بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

ولا ريب أنّ الأخذ بمحبّته عليه السلام والسلوك بطريقته ، والمشايعة له في أطواره ، والثناء عليه بطيّب الثناء هو الشكر له بحقيقة الشكر ، وكذلك الإعراض عن محبّته ، والضلالة عن سنّته كفران لنعمته العظيمة ، وهي هداية الناس إلى سبل الدين ، وشرائع اليقين ؛ كما قال : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) (١) وقال : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

وهنا تحقيق آخر ، وهو أنّ المعصومين من آل الله تعالى هم الوسائط بين الله وخلقه ؛ بمعنى أنّه تعالى خلق العالم كلّه لأجلهم ، بحيث لولاهم لما كان شيء مخلوقا ؛ كما قال : لولاك لما خلقت الأفلاك ولو لا عليّ لما خلقتك (٣).

فهم العلّة لوجود الخلق كلّه ، فلهم حقّ عظيم على الخلق. كيف وأيّ نعمة أعظم من نعمة الوجود ، وقد كانوا عليهم السلام منشأ لتلك النعمة العظيمة ، والمنّة الجزيلة ، فيجب على الخلق كلّهم أن يثنوا عليهم بما هو في قدرتهم واستطاعتهم ، ويشكروا لهم بأحسن الشكر ، فالشاكر من عرفهم وأحبّهم وأبغض عدوّهم ، والكافر من جهل بحقّهم أو أبغضهم وأحبّ أعداءهم.

وهذا هو السرّ في الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ من لم يحبّ عليّا وأبغضه فهو كافر ، أي كافر بالنعمة العظيمة ، وهنا كنوز حقائق لم يعثر على

__________________

(١) النحل : ٨٣.

(٢) البقرة : ٨٩.

(٣) انظر : تأويل الآيات : ٤٣٠ ، المناقب ١ : ٢١٦.

٨١

مقاليدها إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.

الثامنة : قيل : الشكر صرف ما أعطاه الله فيما خلق لأجله ، والكفران يقابله ، ومنه الكفور المقابل للشكور.

وقيل : المراد بالشكر الإقرار بالله ، وبالكفران إنكاره.

وقيل : المراد بالشاكر المطيع ، وبالكفور كلّ من سواه سواء كان كافرا أو عاصيا.

أقول : لا يخفى أنّ الكفر يستعمل في عدّة معان ؛ كما يستفاد من بعض الأخبار والاستعمالات على وجه الاشتراك أو الحقيقة والمجاز ، ولكن لا ريب في أنّ مقابلته بالشاكر قرينة على أنّ المراد به هو الكفران للنعمة.

ويؤيّده قوله : «إنّا هديناه» فإنّ فيه إشعارا بالامتنان والإنعام ، وتفسير الشاكر بالمقرّ والمطيع تأباه حقيقة الشكر. نعم يمكن ذلك نظرا إلى أنّ في الإقرار والإطاعة معنى الشكر على التفصيل الّذي قدّمناه. فليتأمّل.

التاسعة : في التفصيل بـ «إمّا» إشعار بالانحصار في الفرقتين وعدم الواسطة ؛ كما في قوله (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) (١) إلى آخره ، أي لا مقام بين المقامين كما لا مقام بين النور والظلمة ، والهداية والضلالة.

وما قيل من أنّ بين الإيمان والكفر مقاما وهو الإسلام لأنّ الإيمان هو الاعتقاد الباطنيّ والإسلام هو العمل الظاهريّ لا يصغى إليه ، لأنّ الإسلام من مراتب الإيمان ، فإنّ له مراتب كثيرة كما يدلّ عليه أكثر الأخبار الواردة في الباب ، أدناها مرتبة الإسلام ، فلا وجه لجعلها مقاما على حدة.

__________________

(١) هود : ١٠٥ ـ ١٠٦.

٨٢

وكذا ما قيل من أنّ المستضعف ليس بكافر ، لأنّه ما جحد أمرا ، ولا بمؤمن ، لأنّه ما آمن بشيء ، فهو بين الكفر والإيمان.

وبعبارة أخرى : هو واقع في الأعراف ، وهو الواسطة بين الجنّة أي الإيمان ، والنار وهو الكفر ، فثبت الواسطة ؛ كما قال : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (١) ، والمراد هؤلاء المستضعفون ؛ لأنّ مرادنا بنفي الواسطة إنّما هو نفيها عن مقام الاستعداد ، أي النفوس مستعدّة إمّا للإيمان وإمّا للكفر ، ولا واسطة ؛ فالمستضعف من إحدى الفرقتين بعد تهيّؤ الأسباب لفعليّة استعداده وعدم الموصوفيّة الفعليّة لا يثبت الواسطة. فليتأمّل.

