روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-950-X
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

وابن إدريس كلّ مَنْ خالف الحقّ (١).

وفي بعض الأخبار : أنّ كلّ مَنْ قدّم الجبت والطاغوت فهو ناصب (٢).

واختاره بعض (٣) الأصحاب ؛ إذ لا عداوة أعظم ممّن قدّم المنحطّ عن مراتب الكمال ، وفضّل المنخرط في سلك الأغبياء الجُهّال على مَنْ تسنّم أوج الجلال حتى شكّ في أنّه الله المتعال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

(و) الماء القليل (المستعمل في رفع الحدث طاهر) إجماعاً ، سواء في ذلك الحدثُ الأصغر والأكبر (ومطهّر) إن كان الحدث أصغر إجماعاً.

وكذا إن كان أكبر على المشهور ؛ للعموم. ولأنّ الطّهور ما يتكرّر منه الطهارة كالضّروب ، فلا ينافيه.

وذهب الشيخان (٤) وجماعة (٥) إلى كونه غير مطهّر ؛ استناداً إلى أخبار لو لم تكن ضعيفةً أمكن حملها على التنزيه أو على نجاسة المحلّ ؛ جمعاً بينها وبين غيرها من صحاح الأخبار.

وربّما علّلوه بتأثّر الماء لتأثيره في المحلّ رفع الحدث ، أو رفع منعه من الصلاة حيث لا يرتفع ، كما تأثّر رافع الخبث حيث جعل المحلّ بعد الغسل مخالفاً لما قبله ، فكأنّ المنع الذي في البدن انتقل إليه.

وهذه العلّة لو تمّت ، لزم المنع من المستعمل في الصغرى ؛ لاشتراكهما في العلّة ، لكنّ الثاني جائز الاستعمال إجماعاً ، فثبت الأوّل.

ويصير الماء مستعملاً بانفصاله عن أعضاء الطهارة مع قلّته ، فالكثير لا يتصوّر فيه الانفعال ، كما أنّ المتردّد على الأعضاء لا يمكن الحكم باستعماله ، وإلا لامتنع فعل الطهارة بالقليل.

ولو ارتمس في القليل ، ارتفع حدثه بعد تمام الارتماس ؛ لأنّه في حكم الانفصال ، وصار مستعملاً بالنسبة إلى غيره وإن لم يخرج.

ولو نوى جنبان ، فكذلك.

__________________

(١) السرائر ١ : ٨٤.

(٢) مستطرفات السرائر ضمن السرائر ٣ : ٥٨٣.

(٣) لم نتحقّقه.

(٤) المقنعة : ٦٤ ؛ المبسوط ١ : ١١.

(٥) منهم : الشيخ الصدوق في الفقيه ١ : ١٠ ذيل الحديث ١٧ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٧٤.

٤٢١

ولا يشترط إيقاعه النيّة في الماء بعد تمام الارتماس ، كما يظهر من الذكرى (١) ، لأنّ الارتماس لا يتبعّض ، فلا يرتفع الحدث إلا بعد تمامه على التقديرين.

ويجوز إزالة النجاسة به ولو منعنا من الطهارة به حتى نقل الفاضل ولد المصنّف الإجماع عليه (٢).

ونقل في الذكرى قولاً بالمنع ، محتجّاً بأنّ قوّته استُوفيت ، فالتحق بالمضاف (٣) ، ولم يذكر قائله.

(و) المستعمل (في رفع الخبث نجس ، سواء تغيّر بالنجاسة أولا) على أشهر الأقوال خصوصاً بين المتأخّرين.

وحجّتهم أنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجس.

وقول أبي عبد اللهُ : «الماء الذي يغسل به الثوب ويغتسل به من الجنابة لا يتوضّأ منه» (٤).

وقول الكاظم عليه‌السلام في غسالة الحمّام : «لا تغتسل منها» (٥) فيثبت الحكم في غسالة غيره ؛ إذ لا قائل بالفصل.

