، ويعرضون عن القبلة الحقيقيّة ، ولا تلتفت نفوسهم إلى ما يحصل لها من ضرورة الموت وما بعدها من العذاب

__________________

(١) العصر : ٢ ـ ٣.

(٢) العصر : ٣.

(٣) العصر : ٣.

(٤) العصر : ٣.

٢٧٥

الموعود بسبب ذلك الإعراض ، ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ، وثقله : شدّته.

أقول : لقد ظهر من ذلك وجه المناسبة بين الآية وما تقدّمها ، فإنّ فيها إشارة إلى أنّ الّذين يؤثرون اللذّة الفانية على اللذّة الروحانيّة العقلانيّة ، ويحبّون الحياة العاجلة بالميل النفسانيّ ما زكّوا نفوسهم بالزهد عن كلّ شيء ، والسير إلى الله ، وتبديل مساوئها بالمحاسن الأخلاقيّة ، وتصفيتها عن الأغراض الفاسدة بإخلاص العمل لوجه الحيّ القديم من العجب والرياء والنفاق والسمعة وغير ذلك من الأغراض الّتي تميت القلب والعقل ، وتزيل ملكة الاستبصار ، وتحرم صاحبها عن مشاهدة الأنوار ، ومخاطرة الأسرار.

كيف ولا يفوز العبد بالقرب السبحانيّ ، والجذب الأزلانيّ إلّا بعد أن يكون همّه الانقطاع عن كلّ شيء إلى خالق كلّ شيء ، والافتراق عن محبّة كلّ شيء ؛ راغبا في حبّ بارئ كلّ شيء.

ولا يلوح نور عقل العبد في قلبه إلّا بعد رعاية أمور ثلاثة :

الأوّل : قصر الأمل باستقراب الأجل ، فإنّه حينئذ يرغب عن الدنيا إلى الآخرة ، ويؤثر اللذّة الآجلة على العاجلة ، ولا يزال يجتهد في اجتناء ثمرات الهداية عن أغصان شجرة السعادة ، واقتناء الجواهر الساذجة من معادن الزهادة ، ويتذكّر لما أعدّ للمؤمن وهيّئ للكافر بعد الموت من القرب والبعد ، والثواب والعقاب ، فيحبّ لقاء الله ، ويكره الاجتماع مع غير الله.

الثاني : التأمّل في القرآن وما فيه من المواعظ والزواجر والأحكام والقصص والأمثال وغير ذلك ممّا ينوّر الاعتبار به ، والتدبّر فيه القلب ، ويشرح الصدر ، ويحيي العقل ، ويميت النفس ؛ كما لا يخفى على الفائز

٢٧٦

بذلك المقام ، وقد قال عليّ عليه السلام : اعلموا أنّ القرآن هدى الليل والنهار ، ونور الليل المظلم (١).

الثالث : التقليل من خمسة أشياء :

الأوّل : اختلاط الخلق والترداد معهم ، فإنّه شاغل عن الحقّ ، مانع عن قربه ، وذاهل عن الموت. نعم ، في صحبة السالكين والعلماء الزاهدين بركة ورحمة وهدى وموعظة للمتّقين.

الثاني : التمنّي ، فإنّه مواعيد الشيطان ، يضلّ العبد عن مراتب الإيقان ، ويسوّل الباطل في نظر أهل النقصان.

الثالث : التعلّق بما سوى الحقّ ، فإنّه يبعد العبد عن ساحة الربّ ، ويحرمه عن لذّة الجذب ، ويعميه عن نور القلب.

الرابع : الشبع ، فإنّه يهيّج الشهوات ، ويغلب البطر والأشر ، ويكلّ الإدراك ، ويسدّ طرق الفهم والإلهام.

الخامس : المنام ، وهو يكسّل عن الطاعة ، ويكدّر الحواسّ ، ويورث النسيان ، ويميت قلب الإنسان ، وينكّسه إلى مراتب سائر الحيوان.

قال بعض العارفين : واعلم أنّ الجوع ينفي هذه الرذائل كلّها من النفس ، لأنّه يقلّ النوم ، ويملّ عن الخلق ، ويضيّق مداخل الشيطان ، ويصقل القلب ، ويسدّ بالتذكّر باب التمنّي ... إلى آخره.

فمن رعى هذه الأمور الثلاثة لا تغلب عليه محبّة الدنيا وزخارفها ولذّتها الفانية ، فيفوز باللذّات الروحانيّة الّتي لا نهاية لها أصلا ، بل هي

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢١٦.

٢٧٧

الفاكهة الكثيرة الّتي ليست مقطوعة ولا ممنوعة ، ولذلك أمر الله نبيّه بذكر الحقّ ، والسجود لكبريائه ، والتسبيح لعظمته وعلائه ، فإنّ كلّ ذلك ممّا يصفّي النفس عن محبّة غير الله ، والتوجّه إلى ما سوى حضرة قدس الله ؛ بحيث لا تلتفت النفس بعد ذلك إلى اللذّات العاجلة ، لالتفاتها إلى اللذّات العالية الباقية الّتي هي فوق جميع اللذّات ، فالتعقيب بقوله : (إِنَّ هؤُلاءِ) ... إلى آخره ، مشعر إشعارا لطيفا بأنّ الّذين لا يشتغلون بتلك العبادات الّتي أمر بها نبيّهم لقد حصر التفاتهم في اللذّات العاجلة ، وهمّهم في الحياة الدنيا ، وغفلوا عن عالم المثال والقيامة ؛ حيث لم يؤمنوا بما أعدّه الله بعد مفارقة الأرواح عن الأجسام للمؤمنين والكافرين.

