بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

بوارق القهر في تفسير سورة الدّهر

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-95245-4-1
الصفحات: ٣٥٦

فكلّ ذلك من الأمر والنهي منسوب إليه ، فهو الآمر وهو الناهي ، وهو الداعي ، وهو البشر ، وهو النذير ، وهو المنزّل للآيات ، وهو المدّعي بالمعجزات في سلسلة الممكنات ، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن لا شيء سواه في الوجود ، وفي عوالم الشهود ، فإطلاق المنزّل على جبرئيل كما قال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ) ... (١) إلى آخره. وقال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ... (٢) إلى آخره ، مجاز معلوم ، وحقيقته إطلاقه على الحقّ الّذي هو الفاعل الأوّل ، والمبدأ الأعلى الّذي هو المنشأ للعلل والأسباب ؛ كما قال : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ... (٣) إلى آخره. وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٤).

وقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) (٥) والآيات الّتي انتسب فيها التنزيل إلى نفسه كثيرة لا تحصى.

الثانية : في التعبير عن ذاته الشريفة بما يستلزم التعدّد تعظيم لنفسه ؛ إذ كثيرا ما يستعمل الجمع في مقام المفرد تعظيما وتفخيما ؛ كما قال : (نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦).

__________________

(١) الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤.

(٢) النجم : ٥.

(٣) البقرة : ٢١٣.

(٤) القدر : ١.

(٥) الإسراء : ٨٢.

(٦) الحجر : ٩.

٢٢١

وقال : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (١) وذلك الاستعمال كثير شائع في المحاورات ؛ كما لا يخفى على المطّلع بها.

الثالثة : قيل الفرق بين الإنزال والتنزيل أنّه إذا أريد الإشعار بالتدريج في النزول جيء بالتنزيل لتضمّنه التدريج ، بخلاف الإنزال كما قال : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٢) فإنّ كلّا منهما نزل جملة واحدة ، وأمّا القرآن المجيد فنزوله تدريجيّ.

وقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٣) فإنّهم كانوا يقولون لو كان من عند الله لم ينزل على التدريج شيئا فشيئا.

أقول : ما ذكره من الفرق منقوض بقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) (٤).

وقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) (٥).

وقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (٦) نعم الغالب استعمال الإنزال في غير التدريج والتنزيل فيه ، وبينهما فرقان آخر ، وهو أنّ التنزيل مشعر بالتعظيم دون الإنزال.

الرابعة : قال الصدوق رحمه الله : اعتقادنا في ذلك أنّ بين عيني إسرافيل

__________________

(١) القيامة : ٤.

(٢) آل عمران : ٣.

(٣) البقرة : ٢٣.

(٤) الأعراف : ١٥٧.

(٥) الكهف : ١.

(٦) الفرقان : ٣٢.

٢٢٢

لوحا ، فإذا أراد الله أن يتكلّم بالوحي ضرب ذلك اللوح جبين إسرافيل ، فينظر فيه ويقرأ ما فيه ، فيلقيه إلى ميكائيل ، ويلقيه ميكائيل إلى جبرئيل ، فيلقيه جبرئيل إلى الأنبياء عليهم السلام.

وأمّا الغشوة الّتي كانت تأخذ النبيّ صلّى الله عليه وآله فإنّها كانت عند مخاطبة الله إيّاه حتّى ينقل ويعرف ، وأمّا جبرئيل فإنّه كان لا يدخل عليه حتّى يستأذنه إكراما له وكان يقعد بين يديه قعدة العبيد. انتهى.

أقول : هذا ما اقتضاه ظاهر الشريعة المحمّديّة ، وقد دلّ على صدقه بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب.

وأمّا بعض الصوفيّة فأوّلوا أمثال ذلك حيث زعموا أنّ إسرافيل وميكائيل وجبرائيل كناية عن أطوار وجوده صلّى الله عليه وآله ومقامات شهوده ، فليسوا خارجين عنه صلّى الله عليه وآله بل نفسانيّته قد تتّصف بالحقيقة الإسرافيليّة باعتبار كونها واسطة لإفاضات الوجود من الحقّ إلى الخلق.

وتتّصف تارة بالحقيقة الميكائيليّة باعتبار كونها واسطة لإيصال رزق كلّ شيء إليه بحسب حدّ هويّته وقضيّة حاله.