وفي هذه الأدلّة نظر.

أمّا الأوّل : فلمنع كلّيّة كبراه ؛ فإنّها عين المتنازع ، فأخذها في الدليل مصادرة. ولانتقاضها بماء الاستنجاء.

فإن قيل : خرج ذلك بالدليل ، فصار الباقي كالعامّ المخصوص في حجّيّته على ما بقي.

قلنا : ذلك إنّما يتمّ لو ثبت صورة الدليل كذا ، وإلا فلنا أن نخرج ماء النجاسة أيضاً ؛ لما سيأتي ، مع أنّ كلّيّتها على ما عدا ذلك ممنوعة ، وأين الدليل عليه؟

وأمّا الخبر فهو أعمّ من الدعوى ؛ فإنّ المنع من الوضوء به أعمّ من النجاسة ، فلا يستلزمها ؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ المعيّن.

__________________

(١) الذكرى ١ : ١٠٤.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٩.

(٣) الذكرى ١ : ١٠٥.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠ ؛ الإستبصار ١ : ٢٧ ٢٨ / ٧١.

(٥) الكافي ٦ : ٤٩٨ / ١٠.

٤٢٢

وعطف الجنابة عليه على تقدير تمامه يؤذن برفع الطهوريّة لا الطهارة.

وأمّا خبر غسالة الحمّام فسيأتي الكلام فيه ، مع أنّه معارض بقول الكاظم عليه‌السلام في غسالة الحمّام تصيب الثوب : «لا بأس» (١).

واعلم أنّ في هذه المسألة أقوالاً أربعة :

أحدها : أنّ الماء المزيل للخبث كالمحلّ قبل الغسل مطلقاً ، فمتى لم يطهر المحلّ فالغسالة نجسة ، كنجاسة المحلّ قبله ، فيجب غَسل ما أصابه هذا الماء ، كما يجب غَسل المحلّ بالنسبة إلى عدد الغسلات. وجميع ما تقدّم من الأدلّة صالح لهذا القول ، وكلام المصنّف محتمل له بل ظاهر فيه ؛ لإطلاقه القول بنجاسة الماء. وهذا القول نسبه الشهيد (٢) رحمه‌الله إلى المصنّف.

وثانيها : أنّ الماء المستعمل في ذلك كالمحلّ قبلها ، أي قبل الغسلة ، فيجب غَسل ما أصابه ماء الغسلة الأُولى مرّتين ، والثانية مرّة فيما يجب غَسله مرّتين ، وهكذا. وهو اختيار الشهيد (٣) رحمه‌الله ومَنْ تأخّر عنه.

ويحتمل أن يكون مذهباً للمصنّف أيضاً ؛ لأنّ إطلاق القول بنجاسة الماء لا ينافيه.

لكن ليس في عباراته تصريح به ، وما تقدّم من الأدلّة صالح له.

ويزيد عن الأوّل اختصاصاً : أنّ المحلّ المغسول تضعف نجاسته بعد كلّ غسلة وإن لم يطهر ، ولهذا يكفيه من العدد ما لا يكفي قبلُ ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك ؛ لأنّ نجاسته مسبّبة عنه ، ولا يزيد حكمه عليه ؛ لأنّ الفرع لا يزيد على الأصل ، وهذا هو المقيّد لتلك الأدلّة الدالّة على النجاسة على الإطلاق.

وثالثها : أنّه كالمحلّ بعدها ، أي بعد الغسلة ، فإن كان طاهراً ، فهي طاهرة ، كماء الغسلة الثانية فيما يجب غسله مرّتين. وإن كان المحلّ نجساً ، فهي نجسة على ذلك الوجه ، كماء الغسلة الاولى ، فيجب غسل ما لاقته مرّة واحدة ؛ لأنّ محلّها يطهر بعدها بغسلة واحدة ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥ / ٤ ؛ الفقيه ١ : ١٠ / ١٧ ؛ التهذيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٦.

