روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-950-X
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

جزء مفهومه ؛ لأنّه زوال الصورة العلميّة عن القوّة الذاكرة ، أو عدم العلم بعد حصوله عمّا من شأنه أن يكون عالماً ، كما تقدّم ، لكنّه أشبه الطبيعة الثانية في العروض والكثرة التي تشبه اللزوم ، كان كالطبيعة الثانية للإنسان خصوصاً على التعريف الثاني ؛ فإنّ العدم المنسوب إلى الملكة له حظّ من الوجود بافتقاره إلى محلّ وجوديّ ، كافتقار الملكة إليه ؛ فإنّه عبارة عن عدم شي‌ء مع إمكان اتّصاف الموضوع بذلك الشي‌ء ، كالعمى ؛ فإنّه عدم البصر لا مطلقاً بل عن شي‌ء من شأنه أن يكون بصيراً ، فهو يفتقر إلى الموضوع الخاصّ المستعدّ للملكة ، كما تفتقر الملكة إليه ، بخلاف باقي الأعدام. ثمّ أكّد الاعتذار عمّا يجده من الخلل بقوله (ومثلي) ممّن لم يتّصف بالعصمة من بني آدم ، والتعبير بالمثل كناية عن أنّي لا أخلو من ذلك من قبيل قولهم : «مثلك لا يبخل» و «مثلك مَنْ يجود» فإنّه كناية عن ثبوت الفعل أو نفيه عمّن أُضيف إليه لفظ «مثل» لأنّه إذا ثبت الفعل لمن يسدّ مسدّه ومَنْ هو على أخصّ أوصافه أو نُفي عنه ، كان من مقتضى القياس والعرف أن يفعل هو كذا أو أن لا يفعل ، ومن لازم هذه الكناية تقديم لفظ «مثل» كما قرّر في المعاني.

ولفظة «يخلو» من قوله (لا يخلو) ليس بعدها ألف ؛ لأنّ الواو فيها لام الفعل المعتلّ ، وإنّما أثبتوا الألف بعد الواو المزيدة وهي واو الجماعة فرقاً بينها وبين الأصليّة ، كهذه ونظائرها ، فإتيانه بعدها خطأ (من تقصير في اجتهاد) لابتنائه على مقدّمات متعدّدة وقواعد متبدّدة يحتاج إلى استحضارها في كلّ مسألة يجتهد فيها ، وذلك مظنّة التقصير ، ولهذا اختلفت الأنظار في الفروع التي لم ينصّ على عينها ، كما هو معلوم.

(والله الموفّق للسداد) وهو الصواب والقصد من القول والعمل ، قاله في الصحاح. (١).

(فليس المعصوم) من بني آدم كما يقتضيه الاستثناء من النفي المستلزم لحصر الإثبات في المستثنى مع الإجماع على عصمة الملائكة عليهم‌السلام مع خروجهم عن الأنبياء والأوصياء ، فلو لا التقييد ببني آدم ، أشكل الحصر (إلا مَنْ عصمه الله).

و «من» في قوله (من أنبيائه وأوصيائه) لبيان الجنس ، لاتّفاقنا على عصمة الجميع ، والتقدير : ليس المعصوم من نوع الإنسان إلا الأنبياء وأوصياءهم (عليهم أفضل الصلوات

__________________

(١) الصحاح ٢ : ٤٥٨ ، «س د د».

٤١

وأكمل التحيّات) جمع تحيّة والأصل : تحيية ، نُقلت كسرة الياء إلى ما قبلها وأُدغم الياء في الياء. واشتقاقها من الحياة ؛ لأنّ المحيّي إذا حيّا صاحبه فقد دعا له بالسلامة من المكاره ، والموت من أشدّها ، فدخل في ضمنها. واختصّت بالاشتقاق منها ؛ لقوّتها. والمراد هنا ما هو أعمّ من ذلك.

(ونبدأ في الترتيب) وهو جمع الأشياء المختلفة وجَعلها بحيث يطلق عليها اسم الواحد ، ويكون لبعضها نسبة إلى بعضٍ بالتقدّم والتأخّر في النسبة العقليّة وإن لم تكن مؤتلفةً ، وهو أعمّ من التأليف من وجه ؛ لأنّه ضمّ الأشياء مؤتلفة ، سواء كانت مرتّبة الوضع أم لا ، وهُما معاً أخصّ من التركيب مطلقاً ؛ لأنّه ضمّ الأشياء مؤتلفةً كانت أم لا ، مرتّبة الوضع أم لا. ومنهم مَنْ جَعَل الترتيب أخصّ مطلقاً من التأليف. ومنهم مَنْ جَعَلهما مترادفين. ومنهم مَنْ جَعَل التركيب والتأليف مترادفين. فهذه ألفاظ ثلاثة موضوعة للدلالة على ضمّ شي‌ء إلى آخر يحسن التنبيه عليها (بالأهمّ فالأهمّ).

أي : نبدأ بالأهمّ أوّلاً ، فإذا فرغنا منه ، ذكرنا الأهمّ بالنسبة إلى الباقي. فبدأ بالعبادات أوّلاً ؛ إذ الأحكام الأُخرويّة أهمّ من الدنيويّة ؛ لأنها المقصودة بالذات من خلق المكلّفين. وأتبعها بالعقود ؛ لتوقّف نظام النوع وقوامه على معرفتها ، ثمّ بالإيقاعات ؛ لأنّها بالنسبة إلى العقود كالفروع ، فإنّ الطلاق وتوابعه فرع النكاح ، والعتق وتوابعه فرع الملك الحاصل بالابتياع ونحوه ، وهكذا القول في نظائرها.

وأُخّرت الأحكام ؛ لأنّها خارجة عن حقيقة مستحقّ التقدّم ، كالفرائض والجنايات ، أو لازمة للعقود والإيقاعات معاً ، كالقضاء والشهادات ، واللازم متأخّر عن الملزوم طبعاً ، فأُخّر وضعاً ليطابق الطبع الوضع.