البارقة العاشرة : في مقابلة الكفور بالشاكر دون الشكور إشعار بقلّة أهل الشكر وكثرة أهل الكفر ؛ كما قال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) وقال : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) (٣) وقال : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤).

وروي أنّ من بين ألف واحد للجنّة والباقي للنار.

وفي رواية واحد لله والباقي للشيطان.

هذا على التفسير المشهور ، وأمّا على التفسير بأنّ المراد هديناه السبيل ثمّ جعلناه تارة شاكرا ، وتارة كفورا ، ففي المقابلة إشعار بأنّ الإنسان في حالة

__________________

(١) التوبة : ١٠٦.

(٢) سبأ : ١٣.

(٣) الحجّ : ١٨.

(٤) الحجر : ٣٩ ـ ٤٠ ، ص : ٨٢ ـ ٨٣.

٨٣

شكره قليل الشكر لاغتراره برحمة ربّه ، ولكنّه في حالة كفرانه كثير الكفران مبالغ في ذلك لغلبة جنود نفسه على جنود عقله ، وإن ذلك إلّا لكمال جهله وغفلته واغتراره باللذّة الفانية ؛ كما قال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ...) (١) إلى آخره.

وقال : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٢) أي : كثير الظلم على نفسه بالكفران ، وكثير الجهل بمقام الإيمان.

وقد خطر بالبال في ذلك الحال سرّ آخر للمقابلة في المقال ، وهو أنّ القليل من الكفران كثير في مقام الحقّ ، فإنّ في ذلك تجرّؤ العبد الذليل اللاشي على المولى الجليل القهّار ، وهذا أمر عظيم غاية العظم كما لا يخفى.

وأمّا الشكر وإن كثر من العبد فقليل بالنسبة إلى الحقّ تعالى ، كيف ونعماؤه تعالى على عباده بمرتبة لا يمكن لأحد منهم أن يستقصي شكر القليل منها ، فضلا عن الكثير ، كيف ونعماؤه علينا أكثر ممّا يتصوّره كلّ متصوّر ، ويتوهّمه كلّ متوهّم ؛ كما قال عليه السلام الحمد لله الّذي له في كلّ نفس من الأنفاس ، وخطرة من الخطرات منّا منه منن لا تحصى ، وفي كلّ لحظة من اللحظات نعم لا تنسى ، وفي كلّ حال من الحالات عائدة لا تخفى ... (٣) إلى آخره.

فكيف يمكن لنا شكر الحقّ على نعمائه الّتي أنعم بها علينا. كيف ولو اجتمع كلّ ما في الأرض والسماء لشكر نعمة حقيرة منه لما قدروا عليه ،

__________________

(١) الإسراء : ٨٣ ، فصّلت : ٥١.

(٢) الأحزاب : ٧٢.

(٣) البلد الأمين : ١٣٥.

٨٤

وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه تعالى قال : لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم الّتي يعملونها لثوابي ، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي ، والنعيم في جنّاتي رفيع الدرجات العلى في جواري ... (١) إلى آخره.

اختتام

لا بأس بالإشارة الإجماليّة إلى كشف القناع عن الحديث المشهور من أنّ : الشقيّ من شقى في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطن أمّه (٢).

فنقول : المراد ببطن الامّ هو عالم الماهيّة الّتي هي محلّ الاستعدادات المختلفة ، وهي المنفعلة بفعل الإيجاد ، والقابلة لنور الوجود في عالم الشهود ، ولذا عبّر عنها ببطن الأمّ كما يعبّر عن الوجود الطارئ بالأب ، والمناسبة ظاهرة.

فحاصل المعنى : إنّ الله تعالى ما أجبر عباده على شيء من الشقاوة والسعادة ، بل الشقيّ في عالم الشهود لقد كان مهيّته في عالم الغيب والأزل مستعدّة للشقاوة ، مقتضية لها ، وبالوجود برز استعدادها لها ، فإنّه شرط لتأثير المهيّة كما ثبت في محلّه ، وكذلك السعيد في ذلك العالم هو الّذي استعدّت هويّته في عالم الأزل للسعادة عند الإيجاد ، فما ظلم الله عباده أصلا لما مرّ من أنّ المهيّات ليست مجعولة ، والعلم بالشيء ليس جعل ذلك الشيء بالضرورة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٠ ، ٧١.

