بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

الطيّب ، ويمحّص الكافر من المؤمن ؛ كما قال : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (١).

فكيف لا يكون ثقيلا شديدا ، وقد أخبر الأنبياء السابقون عن شدّته وثقله ، وأنّه يوم عسير على الكافرين غير يسير.

أو ما طالعت كتاب «مارمتّى» كيف ذكر في الفصل الأربعين منه أنّ المسيح عليه السلام قال : تشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر ، فجمعت من كلّ جنس ؛ كلّما امتلأت أطلعوها إلى الشاطئ فجلسوا وجمعوا الخيار في الأوعية ، والشرار رموه خارجا ، هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان ، تخرج الملائكة ويميّزون الأشرار من وسط الصدّيقين ، ويلقونهم في أتون النار ، هنالك يكون البكاء ، وهرير الأسنان.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : والله لتكسرنّ كسر الزجاج ، وإنّ الزجاج يعاد فيعود كما كان ، والله لتكسرنّ كسر الفخّار ، وإنّ الفخّار لا يعود كما كان ، والله لتميّزنّ ، والله لتمحّصنّ ، والله لتغربلنّ كما يغربل الزوان من القمح (٢).

وقال عليه السلام : يا منصور ، إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلّا بعد أياس ، لا والله حتّى تميّزوا ، لا والله حتّى تمحّصوا ، لا والله حتّى يشقى ويسعد من يسعد (٣).

__________________

(١) العنكبوت : ٢ ـ ٣.

(٢) الغيبة ، للطوسيّ : ٣٤٠.

(٣) الكافي ١ : ٣٧٠.

٢٨١

وعن أبي الحسن عليه السلام قال : قال : أما والله ، لا يكون الّذي تمدّون إليه أعينكم حتّى تميّزوا وتمحّصوا ، حتّى لا يبقى منكم إلّا الأندر ، ثمّ تلا (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ... وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١) (٢).

وعن إبراهيم قال : قلت له عليه السلام : جعلت فداك ، مات أبي على هذا الأمر وقد بلغ من السنين ما قد ترى ، أو لا تخبرني بشيء؟ فقال : يا أبا إسحاق ، أنت تعجل؟ فقلت : إي والله ، أعجل ، ومالي لا أعجل وقد بلغت السنّ ما ترى؟ فقال : أما والله يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتّى تميّزوا وتمحّصوا ، وحتّى لا يبقى منكم إلّا الأقلّ (٣).

وعن عميرة عن الحسن بن عليّ عليه السلام قال : لا يكون هذا الأمر الّذي ينتظرون حتّى يبرأ بعضكم من بعض ، ويتفل بعضكم في وجوه بعض ، وحتّى يلعن بعضكم بعضا ، وحتّى يسمّي بعضكم بعضا كذّابين (٤).

وعن مالك بن حمزة قال : قال عليّ عليه السلام : يا مالك ، كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا ـ وشبّك أصابعه ، ودخل بعضها في بعض ـ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما عند ذلك من خير؟ قال : الخير كلّه عند ذلك.

يا مالك ، عند ذلك يقوم قائمنا ، فيقدم سبعين رجلا يكذبون على الله وعلى رسوله فيقتلهم ... (٥) إلى آخره.

وعن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : عليّ بن أبي

__________________

(١) التوبة : ١٦.

(٢) الغيبة ، للطوسيّ : ٣٣٦.

(٣) الغيبة ، للنعمانيّ : ٢٠٨.

(٤ و ٥) الغيبة ، للنعمانيّ : ٢٠٦.

٢٨٢

طالب إمام امّتي ، وخليفتي عليهم بعدي ، ومن ولده القائم المنتظر الّذي يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، والّذي بعثني بالحقّ بشيرا إنّ الثابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر (١).

فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاريّ فقال : يا رسول الله ، وللقائم من ولدك غيبة؟ فقال صلّى الله عليه وآله : إي وربّي ، (لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (٢).

يا جابر ، إنّ هذا الأمر من أمر الله ، وسرّ من سرّ الله ، مطويّ عن عباده ، وإيّاك والشكّ في أمر الله ... (٣) إلى آخره.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله (وَيَذَرُونَ) عدم انتظارهم لقدومه وظهوره ، وذلك لعدم اشتغالهم إلّا بالمشاغل الدنيويّة ، وهو موجب للتنافر من المعارف الحقّة ، والحكم الإلهيّة.