ثمّ بدأ من العبادات بالصلاة ؛ لأنّها أفضل وأكثر تكرّراً ، وقدّم عليها الطهارة ؛ لكونها شرطاً فيها ، والشرط مقدّم على المشروط ، وكان من حقّها أن تجعل باباً من أبواب الصلاة ، كباقي شروطها ، كما فعل الشهيد رحمه‌الله في الذكرى ، لكن لكثرة مسائلها وتشعّب أنواعها أفردها عن باقي الشروط في كتابٍ ، وقدّم منها الوضوء ؛ لعموم البلوى به وتكرّره ضرورة في كلّ يوم ، بخلاف الغسل والتيمّم. وقدّم بعده الغسل على التيمّم ؛ لأصالته عليه ، والتيمّم طهارة ضروريّة ، وقدّم على إزالة النجاسات ؛ لأنّها تابعة للطهارة بالمعنى

٤٢

المعتبر عند علماء الخاصّة.

ثمّ أتى بالزكاة بعد الصلاة ؛ لاقترانها معها في الآيات (١) الكريمة ، وتكرّرها في كلّ سنة بالنسبة إلى الخمس والحجّ ، والخمس والاعتكاف تابعان للزكاة والصوم من وجه ، فناسب ذكرهما معهما ، ثمّ بالصوم ؛ لاختصاصه ببعض هذه العلل ، ثمّ بالحجّ ؛ لوقوعه في العمر مرّة. وأخّر الجهاد ؛ لخلوّ وقتنا منه غالباً. وهكذا قرّر ما يرد عليك من بقيّة أجزاء الكتاب لا زلت موفّقاً لصوب الصواب.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٤٣ و ١١٠ و ٢٧٧ ؛ النساء (٤) : ١٦٢ ؛ المائدة (٥) : ١٢ ؛ التوبة (٩) : ٥ و ١١ و ١٨ و ٧١ ؛ مريم (١٩) : ٣١ ؛ الأنبياء (٢١) : ٧٣ ؛ الحجّ (٢٢) : ٤١ و ٧٨ ؛ النور (٢٤) : ٣٧ و ٥٦ ؛ النمل (٢٧) : ٣ ؛ لقمان (٣١) : ٣ ؛ الأحزاب (٣٣) : ٣٣ ؛ المجادلة (٥٨) : ١٣ ؛ المزّمّل (٧٣) : ٢٠ ؛ البيّنة (٩٨) : ٥.

٤٣
٤٤

[كتاب الطهارة]

٤٥
٤٦

(كتاب الطهارة)

خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا كتاب الطهارة ، وكذا القول في بقيّة الفصول والأبواب.

والكتاب اسم مفرد ، وجمعه كتب بضمّ التاء وسكونها. وهو فعال من الكتب بفتح الكاف ، سمّي به المكتوب ، كالخلق بمعنى المخلوق ، وكقولهم : هذا درهم ضرب الأمير ، وثوب نسج اليمن.

وقد صرّح الجوهري وغيره من أهل اللغة بأنّه نفسه مصدر ، تقول : كَتَبتُ كَتباً وكِتاباً وكِتابَةً. (١).

واستشكل ذلك جماعة من المحقّقين بأنّ المصدر لا يشتقّ من المصدر ، بل الخلاف منحصر في أنّ الفعل هل يشتقّ من المصدر أو بالعكس كما هو المعلوم؟

وأسدّ ما يقال في الجواب : إنّ الكلام إنّما هو في المصدر المجرّد ، وأمّا المزيد فإنّه مشتقّ منه ؛ لموافقته إيّاه بحروفه ومعناه ، وقد نصّ على ذلك العلامة التفتازاني (٢).

والكتب معناه : الجمع ، تقول : كتبتُ البغلَةَ : إذا جمعت بين شُفريها بحَلقةٍ أو سيرٍ. وكتبتُ القِربةَ أيضاً كَتباً : إذا خرزتها. ومنه : تكتّب بنو فلان : إذا تجمّعوا. ومنه سُمّي الكتاب ؛ لأنّه يجمع أُموراً من علمٍ يُعبّر عنها تارة بالأبواب ، وأُخرى بالفصول وغيرها.

والطهارة مصدر طهر بضمّ عين الفعل وفتحها ، والاسم : الطهر ، وهي لغةً : النظافة والنزاهة ، وقد نقلت في الاصطلاح الشرعي إلى معنى آخر بناءً على وجود الحقائق الشرعيّة.

__________________

(١) الصحاح ١ : ٢٠٨ ؛ لسان العرب ١ : ٦٩٨ ، «ك ت ب».

(٢) شرح التصريف (ضمن جامع المقدّمات) ١ : ٢١١.

٤٧

وقد اختلف الأصحاب في تعريفها ؛ لاختلافهم في المعنى المنقول إليه ، فكلّ عرّفها بحسب (١) ما ذهب إليه ، ولا تكاد تجد تعريفاً سليماً عن الطعن حتى لجأ بعضهم (٢) إلى أنّ المراد بتعريفها اللفظي على قانون اللغة ، وهو تبديل لفظ بلفظ آخر أجلى منه من دون اشتراط الاطّراد والانعكاس.

وحاصل الخلاف : أنّ منهم مَنْ يُطلقها على المبيح دون إزالة الخبث. ومنهم مَنْ يُطلقها عليه وعلى إزالة الخبث. وعلماؤنا الأكثرون على الأوّل بناءً على أنّ إزالة الخبث في الحقيقة أمر عدميّ ، فلا حظّ له في المعاني الوجوديّة.

ثمّ هُم مختلفون في إطلاقها على الصورة غير المبيحة حقيقةً أو ظاهراً ، كوضوء الحائض والمجدّد : والمصنّف لم يتعرّض لتعريفها في هذا الكتاب ، لكن قد استقرّ أمره تبعاً لغيره على تقييدها بالمبيحة ولو بالصلاحيّة.

ومن الإشكال العامّ أنّهم يُخرجون من التعريف وضوءَ الحائض إمّا لعدم الإباحة به ، أو للحديث (٣) الدالّ على عدم تسميته طُهراً.