(٢) تفسير القمّيّ ١ : ٢٢٧ ، التوحيد : ٣٥٦.

٨٥

آنچه هست از قامت ناساز بى اندام ماست

ور نه تشريف تو بر أندام ما كوتاه نيست

وهذا هو القول المجمل من المفصّل الّذي ينبغي أن يورد في المقام.

وقيل : إنّ المراد ببطن الأمّ هو عالم الذرّ الّذي عرض فيه الوصفان على كلّ أحد من العباد ، فمن اختار وصف الشقاوة وهي إنكار الحقّ في ذلك العالم تظهر شقاوته في عالم الوجود الشهوديّ العنصريّ ، وكذا من اختار وصف السعادة في ذلك العالم تظهر سعادته في هذا العالم ، وتختم عاقبته بالسعادة ؛ كما قال : يسلك بالسعيد طريق الأشقياء حتّى يقول الناس ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ تتداركه السعادة ، وقد يسلك بالشقيّ طريق السعداء حتّى يقول الناس ما أشبهه بهم ، بل هو منهم ، ثمّ تتداركه الشقاوة ؛ إنّ من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلّا فواق ناقة ختم له بالسعادة ... (١) إلى آخره.

وقيل : المراد ببطن الأمّ في الأوّل الجحيم ، وفي الثاني النعيم ، أي :

الشقيّ من ساء حاله في النار ؛ كما قال : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٢) والسعيد من فاز بالجنّة الدائمة وسعد بها.

وقيل : المراد هو معناه الظاهر ، أي : الشقيّ يكتب عليه الشقاوة في بطن امّه قبل الولادة ، وكذا السعيد.

وقيل : المراد الهيئة والصورة القابلة للوجود ، أي : الشقيّ يتّصف

__________________

(١) الكافي ١ : ١٥٤ ، التوحيد : ٣٥٧.

(٢) القارعة : ٩.

٨٦

بالشقاوة في حال وجوده لقبوله صورة الشقاوة ، وكذا السعيد.

فحينئذ تتعدّد المهيّة بالسعادة والشقاوة ، وتختلف بالوجود ، فإنّ الوجود عين المهيّة مقارن لها ألا ترى أنّ الشمس إذا طلعت يقع منها الشعاع من غير تراخ ، بل حصوله مقارن لطلوعها. والاختلاف حاصل بذاته ومع ماهيّته ، فالوجود كالشمس ، وماهيّة العباد كالشعاع ، فالوصفان مقارنان للوجود ، عارضان للمهيّة ، والله تعالى مخترع للمعروض خاصّة وليس مؤثّرا في الاتّصاف ، أي اتّصاف المهيّة الموجودة بالسعادة والشقاوة ، فهما غير مستندتين إلى الحقّ حتّى يلزم الجبر والظلم.

ولا يخفى أنّ ذلك ينافي ما ورد من أنّ الله خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه ، فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا ... إلى آخره.

وفي ذلك المقام مباحث كثيرة يطول بذكرها الرسالة.

قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً).

أقول : لمّا أخبر تعالى بما أنعم على الإنسان من الأسباب الموصلة له إلى مقام الكمال من القوى وغيرها ، وبأنّه إن صرف قواه فيما خلق لأجله فهو شاكر ، وإن صرفها فيما لم يخلق لأجله فهو كافر ، بيّن ما يترتّب على الشكر من القرب ، وعلى الكفر من البعد ، وابتدأ بالثاني إظهارا لسطوته وقهّاريّته ، فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي : هيّأنا لمن قدم إلينا بالكفران معرضا عن مقام الإيمان بقضيّة استعداد مهيّته أسبابا توصله إلى نيران البعد ، وجحيم الحجاب.

ولعلّ المراد بـ «السلاسل والأغلال» هي الشؤونات الّتي تمنع العبد عن الدخول في حرم قرب الله ، وتحجبه عن الفوز بمشاهدة أنوار وجه الله ،

٨٧

وتحبسه عن الخروج عن ظلمات الطبيعة إلى ساحة صفاء الله ، فكما أنّ السلسلة والغلّ يمنعان المقيّد المحبوس عن أكثر التصرّفات ، كذلك تلك الشؤونات المبعّدة تمنع العبد عن كمال نفسه ، فلا يفوز بمقام القرب الصمدانيّ.