وأمّا المؤمنون الموحّدون فلا يزالون منتظرين له ، جاهدين في سبيل محبّته كما ينتظر العاشق قدوم معشوقه ، ويجهد في تحصيل ما هو المحبوب عنده.

وقد ذكر في الفصل الحادي والثمانين من كتاب «مارمتّى» أنّه قال المسيح عليه السلام : تشبه ملكوت السماوات عشر عذاري أخذن مصابيحهنّ وخرجن للقاء العريس ، خمس منهنّ جاهلات ، وخمس

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة ١ : ٢٨٧.

(٢) آل عمران : ١٤١.

(٣) كشف الغمّة ٢ : ٥٢١ ، كمال الدين وتمام النعمة ١ : ٢٨٧.

٢٨٣

حكيمات ، فأمّا الجاهلات فأخذن مصابيحهنّ ولم يأخذن زيتا ، وأمّا الحكيمات فأخذن زيتا في إناء مع مصابيحهنّ ، فلمّا أبطأ العروس نعسن كلّهنّ ونمن وانتصف الليل ، فصرخ الصوت هاهو ذا العروس قد أقبل ، اخرجن للقائه.

حينئذ قام جميع العذاري وزيّنّ مصابيحهنّ ، فقالت الجاهلات للحكيمات : ادفعن لنا من زيتكنّ ، فإنّ مصابيحنا قد طفئت ، فأجبن الحكيمات وقلن : ليس معنا ما يكفينا وإيّا كنّ ، ولكن اذهبن وابتعن ، فلمّا ذهبن ليبتعن جاء العروس والمستعدّات دخلن معه إلى العرس ، واغلق الباب ، وفي الآخرين بقيّة العذاري قائلات : يا ربّ يا ربّ ، افتح لنا؟ فأجاب ، وقال : الحقّ أقول أنّي ما أعرفكنّ ، اسهروا الآن فإنّكم لا تعلمون اليوم ولا تلك الساعة.

وفي الفصل الثالث والثمانين من ذلك الكتاب : إذا جاء ابن الإنسان في مجده وجميع ملائكته معه حينئذ يجلس على كرسيّ مجده ، ويجمع إليه كلّ الأمم ، فيميّز بعضهم من بعض كما يميّز الراعي الخراف من الجدي ، ويقيم الخراف عن يمينه والجدي عن يساره.

حينئذ يقول الملك للّذين عن يمينه : تعالوا إليّ ، ورثوا الملك المعدّ لكم قبل إنشاء العالم ، لأنّي جعت فأطعمتموني ، وعطشت فسقيتموني ، وغريبا كنت فآويتموني ، وعريان فكسو تموني ، ومريضا فعد تموني ، ومحبوسا فأتيتم إليّ.

حينئذ يجيب الصدّيقون ويقولون : يا ربّ ، متى رأيناك جائعا

٢٨٤

فأطعمناك ، أو عطشان فسقيناك ، ومتى رأيناك غريبا فآويناك ، أو عريان فكسوناك ، أو متى رأيناك مريضا أو محبوسا فأتينا إليك؟! فيجيب الملك ويقول لهم : الحقّ أقول لكم ، إنّ الّذي فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتم.

حينئذ يقول للّذين عن يساره : اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار المؤبّدة المعدّة لإبليس وجنوده ، جعت فلم تطعموني ، وعطشت فلم تسقوني ، وغريبا كنت فلم تؤووني ، وعريان فلم تكسوني ، ومريضا ومحبوسا فلم تزوروني.

حينئذ يجيبون ويقولون : يا ربّ ، متى رأيناك جائعا أو عطشان أو غريبا أو عريان أو مريضا أو محبوسا فلم نخدمك.

حينئذ يجيب ويقول لهم : الحقّ أقول لكم ، إذا لم تفعلوا بأحد هؤلاء الصغار فلا بي فعلتم ، فيذهب هؤلاء إلى العذاب الدائم ، والصدّيقون إلى الحياة الأبديّة.

قال الله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) (١).