ثمّ يقسّمون الطهارة إلى واجبٍ وندبٍ ، والندب إلى المجدّد وإلى وضوء الحائض ، وغسل الجمعة ، والتيمّم لصلاة الجنازة ونحوها ، فاللازم إمّا فساد التقسيم أو خلل التعريف.

وربما اعتذر بأنّ المقسم غير المعرّف ، أو بأنّ ذكر هذه الأشياء في التقسيم لضربٍ من المجاز والاستطراد ، ومثله يجوز ارتكابه في التقسيم بعد سلامة التعريف. ولا يخفى بُعْدهما.

وقد ناقش شيخنا الشهيد رحمه‌الله في إخراج وضوء الحائض وإدخال المجدّد : بأنّ التعريف إن كان للطهارة المبيحة للصلاة ، فينبغي إخراج المجدّد منه عند مَنْ لا يكتفي بنيّة التقرّب منفردة ؛ لأنّه غير صالح للتأثير. وإن أُريد بالصلاحيّة ما يعمّ البعيدة وهو أنّه لو اقترن به ما يجب اقتران غيره به لأثّر فيدخل (٤) وضوء الحائض ؛ إذ الصلاحيّة حاصلة

__________________

(١) في «ق ، م» : «حسب».

(٢) المحقّق الحلّي في الرسائل التسع : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٣) الكافي ٣ : ١٠٠ ـ ١٠١ / ١.

(٤) في «ق ، م» والطبعة الحجريّة : «دخل». وما أثبتناه من المصدر.

٤٨

لكلّ وضوء من حيث هو ، وما بالذات لا يزيله ما بالعرض. وإن كان لما يقع عليه لفظ الطهارة صحيحاً أم لا ، مبيحاً أم لا ، فلا معنى للتقييد بالمبيح للصلاة أو بالصالح لها. (١)

واعتذر عن ذلك بالفرق بين ما اقترن به ما يمنع الإباحة بحالٍ ، كما في وضوء الحائض ، وبين ما أخلّ فيه بشرط لو أتى به لكان مبيحاً ، فكأنّه صالح بالقوّة ، ومن ثَمَّ قال جمع بإباحة المجدّد. ومنهم مَنْ يرى الاكتفاء بالقربة.

وأنت خبير بأنّ هذا الاعتذار اقتضى اختلافهما ، وأنّ أحدهما أقوى من الآخر ، أمّا جواب ما نحن بصدده فلا ؛ لأنّ الكلام إنّما هو على القول بعدم رفعه وعدم الاجتزاء بالقربة ، وحينئذٍ فلا دَخْلَ له في الإباحة على وجه الحقيقة ، وإلا فنحن لا ننازع في أنّه أقوى وأقرب إلى الإباحة ، لكن تعريفهم لا يجتزئ بذلك.

اللهمّ إلا أن ترتكب في التعريف ضرباً من التجوّز. بأن تحمل الإباحة أو الصلاحيّة لها على ما يعمّ القوّة القريبة على معنى أنّه لو أتى ببقيّة الشروط المعتبرة حصلت ، فيندرج في ذلك المجدّد والأغسال المسنونة ، ويخرج عنه وضوء الحائض ، لكن يبقى الكلام في إدخال وضوء الحائض في التقسيم ، وقد مرّ الكلام فيه.

(والنظر) يقع في الطهارة من ستّة أوجه على وجه الحصر الجعلي الاستحساني ، لا العقلي والاستقرائي (في أقسامها وأسبابها) ويندرج فيها واجباتها وكيفيّتها وأحكامها. ويقع النظر فيها من ثلاثة أوجه بحسب تعدّد أنواعها (وما تحصل به) وهو الماء المطلق ، والتراب على ما يأتي (وتوابعها) وهي إزالة النجاسات وتعدادها ، وبقيّة المطهّرات ، وأحكام الأواني.

ووجه ما اختاره من الحصر أنّ البحث إمّا عن المقصود بالذات أولا ، والأوّل إمّا عن تقسيمه وتفصيله على وجه يصير الشارع فيه على بصيرةٍ منه ، وهو النظر الأوّل ، أو عن كيفيّته وما معه من السبب والحكم ، وهو الثاني والثالث والرابع حسب تعدّد أنواعه. وتقديم الثاني والثالث على الرابع ظاهر ؛ لأنّه طهارة اضطراريّة مشروطة بفقد الاختياريّة التي هي المائيّة. والمائيّة قسمان : وضوء وغسل ، وقدّم الوضوء على الغسل ؛ لزيادة الحاجة إليه. والثاني إمّا أن يتوقّف عليه المقصود بالذات أولا ، والأوّل هو الخامس ، وهو

__________________

(١) غاية المراد ١ : ٢٦ ـ ٢٧ وفيه : بالصالح له.

٤٩

البحث عن المياه وأقسامها وأحكامها ، وإنّما أخّره عمّا سبق مع أنّه مادّته وهي متقدّمة على الصورة ؛ لأنّ ما بالذات أولى ممّا بالعرض ولما ذكرناه من العلّة قدّم غيره البحثَ عن المياه أوّلاً حتّى المصنّف في غير هذا الكتاب والثاني هو السادس ، وهو التابع ، ورتبته التأخّر عن متبوعه. ولأنّه طهارة لغويّة عنده ، وإنّما بحث عنه في كتاب الطهارة ؛ لأنّ النجاسة مانعة من الصلاة.

ولمّا بحث عن الطهارة الشرعيّة التي هي شرط الصلاة بحث عن المانع منها ؛ ليتمّ للمكلّف معرفة ما به يخرج عن التكليف بها. ولأنّه عند بعضهم طهارة شرعيّة حقيقةً ، ومجازاً عند الباقين ، فالمناسبة حاصلة على التقديرين.