وتارة بالحقيقة الجبرائيليّة باعتبار كونها واسطة لإفاضة المعاني الملكوتيّة الروحانيّة من الحقّ إلى المستعدّين من الخلق ، فجميع ذلك من شؤونات وجوده الشريف ، ولا تعدّد إلّا بملاحظة الاعتبارات المختلفة.

كيف ولو لم يكن كذلك الأمر لزم أن يكون بينه صلّى الله عليه وآله وبين الحقّ واسطة أقرب إلى الحقّ منه ، فيكون صلّى الله عليه وآله محتاجا إلى

٢٢٣

تلك الواسطة بمعنى أنّه لو لم يكن تلك الواسطة في البين لما كان صلّى الله عليه وآله محلّا للإفاضات الروحانيّة.

على أنّه يلزم أيضا أن يكون تلك الواسطة محلّا للإفاضات قبل أن يصير صلّى الله عليه وآله كذلك ، وهو بعيد جدّا بعد ما علمنا بالقطع أنّه صلّى الله عليه وآله أوّل كلّ شيء وجودا ومرتبة وإفاضة.

كيف وهو الواسطة لجميع الإفاضات من غير أن يكون شيء إلى الله أقرب منه.

كلّا كيف لا وهو في مقام لا يدركه شيء ، وفي درجة لا يكافؤه فيها شيء ، وفي محلّ كرامة ليس شيء إلّا وهو روحي وروح العالمين فداه واسطة وجوده والإفاضة إليه في مقام شهوده.

فيا سبحان الله! كيف احتاجوه إلى غيره الّذي هو في وجوده مفتقر إليه في العلم والعرفان وحقائق اليقين والإيقان ، مع أنّه صلّى الله عليه وآله في مقامه معلّم الكلّ ممّا في عوالم الجبروت والملكوت والناسوت ، وهو المعلّم الأوّل الّذي اتّصل ينبوع علمه بعيون علم المبدأ الأوّل جلّ ذكره من غير واسطة وفاصل.

فالحقّ تعالى هو الّذي علّم محمّدا حقائق كلّ شيء ، وعلّم هو صلّى الله عليه وآله كلّ مستعدّ ، فهو الواسطة لعرفان كلّ شيء ، لا الملك ؛ كما زعمه بعض.

ألا ترى إلى قوله تعالى «وعلّم» أي الحقّ تعالى «آدم» أي محمّدا ، فإنّه هو الآدم الأوّل «الأسماء كلّها» أي جميع الحقائق والدقائق «ثمّ عرضهم على

٢٢٤

الملائكة» أي الممكنات الّتي أودع فيها جواهر الحقائق «فقال» على جهة الإرشاد إلى أنّ من خلقه ما يكون أفضل منهم «أنبئوني بأسماء هؤلاء» أي أخبروني بحقائق أودعتها فيهم «إن كنتم صادقين» في دعواكم الفضيلة «قالوا سبحانك لا علم لا إلّا ما علّمتنا» أي ما أطلعتنا عليه بالواسطة «إنّك أنت العليم الحكيم» أي مبدأ فيض العلم ، وينبوع الحكمة والعرفان.

قال لمّا أخذ عليهم الإقرار بالجهل : «يا آدم» أي يا محمّد صلّى الله عليه وآله «أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبئهم بأسمائهم» أي عرّفهم محمّد حقائق التوحيد والمعرفة «قال» أي الله جلّ ذكره أو محمّد صلّى الله عليه وآله «ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السموات والأرض» أي المكنوز فيها من الحقائق والمعارف والآيات ؛ كما قال : «سنريهم آياتنا في الآفاق» إلى آخره.

وقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) ... (١) إلى آخره. أي من غير أن يكون مشتملا على الحكم والحقائق.

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٢) أي بالحكم الظاهرة في الصنع والحكم الباطنة فيه (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) بعد ما علمنا جهلهم وإقرارهم به وافتقارهم إلى واسطة الفيض من الينبوع الأكبر إليهم «اسجدوا لآدم» أي أقرّوا بمقام محمّد صلّى الله عليه وآله وأفضليّته ، واعترفوا بكرامته وفضله

__________________

(١) آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) البقرة : ٣٣.

٢٢٥

على كلّ شيء ، وتذلّلوا له بالعبوديّة والطاعة (فَسَجَدُوا) أي اعترفوا جميعا بمقامه وعبدوه (إِلَّا إِبْلِيسَ) وهو من شقى وطغى وجهل طريق الهدى (أَبى) امتنع عن الإقرار واستكبر عن العبادة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) لنعمة الله.