أقول : لمّا أشار تعالى إلى أنّ هؤلاء لقد حجبوا عن فيوضات القدس ، وتياسروا عن مقامات الأنس بمعصية الله ورسوله وأولي الأمر من آله فاختاروا الحياة الدنيا الفانية ، على الحياة الآخرة الباقية ، وآثروا اللذّة العاجلة على اللذّة الآجلة ، فاجترأوا على الله بمخالفته في أوامره ونواهيه ، وبترك

__________________

(١) الإنسان : ٢٨.

٢٨٥

متابعة خليفته في أرضه في أفعاله وأقواله.

نبّه في تلك الآية على أنّ إمهاله لهم بتأخير العذاب وتأجيل العقاب ليس من عجزه تعالى ، كيف وهو الّذي خلقهم وأوجدهم وصوّرهم وشدد أسرهم ، فبيده أمرهم بحيث لا يمكن لهم الفرار من قدرته ، والتباعد عن مملكته ؛ كما قال : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) ... (١) إلى آخره ، فليس ذلك الإمهال للعجز وعدم القدرة على العذاب ، بل لإتمام الحجّة عليهم ، وحكم اخرى لا يطّلع عليها إلّا هو.

بوارق

الأولى : قال بعض العارفين : ذلك إشارة منه إلى أنّه هو المبدأ الأوّل لكلّ مخلوق.

والمراد أنّ أزمّة أمورهم وحركاتهم بيده ، وهو مبدؤها ومصدرها ، وهي مستندة إليه ، مشدودة في أسر علمه الّذي [هو] نظام لكلّ الموجودات كلّيّها وجزئيّها ، وإذا كانوا كذلك لم يكن عاجزا عن التبديل لو شاء.

وفي ذلك تنبيه على أنّ القدرة عن غيره تعالى متلاشية في جنب قدرته.

الثانية : قوله : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قيل : أي قوّينا وأحكمنا خلقهم.

وقيل : أي مفاصلهم.

وقيل : أي أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب.

وقيل : أي جعلناهم أقوياء.

__________________

(١) الرحمن : ٣٣.

٢٨٦

وقيل : أي كلّفناهم فشددناهم بالأمر والنهي كي لا يجاوزوا حدود الله ، كما يشدّ الأسير.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد بشدّ أسرهم إعطاء الاستعداد والإمكان لمعالي حقائق العلم والعرفان ، أي خلقناهم وجعلناهم مستعدّين لتحمّل المعارف العالية ، وإدراك اللذّات المتعالية ، وفهم المطالب الغامضة الّتي لا يمكن دركها لغير ذلك النوع من الخلق ، فطوبى لمن سلك بهداية استعداده ، وتبّا لمن ضاع استعداده بالتسلّك في غير مسلك رشاده. وتفصيل القول في ذلك المقام ، موجب لطول الكلام.

الثالثة : في الآية إشارة إلى كمال صنع الله ، وتمام حكمته في خلق الإنسان ، وظهور قدرته في ذلك الخلق ، حيث خلقهم على هيئة أنيقة تشهد على كمال قدرة الخالق ، وصوّرهم على صورة عجيبة تدلّ على تمام حكمة الله ، وشدّ أسرهم بما شاءه من الكيفيّات الّتي يستدلّ بها على عظمة الله.

فلو تعمّق العبد في نفسه وما خلقه فيها ولها ، لما يجترئ على معصية الله ، فإنّه يشاهد حينئذ آيات قدرة الله وحكمته في خلق الله ، فيخاف مقام قهّاريّته وجبّاريّته ، ولا ينظر إلّا إلى وجه الله.

ففي الآية إشعار لطيف بأنّ هؤلاء لو تسلّكوا مسلك التفكّر في آيات الله ؛ سيّما في الآيات الّتي خلقها في أنفسهم لفازوا بما فاز به المؤمنون المتفكّرون من التوحيد والطاعة والعرفان ، والعزلة عن شوائب النقصان في جميع الأحيان.

الرابعة : لا بأس بتفسير شدّ الأسر بأخذ الميثاق عليهم ، أي خلقناهم

٢٨٧

وعهدنا إليهم أن لا يعبدوا إلّا الله الواحد القيّوم ، ولا يسلكوا غير مسلك الإيمان بمحمّد وآله المعصومين ، والإقرار بمقاماتهم الّتي أقامهم الله فيها ، وفضّلهم على كلّ ذرّات الممكنات بها ، وأن لا يجاوزوا عن حدود رتبتهم بأن يدّعوا لأنفسهم ما لم يقرّر لها في أوّل الأمر من النبوّة ، والولاية المطلقة ، والمحبّة المتعالية ، فإنّها خاصّة بمحمّد صلّى الله عليه وآله ومن يقوم مقامه.