وربما نظر بعضهم إلى أنّه يتوقّف عليه استعمال ما يتطهّر به ليتحقّق الخروج عن العهدة باستعماله ، فقدّم البحث عنه على المقصود بالذات ؛ لذلك ، كما فَعَل المصنّف في القواعد ، ولكلٍّ وجه. والمرجّح ما يقع في الخَلَد (١) وقت التصنيف.

__________________

(١) الخَلَد : البال. الصحاح ٢ : ٤٦٩ ، «خ ل د».

٥٠

(النظر الأوّل : في أقسامها)

(وهي) أي الطهارة منقسمة انقسام الكلّي إلى جزئيّاته لا الكلّ إلى أجزائه إلى ثلاثة أنواع (وضوء وغسل وتيمّم) ولمّا كان هذا الكلّي لا وجود له في الخارج إلا في ضمن جزئيّاته صدق على كلّ جزئيّ من الثلاثة أنّه طهارة.

وينساق إلى هذا ونظائره شكّ لطيف ، وهو أنّ الانقسام لازم لمطلق الطهارة ، وهو لازم لكلّ واحد من أقسامها ، فيلزم أن يكون الانقسام لازماً لكلّ واحد من أقسامها ، ويلزم منه انقسام الشي‌ء إلى نفسه ومباينه أو مساواة الجزئي لكلّيّة ، وكلاهما فرض محال.

وجوابه : أنّ المنقسم إلى الثلاثة هو الطهارة المطلقة ، أي مقيّدة بقيد العموم ، لا مطلق الطهارة ، وفرق بين الصيغتين ؛ فإنّ الطهارة من حيث إنّها عامّ موصوفة بالانقسام ، كما أنّ الحيوان من حيث إنّه عامّ موصوف بالجنسيّة ، وهي قسم من المطلق ، وما هو ملزوم للانقسام هو مطلق الطهارة ، بل الطهارة المطلقة. وفيه بحث.

أو نقول : الانقسام المذكور لازم للطهارة بحسب وجودها الذهني ، وهي لازمة لأقسامها من حيث حصولها العينيّ لأمن تلك الحيثيّة ، ولازم الشي‌ء باعتبارٍ لا يلزم أن يكون لازماً لملزومه باعتبارٍ آخر ، كالكلّيّة اللازمة لمفهوم الحيوان ، اللازم لزيدٍ مثلاً.

واعلم أنّ الظاهر من هذا الانقسام أنّ مقوليّة الطهارة على أنواعها الثلاثة بطريق الحقيقة لا بالمجاز ، ولا ريب في ذلك بالنسبة إلى المائيّة.

ويؤيّده بالنسبة إلى الترابيّة : قوله عليه‌السلام : صلى‌الله‌عليه‌وآله الصعيد طهور المسلم (١) وجُعلت لي الأرض

__________________

(١) سنن الترمذي ١ : ٢١٢ / ١٢٤.

٥١

مسجداً وترابها طهوراً (١)

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على إطلاق الطهارة على التيمّم ؛ لأنّ السياق لإباحة الصلاة بالنسبة إلى الحدث ، ولصدق التعريفات بأسرها عليه.

ثمّ على تقدير الحقيقة فهل تلك المقوليّة بطريق الاشتراك اللفظي أو التواطؤ أو التشكيك؟ الظاهر انتفاء الأوّل ؛ لاشتراك الثلاثة في معنى مشترك بينها ، وهو صلاحيّة الإباحة للصلاة ولو بالقوّة القريبة على ما تقرّر ، وهو ينفي الاشتراك. ومُحتمِل الاشتراك ينظر إلى اختلاف ذاتَي المائيّة والترابيّة ، فهي كالعين.

وهو ضعيف ؛ إذ لا جامع لأفراد العين غير اللفظ ، بخلافه هنا.

نعم ، يقع الشكّ بين الأخيرين ؛ لاشتراكهما في هذا الوجه.

وليس ببعيد مقوليّتها على الثلاثة بالتشكيك ، وعلى الوضوء والغسل بالتواطؤ ؛ فإنّ إطلاقها على المائيّة أقوى من الترابيّة ، وفردا المائيّة متساويان.

وتظهر فائدة الخلاف في نذر الطهارة ، وسيأتي.

(وكلّ منها) أي الثلاثة التي هي الوضوء والغسل والتيمّم (واجب) إمّا بأصل الشرع أو بالعرض ، كالنذر وشبهه (وندب) بالأصالة أو بالعرض أيضاً. فالأقسام أربعة ، ويخرج من ضربها في الأنواع الثلاثة اثنا عشر قسماً ذكر المصنّف رحمه‌الله منها تسعة الواجبة بأصل الشرع والعارض ، والثلاثة المندوبة بأصل الشرع ، وستراها مفصّلةً. وبقي ثلاثة أقسام ، وهي المندوب من الثلاثة بسببٍ من المكلّف ، وذلك حيث يكون أحدها متعلّقاً بما يستحبّ الوفاء به ، كالنذر المنوي غير المتلفّظ به.

(فالوضوء يجب) بأصل الشرع (للصلاة والطواف الواجبين).

إمّا للصلاة : فلقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (٢) ولقوله عليه‌السلام : صلى‌الله‌عليه‌وآله لا صلاة إلا بطهور (٣) وللإجماع.

ويلحق بالصلاة أجزاؤها المقضيّة منفردةً ، كالسجدة والتشهّد وسجود السهو والاحتياط إن لم نجعله صلاةً مستقلّة ، لا سجود التلاوة.

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٣٧١ / ٥٢٢ ؛ سنن البيهقي ١ : ٣٢٨ / ١٠٢٣.

(٢) المائدة (٥) : ٦.

(٣) التمهيد ـ لابن عبد البرّ ـ ٨ : ٢١٥.

٥٢

وأمّا للطواف : فلقوله عليه‌السلام : صلى‌الله‌عليه‌وآله الطواف بالبيت صلاة (١) فيشترط فيه ما يشترط فيها إلا ما أخرجه الدليل.