وفي المقام لمطالب كثيرة يمنعني عن التعرّض لبيانها ضيق الوقت ، وقصور الأفهام ، فنرجع إلى كيفيّة الوحي على مسلك الحكماء الفلسفيّين ، فنقول :

إنّ النفوس الإنسانيّة إذا كملت بالرياضات والمجاهدات ، وصفت عن الكدورات والتعلّقات تتّصل بالعقول الفعّالة المجرّدة ، فتنظر إلى جانب القدس ، وتقابل مرآتيّتها للّوح المحفوظ ، فينتقش ما فيه فيها لصفائها ؛ إذ المصفّى يقبل الصور عند المقابلة.

ألا ترى إلى النائم كيف يرى أشياء في عالم رؤياه فتتحقّق صورها في الخارج ، وإن ذلك إلّا لانقطاعه عن بعض التعلّقات في النوم.

وكذا المجنون تراه يخبر عن المستقبل فيكون فيما أخبر عنه صادقا ، وذلك لصفاء نفسه عن الاشتغال ببعض التوجّهات إلى العلائق الدنيويّة.

فالوحي هو الإفاضة من العالم الأعلى إلى النفوس النبويّة لكمال صفائها ، وتمام بهائها ، ومقابلتها للمرايا العالية القدسانيّة المستلزمة لانتقاش ما فيها في تلك النفوس كما قيل :

فقابل بوجه النفس عالم قدسها

فذاك حياة النفس بعد مماتها

گاهى كه ترا صفاى خاطر باشد

اسرار حقيقت همه ظاهر باشد

٢٢٦

وهذا هو الكشف الأكمل الّذي تسمّيه الصوفيّة بالكشف المعنويّ ، ويقابله الكشف الصوريّ ، وهو إمّا بالمشاهدة العيانيّة ؛ كما قال صلّى الله عليه وآله : رأيت ربّي في أحسن صورة ، فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمّد؟ قلت : أنت أعلم أي ربّ ـ مرّتين ـ فوضع الله كفّه بين كتفيّ ، فوجدت بردها بين ثدييّ ، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ... (١) (٢) أو بالسماع أو باللمس أو بالشمّ ، وهنا تفاصيل مذكورة في كتب الصوفيّة.

الخامسة : المراد بالحكم الّذي أمر بالصبر له هو التجلّيات الواردة على القلب ، والإفاضات الروحانيّة الّتي ترد عليه ، أي تحمل لما يرد على قلبك من الأنوار الشعشعانيّة.

والمراد أنّه تعالى لقد أعطاه تلك الطاقة ، فلو لا ذلك لما كان متحمّلا لقبول تجلّيات الأنوار القدسانيّة الّتي تضمحلّ بورودها هويّات كلّ شيء ، وتتلاشى بهجومها تعيّنات كلّ شيء. أما ترى إلى الجبل كيف دكّ من تجلّي نور الحقّ ، وإلى موسى كيف خرّ صعقا من ذلك ؛ كما قال : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) ... (٣) إلى آخره.

ويحتمل أن يكون المراد بالصبر للحكم ترغيبه في طيّ المنازل الّتي

__________________

(١) الأنعام : ٧٥.

(٢) انظر : شرح نهج البلاغة ٣ : ٢٢٦.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

٢٢٧

يجب على السالك طيّها ، فيشاهد في كلّ منزل منها نورا خاصّا ، وإفاضة خاصّة ، ويسمّى المجموع بالأطوار القلبيّة ، وهي سبعة :

الأوّل : التوبة عن الغفلات ، والمواظبة على الطاعات ، والذكر في جميع الحالات ، فإذا طيّ السالك ذلك المنزل يتمثّل له نور أخضر فيجلو قلبه ، وتتحقّق له لذّة العبادة.

الثاني : التزكية عن رذائل الصفات ، والتصفية عن خبائث الحالات ؛ بحيث يحصل له الاطمئنان بحقائق الإيمان ، فإذا صار السالك ذا نفس مطمئنّة يتمثّل له نور أزرق.

الثالث : التحلية بالأخلاق الحميدة ، والصفات السعيدة ، والمتمثّل في ذلك المنزل نور أحمر.

الرابع : التخلية عن الأغيار ، والاعتزال عمّا سوى الجبّار ، والمتمثّل نور أصفر.