ففي الآية إشعار لطيف بأنّ هؤلاء الطاغين عن أحكام الله ورسوله لقد نقضوا ما عاهدوه ، ونكثوا ما واثقوه في العالم السابق ؛ حيث سلكوا مسلكا لم يؤمروا بسلوكه ، واتّخذوا سبيلا ما فازوا به إلى معارج الحقّ ، ومدارج الصدق.

وأمّا المؤمنون ، فقد وفوا بما عاهدوا الله ؛ حيث سلكوا مسالك التوحيد ، ولبسوا خلع التجريد ، فاستضاءوا بالأنوار المتلئلئات ، واستكشفوا الأسرار المخبيّات عن المراتب الشعشعانيّات ، وإن ذلك إلّا لما أجابوا الحقّ في ندائه للمكنات ؛ حيث قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١).

أي بالمواثيق الّتي أخذنا عليكم في أوّل الأمر من الإقرار بمقام الأبرار ، والإعراض عن مسلك الأشرار.

وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ... (٢) إلى آخره. أي يا أيّها الّذين أقرّوا بما يجب الإقرار به في أوّل الأمر أقرّوا الآن في ذلك العالم ، وهذا المشهد بما أقررتم به سابقا.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النساء : ١٣٦.

٢٨٨

الخامسة : قوله (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا) ... إلى آخره ، قيل : أي ولو تعلّق مشيّتنا وإرادتنا بإهلاكهم أهلكناهم ، وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم ، ولكن نبقيهم لإتمام الحجّة.

أقول : وفيه أيضا إشارة إلى عموم قدرته لكلّ شيء ، وكمال سلطنته على كلّ أمر ؛ بحيث لا يمنع قدرته مانع ، ولا يردّ ما يشاءه رادّ ، فكما قدر على إيجادهم مع أنّهم لم يكونوا شيئا مذكورا ، كذلك يقدر على إهلاكهم ، وخلع الوجود عن ماهيّاتهم ، فقوله (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) كالتعليل للشرطيّة قدّمه لإزاحة شبهة السامع ابتداء حتّى لا يبقى له تأمّل في صدق المقال.

السادسة : قد يتوهّم من التبديل بالمثل صدق القول بالتناسخ ، فإنّ مثل الشيء ما وافقه في الحقيقة الذاتيّة ، أي خلعنا عنهم ذلك اللباس العنصريّ ، وأظهرناهم في لباس آخر ، فالهلاك متعلّقه البدن دون الحقيقة ؛ إذ بدونها لا تصدق المثليّة ، ودفعه هيّن.

كيف وفي الآية إشعار ببطلان ذلك المذهب ، فإنّ المثليّة مستلزمة للغيريّة ، فلو كان المبدّل عين المبدّل منه لما صدق التبديل بالمثل ، بل بالعين ، فلا يناسبه التبديل ، للزوم التغاير بين المبدّل والمبدّل منه بالضرورة ، والتناسخيّة لا يقولون بذلك ، بل يزعمون أنّ الأرواح البشريّة منتقلة من بدن إلى بدن بعد المفارقة من الأوّل ، فالروح المنتقل إلى البدن الثاني هو الروح الّذي كان في الأوّل بعينه ، فلا مغايرة أصلا في الحقيقة الذاتيّة ، وإنّما التغاير وصف التعيّنات الشخصيّة ، أي الأبدان الترابيّة ، فتختلف الأشكال في تلك التبدّلات ، والحقيقة واحدة في جميع الأحوال.

٢٨٩

وهؤلاء لقد جهلوا بحقيقة الحال ، وضلّوا عن ساحة الجمال ؛ حيث زعموا أنّ خزائن قدرته لقد نفدت ، فلا يقدر على خلق الأرواح بعد خلق الأرواح السابقة ، مع أنّ قدرته قدرة كاملة يفعل بها ما يشاء ، وهو على كلّ شيء قدير.