(٢) الذكرى ١ : ٨٤.

(٣) الدروس ١ : ١٢٢.

(٤) الخلاف ١ : ١٧٩ ، المسألة ١٣٥.

٤٢٣

وحجّته : أنّ المحلّ بعد الأخيرة طاهر مع بقاء بعض مائها فيه ، والماء الواحد لا تختلف أجزاؤه في الطهارة والنجاسة.

وجوابه : اختصاص المتّصل بالعفو والحرج والضرورة ، بخلاف المنفصل. ويعارَض بماء الاولى ؛ للقطع ببقاء شي‌ء منه.

ورابعها : كالمحلّ بعده ، أي بعد الغسل كلّه ، وهو على طرف النقيض بالنسبة إلى القول الأوّل ، فماء الغسالة طاهر مطلقاً ، سواء في ذلك الاولى والأخيرة ، ذهب إليه الشيخ في المبسوط (١) والمرتضى (٢) رحمهما‌الله ، لكن قيّده بورود الماء على النجاسة (٣) ، وتبعهما ابن إدريس (٤) وجماعة.

ويظهر من الشهيد في الذكرى الميل إليه ؛ لاستضعافه أدلّة النجاسة ، واعترافه بأنّه لا دليل عليها سوى الاحتياط (٥).

والحجّة على هذا القول أنّه لو حكم بنجاسة القليل الوارد ، لم يكن لوروده أثر ، ومتى لم يكن له أثر لم يشترط الورود ، فيطهر النجس وإن ورد على القليل. ولأنّه لو حكم بنجاسته ، لم يطهر المحلّ بالغسل العددي ، والتالي باطل بالإجماع ، والملازمة واضحة. وهذه حجّة المرتضى.

قال في الذكرى : ويلزمه أن لا ينجس بخروجه بطريق أولى (٦).

وأجاب المصنّف في المختلف : بمنع الملازمة ؛ فإنّا نحكم بطهر الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحلّ (٧).

وهو تعسّف زائد ؛ فإنّ الماء إذا لم ينجس بملاقاة النجاسة له ، لم ينجس بعد انفصاله

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٥ و ٣٦ و ٩٢.

(٢) حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٢٨.

(٣) مسائل الناصريّات : ٧٣٧٢ ، المسألة ٣.

(٤) حكاه عنه المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٢٨ ؛ وفي السرائر ١ : ١٨٠ : «.. فإن كان من الغسلة الأوّلة ، يجب غسله. وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة ، لا يجب غسله». وقال العلامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٧٢ ، المسألة ٣٧ ؛ والشهيد في الذكرى ١ : ٨٤ ـ ٨٥ بعد حكاية القول بالفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه عن السيّد المرتضى : «واختاره تبعه ابن إدريس». انظر : السرائر ١ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٥) الذكرى ١ : ٨٥.

(٦) الذكرى ١ : ٨٥.

(٧) مختلف الشيعة ١ : ٧٢ ، المسألة ٣٧.

٤٢٤

عنها ومفارقته لها بطريق أولى ؛ لأنّ المقتضي للتنجيس هو الملاقاة لها لا مفارقتها ، فكيف يرتكب فكّ المعلول عن علّته التامّة ثمّ وجوده بدونها!؟

إن قيل : الدليل لمّا دلّ على نجاسته بعد الاتّصال والانفصال وتوقّف طهارة المحلّ على عدم نجاسة الماء اقتصر فيه على محلّ الضرورة ، وهو ما قبل الانفصال لا ما بعده.

قلنا : الانفصال لا يصلح سبباً للنجاسة ولا جزءاً للسبب ؛ لعدم صلاحيته لذلك ، فإنّه مقتضٍ لبُعد الماء عن النجاسة ، وذلك ينافي قبوله أثرها ، ولِمَ لا يرتكب طهارته مطلقاً كما في ماء الاستنجاء ، فإنّ وجود النظير يمنع (١) الاستبعاد أو يحكم بنجاسته مطلقاً للدليل؟

والحكم بطهر المحلّ خرج بحكم الشارع ، وبالإجماع ، وبأنّه لولاه لما أمكن التطهير بالقليل.