(و) يجب الوضوء أيضاً بالأصالة لـ (مسّ كتابة القرآن إن وجب) المسّ بنذرٍ وشبهه على الأصحّ من توقّف المسّ على الطهارة ؛ للآية. (٢)

والضابط في وجوب الوضوء ما كانت غايته واجبةً ، ولمّا كان الصلاة والطواف واجبين بأصل الشرع جعل الوجوب معهما وصفاً ، ولمّا لم يجب المسّ بالأصل (٣) جعل الوجوب فيه شرطاً.

وربما أُعيد ضمير «وجب» إلى الوضوء إشارة إلى الخلاف في وجوب الوضوء على المحدث للمسّ.

وفيه بُعْد ؛ لحكم (٤) المصنّف بوجوبه ، فلا وجه لتردّده هنا ، بل الوجه ما قلناه.

(ويستحبّ) الوضوء بأصل الشرع (لمندوبَي الأوّلين) وهُما : الصلاة والطواف ؛ فإنّ الغاية لمّا لم تجب لم يجب شرطها ؛ لجواز تركها ، فكان الشرط كإلغائه ؛ إذ لا يتصوّر وجوب الشرط لمشروطٍ غير واجب ، لكن مع الشرطيّة في الصلاة فلا تصحّ بدونه.

وقد يطلق عليه هنا الوجوب ؛ لمشابهته الواجب في أنّه لا بدّ منه بالنسبة إلى مشروطه ، ويعبّر عنه بالوجوب الشرطي. وكذا القول في مسّ خطّ المصحف مع عدم وجوبه.

وأمّا الطواف المندوب فهو من كماله على الأصحّ ، فيصحّ الطواف بدونه. واشترطها فيه المصنّف في النهاية. (٥)

(ودخول المساجد) للخبر ، (٦) ولاستحباب التحيّة ، وهي متوقّفة على الوضوء (وقراءة القرآن ، وحمل المصحف ، والنوم ، وصلاة الجنائز ، والسعي في حاجة ، وزيارة المقابر) كلّ ذلك للنصّ. (٧)

__________________

(١) سنن النسائي ٥ : ٢٢٢ ؛ سنن البيهقي ٥ : ١٤١ ـ ١٤٢ / ٩٣٠٤ ؛ سنن الدارمي ٢ : ٤٤ ؛ المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١١ : ٣٤ / ١٠٩٥٥ ؛ المستدرك للحاكم ـ ١ : ٤٥٩ ، و ٢ : ٢٦٧.

(٢) الواقعة (٥٦) : ٧٩.

(٣) في «م» : «بالأصالة».

(٤) في «ق ، م» : «ولحكم».

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٠.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٦٣ / ٧٤٣.

(٧) انظر : الكافي ٣ : ٤٦٨ / ٥ ؛ والفقيه ١ : ٢٩٦ / ١٣٥٣ ، و ٣ : ٩٥ / ٣٦٥ ؛ والتهذيب ١ : ١٢٧ / ٣٤٤ ، ٣٥٩ / ١٠٧٧ ،

٥٣

وفي كلّ هذه ينوي الاستباحة أو الرفع ، ويحصلان له عدا النوم ففيه نظر.

أمّا نيّة الرفع : فلا إشكال فيها بعد ثبوت إيقاع هذه الأشياء على طهارة.

وأمّا الاستباحة : فذكرها الشهيد رحمه‌الله في بيانه (١) ساكتاً عليها. وأمرها مشكل فيما عدا الصلاة المندوبة ؛ لإباحة هذه الأشياء بدونها ، فكيف ينوي استباحتها بها!؟ والأولى في النيّة رفع الحدث أو إيقاع هذه الأشياء على الوجه الأكمل ؛ لتوقّفه على رفع الحدث.

وأمّا النوم : فالوضوء له غايته الحدث فكيف يرفعه!؟

وألحقه في المعتبر (٢) بالصحيح ؛ لأنّه قصد النوم على أفضل أحواله ، ولما في الحديث من استحباب النوم على طهارة ، وهو مشعر بحصولها.

واعترضه شيخنا الشهيد رحمه‌الله بأنّه لا يلزم من استحباب النوم على الطهارة صحّة الطهارة للنوم ؛ إذ الموصل إلى ذلك وضوء رافع للحدث ، فلينو رفعه أو استباحة مشروط به لا منافٍ له.

قال : والتحقيق أنّ جَعْل النوم غايةً مجاز ؛ إذ الغاية هي الطهارة في آن قبل النوم بحيث يقع النوم عليها ، فيكون من باب الكون على طهارة ، وهي غاية صحيحة. (٣)

(ونوم الجنب) وإنّما خصّه بالذكر مع دخوله في استحباب الوضوء للنوم ؛ لمزيد الاهتمام به ، ولورود النصّ (٤) عليه بخصوصه ، ولدفع توهّم عدم شرعيّة الوضوء للجنب. (وجماع المحتلم) قبل الغسل. وعُلّل في الخبر (٥) بأنّه لا يؤمن أن يجي‌ء الولد مجنوناً لو حملت من ذلك الجماع. وهو يقتضي تخصيص الكراهة بوقت احتمال الحمل ، فتنتفي بدونه.

والأولى تعميم الحكم ؛ إذ لا يلزم من تأثيره في الحمل على تقدير كونه مسبّباً عنه انتفاء

__________________

و ٢ : ١١٦ / ٤٣٤ ، و ٣ : ٢٠٣ / ٤٧٦ ؛ والاستبصار ١ : ١١٣ ـ ١١٤ / ٣٧٨ ؛ وقرب الإسناد : ٣٩٥ / ١٣٨٦ ؛ والخصال ٢ : ٦٢٧. ولم نعثر على نصّ بالخصوص لاستحباب الوضوء لزيارة المقابر. نعم ، قال الشهيد في الذكرى ١ : ١٩٣ : ويستحبّ لندبي الصلاة والطواف .. ولصلاة الجنازة وزيارة قبور المؤمنين .. كلّ ذلك للنصّ.

(١) البيان : ٣٧.

(٢) المعتبر ١ : ١٤٠.

(٣) الذكرى ٢ : ١١١ ـ ١١٢.