الخامس : مرتبة الروح ، والمتمثّل نور أبيض.

السادس : مرتبة الخفاء ، والمتمثّل نور أسود.

السابع : مرتبة الغيب والفناء عن الوجود الموهوميّ ، والبقاء بالوجود الحقيقيّ. ولقد أشرنا إلى تلك المنازل الشريفة في منظومتنا المسمّاة بـ «درّة اللاهوت» حيث قلنا :

لسالك السبيل من منازل

قلبيّة وذاك خير نازل

وهي على عقيدة السلوك

سبع تليح النور للملوك

أوّلها التوبة والإجابة

لأمر ربّ الخلق والإنابه

٢٢٨

إلى قولنا :

وآخر من منزل القلوب

مقام غيب الغيب والغيوب

ويفتنى المرء عن الفناء

في ذلك المنزل للبقاء

وجوده الموهوم في الوجود

يمحو فيفنى العبد في السجود

وقطرة الوجود في البحار

فانية من ذلك المزار

ويحرق الأعضاء بالشهود

وينفد القيود للوجود

فلا يرى العبد سوى الإله

مهيمنا فلا تكن كاللاهي

وذلك المنزل للعباد

نهاية السرّ إلى الرشاد ...

ويحتمل أن يكون المراد بالحكم تبليغ مقام عليّ عليه السلام إلى الخلق ، وبيان شرفه وفضله ؛ كما قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ... (١) إلى آخره.

إذ الغرض الكلّيّ من تلك التبليغات هو إرشاد الناس إلى حبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأولاده ، والدخول في باب ولايتهم ومتابعتهم. كيف وكلّ الذرّات مخلوقة لمعرفة ذلك الأمر ، فإنّ فيها الدرجات العلى ، والمقامات الأبهى ، على التفصيل المقرّر في مقامه.

وقيل : المراد بتبليغ الكتاب بما فيه والعمل به ، فالحكم مطلق التكاليف المأمور بها.

وقيل : المراد الحثّ على الاصطبار على الحكمة الإلهيّة الواردة على النفس بحسب قوّتيها النظريّة والعمليّة.

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

٢٢٩

السادسة : قيل : «أو» في قوله : «أو كفورا» إنّما هي للإباحة ، وهي الواقعة بعد الطلب.

أقول : وفيه ما لا يخفى ، لأنّ الإباحة ملائمة للأمر ؛ نحو جالس العلماء أو الزهّاد ، فالأولى تخصيص ذلك الاسم بالواقعة بعد الطلب الأمريّ ونحوه.

وأمّا الواقعة بعد النهي ، فللحظر وامتناع الجمع ؛ كما في الآية ؛ إذ المعنى لا تفعل أحدهما ، فأيّهما فعله كان أحدهما البتّة ، فلا ينبغي أن يسمّى بالإباحة ، فإنّها ما يجوز فيه الجمع لا ما يمتنع.

قال الطبرسيّ رحمه الله : قال الزجّاج في قوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) ... إلى آخره. «أو» هنا أوكد من «الواو» لأنّك إذا قلت «لا تطع زيدا وعمرا» فأطاع أحدهما كان غير عاص ، لأنّك أمرته أن لا يطيع الإثنين ، وإذا قال «لا تطع منهم آثما أو كفورا» فـ «أو» قد دلّت على أنّ كلّ واحد منهما أهل لأن يعصى ، وأنّهما أهل أن يعصيا ، كما إنّك إذا قلت «جالس الحسن أو ابن سيرين» فقد قلت كلّ واحد منهما أهل أن يجالس.

قال البصير النحويّ : «أو» هذه الّتي للتخيير إذا قلت «اضرب زيدا أو عمرا» فمعناه : اضرب أحدهما ، فإذا قلت «لا تضرب زيدا أو عمرا» فمعناه لا تضرب أحدهما ، فيحرم عليه ضربهما ، لأنّ أحدهما في النفي يتعمّم.

وابن كيسان يحمل النهي على الأمر ، فيقول : إذا قال لا تضرب أحدهما لم يحرم عليه ضربهما ، وإنّما حرم في الآية طاعتهما ، لأنّ أحدهما بمنزلة الآخر في امتناع الطاعة له. ألا ترى أنّ الآثم مثل الكفور في هذا المعنى.

٢٣٠

قال سيبويه : ولو قال لا تطع آثما ولا كفورا لا نقلب المعنى ؛ إذ ذاك ، لأنّه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما. انتهى.