الثانية : اليوم الثقيل العسير الشديد وهو يوم القيامة ، فإنّ أهواله شديدة ثقيلة على الكافرين ؛ كما قال : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) (١) أي أبعدهم عن مقام قربه بما اختاروه في الدنيا من الاحتجابات ، وأعدّ لهم نار البعد الدائم.

فلا وليّ لهم حينئذ يواليهم ، ولا نصير لهم ينصرهم ، وعند ذلك يتذكّرون ما قصّروا عن تحصيله ، وكسلوا عن رعايته ، وطاعة دليله ، فيتأسّفون ويقولون : يا ليتنا كنّا مع المطيعين الّذين أزالوا الاحتجابات عن السبحات ، ففازوا بعين النور ، وكشف السرّ المستسر في السرّ المستور.

وقيل : المراد باليوم الثقل حين مفارقة الروح عن البدن ، فإنّ التعلّقات

__________________

(١) الأحزاب : ٦٤ ـ ٦٦.

٢٧٨

الغيريّة ، والمحبّة للشؤونات العرضيّة ، تصدم الروح حينئذ لكثره اشتغاله بالأمور الدنيويّة ، وتعلّقه باللذّات الحسّيّة ، فكلّما كثر تعلّقه تكثر صدمته وتألّمه.

والكافر المعرض عن الحقّ بالكلّيّة متعلّق بجميع ما سوى الله ، فلا يكون يوم أثقل عليه من ذلك اليوم ، وحين أصعب عليه من ذلك الحين ؛ بخلاف المؤمن الموحّد المعرض عن التعلّقات الغيريّة ، فإنّه حينئذ يلتذّ بما يترتّب على أمره ؛ حيث يرى بدنه حاجبا عن إدراك اللذّات العقليّة ؛ على التفصيل المذكور.

وفي المقام مقالات كثيرة يمنعني عنها ضيق الوقت ، وكلال الحال.

الثالثة : المراد بقوله : (وَيَذَرُونَ) ... إلى آخره أنّهم معرضون عن العمل لذلك اليوم ، ذاهلون عن شدائده ، وذلك ـ أي إعراضهم بالكلّيّة ـ هو معنى عدم إيمانهم بذلك اليوم ، فإنّ المؤمن به يخاف أهواله وشدائده ، فيسعى في أمر يخلّصه منها ، وهو الطاعات والعبادات الشرعيّة كما قال : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) بخلاف الكافر ، فإنّه لفرط جهله وشقاوته لا يعتقد بذلك اليوم ، بل لا يلتفت إلى ذكره أصلا إلّا على سبيل الإنكار والاستهزاء ؛ كما قال : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ * يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ * فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (١) إلى

__________________

(١) القيامة : ٥ ـ ١٣.

٢٧٩

قوله : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) ... (١) إلى آخره.

الرابعة : لا بأس بتفسير اليوم الثقيل بأيّام ظهور المهديّ المنتظر ، ورجعة الأئمّة المعصومين والمؤمنين بهم ، أي هذا السنخ من الناس يعجلون بأمر الله في شأن القائم ، ولا يعلمون أنّ غيبته وطول المدّة إنّما يكون لما يعلمه الله في المصالح الخفيّة ، والحكم المكنونة ، ويذرون يوم ظهوره عليه السلام ، أي لا يعملون بالطاعات ليكون ذلك فتنة لهم في ذلك اليوم ، فإنّ العامل لوجه الله يفوز في أيّام الرجعة بمعرفة الإمام ، ويدرك فيض صحبته ، ويلتذّ بحقائق جواهر معارفه.

بخلاف الذاهل الكاسل عن الطاعات ، وتحصيل المعارف ، فإنّه يكفر بمقامه عليه السلام ، ولا يؤمن برتبته ، فيحرم عن اللذّات الإلهيّة ، والدرجات المقرّرة لمقام الإنسانيّة ، فتلك الأيّام ثقيلة ، أي شديدة على الكافرين والمنافقين ، لابتلائهم بالشكّ والحيرة ، والكفر والجهل والشقاوة ؛ بخلاف المؤمنين ، فإنّهم لقد وصلوا مناهم بصحبته عليه السلام.

كيف وهو المعشوق الحقيقيّ للمؤمنين ، أفترى أن يكون يوم الوصال ثقيلا على العاشق الشائق؟

فهؤلاء المؤمنون هم الّذين امتحنهم الله للإيمان ، فوجدهم خالصين مخلصين في سبيل الإيقان ؛ كما قال لا يعرف القائم إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان. انتهى.

وهذا اليوم هو يوم ابتلاء الناس وامتحانهم حتّى يميّز الخبيث من

__________________

(١) القيامة : ٢٠.

٢٨٠