وهنا قول خامس حكاه الشهيد رحمه‌الله في حاشية الألفيّة (٢) عن بعض الأصحاب ولم يسمّه وهو : أنّ ماء كلّ غسلة كمغسولها قبل الغسل وإن حكم بطهارة المحلّ بل وإن ترامت لا إلى نهاية ؛ محتجّاً بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة.

وبيانه أنّ طهارة المحلّ بالقليل على خلاف الأصل المقرّر من نجاسة القليل بالملاقاة ، فيقتصر فيه على موضع الحاجة ، وهو المحلّ دون الماء.

ويدفعه : حكم الشارع بالطهارة عند تمام الغسلات ، فلا اعتبار بما حصل بعد ذلك ، وللزوم الحرج المنفيّ.

وربما نسب هذا القول إلى المصنّف (٣). وكلامه بالقول الأوّل أليق ، وتحقيقه به أنسب ، ووجه مناسبة عباراته له أنّه يسوقها في الماء المستعمل في إزالة النجاسة ، وبعد الحكم بالطهارة شرعاً لا تصدق النجاسة.

وما نبّهنا عليه من الأقوال وحرّرناه لا يكاد يوجد مجموع الأطراف فيما علمناه وإن كان بعض (٤) الفضلاء قد نفى ما زاد على ثلاثة أقوال.

__________________

(١) في «ق ، م» : «يدفع».

(٢) راجع رسائل المحقّق الكركي ٣ : ٢٣١ و ٢٣٢.

(٣) كما في رسائل المحقّق الكركي ٣ : ٢٣١.

(٤) لم نتحقّقه.

٤٢٥

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبّه له ، وهو : أنّ المصنّف عطف بعد «سواء» بـ «أو» في قوله : «سواء تغيّر بالنجاسة أو لا» وقد أكثر من استعمال ذلك في كتبه كغيره من الفقهاء ، وقد منع منه جماعة من محقّقي العربيّة من المتقدّمين والمتأخّرين.

وحجّتهم في ذلك أنّ «أو» تقتضي أحد الشيئين أو الأشياء ، والتسوية تقتضي نفس الشيئين أو الأشياء ، والأجود العطف بـ «أم» المتّصلة التي ما قبلها ومابعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر.

قال تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (١) (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (٢) (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) (٣) (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (٤).

وقال أبو علي الفارسي : لا يجوز «أو» بعد «سواء» فلا يقال : سواء عليَ قمت أو قعدت ؛ لأنّه يكون المعنى : سواء عليّ أحدهما ، وذا لا يجوز ؛ لأنّ التسوية تقتضي شيئين فصاعداً (٥).

وقال ابن هشام في المغني : قد أُولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا : سواء كان كذا أو كذا ، وهو نظير قولهم : يجب أقلّ الأمرين من كذا أو كذا. والصواب العطف في الأوّل بـ «أم» وفي الثاني بالواو. ثمّ نقل عن الصحاح : سواء عليّ قمت أو قعدت (٦). قال : وهو سهو.

ونقل عن الهذلي أنّ ابن محيصن قرأ من طريق الزعفراني «أو لم تنذرهم» وحَكَم عليه بأنّه من الشذوذ بمكان (٧).

والظاهر من المصنّف أنّه يختار ما نقله صاحب الصحاح من جواز ذلك ، وقد وافقه عليه بعض أهل العربيّة.

وظاهر الشيخ الرضي رحمه‌الله اختيار ذلك حيث قال بعد نقل كلام الفارسي وحجّته بانّ «أو» تقتضي أحد الشيئين : ويرد عليه : أنّ معنى «أم» أيضاً أحد الشيئين أو

__________________

(١) المنافقون (٦٣) : ٦.