(٤) الكافي ٣ : ٥١ / ١٠ ؛ الفقيه ١ : ٤٧ / ١٧٩ ؛ التهذيب ١ : ٣٧٠ / ١١٢٧.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٥٦ / ١٢١٢ ؛ علل الشرائع ٢ : ٢٢٩ / ٣ ، الباب ٢٨٩ ؛ التهذيب ٧ : ٤١٢ / ١٦٤٦.

٥٤

الكراهة لو لم يكن ، والكراهة منوطة بالاحتلام ، فلا يكره الجماع من غير وضوء ؛ للأصل.

(وذِكْر الحائض) لله تعالى في وقت كلّ صلاة. والخبر (١) ورد في الحائض. والظاهر إلحاق النفساء بها ؛ لأنّها حائض في المعنى.

وهذه الثلاثة لا يتصوّر فيها رفع الحدث ؛ لمصاحبته لها ، وعدم صلاحيّته للارتفاع به في هذه الحالة.

(والكون) بالجرّ عطفاً على ما قبله ، أي : ويستحبّ الوضوء أيضاً للكون (على طهارة) أي : للبقاء على حكمها ، فاندفع توهّم التكرار حيث يصير التقدير : تستحبّ الطهارة للكون على طهارةٍ ؛ لأنّ البقاء على حكمها ليس هو نفسها ، بل لازمها ، وليس الكون غايةً مستقلّة ، بل مستلزمة للرفع أو الاستباحة ؛ إذ لا تحصل إلا بأحدهما ، فكأنّ المنوي أحدهما ، ومن ثَمَّ صحّ الوضوء المنوي به ذلك ، كما قرّبه في الذكرى ، (٢) مع أنّ ذلك وارد في بقيّة الغايات المستحبّة ، والجواب واحد.

ويجوز رفع «الكون» عطفاً على الضمير المستتر في قوله : «ويستحبّ» أو على الابتداء ، والخبر محذوف ، وتقديره : مستحبّ.

وربما توهّم التكرار على التقدير الأوّل من هذين بناءً على أنّه في قوّة : يستحبّ الوضوء ويستحبّ الكون على وضوء.

ولا وجه له ؛ لأنّ المعطوف عليه ليس هو استحباب الوضوء مطلقاً ، بل للمذكور من الصلاة والطواف المندوبين وغيرهما ممّا عُدّ.

ثمّ إنّ المكلّف إذا أراد الكون ، فإن نوى رفع الحدث ، فلا ريب في الصحّة وحصول ما نواه ؛ إذ لا يحصل الكون عليها إلا مع ارتفاعه مع الاختيار ، وهو إحدى الغايتين. وإن نوى الاستباحة لشي‌ء ممّا يتوقّف على الوضوء ، حصل المقصود أيضاً لزوماً ، لكن يكون الكون حينئذٍ تابعاً. وإن نوى الكون على طهارةٍ ، فقد قرّب الشهيد رحمه‌الله الإجزاء كما حكيناه عنه ، (٣) وهو حسن ؛ لأنّه إحدى الغايات المطلوبة للشارع ، ولأنّه يستلزم الرفع ؛ لأنّ الكون على طهارةٍ لا يتحقّق إلا معه.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠١ / ٤ ؛ التهذيب ١ : ١٥٩ / ٤٥٦.

(٢) الذكرى ٢ : ١١١.

(٣). آنفا

٥٥

(والتجديد) بالجرّ أيضاً عطفاً على ما سبق. ولا ينوي هنا الرفع ولا الاستباحة. ولا يرفع الحدث على المشهور ؛ لعدم نيّته.

وحُكي عن الشيخ في المبسوط الرفعُ ، (١) وقوّاه الشهيد في الدروس (٢) لأنّ شرعيّة المجدّد لتدارك الخلل وكماليّة الطهارة ، مع أنّهما يشترطان في الوضوء الواجب الاستباحةَ أو الرفع. (٣) وسيأتي في ذلك بحث آخر إن شاء الله.

ولو اكتفينا في الوضوء بالقربة ، فلا إشكال حينئذٍ في رفع المجدّد على تقدير الحاجة إليه.

ثمّ إنّ تجديد الوضوء إن كان بعد أن صلّى بالأوّل ولو نافلةً ، فلا ريب في استحبابه.

وألحق المصنف في التذكرة الطوافَ وسجودَ الشكر والتلاوة بها. (٤)

ورجّح الشهيد عدمَ اللّحاق. (٥)

وهل يستحبّ قبل الصلاة أو ما يلحق بها؟ جزم به المصنّف في التذكرة (٦) للعموم. ؛ وتوقّف الشهيد. (٧)

ويقوى الإشكال في تعدّده لصلاة واحدة ؛ لعدم النصّ على الخصوص. وتوقّف فيه المصنّف في المختلف. (٨)

ويمكن دخوله في عموم الإذن فيه من غير تقييدٍ.

ورجّح العدم في الذكرى محتجّاً بأصالة عدم المشروعيّة ، وأدائه إلى الكثرة المفرطة. (٩)

ويضعّف الأوّل ما ذكرناه ، والثاني لا يصلح للدلالة.

(والغسل يجب) بأصل الشرع (لما وجب له الوضوء) وهو الصلاة والطواف الواجبان ، والمسّ إن وجب ؛ للآية (١٠) والحديث (١١) والإجماع ، فيشترك مع الوضوء في هذه الثلاثة.

__________________

(١) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٢ : ١١٢.

(٢) الدروس ١ : ٨٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٩ ؛ الدروس ١ : ٩٠.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، الفرع «ه».

(٥) الذكرى ٢ : ١٩٦.

(٦) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٠٤.

(٧) الذكرى ٢ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٨) مختلف الشيعة ١ : ١٤١ ، المسألة ٩٢.

(٩) الذكرى ٢ : ١٩٦.

(١٠) الواقعة (٥٦) : ٧٩.

(١١) التهذيب ١ : ١٢٧ / ٣٤٤ ؛ الاستبصار ١ : ١١٣ ـ ١١٤ / ٣٧٨.