وإلى ذلك أشار الله بقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

أي لقد ثبت الحكم بعدم إيمانهم وكفرهم من الأزل ، فهم لا يؤمنون في هذا العالم ، لأنّ قضيّة استعدادهم الأزليّ هو الكفر لا الإيمان ، فنحن بقضيّة عدلنا الّتي هي إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه جعلنا لهؤلاء حجبا تمنعهم عن الإيمان ، وسدّا يصدّهم عن الفوز بحقائق القرآن ، فصاروا عميا عن مشاهدة الأنوار ، وصمّا عن استماع الأسرار ، فلا ينفعهم الإنذار ، لأنّهم لا يؤمنون في ذلك العالم بعد قبولهم للكفر في العالم الأوّل. فليتأمّل.

وب «السعير» هو نار الحجاب الّتي توقّدت في أفئدتهم وصدورهم بحيث ضاقت وأظلمت بكدورات الهوى ، فمرضت قلوبهم بداء الكفر والضلال ؛ كما قال : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) فهم محجوبون عن الحقّ ، وممنوعون عن الفوز بالصدق بما حجبهم الشيطان وأنساهم ذكر الله ، وحملهم على الأخلاق الدنيّة الّتي هي المبعّدات عن السعادة الأبديّة ؛ كما

__________________

(١) يس : ٧ ـ ١٠.

٨٨

قال : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١).

حيث تعلّقت قلوبهم بالعقائد الفاسدة ، واشتغلت بسعر الجهل واحترقت بنار آلام الضلال والبعد عن ساحة الجلال ، وانكدرت نفوسهم بشؤونات الهوى ، فصارت مسلسلة مغلولة بتلك التعلّقات المبعّدة ، مسعورة بنار الفراق بحيث لا يمكنها بعد ذلك الوصول إلى السعادة الأبدية الّتي حقيقتها القرب إلى الحقّ تعالى.

بوارق

الأولى : لا تتوهّم أيّها الناظر في الكلمة الّتي أسلفناها أنّ مرادنا بها حصر الآلام في الآلام العقليّة الروحانيّة ، فإنّنا نحن أهل الشريعة المحمّديّة متّفقون على حشر الأجساد والجنّة والنار الجسمانيّتين على التفصيل المقرّر في الشريعة. كيف وجميع الأنبياء والأولياء لقد أخبروا بذلك ، بل صار ذلك عندهم ضروريّا ، ومنكره كافرا ؛ كما لا يخفى.

وعن جماعة نفي الجسميّة ، وقد أوّلوا كلمات النبيّين عليهم السلام بأنّهم قد قالوها لمصلحة العوامّ.

ولا يخفى فساد مذهبهم على أحد بعد اطّلاعه على أدلّتهم الّتي أقاموها على إحالة إعادة المعدوم ، والتفصيل مذكور في كتب الكلام والحكمة.

الثانية : ذكر جماعة أنّ الروح بعد مفارقته عن البدن العنصريّ المحلول لا بدّ له من بدن آخر ؛ إذ لا يبقى الروح بلا جسد فيكون له جسد مثاليّ يسمّى

__________________

(١) المجادلة : ١٩.

٨٩

بالبدن المكتسب ، فإن كان عاصيا يتألّم بما اكتسبه في الدنيا من الأخلاق الرديّة ، والملكات الفاسدة إلى يوم القيامة الكبرى ؛ كما قال : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

وقال : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٢).

وإن كان مطيعا صحيح العقيدة يتلذّذ بأخلاقه الحسنة في بدنه المثاليّ ؛ كما قال عليه السلام : المؤمن إذا قبضه الله صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليه القادم عرفه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا (٣).

ولعلّ هذا المقام هو الجنّة الّتي أشار إليها بقوله : إنّ لله جنّة ليس فيها حور ولا قصور ولا عسل ولا لبن ؛ يتجلّى فيها ضاحكا مستبشرا ، انتهى.

وهذا معنى ما قيل : من أنّ النفس الإنسانيّة بمنزلة اللوح ، والأعمال والأخلاق بمنزلة الأرقام والنقوش ، والبدن بمنزلة الغبار ، فإذا ارتفع غبار البدن عن لوح النفس يظهر ما فيه من أثر الأخلاق ، فيتألّم العاصي ، ويلتذّ المطيع.

وما قيل : من أنّ الحيّة الّتي تلسعك في القبر هي الّتي تلسعك الآن ، ولكن نفسك لاشتغالها بتدبير البدن لا تدرك الألم ، فإذا ارتفع غفلتها بسبب

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٠.

(٢) آل عمران : ٣٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٥.