وقريب من ذلك القول ما زعمه بعض العارفين من أنّه إذا أراد الله تكميل عبد من عباده يهلك جماعة من الناس ليبرز أرواحهم فيه. وعليه حمل قول العطّار :

صد هزاران طفل سر ببريده شد

تا كليم الله صاحب ديده شده

فتأمّل.

قال الله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

أقول : لمّا بين في هذه السورة مقامات الأبرار ، وما به وصلوا إليها من الطاعات ، ودركات الأشرار ، وما به خذلوا فيها من ترك العبادات ، أشار في تلك الآية إلى أنّ السلوك في أحد المسلكين إنّما هو من اختيارات العبد ، وليس العبد مجبورا في ذلك السلوك حتّى يقدر ، إلّا أحدهما خاصّة ، بل هو مختار قادر على السلوكين ؛ كما قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) أي المقام مقام الاختيار ، فمن شاء اختار الإيمان ، فيترتّب عليه آثاره ، ومن شاء اختار الكفر ، فيترتّب عليه آثاره ؛ كما أشار إليه بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ

__________________

(١) الكهف : ٢٩.

٢٩٠

الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١).

وفي التعبير عن تلك الهداية بالتذكرة إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه من أنّ النفوس الإنسانيّة كانت من أوّل الأمر صافية عن الكدورات والغفلات ، عارفة بطريق الخير والشرّ ، وبأنّ الخير هو الّذي ينبغي الاشتغال به ، والشرّ هو الّذي ينبغي الإعراض عنه ، ولكن كدّرها التوجّهات والتعلّقات الدنيويّة ، فأنستها ذلك العرفان حتّى جهلت مصالحها ومفاسدها ، وضلّت عن طريق هدايتها.

فإذا دعاها داع إلى الحقّ بالمواعظ والنصائح ، والتأديبات الأخلاقيّة ، والتعليمات الذوقانيّة ؛ كانت تلك الدعوة تذكرة لها بما كانت به عارفة ، فنسيته بكثرة التعلّقات ، وهجوم أغبرة التوجّهات ؛ كما قال : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (٢) أي بأيّام عهد الله ، وأخذ ميثاقه عليهم.

وهذا هو السرّ في استعدادها لإدراك المعارف الحقّانيّة ، والعلوم الربّانيّة بعد التعلّم من أولي الألباب الصافية ؛ إذ لو لم تكن مسبوقة بالهداية الأوّليّة لما كانت متذكّرة بتلك الهداية في لاحق الأمر.

فهذه المعارف والحقائق فطريّة مكنونة في فطر الناس ؛ كما قال : كلّ مولود ولد على فطرة التوحيد. أي الهداية ، إلّا أنّ السبب لبروزها وظهورها ليس إلّا المجاهدة والسعي في تحصيلها بالاتّعاظ بالمواعظ الإلهيّة ، والاستماع للكلمات الربّانيّة ، ليتذكّر بتلك التذكرة ، ويتبصّر بهذه التبصرة.

__________________

(١) الروم : ١٥ ـ ١٦.

(٢) إبراهيم : ٥.

٢٩١

فهذه السورة بما اشتملت عليه من الجواهر الساذجيّة ، والفرائد البهيّة ، والفوائد السنيّة ؛ تذكرة لمن أراد التذكّر ، وتبصرة لمن قصد التبصّر ؛ كما قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١).

بوارق

الأولى : يحتمل أن تكون كلمة الإشارة إشارة إلى الخلقة المفهومة من قوله : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) ... إلى آخره ، أي : إنّ في خلقنا للإنسان تذكرة له ؛ حيث جعلنا فيه آيات بيّنات على كمال قدرتنا ، وعلامات شاهدات على مقام وحدتنا ، ودلالات واضحات إلى علوّ حكمتنا ، فمن تفكّر في نفسه حقّ التفكّر ، وتدبّر في أمر خلقه حقّ التدبّر ، يحصل له بالضرورة العلم القطعيّ بوجود الصانع الحكيم الّذي لا يجهل شيئا ، ولا يذهل عن أمر شيء ، ولا يشذّ عن قدرته شيء ؛ كما يحصل له العلم بالنتيجة بعد ترتيب المقدّمات القطعيّة.