أقول : لا يخفى أنّ ما نقله عن ابن كيسان هو الأجود ، وما حكاه عن سيبويه من انقلاب المعنى على ذلك التقدير محلّ مناقشة ، والتفصيل لا يليق بذلك الكتاب ، فإنّ تطويل البحث عن أمثال تلك المسائل إنّما هو من شأن القانعين بالقشور ، والمحرومين عن حقائق الأمور ، فنرجع إلى ما هو الأهمّ فنقول :

إنّ الله تعالى لمّا أمره بأداء التكاليف وطاعته تعالى في الأحكام والحدود نهاه عن طاعة غيره ، فإنّها منافية لطاعة الحقّ ؛ إذ المطيع الحقيقيّ هو الّذي يمحّض طاعته للحقّ بحيث لا يظنّ غيره مطاعا.

كيف وهو السلطان الّذي كلّ شيء تحت أمره مقهور ، والجبّار الّذي كلّ شيء بجبروته مجبور ، فلا يستحقّ الطاعة سواه ، ولا ينبغي العبادة لما عداه ، وفي قوله : «آثما أو كفورا» إشارة إلى أنّ ما في سلسلة الإمكان لا يخلو عن ذلك الوصفين ، بمعنى أنّه موصوف بالنقصان من جهة الإمكان ، فلا يصلح لمقام المطاعيّة ، فإنّ المطاع ينبغي أن يكون مقدّسا عن جميع العيوب ، مجرّدا عن شوائب النقائص.

وذلك التقدّس والتجرّد خاصّ بحضرة الحقّ تعالى ، فيجب تمحّض الطاعة له ، والإعراض عمّا سواه ممّا في عالم الإمكان ، فإنّه لا ينبغي الطاعة لغيره تعالى لما ذكر. وأمّا ما ورد من طاعة النبيّ صلّى الله عليه وآله فلكونه مظهرا لصفات الحقّ ، فهو المقدّس عن النقائص والعيوب بعد الحقّ ، فيجب

٢٣١

طاعته على من لا يكون في ذلك المقام.

وهذا هو السرّ في قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ...) (١) إلى آخره ، حيث قارن طاعة الرسول بطاعته تعالى.

فالمراد بالآثم والكفور غير الحقّ تعالى ، أي لا تطع أحدا من الخلق ، فإنّه لا ينبغي لك ذلك ، كيف وقد فزت بمقام القرب الأكمل الّذي لا يكافؤك فيه أحد من الملائكة المقرّبين ، والأنبياء والمرسلين ، فأنت المستحقّ بمقامك هذا لأن يطيعك غيرك من الخلق ، فليس لك أن تطيع أحدا إلّا الّذي هو فوقك ، وهو الّذي خلقك وعلّمك ما لم تكن تعلمه قبل ذلك ، سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

ففيه إشارة إلى أنّ محمّدا صلّى الله عليه وآله أفضل من كلّ شيء ممّا هو في دائرة الإمكان. كيف وهو قطبها بالحكمة والعرفان ، ومقامه فوق مقام كلّ شيء ، لا يكافؤه شيء ، ولا يدانيه شيء ، ولا يوازيه شيء.

كيف وهو طاووس الجبروت ، وعندليب الحقّ في بستان اللاهوت ، روحي وروح العالمين فداه.

كيف لا وقد شهدت على كمال مقامه حقائق كلّ شيء ، ونطقت بفضله وشرفه على كلّ شيء ألسنة حال كلّ شيء ، ويدلّك على ذلك أنّه خلق قبل كلّ شيء ، فبه خلق كلّ شيء ، وكان هو الغرض الأصلي من خلق كلّ شيء.

وفي تفسير الإمام عليه السلام بعد حديث طويل : فأراد الله أن يشرح صدره ، ويشجّع قلبه ، فأنطق الجبال والصخور والمدر ، وكلّما وصل إلى

__________________

(١) التغابن : ١٢ ، المائدة : ٩٢.

٢٣٢

شيء منها ناداه : السلام عليك يا وليّ الله ، السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، أبشر فإنّ الله قد فضّلك وجمّلك وزيّنك وأكرمك فوق الخلائق أجمعين ؛ من الأوّلين والآخرين ، لا يحزنك قول قريش إنّك لمجنون ، وعن الدين مفتون ... (١) إلى آخره.

وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام : أوحى الله إلى محمّد صلّى الله عليه وآله إنّي خلقتك ولم تكن شيئا ، ونفخت فيك من روحي كرامة منّي أكرمتك بها حين أوجبت لك الطاعة على خلقي جميعا ، فمن أطاعك فقد أطاعني ، ومن عصاك فقد عصاني ، وأوجبت ذلك في عليّ عليه السلام ونسله (٢).

وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال : انتخب لهم أحبّ أنبيائه إليه محمّد بن عبد الله في حومة العزّ مولده ، وفي رومة الكرم محتده ، غير مشوب حسبه ، ولا ممزوج نسبه ، ولا مجهول عند أهل العلم صفته ، بشّرت به الأنبياء في كتبها ، ونطقت به العلماء بنعتها ، وتأمّلته الحكماء بوصفها ، مهذّب لا يدانى ، هاشميّ لا يوازى ، أبطحيّ لا يسامى ، شمّته الحياء ، وطبيعته السخاء ، مجبول على أوقار النبوّة وأخلاقها ، مطبوع على أوصاف الرسالة وأحلامها ، إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها ، وجرى بأمر الله القضاء إلى نهاياتها ، أدّاه محتوم قضاء الله إلى غاياتها ، تبشّر به كلّ أمّة من بعدها ، ويدفعه كلّ أب إلى أب من ظهر إلى ظهر ، لم يخلطه في عنصره

__________________

(١) انظر : تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : ١٥٦.

(٢) الكافي ١ : ٤٤٠.

٢٣٣

سفاح ، ولا ينجّسه في ولادته نكاح ؛ من لدن آدم إلى أبيه عبد الله في خير فرقة ، وأكرم سبط ، وأمنع رهط ، وأكلأ حمل ، وأودع حجر ، اصطفاه الله وارتضاه واجتباه وآتاه من العلم مفاتيحه ، ومن الحكم ينابيعه ابتعثه رحمة للعباد ، وربيعا للبلاد ، وأنزل الله إليه الكتاب فيه البيان والتبيان قرآنا عربّيا غير ذي عوج لعلّهم يتّقون.

إلى أن قال : فبلّغ رسول الله ما أرسل إليه ، وصدع بما أمر ، وأدّى ما حمّل من أثقال النبوّة ، وصبر لربّه ، وجاهد في سبيله ، ونصح لامّته (١).

وقال صلّى الله عليه وآله : أنا أفضل من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع الملائكة المقرّبين ، وأنا خير البريّة ، وأنا سيّد ولد آدم (٢).

وقال السجّاد عليه السلام : اللهم ارفعه بما كدح فيك إلى الدرجة العليا من جنّتك ، حتّى لا يساوى في منزله ، ولا يكافؤه في مرتبته ، ولا يوازيه لديك ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ... (٣) إلى آخره.

وأمثال ذلك ممّا يدلّ على أفضليّته وأشرفيّته على كلّ شيء كثيرة لا تحصى ، بل أكثر من الرمل والحصى ، وهي مع تلك الكثرة قليلة في بيان مدحه ومقامه ، كيف ولو اجتمع الجنّ والإنس ، بل كلّ شيء على أن يصفوا من مقاماته صلّى الله عليه وآله مقاما هو أدنى مقاماته لم يستطيعوا على ذلك ؛ ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا :

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٤٤.

(٢) بحار الأنوار ٢٦ : ٣٤٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ : ١٨٥ ، الصحيفة السجّاديّة : ٣٤.

٢٣٤

كتاب فضل ترا آب بحر كافى نيست

كه تر كنى سر انگشت وصفحه بشمارى

به حسن وخلق ووفا كس به يار ما نرسد

ترا در اين سخن انكار ما نرسد

هزار نقش برآيد زكلك صنع ويكى

به دلپذيرى نقش نگار ما نرسد

هزار نقد به بازار كاينات آرند

يكى به سكّه صاحب عيار ما نرسد

وقيل : نهى الله تعالى رسوله بتلك الآية عن التعدّي إلى ما عداه تعالى من مطاوعة الأوهام المضلّة الّتي سوّلتها الشياطين ، فتنصرف النفس عن الطاعة ، وتضلّها بمشتهيات الهوى. ولهذا أمرنا بالتعوّذ من الشيطان الرجيم ، قال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١).

وقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) (٢).

والآثم إشارة إلى المطيع للنفس الأمّارة باطنا وهو الفاسق شرعا ، والكفور إشارة إلى الكافر المطيع لها ظاهرا وباطنا.