٩٠

الاشتغال بمفارقتها عن البدن تحسّ الألم ، فإنّها حينئذ غير سكرى من خمور محبّة الدنيا فتجد ما عملته محضرا ، وتودّلو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، ألا ترى إلى السكران المجروح كيف لا يدرك ألم جراحته إلّا بعد الصحو والإفاقة؟!

الثالثة : قال بعض العارفين : لعلّ النكتة في تقديم «السلاسل» ثمّ «الأغلال» ثمّ «النار» أنّ المؤدّب اللطيف الحاذق يقدّم الأسهل حتّى يختم بالأشدّ ، ليكون ذلك أردع للنفوس الجاهلة ، فإنّ تلك النفوس إذا ذكرت عليها السلاسل يقع عليها خوف ، فإذا أردفت بذكر الأغلال ازدادت خوفا وهيبة ، فإذا ضمّ الذكر بالنار المسعورة فإنّها تكون في غاية الخوف ، وهذا مفهوم ظاهر بحسب العرف ، بخلاف ما لو قدّم الأشدّ ، فإنّ ذكر «السعير» في أوّل التحذير إن أفاد النفس انزجارا ففي الثانيين لا يستفيدها شيئا ، بل ربّما يسهل عليها بسبب ما توعدّت به.

أقول : ويحتمل أن يكون في ذلك إشارة إلى مراتب أحوال الكفّار ، فإنّهم مختلفون في العذاب بحسب اختلاف مراتب كفرهم ؛ إذ منهم من هو واقع في أوّل مقام الكفر ، ومنهم من هو واقع في المقام الثاني ، ومنهم من هو واقع في المقام الثالث الّذي ليس فوقه مقام ؛ كما قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (١).

ولا ريب في الواقع في المقام الأوّل حجابه أقلّ من الواقع في المقام الثاني ، والواقع في الثاني أقلّ حجابا من الواقع في المقام الثالث ، والواقع في

__________________

(١) النساء : ١٤٥.

٩١

المقام الثالث هو الّذي جعل من بين يديه سدّا ومن خلفه سدّا فتحترق نفسه بنار الفراق الأبديّ الدائميّ ؛ كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا) ... (١) إلى آخره.

الرابعة : في تنكير قوله (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) إشارة إلى شدّة الألم ، وعظم تلك الأمور ، وفضيحة الكفّار بأشدّ الفضائح ؛ كما قال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢).

وممّا أتى فيه التنوين للتعظيم قوله :

له حاجب عن كلّ أمر يشينه

أي : حاجب عظيم. فليتأمّل.

الخامسة : قال بعض العارفين : إنّ النفوس الجاهلة الّتي كفرت بأنعم الله بسبب مجاورة الأبدان تتمكّن فيها ملكات رديّة بحسب قوّتيها النظريّة والعمليّة وهيئة متنافية لكمالاتها ، وإذا فارقت الأبدان أدركت الآلام الحاصلة بسبب تلك الهيئات الرديّة ، فيمكّن فيها شوق ما فارقته فلم تقدر عليه ، فكانت عديمة الوسيلة إلى مبدئها وتقول (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (٣).

ومثل ذلك العضو تمكّن فيه الألم في الدنيا إلّا أنّه حصل ما يعوّقها من إدراك ذلك الألم ، فإذا زال العائق حصل الألم فبقي حينئذ تلك النفوس مقيّدة

__________________

(١) النساء : ١٣٧.

(٢) البقرة : ٧.

(٣) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٩٢

بسلاسل علائق الأبدان ، مغلولة بأغلال الهيئة الرديّة المتمكّنة فيها ، متنكّسة في كرب سعير الأشواق ، محترقة بنار ألم الفراق ، خالدين فيها مادامت السماوات والأرض ، وكانت قد ناداها مناد الحقّ فتغافلت وغرّت فحلّ عليها غضب الحقّ ، فسلبت قواهم ، فصاروا في ظلمة الهيولى صمّا بكما عميا فهم لا يرجعون.

وقيل فيها : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١) ومن أعظم الآلام (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٢) (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ * قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (٣).

فالموت الأوّل هو موت الجهل والحياة الأولى هي الوجود عن العدم ، والموت الثاني هو مفارقة الأبدان والحياة الثانية هي النشور ، فأحسن بهذا الوعيد الّذي ترتعد من ظاهره فرائص الجاهلين ، وتقشعرّ من باطنه جلود السالكين.

واعلم أنّك لمّا فهمت حقيقة الشقاوة ينبغي أيضا أن تفهم أنّ النفوس فيها بسبب فقد الكمالات على مراتب ستّ :

__________________

(١) طه : ١٢٤ ـ ١٢٦.