ففي تفكّره استدلال بالمعلول على العلّة التامّة ، وهو أوّل مراتب المعرفة بالحقّ ، فإنّ السالك إذا فاز بتلك الدرجة فربّما يستغني عنها بالفوز بالدرجة الأعلى ، وهي الاستدلال بالعلّة على المعلول ، بأن لا يرى فيما يرى أوّلا إلّا نور الحقّ ؛ كما قال : ما رأيت شيئا إلّا وقد رأيت الله قبله.

ويدلّك على ذلك ، أي على أنّه قد يستغني عن التوجّه إلى الدليل بالالتفات إلى المدلول مقال الخليل عليه السلام على ما حكى الله عنه بقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا

__________________

(١) ق : ٣٧.

٢٩٢

رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

حيث علم إجمالا أنّ الحقّ يجب أن يكون موصوفا بالكمال من جميع الجهات ، فلمّا رأى الكوكب بضوئه الّذي هو من الكمال حسبه إلها من جهة كماله ، فلمّا غاب استدلّ بغيبوبته على أنّه لا يستحقّ الالوهيّة ؛ إذ الأفول من النقصان ، والحقّ مقدّس عنه من جميع الجهات.

وهكذا كان استدلاله بالشمس والقمر ، فلمّا استغنى عن ذلك المقام قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) ... إلى آخره ؛ أي حصرت التفات قلبي في مشاهدة أنوار الحقّ ، وأعرضت عن غيره ، فإنّ الالتفات إلى الغير ولو في مقام الاستدلال شرك.

(وإِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي مستغن عن الاستدلال بالمعلول على العلّة ، لاستلزامه الشرك من لزوم التوجّه فيه إلى الخلق أوّلا ، وإلى الحقّ ثانيا.

وقال بعض العارفين : إنّ الخليل لمّا غلب عليه الشوق والطلب ، وعلم حضور الحقّ لكلّ شيء كان كلّما شاهد نورا وكمالا وبهاء في شيء قال : هذا ربّي ، وذلك لشدّة عطشه إلى لقاء ربّه ؛ كالعطشان الّذي كلّما لمح سرابا حسبه ماء ، فلو لم يكن عطشان إلى اللقاء لم يحسب الكواكب ربّه. انتهى.

وبالجملة : لا يخفى أنّ في السلسلة الخلقيّة آيات كثيرة دالّات على

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٩.

٢٩٣

كمال القدرة ، وتمام الصنعة ، وعلوّ الحكمة ؛ يستدلّ بها المتفكّرون ، ويتذكّر بها المتذكّرون ؛ بحيث لا يبقى لهم ريب في وجود الصانع ، واتّصافه بأكمل الصفات ، وأجمل السمات.

وفي أنّه هو الله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القديم القادر على كلّ شيء ، والسلطان على كلّ شيء ، والظاهر آياته في كلّ شيء ، والباهر علاماته في كلّ شيء لكلّ شيء ، والمشهود آثار إبداعه لكلّ شيء ، في ملكوت كلّ شيء ، والمتلألئ جوهريّات حقائق حكمته في ذاتيّات كلّ شيء ، والمتبلّج أنوار آيات لاهوتيّته في هويّات كلّ شيء ، والمتشعشع بوارق ظهورات جبروتيّته في كينونيّات كلّ شيء حتّى شهد كلّ شيء بظهورات اللاهوت ، وشؤونات الهاهوت ، وإشراقات الجبروت ، ومقامات الملكوت ، وعلامات الملك في عالم الثبوت ، ودلالات ذاتيّات الناسوت ؛ على أنّه تعالى هو الإله الّذي ظهر لنفسه بنفسه في أزل الآزال ، واحتجب بسرادق عزّ كينونته عن القلوب والأنظار ، وأنّه هو الفرد الّذي لم يزل كان بلا وجود شيء معه ، ولا يزال هو كائن بمثل ما كان له من الكينان ، وأنّه الحقّ الأحد الّذي ليس له وصف في الإبداع ، ولا نعت في الاختراع ، ولا ذكر لأهل الإمكان في عالم العيان.

كيف لا يشهد على ذلك وقد تلألأت جواهر الياقوت في أرض الناسوت ، وتشعشعت أنوار اللاهوت في سماء الهاهوت ، واستلاحت أقمار الملكوت على قابليّات الثبوت.

وهذا هو السرّ في تأكّد الأمر بالاستدلال بهذه الأمور على مقام صرف النور ، وشؤونات التجلّي لأهل الطور ؛ كما قال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ

٢٩٤

فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (١).