وقيل : المراد بالآثم عتبة بن ربيعة ، وبالكفور الوليد بن مغيرة ، فإنّهما قالا للنبيّ صلّى الله عليه وآله ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج.

__________________

(١) النحل : ٩٨.

(٢) الأعراف : ٢٠١.

٢٣٥

وقيل : الكفور أبو جهل ؛ نهى النبيّ صلّى الله عليه وآله عن الصلاة وقال : لئن رأيت محمّدا يصلّي لأطأنّ عنقه.

وقيل : إنّ ذلك عامّ في كلّ عاص وفاسق وكافر من الناس ، أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر.

أقول : فعلى هذا كلّه يكون آثما أو كفورا مفعولا به لقوله «ولا تطع».

ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال من الفاعل المستتر ، أي لا تطع الناس حال كونك آثما أو كفورا.

السابعة : في قوله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ...) إلى آخره ، حثّ على ذكر الحقّ في جميع الأحوال ، والصمت عن سوء المقال ، والإعراض عمّا يوجب الغفلة عن مقام الجمال ، والبعد عن مراتب الجلال ، فإنّ الذكر أصل كلّ طاعة ، كما أنّ الغفلة أصل كلّ معصية ، فيجب المواظبة على الأوّل ، والإعراض عن الثانية ، فإنّهما السببان لترقّي النفس عن حضيض البهيميّة إلى أوج الملكوتيّة ، كما أنّ الغفلة سبب لهلاك النفس وضياعها وضلالها عن سبيل الصفاء ، وبعدها عن مقام البهاء ؛ كما قال : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١).

وقال : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ... (٢) إلى آخره.

__________________

(١) طه : ١٢٤.

(٢) الزخرف : ٣٦ ـ ٣٨.

٢٣٦

وقال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١).

وفي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه ، فرض الله الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهن ، وشهر رمضان فمن صامه فهو حدّه ، والحجّ فمن حجّه فهو حدّه ، إلّا الذكر فإنّ الله لم يرض بالقليل ، ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه ، ثمّ تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢) (٣).

وفيه عن أبي جعفر عليه السلام قال : أوحى الله إلى موسى : يا موسى أنا جليس من ذكرني ، فقال موسى : فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك؟ فقال : الّذين يذكروني فأذكرهم ، ويتحابّون فيّ فاحبّهم ، فأولئك الّذين إذا أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم (٤).

وفي «عدّة الداعي» عنه صلّى الله عليه وآله قال : إنّ الملائكة يمرّون إلى حلق الذكر فيقومون على رؤوسهم ، ويبكون لبكائهم ، ويؤمّنون على دعائهم ، فإذا صعدوا إلى السماء يقول الله : يا ملائكتي! أين كنتم؟ وهو أعلم ، فيقولون : يا ربّنا ، إنّا حضرنا مجلسا من مجالس الذكر ، ورأينا أقواما يسبّحونك ويحمدونك ويقدّسونك ، يخافون نارك! فيقول الله : يا ملائكتي ، أذودها عنهم ، وأشهدكم أنّي قد غفرت لهم وآمنتهم ممّا يخافون ،

__________________

(١) الكهف : ٢٨.

(٢) الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) الكافي ٢ : ٤٩٨.

(٤) الكافي ٢ : ٤٩٦.

٢٣٧

فيقولون : ربّنا إنّ فيهم فلانا ، وإنّه لم يذكر الله! فيقول الله : قد غفرت له لمجالسته لهم ، فإنّ الذاكرين من لا يشقى لهم جليسهم (١).

وفي «مصباح الشريعة» : من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ، ومن كان غافلا عنه فهو عاص ، فالطاعة علامة الهداية ، والمعصية علامة الضلالة ، وأصلها من الذكر والغفلة ... (٢) إلى آخره.

والأخبار الواردة في مدح الذاكر وشرف مقامه أكثر من أن تحصى ، وتفصيل القول في حقيقة الذكر وشرائطه وأصنافه وخواصّه يستدعي وضع رسالة على حدة ، وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا المسمّى بـ «عين الهداية» فإليه فليرجع المهتدون.

تنبيهات

الأوّل : قال العارف الربّانيّ الملقّب بـ «الفيض» في بعض رسائله :

الذكر إمّا باللسان وحده ، أو بالقلب ، أو بكليهما.