(٢) المطفّفين : ١٥.

(٣) المؤمن : ١٠ ـ ١١.

٩٣

الاولى : ما يكون بحسب القوّة النظريّة راسخا كالعقائد الباطلة الّتي رسخت في القلب ، وصارت ملكة لا ترفع بالحجج والبراهين التامّة. وهذا القسم هو الّذي يدوم به العذاب ، لأنّ ذلك هو الجهل المركّب المتضادّ لجوهر النفس ، فكما أنّه لا يتبدّل بالعلم لرسوخه ، كذلك الآلام المترتّبة عليه لا تزول لرسوخ سببها في النفس.

الثانية : ما يكون بالنظريّة الغير الراسخة كاعتقادات العوامّ وأصحاب التقليد ، فلهم عذاب يخصّهم بسبب أنّهم عرفوا باكتساب ما يطرأ أنّ لهم كمالا ما ، فحصل لهم شوق بحسبه ، ثمّ لم يصلوا إلى ما اشتاقوا إليه من ذلك الكمال لنقصان اكتسابهم النظريّ وقصورهم عن الوصول ، سواء كان قصورهم عن الوصول إلى الكمال لاشتغالهم بما يصرف عنهم ويضادّ طلبه ممّا لا يكتسب النفس هيئة راسخة ، أو لأنّهم تكاسلوا عن اقتناء الكمالات وأهملوها ، لكنّ ذلك العذاب دون العذاب الأوّل ، فهو منقطع ، لأنّ الهيئات الحاصلة بسبب الاشتغال بالمضادّ أو الصارف أو التكاسل حالات غير متمكّنة في نفوسهم ، ولا مستحكمة فيها ، أو لأنّها مستفادة من أفعال وأمزجة ، فيزول بزوالها لزوال الشيء بزوال سببه.

الثالثة والرابعة : ما يحصل بحسب القوّة العمليّة راسخا وغير راسخ ، والعذاب المترتّب على ذلك أيضا زائل منقطع : إمّا لعدم رسوخه ، وإمّا لكونه هيئات مستفادة من الأمزجة فيزول بزوالها ، ويختلف العذاب بها بعد المفارقة في القلّة والكثرة والشدّة والضعف.

الخامسة والسادسة : ما يحصل من نقصان غريزة العقل بالنظريّة والعمليّة

٩٤

كما في البله الّذين غلبت عليهم سلامة الصدر ، وقلّة الاهتمام وهي النفوس الساذجة الّتي ليس لها شوق إلى كمالاتها بسبب أنّها لم تعرفها أصلا ، وهؤلاء غير معذّبين لأنّهم غير عارفين لكمالاتهم ولا مشتاقين إليها انتهى ملخّص مرامه.

وهو في غاية الجودة ، وإليه لقد سبق كثير من العارفين ، وعليه يحمل ما قاله الفارابيّ من أنّ هذه الأنفس إذا كانت زكيّة وفارقت البدن وكانت متصوّرة لامور قيلت لها في أمر عاقبتها من الحور والقصور ولم يكن لها علوم يسعدها ولا جهل يشقيها فإنّها تتخيّل جميع ما قيل لها في الدنيا ، وتكون آلة تخيّلها لذلك جرما من الأجرام السماويّة ، فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات ، وتكون الأنفس الرديّة أيضا تشاهد العقاب المصوّر لهم في الدنيا ، فإنّ الصور الخياليّة ليس أضعف من الحسّيّة ، بل تزيد عليها تأثيرا ... إلى آخره.

إلّا أنّ ما ذكره من أنّ صاحب الجهل المركّب معذّب بالعذاب الدائم ، مخلّد في النار ، لقد خالف فيه جماعة من الصوفيّة ؛ معرضين عن طريق السداد ، حيث زعموا أنّه لا نصّ على تخليد الكفّار في النار ، ولو كان فلا دلالة فيه على دوام العذاب الّذي تتألّم النفس به ، فإنّ العذاب مشتقّ من العذب.

قال محيي الدين في «الفصّ اليونسيّ» : أمّا أهل النار فمآلهم إلى النعيم ، لكن في النار ؛ إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن يكون بردا وسلاما على من فيها ، وهذا نعيمهم. انتهى.