٥٦

(و) يجب أيضاً زيادةً على الوضوء لأربعة أشياء (لدخول المساجد) مع اللبث في غير المسجدين ، وفيهما يكفي في الوجوب مجرّد الدخول (وقراءة) سور (العزائم) الأربع أو شي‌ء منها حتّى البسملة إذا قصدها لأحدها.

والمراد بالعزائم نفس السجدات الواجبة ، فإطلاقها على السور من باب حذف المضاف ، أي : سور العزائم ، وتسميتها عزائم بمعنى إيجاب الله تعالى لها على العباد ، كما هو أحد معنيي العزيمة.

وفي تسميتها عزائم احتراز عن باقي السجدات المستحبّة ، لا بالمعنى المشهور للأُصوليّين من أنّ العزيمة ما وجب فعله مع عدم قيام المانع ، وهو المعنى المقابل للرخصة ؛ إذ لا وجه لاختصاصها بذلك من بين نظائرها هنا من الواجبات وإن كان التعريف صادقاً عليها.

ومستند الحكم فيهما النصّ والإجماع.

وإنّما يجب الغسل لهما إذا كانا واجبين بنذرٍ وشبهه ؛ إذ لا وجوب لأحدهما بأصل الشرع ، كما نبّه عليه المصنّف بقوله (إن وجبا) أي كلّ واحد من الدخول والقراءة بانفراده.

وإطلاق الغسل يشمل بظاهره تحريم هذه الأشياء على محدثٍ يجب عليه الغسل بجنابةٍ أو غيرها ، فيدخل فيه حدث مسّ الأموات ، وهو على إطلاقه في الغاية (١) التي شارك فيها الوضوء.

وأمّا دخول المساجد وقراءة العزائم فعمّم المصنّف الحكمَ فيها في التذكرة. (٢)

واستثنى الشهيد رحمه‌الله ماسّ الميّت من تحريم دخول المساجد. (٣) وادّعى عليه ابنُ إدريس الإجماع. (٤) والمنقول منه بخبر الواحد حجّة مع اعتضاده بأصالة البراءة وخُلوّ الأخبار من الدلالة عليه نفياً وإثباتاً.

وأمّا قراءة العزائم له فليس فيها تصريح لأحد من الأصحاب. والظاهر أنّ الحكم فيه كذلك ؛ لأصالة البراءة وعدم الدليل المحرّم.

وأمّا حدث الاستحاضة ، الموجب للغسل : فظاهر عبارة جماعة أنّه كالحيض في منع

__________________

(١) في «ق ، م» : «الغايات».

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣٥ و ٢٣٨ ، المسألتان ٦٨ و ٧٠.

(٣) الدروس ١ : ١١٧.

(٤) السرائر ١ : ١٦٣.

٥٧

دخول المساجد وقراءة العزائم مع عدم فعل ما يلزمها من الأغسال والوضوءات ، أمّا لو فعلَت ذلك ، استباحت ما يستبيحه المتطهّر.

وفي الدروس جوّز لها دخول المسجد مع أمن التلويث من غير تقييدٍ ، محتجّاً بخبر زرارة عن الباقر (١) عليه‌السلام (٢) ، وسيأتي الكلام فيه.

(و) يجب الغسل أيضاً (لصوم الجنب) إذا بقي من الليل مقدار فعله ؛ للأخبار والإجماع. وخلاف ابن بابويه (٣) لا يقدح فيه.

ويلحق به الحائض والنفساء إذا انقطع دمهما قبل الفجر ، دون ماسّ الميّت ؛ للأصل وعدم النصّ ، كما اعترف به الشهيد في الذكرى. (٤)

قيل (٥) عليه : إنّ مطلق صوم الجنب لا يكون مشروطاً بالغسل ؛ لأنّ مَنْ نام بنيّة الغسل حتى أصبح لا يفسد صومه ، وكذا مَن لم يعلم بالجنابة حتى طلع الفجر أو تعذّر عليه الغسل.

وجوابه : أنّ الحكم بوجوب الغسل أعمّ من كونه شرطاً. ويؤيّده ما ذكر من الصور إذ لو كان شرطاً ، لم يصحّ الصوم على وجه. نعم ، هو واجب موسّع قبل النوم ، وبعده لا تكليف. ولأنّ شرطيّة الطهارة قويّة لا يعذر فيها الناسي. ومقتضى كلامهم أنّه شرط على بعض الوجوه لا مطلقاً ، فسقط الإيراد. (٦)

وقد يجاب بأنّ المفرد المحلّى باللام لا يعمّ عند المصنّف ، فيصدق بجُنبٍ ما من غير أن يندرج فيه ما ذُكر.

وأورد العلامة قطب الدين الرازي على المصنّف أنّ قوله : «ولصوم الجنب» يدلّ على أنّ غسل الجنابة واجب لغيره ، وهو لا يقول به.

وأجاب المصنّف : بأنّ المراد تضيّق الوجوب ، ومعناه أنّ الصوم ليس موجباً للغسل ، بل يتضيّق وجوبه بسببه ، وإنّما الموجب له الجنابة ، فذكره لبيان كيفيّة الوجوب لا لبيان ماهيّته ، كذا قرّره الشهيد رحمه‌الله وأقرّه. وزُيّف بأنّ الغسل شرط للصوم قطعاً ،

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٣٣٤ / ١ ، الباب ٢١٠.

(٢) الدروس ١ : ٩٩.

(٣) المقنع : ١٨٩.

(٤) الذكرى ١ : ١٩٣.

(٥) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(٦) في الطبعة الحجريّة زيادة : «كما مرّ».

٥٨

ووجوب المشروط يقتضي وجوب الشرط.