(٢) إبراهيم (١٤) : ٢١.

(٣) البقرة (٢) : ٦.

(٤) الأعراف (٧) : ١٩٣.

(٥) حكاه عنه الرضي في شرح الكافية ٢ : ٣٧٦.

(٦) الصحاح ٦ : ٢٣٨٦ ، «س وأ».

(٧) مغني اللبيب ١ : ٦٣ ـ ٦٤.

٤٢٦

الأشياء ، فيكون معنى «سواء عليّ قمت أم قعدت» سواء عليّ أيّهما فعلت ، أي الذي فعلت من الأمرين ، وهذا أيضاً ظاهر الفساد.

قال : وإنّما لزمه ذلك في «أو» و «أم» لأنّه جعل «سواء» خبراً مقدّماً وما بعده مبتدأ.

والوجه : أنّ «سواء» خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمران سواء ، ثمّ بيّن الأمرين بقوله : قمت أو قعدت ، والجملة سادّة مسدّ جواب الشرط الذي لا شكّ في تضمّن الفعل بعد «سواء» و «ما أُبالي» معناه (١) ، ألا ترى إلى إفادة الماضي في مثله معنى المستقبل ، وما ذاك إلا لتضمّن معنى الشرط (٢). انتهى كلام الرضي.

وفرّق السيرافي في شرح (٣) كتاب سيبويه بين ما لو دخلت همزة التسوية بعد «سواء» أو لم تدخل ، فجوّز «أو» على الثاني دون الأوّل ، فقال : «سواء» إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت «أم» بعدها ، كقولك : سواء عليّ أقمت أم قعدت ، وإن كان بعد «سواء» فعل بغير استفهام ، جاز عطف أحدهما على الآخر بـ «أو» كقولك : سواء عليّ قمت أو قعدت. انتهى.

وكلام المصنّف جارٍ على القسم الثاني ، والآيات الشريفة على الأوّل.

فقد تلخّص في المسألة ثلاثة أقوال : المنع مطلقاً ، والجواز مطلقاً ، والتفصيل. وإنّما أطنبنا القول في ذلك ؛ لكثرة جريانه وشدّة الحاجة إليه وعدم اشتهار ما حرّرناه من الخلاف. ثمّ عُد إلى عبارة الكتاب.

واعلم أنّ المستعمل في إزالة الخبث نجس (إلا ماء الاستنجاء) من الحدثين (فإنّه طاهر) إجماعاً ، كما نقله المصنّف في المنتهي (٤). وفي المعتبر : هو العفو (٥). وقرّبه في الذكرى (٦).

وتظهر الفائدة في استعماله ثانياً ، فيجوز على الأوّل دون الثاني.

__________________

(١) أي : معنى الشرط.

(٢) شرح الكافية ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

(٣) لا يوجد كتابه لدينا.

(٤) كما في جامع المقاصد ١ : ١٣٠ ؛ وفي منتهى المطلب ١ : ١٤٣ هكذا : عفي عن ماء الاستنجاء إذا سقط منه شي‌ء على ثوبه أو بدنه. انتهى ، ولم يتعرّض لذكر الإجماع.

(٥) كما في الذكرى ١ : ٨٣ ؛ وجامع المقاصد ١ : ١٣٠ ؛ وقال المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٩١ : وأمّا طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين ، وقال علم الهدى رحمه‌الله في المصباح : لا بأس بما ينضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن. وكلامه صريح في العفو وليس بصريح في الطهارة. انتهى.

(٦) الذكرى ١ : ٨٣.

٤٢٧

والأصل فيه حكم الصادق عليه‌السلام بعدم نجاسة الثوب الملاقي له (١). وهو يستلزم الطهارة.