وقال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدائِقَ غُلْباً * وَفاكِهَةً وَأَبًّا * مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٢).

وقال : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٣).

وقال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٤).

إلى قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ * أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥).

وقال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ

__________________

(١) ق : ٦ ـ ٨.

(٢) عبس : ٢٤ ـ ٣٢.

(٣) الطارق : ٥ ـ ٧.

(٤) يونس : ٣.

(٥) يونس : ٥ ـ ٨.

٢٩٥

لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

وفي توحيد المفضّل رحمه الله : يا مفضّل ، إنّ الشكّاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة ، وقصرت أفهامهم عن تأمّل الصواب والحكمة فيما ذرأه الباري ، وبرأ عن صنوف خلقه في البرّ والبحر ، والسهل والوعر ، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود ، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود ، حتّى أنكروا خلق الأشياء ، وادّعوا أنّ كونها بالإهمال ؛ لا صنعة فيها ، ولا تقدير ، ولا حكمة من مدبّر ، ولا صانع! تعالى عمّا يصفون ، وقاتلهم الله أنّى يؤفكون.

فهم في ضلالهم وعميهم وتحيّرهم بمنزلة عميان دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه ، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره ، واعدّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة ، والملابس والمآرب الّتي نحتاج إليها ، ولا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه ، على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يتردّدون فيها يمينا وشمالا ، ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا ، محجوبة أبصارهم عنها ، لا يبصرون هيئة الدار وما اعدّ فيها ، وربّما عثر بعضهم بالشيء الّذي قد وضع موضعه ، واعدّ للحاجة إليه ، وجاهل بالمعنى فيه ، ولما اعدّ ، ولما ذا جعل كذلك ، فيذمّ الدار وبانيها.

وهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة ، وثبات الصنعة ، فإنّهم لمّا عزبت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ، ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان

__________________

(١) الروم : ٥٠.

٢٩٦

خلقته ، وحسن صنعته ، وصواب تهيئته ، وربّما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه ، والإرب فيه ، فيسرع إلى ذمّه ، ووصفه بالإحالة والخطأ كالّذي أقدمت عليه المنّانيّة الكفرة ، وجاهرت به الملاحدة الماردة الفجرة ، وأشباههم من أضلّ الضلّال.

يا مفضّل ، أوّل العبر والأدلّة على الباري تهيئة هذا العالم ، وتأليف أجزائه ، ونظمها على ما هي عليه ، فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك ، وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت ، والمحوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصلحه ومنافعه.

ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ، ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الّذي ألّفه ونظّمه بعضا إلى بعض ؛ جلّ قدسه ، وتعالى جدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وعظم عمّا يتّخذه الملحدون ، وسنبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به.

فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ، فإنّه يجري إليه دم الحيض ما يغذوه كما يغذوه الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاءه ، حتّى إذا كمل

٢٩٧

خلقه ، واستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق بأمّه ، فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه ، حتّى يولد.

فإذا ولد صرف ذلك الدم الّذي كان يغذوه من دم امّه إلى ثديها ، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي امّه كالأداوتين المعلّقتين لحاجته ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء.

حتّى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحين من الأسنان والأضراس ليمضغ الطعام ، فيليّن عليه ، ويسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتّى يدرك ... إلى آخره.

والحديث طويل ، والتصفيح فيه يزيد معرفة الجليل ، فإنّه تذكرة للعاقلين ، وتبصرة للعارفين ، فانظر فيه حتّى ينوّر قلبك بأنوار اليقين.

الثانية : في حذف المعادل إشارة إلى أنّه لا ينبغي لمن تذكّر وتفكّر في الآيات التدوينيّة والتكوينيّة أن يتّخذ سبيلا إلى غير ربّه ، فإنّه حينئذ يتّضح له طرق الهدى والرشاد ، والشرّ والفساد ، فيقطع بأولويّة اختيار الهدى على الضلال ، والإيمان على الكفر بعين الجمال.