٩٥

وقال القيصريّ في «الشرح» : اعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور اليقين يعلم أنّ العالم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلّا بالله وحوله وقوّته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته وهو الرحمن الرحيم ، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبديّا ، وليس ذلك المقدار من العذاب إلّا لأجل إيصالهم إلى

كمالاتهم المقدورة ، كما يذاب الذهب والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينقص عياره ، فهو يتضمّن أمتن اللطف والرحمة. كما قيل :

وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى

وقطعكم وصل وجوركم عدل

قيل : وروي عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال : سيأتي على جهنّم زمان ينبت في قعرها الجرجير.

وعن ابن مسعود قال : ليأتينّ على جهنّم زمان ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. انتهى.

في مذهب البابية المرتدة

وقد تبعهم في ذلك المذهب ـ المسبوق بإجماع الإماميّة على خلافه ـ الجهلة المبتدعة ؛ حيث حكموا بأنّ الكافر المعذّب بالجحيم له الخروج إلى النعيم ، وكذا الفائز بالجنّة يجوز له الخروج إلى الجحيم ، وذلك لأنّ الجحيم عندهم هو البعد عن حضرة الكامل بعدم الإقرار به ، والنعيم هو الفوز بلقاء الكامل عليه السلام والإقرار بمقامه.

فاليهود الّذين ما آمنوا بالمسيح عليه السلام في عصره ثمّ آمنوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله خارجون عن الجحيم ، وهو الإنكار للمسيح عليه السلام

٩٦

إلى النعيم ، وهو الإقرار بمحمّد.

وكذا الكافرون بالمسيح قبل العروج ، وبمحمّد قبل الوفاة ؛ الّذين آمنوا بهما بعد العروج والوفاة لقد خرجوا عن الجحيم إلى الجنّة ففازوا بها.

وكذا المؤمنون بمحمّد صلّى الله عليه وآله مثلا الّذين ارتدّوا عن دينه لقد خرجوا عن الجنّة إلى الجحيم ؛ كما قال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) أي بمحمّد وآله (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) (٢) أي ظلمات جحيم الكفر والبعد (إِلَى النُّورِ) (٣) أي إلى نور جنّة الإيمان (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) (٤) أي أنكروا مقام محمّد وآله عليهم السلام (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) (٥) أي النفوس الأمّارة (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ) (٦) أي من نور الإيمان (إِلَى الظُّلُماتِ) (٧) أي ظلمات الكفر ، فيوم القيامة الكبرى عند هؤلاء الضالّين هو العصر الّذي تطلع فيه شمس الحقيقة عن سماء كينونة الكامل ؛ إذ تحقّق اليوم إنّما هو بطلوع الشمس ، وبغروبها يتحقّق الليل ، فمعنى يوم القيامة هو اليوم الّذي يقوم فيه الكامل لإرشاد المستعدّين إلى مقام اليقين ، ونفس ذلك الكامل هو الجنّة ، فمن عرفه بحقّ العرفان وآمن به بحقيقة الإيمان فقد دخل الجنّة وفاز بنعيمها ، ومن أنكره وأعرض عنه فقد دخل الجحيم وعذّب فيها بعذاب أليم.

أقول : ما ذكروه من أنّ الجنّة هي النفس المقدّسة لا بأس به لقوله عليه السلام إنّ الجنّة هي حبّنا أهل البيت. وقد ورد أخبار كثيرة دالّة على ذلك إلّا أنّ الاعتقاد بأنّه لا جنّة سوى ذلك كما هو من عقائد هؤلاء يوجب خلود صاحبه في النار لإنكاره الضروريّ من دين محمّد صلّى الله عليه وآله ،

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

(٢) البقرة : ٢٥٧.

(٣) البقرة : ٢٥٧.

(٤) البقرة : ٢٥٧.

(٥) البقرة : ٢٥٧.

(٦) البقرة : ٢٥٧.

(٧) البقرة : ٢٥٧.

٩٧

فيجب على المسلمين قتله لئلّا يفسد في الدين ويضلّ المسلمين ، كما هو من دأب هؤلاء الخارجين ، وقد حكم بنجاسته جمّ غفير من فقهاء الإسلام ، ولكنّه مشكل ؛ إذ لا دليل عليه كما فصّلناه في الفقه ، حيث حكمنا بطهارة المنتحلين ، نعم لا ينبغي ترك الاحتياط في نحو المقام ، كما لا يترك بالنسبة إلى أهل الكتاب لو حكمنا بطهارتهم ؛ كما يراه جماعة.

نعم لا شكّ في كفرهم وخبث سريرتهم ، فيجب الاعتزال عنهم وترك المعاشرة معهم ، فإنّ المعاشر لهم منهم ؛ كما قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (١) وقال : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ... (٢) إلى آخره.