ويمكن الجواب عن الإيراد وإن قلنا بالشرطيّة بعدم المنافاة بين وجوبه لنفسه ووجوبه لكونه شرطاً للصوم ؛ لأنّ الواجب في نفسه لا يمتنع جعله شرطاً لواجبٍ آخر ، كستر العورة مع وجود الناظر ؛ فإنّه واجب في نفسه وشرط للصلاة ، وكصوم رمضان بالنسبة إلى الاعتكاف المنذور فيه ، وحينئذٍ فيجب لوجوبه ، قضيّةً للاشتراط ، ولهذا يتعلّق به حكم الوجوب اللاحق ، كتضيّقه بتضيّق مشروطه.

(و) يجب الغسل أيضاً لصوم (المستحاضة مع غمس) دمها (القطنة) سواء سال أم لم يسل ، فيشمل حالتيها : الوسطى والعليا ، وتخرج القليلة.

والمستند بعد الأخبار الإجماعُ.

ولا إشكال في الحكم إذا كان الغمس بعد انتصاف الليل وقبل الفجر بالنسبة إلى اليوم المستقبل ، وكذا إذا كان بعد الفجر قبل الصلاة على الظاهر ؛ لعموم توقّف الصوم على الأغسال.

ويحتمل ضعيفاً عدم وجوبه للصوم هنا وإن وجب للصلاة ؛ لسبق انعقاده.

أمّا لو كان بعد صلاة الفجر ، لم يجب الغسل للصوم قطعاً ؛ لعدم وجوبه بالنسبة إلى صلاة الفجر.

ثمّ إن استمرّ إلى صلاة الظهر وكان كثيراً توقّف عليه الصوم ؛ لوجوبه لصلاة الظهر.

أمّا لو كثر وانقطع قبل الظهر ، ففي إيجابه الغسل خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله.

ولو تجدّدت الكثرة بعد صلاة الظهرين ، لم يتوقّف صوم اليوم الحاضر على الغسل وإن استمرّت إلى وقت العشاءين ، مع احتماله. والظاهر توقّف صوم اليوم المستقبل عليه ، للعموم.

وكذا إذا تجدّدت الكثرة بعد صلاة العشاء ، سواء انقطعت قبل الانتصاف أم استمرّت. والظاهر الاكتفاء حينئذٍ بغسلٍ واحد قبل الفجر وإن وجب في السابق أكثر.

ولو كان متوسّطاً ، فإن استمرّ إلى الفجر ، فتوقُف الصوم عليه ظاهر. وإن انقطع قبله ، فالأجود وجوب الغسل له ، وتوقّف الصوم عليه ؛ للعموم.

(ويستحبّ) الغسل بأصل الشرع (للجمعة) على المشهور ؛ لقوله عليه‌السلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مَنْ توضّأ

٥٩

يوم الجمعة فبها ونِعمَت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل (١)

وقول الكاظم عليه‌السلام إنّه سُنّة وليس بفريضة. (٢)

والأخبار الدالّة على الوجوب محمولة على تأكّد الاستحباب جمعاً بين الأخبار.

ووقته للمختار من طلوع الفجر ، ويمتدّ إلى الزوال ؛ لقول الصادق عليه‌السلام : «كانت الأنصار تعمل في نواضحها وأموالها ، وإذا كان يوم الجمعة جاؤوا المسجد (٣) فيتأذّى الناس بأرواح آباطهم وأجسادهم ، فأمرهم رسول اللهُ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغسل يوم الجمعة ، فجرت بذلك السّنّة». (٤)

وكلّما قرب من الزوال كان أفضل ؛ لزيادة المعنى عند الحاجة إليه في الأصل.

ولو فاته قبل الزوال لعذرٍ وغيره على الأصحّ ، استحبّ قضاؤه إلى آخر السبت ليلاً ونهاراً ، مع احتمال عدمه ليلاً ، لظاهر النصّ. (٥)

ويستحبّ تعجيله يوم الخميس مع خوف فوت الأداء وإن علم التمكّن من القضاء.

واحتمل المصنّف هنا تحتّم القضاء ، كصلاة الليل.

وأفضل وقتي التعجيل والقضاء الأقرب إلى وقت الأداء ، وهو آخر الأوّل وأوّل الثاني.

(و) يستحبّ الغسل أيضاً (أوّل ليلة من شهر رمضان) وهو إجماع ، ورواه عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٦) وهُما واقفيّان ، لكن أُيّدت الرواية بعمل الأصحاب.

(وليلة نصفه) وهي ليلة الخامس عشر. ولم نعلم فيها نصّاً على الخصوص.

قال المحقّق في المعتبر : ولعلّه لشرف تلك الليلة ، فاقترانها بالطهر حسن. (٧)

ويظهر من المصنّف في النهاية (٨) أنّ به روايةً.

(و) ليلة (سبع عشرة ، و) ليلة (تسع عشرة ، و) ليلة (إحدى وعشرين ، و) ليلة

__________________

(١) سنن أبي داود ١ : ٩٧ / ١٣٥٤ ؛ سنن الترمذي ٢ : ٣٦٩ / ٤٩٧ ؛ سنن النسائي ٣ : ٩٤ ؛ سنن ابن ماجة ١ : ٣٤٧ / ١٠٩١ ؛ سنن البيهقي ١ : ٤٤١ ـ ٤٤٢ / ١٤١٠ ؛ مسند أحمد ٥ : ٦٤٤ ـ ٦٤٥ / ١٩٦٦١ و ١٩٦٦٤.

(٢) التهذيب ١ : ١١٢ / ٢٩٥ ؛ الاستبصار ١ : ١٠٢ / ٣٣٣.

(٣) كلمة «المسجد» لم ترد في «ق ، م» والعلل والتهذيب.

(٤) الفقيه ١ : ٦٢ / ٢٣٠ ؛ علل الشرائع ١ : ٣٣١ / ٣ ، الباب ٢٠٣ ؛ التهذيب ١ : ٣٦٦ / ١١١٢.

(٥) انظر : الكافي ٣ : ٤٣ / ٧.

(٦) الكافي ٣ : ٤٠ / ٢ ؛ التهذيب ١ / ١٠٤ / ٢٧٠.

(٧) المعتبر ١ : ٣٣٥.

(٨) نهاية الإحكام ١ : ١٧٧.

٦٠