ولأنّ في الحكم بنجاسته حرجاً أو مشقّةً ؛ لعموم البلوى به ، وكثرة تكرّره ودورانه ، بخلاف باقي النجاسات. والإجماع الذي ادّعاه المصنّف كافٍ أيضاً.

ولا فرق بين المخرجين ، ولا بين المتعدّي وغيره إلا أن يتفاحش بحيث يخرج عن مسمّى الاستنجاء ، ولا بين الطبيعي وغيره إذا صار معتاداً ؛ لإطلاق الحكم.

لكن يشترط لطهارته أُمور دلّ على اشتراطها أدلّة أُخرى أشار إلى بعضها بقوله (ما لم يتغيّر بالنجاسة أو يقع على نجاسة خارجة) عن حقيقته ، كالدم المستصحب للخارج ، أو عن محلّه وإن لم يخرج عن الحقيقة ، كالحدث الملقى على الأرض ، وغيره من النجاسات ، فلا يحتاج إلى تنقيح المحلّ بجَعل عدم استصحابه لنجاسة أُخرى شرطاً ثالثاً.

ويشترط زيادةً على ما ذُكر : أن لا تنفصل مع الماء أجزاء من النجاسة متميّزة ؛ لأنّها كالنجاسة الخارجة يتنجّس الماء بها بعد مفارقة المحلّ.

وهل يشترط عدم زيادة الوزن؟ ظاهر الشهيد في الذكرى (٢) ذلك.

والظاهر عدم الاشتراط ؛ لانحصار التنجيس في تغيّر أحد الأوصاف الثلاثة ، لا مطلق الوصف ، كالثقل والخفّة وغيرهما.

وأمّا سبق الماءِ اليدَ إلى المحلّ أو مقارنتها له فلا أثر له ؛ لتنجّس اليد على كلّ حال ، فلا فرق بين تقدّمها عليه وتأخّرها عنه.

نعم ، يجب تقييد ذلك بما إذا كانت نجاستها لكونها آلةً للغسل ، فلو تنجّست لا لذلك ثمّ حصل الاستنجاء ، فلا عفو.

(وغسالة الحمّام) وهي الماء المستنقع فيه والمنفصل عن المغتسلين (نجسة ما لم يعلم خلوّها من نجاسة) لنهي الكاظم عليه‌السلام عن الاغتسال من البئر التي تجمع فيها غسالة الحمّام ، معلّلاً بأنّ فيها غسالة ولد الزنا والناصب وهو شرّهما (٣).

وهذا هو المشهور حتّى ادّعى عليه ابن إدريس الإجماع (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨٦ ـ ٨٧ / ٢٨٨.

(٢) الذكرى ١ : ٨٣.

(٣) الكافي ٦ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩ / ١٠ ، التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٣.

(٤) السرائر ١ : ٩٠ ـ ٩١.

٤٢٨

والرواية ضعيفة السند ، مرسلة ، ومعارضة بقوله عليه‌السلام في حديثٍ آخر وقد سُئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب ، قال : «لا بأس» (١).

وهذه الرواية وإن كانت مرسلةً أيضاً إلا أنّها لا تقصر عن مقاومة الرواية الأُخرى ، وتبقى معنا أصالة طهارة الماء.

واختار المصنّف في المنتهي (٢) طهارتها ؛ للخبر (٣) ، والأصل ، وهو الظاهر إن لم يثبت الإجماع على خلافه.

(وتكره الطهارة ب) الماء (المسخّن في الشمس في الأواني) لما ورد من نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، معلّلاً بأنّه يورث البرص (٤).

وحُمل النهي على الكراهة ، جمعاً بينه وبين قول الصادق عليه‌السلام لا بأس بأن يتوضّأ بالماء الذي يوضع في الشمس (٥). ويمكن الجمع بين خبري الغسالة بذلك ؛ ولأنّ العلّة راجعة إلى المصلحة الدنيويّة ، فالنهي من قبيل الإرشاد على حدّ قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (٦).