والأوّل قليل الجدوى جدّا ، وإنّما الذكر النافع الأخيران ، وهما اللذان قصدنا بيانهما ، وهما على أنواع شتّى :

الأوّل : أن يسبّح الله ويحمده ويهلّله ويكبّره ويمجّده ويدعوه ويناجيه ويتلو كتابه كأنّه نزل فيه ، مع إحضار القلب لمعانيها ، والتدبّر لخافيها ، والتنبيه لما أودع فيها ، بحيث يظهر آثاره على الأعضاء كأنّه قد أشرف على اللقاء ، فقد ورد في الأخبار أن تعبد الله كأنّك تراه ، فان لم تكن تراه فإنّه يراك.

__________________

(١) عدّة الداعي : ٢٥٦.

(٢) مصباح الشريعة : ٥٥.

٢٣٨

الثاني : أن يحضر قلبه ما أنعم الله به عليه من النعم الدنيويّة والاخرويّة ، فيشكر عليه بقلبه بأن يعلم أنّ تلك النعمة من الله وحده لا من غيره ، وأنّه سبحانه إنّما أنعم بها عليه ليعرفها فيما خلقت له ، فيسعى بتمام جهده أن لا يصرفها في غيره.

الثالث : أن يحضر في قلبه كلّ طاعة أمره الله بها ، ثمّ ينظر فإن كان قد امتثل الأمر على وجهه شكر الله بقلبه ولسانه ، وعند التوفيق للامتثال من النعم ، بأن يعلم أنّه لو لا فضل الله عليه ورحمته بالتوفيق بالإتيان بها بتيسير أسبابها له ، وإن كان قد قصّر بالإتيان بالطاعة من أصلها ولم يأت بها على وجهها تدارك تقصيره بتمام جهده ، وتاب ورجع وأناب.

الرابع : أن يحضر في قلبه كلّ معصية نهاه الله عنه ولم يمتثل نهي الله ، بل ارتكب المعصية عمدا أو خطأ ، فاستغفر الله منها ، وتاب إليه ، وأتى بحسنة يمحوها ؛ فقد ورد : أتبع السيّئة بالحسنة تمحها.

الخامس : أن يذكر الله في نفسه إذا عرض له أمر من الأمور ، فإن كان طاعة الله أتى بها ، وإن كانت معصيته تركها.

وهذا من أشدّ ما فرض الله من الذكر ؛ قال الصادق عليه السلام : من أشدّ ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا.

ثمّ قال : لا أعني سبحان الله والحمد لله ... إلى آخره ، ولكن ذكر الله عند ما أحلّ وحرّم ، فإنّ كان طاعة عمل بها ، وإن كان معصية تركها (١).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٠.

٢٣٩

وسئل عن قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١) قال : أما والله أن كان أعمالهم أشدّ بياضا من القباطيّ ، ولكن إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه (٢).

السادس : أن يذكر الله بالتفكّر في صنائعه وآلائه ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : نبّه بالتفكّر قلبك ، وجاف عن الليل جنبك ، واتّق الله ربّك (٣).

وهذا التفكّر إنّما يكون لكلّ أحد بحسب عقله وفهمه ورتبته ، فتفكرّ أولي الألباب إنّما يكون في أفعال الله وعجائب صنعه ، وبدائع أمره في خلقه ، وما ينبّه على جلاله وكبريائه وتقدّسه وتعاليه ، وفي بسط نعمائه وأياديه ، وما يدلّ على كمال علمه وحكمته وقدرته ونفاذ مشيّته ، وإحاطته بالأشياء ونحو ذلك ، قال الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٤).

وقال : (وَمِنْ آياتِهِ) (٥) في مواضع كثيرة من القرآن ، فتلك الآيات هي مجاري التفكّر في الله ، وفي قدرته ، وفي أمره ، وتفكّر المتوسّطين إنّما يكون في المعاملة بينهم وبين ربّهم في حسناتهم وسيّئاتهم ، وفيما يفعل بهم من اللطف والإحسان والحلم والعفو وغير ذلك ، فإنّه إذا تفكّر العبد في حسناته هل هي تامّة أو ناقصة ، موافقة للسنّة أو مخالفة لها ، خالصة عن

__________________

(١) الفرقان : ٢٣.

(٢) الكافي ٢ : ٨١.

(٣) الكافي ٢ : ٥٤.

(٤) آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٥) الروم : ٢٠.

٢٤٠