وما ذكره من أنّ أهل المرتبة الثانية وهم العوامّ المقلّدون في العذاب لا يخلّدون ، مناف لظاهر الشريعة الأحمديّة ، فإنّ الكافر مطلقا مخلّد في النار ؛ كما قد دلّت على ذلك ظواهر بعض الأخبار وعموم بعض الآيات القرآنيّة.

نعم لا بأس به لو لا الإجماع ، لأنّ العامّيّ ليس له أن ينظر في العقائد الحقّة الّتي يزلّ فيها أكثر الخواصّ أيضا ، بل الواجب عليه أن يطمئنّ بقول من يعتمد عليه اعتمادا كثيرا وإن كان ذلك المعتمد خاطئا سالكا غير سبيل الرشاد ؛ إذ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها ، وما اشتهر من عدم جواز التقليد في أصول الدين فممّا لا نقول به ، لعدم إمكان ذلك في حقّ أكثر العوامّ ، وقد حقّقنا في رسائلنا الأصوليّة جواب أدلّة المشهور ، فلا حاجة إلى تفصيل المقال في تلك الرسالة.

__________________

(١) المائدة : ٥١.

(٢) الممتحنة : ١.

٩٨

وكذا ما ذكره من أنّ أصحاب المرتبة الخامسة والسادسة غير معذّبين ؛ لأنّ هؤلاء هم الّذين سمّوا في الشريعة بالمستضعفين ، وقد قال الله في حقّهم : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ... (١) إلى آخره فأبهم الأمر ، فالجزم بأنّهم غير معذّبين مناف لظاهر الآية ، ولو لا الإجماع لحكمنا نحن بذلك أيضا ، لما روي عن ابن أعين قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال : لا (٢).

وعن ابن يحيى عنه عليه السلام قال : ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (٣).

وعن حمزة الطيّار عنه عليه السلام قال : قال عليه السلام لي : اكتب ، فأملى عليّ : إنّ من قولنا أنّ الله يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى ؛ أمر فيه بالصلاة والصيام ، فنام رسول الله صلّى الله عليه وآله عن الصلاة فقال : أنا أنيمك وأنا أوقظك ، فإذا قمت فصلّ ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ، ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك ، وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا أصحّك ، فإذا شفيتك فاقضه ... (٤) إلى آخره.

وأمثال تلك الأخبار كثيرة ، وهي دالّة على أنّه لا تكليف على القاصر

__________________

(١) التوبة : ١٠٦.

(٢) الكافي ١ : ١٦٤.

(٣) الكافي ١ : ١٦٤.

(٤) الكافي ١ : ١٦٤.

٩٩

الّذي لم يعرف ما أوجب الله عليه ، فلا عذاب ولا حساب عليه ؛ إذ ذلك فرع التكليف.

والإبهام في الآية ، إخبار عن قدرة الحقّ وفعله ما يشاء ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، لأنّ السلطان الحقيقيّ وكلّ ما في عالم الإمكان بالنسبة إليه عبد مملوك لا يقدر على شيء ، فليس لشيء أن ينكر عليه في فعله وصنعه ، فإنّه يفعل ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، ويتصرّف في ملكه بما يشاء ، وهو الفعّال لما يريد.

قال الله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً).

أقول : لمّا بيّن ما يترتّب على الكفر من التنزّلات والاحتجابات عن مقام الأنس بعالم القدس ، والغواشي الّتي تغطّي عين النفس عن النظر إلى سبحات الجمال الأزلانيّ ، وشعاشع أنوار الوجه القدمانيّ ، عقّبه ببيان ما يترتّب على «البرّ» وهو الشكر المفسّر بصرف كلّ ما خلق الله فيه في موضعه من اللذّات الروحانيّة الحاصلة بمشاهدة أنوار حضرة الأحديّة ، ومخاطرة أسرار طمطام الواحديّة ، ومجارعة كؤوس الخمور الصمدانيّة ، من أيدي السواقي الأزليّة ؛ الّتي يسقون من فاز بالحبّ الخالص في لجّة التوحيد ، وطمطام التفريد ، من عين الحكمة والعرفان ، وينبوع الخلوص والإيقان ؛ كما قال : من أخلص لله أربعين صباحا أجرى الله في قلبه ينابيع الحكمة ، وبصّره داءه ودواءه. انتهى.

وهذه العين هي العين الّتي أشار إليها بقوله : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) ...

١٠٠