وإلى أنّ المتذكّر بالآيات سالك إلى مسالك الحقّ لا محالة ؛ بخلاف من لا يتذكّر بها ، فإنّه لا يهتدي بهدي الله ، ولا يدخل بيت ولاية الله ، فيحرم عن مشاهدة نور الله ، ويحجب عن الاتّصال بعين حكمة الله ، ويبعد عن ساحة جمال الله ، ويطرد عن باب جلال الله ؛ بحيث لا يبقى له ذكر في حرم جوار

٢٩٨

الله ، ولا وصف في جهة وجه الله ، ولذلك أعرض عن ذكره في الآية.

الثالثة : في تنكير السبيل إشارة إلى التعظيم والتفخيم ، بمعنى أنّ السبيل إلى الله تعالى هو من أعظم السّبل ، والمسلك إلى الحقّ هو من خير المسالك.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى التعدّد والتكثير ، بمعنى أنّ السبل إلى الله مختلفة كثيرة ؛ كما قال : السبل إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. انتهى.

فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا من تلك السبل ، وذلك باختلاف استعدادات الناس في مقام المعرفة بالمعبود ، فإنّهم ليسوا على وتيرة واحدة ، بل مراتبهم في ذلك المقام متفاوتة مختلفة ، فلكلّ من المتذكّرين مقام وسبيل ليسا للآخر ، فإنّ للإيمان مراتب متعدّدة ، ودرجات متفاوتة ؛ يفوز كلّ صنف بدرجة منها ، ومرتبة من مراتبها ، أما ترى أنّ أهل اليقين بالله ورسوله على أصناف ثلاثة :

الأوّل : هم الّذين فازوا بعلم اليقين ، وهو قبول ما ظهر من الحقّ بطريق الرسالة ، وهو ما جاءت به الرسل من الإيمان والإسلام والأحكام ، وما غاب من الدار الآخرة وأحوال القيامة ، والجنّة والنار ؛ قبولا إذ عانيّا اعتقاديّا لا يزول بتشكيك الجاحدين.

الثاني : هم الّذين فازوا بعين اليقين ، وهو مقام الكشف والشهود ، وتحقيق ما قيل تعبّدا ، وفيه الغناء بالاستدراك عن الاستدلال.

الثالث : هم الّذين فازوا بحقّ اليقين ، وهو مقام الفناء عن الرسم باستيلاء نور الحقيقة ؛ كما قال عليه السلام : نور يشرق من صبح الأزل ، فيلوح على هياكل التوحيد.

٢٩٩

ثمّ لا يخفى أنّ كلّا من تلك المسالك الثلاثة سبيل إلى الحقّ تعالى للمستعدّ له ، يوصله إلى ما هو المقرّر له لا محالة ، فلا للفائزين بالأوّل إنكار الصنفين الأخيرين وتكفير هما ، ولا لهما الإنكار على الأوّل إذا لم يكن مستعدّا لأزيد ممّا بلغه وفاز به ؛ إذ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها ؛ وفي المقام كنوز حقائق يمنعني عن إظهارها قصور الأفهام.

الرابعة : في نسبة المشيئة وإثباتها للمخلوق تصريح بأنّهم ليسوا مجبورين في أمر الهداية والضلالة ، بل أعطاهم الاختيار ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر.

وإشارة إلى أنّ الأليق بحالهم اختيار الهداية ، فإنّه لقد ذكّرهم بالآيات ، وأزاح عنهم الشبهات ، فمن أظلم ممنّ ذكّر بآيات الله ثمّ أعرض عنها.

الخامسة : المراد بالسبيل هو التذكّر والتفكّر في شعشعانيّات آيات الحقّ ، فإنّ ذلك يوصل العبد إلى مقامات قرب الله ، ويؤويه في حرم انس الله ويجلسه في بساط إجلال الله ، أي هذه الآيات تذكرة للمستعدّين ، فمن شاء فليتذكّر بها حتّى يفوز بلئالئ حقائق حكمة الله ، ويلتذّ بعسل مصفّى من معارف قدس الله ، كما قال : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) ... (١) إلى آخره.

ثمّ التذكّر على ثلاثة أنواع :

الأوّل : التذكّر لعين التوحيد ، أي تنزيه الحقّ عن الشريك ، وهو عبارة عن استغراق العبد في لجّة الأحديّة ، واضمحلال عينه ، ورسم فكره ، ودليله في عين الواحديّة ، فإنّ كلّ ذلك حجب عن المطلق ، وذلك معنى فناء الكلّ

__________________

(١) عبس : ١١ ـ ١٢.

٣٠٠