وإنّما لم يكن محرّماً مع الاتّفاق على وجوب دفع الضرر ؛ لأنّه ليس بمعلوم الوقوع ولا مظنونه ، وإنّما هو ممكن نظراً إلى صلاحيته له.

وكما تكره الطهارة به يكره استعماله في غيرها من إزالة نجاسةٍ وأكلٍ وشربٍ على الظاهر ؛ لاقتضاء التعليل ذلك. ولا يشترط القصد إلى التسخين ، فيعمّ الحكم المتسخّن بنفسه ، فلو قال : «المتسخّن» كان أولى.

وكذا لا يشترط بقاء السخونة ، استصحاباً لما ثبت ، ولصدق الاسم مع زوالها ؛ إذ المشتقّ لا يشترط في صدقه بقاء أصله. وربما قيل باشتراطهما.

ولا فرق بين الأواني المنطبعة كالنحاس والحديد وغيرها ، ولا بين البلاد الحارّة وغيرها وإن كان المحذور يقوّي تولّده في الأوّلين ، لتأثير الشمس فيهما زهومة يتولّد منها المحذور ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥ / ٤ ، الفقيه ١ : ١٠ / ١٧ ، التذهيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٦.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٣) المصادر في الهامش (١).

(٤) الكافي ٣ : ١٥ / ٥ ، علل الشرائع ١ : ٣٢٧ / ٢ ، الباب ١٩٤ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ / ١٧٧.

(٥) التهذيب ١ : ٣٦٦ / ٣٦٧ / ١١١٤ ، الإستبصار ١ : ٣٠ / ٧٨.

(٦) البقرة (٢) : ٢٨٢.

٤٢٩

فإنّ الحكم إذا علّق بمنظنّة شي‌ء ، عمّ جميع أفراده وإن قصر بعضها عن ذلك ، كالقصر المعلّق بمظنّة المشقّة ، وهو السفر إلى مسافة مع عدم عموم المشقّة لجميع أفراده ، بل ربما حصلت المشقّة في بعض الأفراد في بعض المسافة أضعاف ما يحصل في الزائد عنها لفردٍ آخر.

والتقييد بالأواني يشعر باختصاص الحكم بها ، فلو تسخّن الماء في حوض أو في ساقية (١) ، لم يكره استعماله.

وإطلاق النصّ والفتوى والتعليل يقتضي عدم الفرق بين القليل من الماء والكثير.

ولا منافاة بين الوجوب عيناً والكراهة ، كما في الصلاة وغيرها من العبادات على بعض الوجوه ، فلو لم يجد ماء آخر غيره ، لم تزل الكراهة وإن وجب استعماله عيناً ؛ لبقاء العلّة ، مع احتمال الزوال كما يأتي.

(و) كذا يكره استعمال الماء (المسخّن بالنار في غسل الأموات) لما ورد من نهي أبي جعفر عنه (٢) ، وعلّل مع ذلك بأنّ فيه أجزاءً ناريّة فلا تعجّل له ، وتفؤلاً بالحميم ، وبأنّه يرخي بدن الميّت ويعدّه لخروج شي‌ء من النجاسات.

ومحلّ الكراهة عند عدم الضرورة ، أمّا معها كخوف الغاسل على نفسه من البرد فلا ، مع احتمال بقائها ، كما مرّ.

وكذا لا يكره استعماله في غير غسل الأموات ؛ للأصل ، وعدم النصّ ، وفقد العلّة.

(و) كذا يكره (سؤر) الحيوان (الجِل) وهو الذي يغتذي بعذرة الإنسان محضاً إلى أن ينبت لحمه عليه ، ويشتدّ عظمه ، أو يسمّى في العرف جِلا. وسيأتي تفصيله وتحقيقه إن شاء الله تعالى.

(وآكل الجيف) مع خلوّ موضع الملاقاة من عين النجاسة.

(و) سؤر (الحائض المتّهمة) بعدم التحفّظ من النجاسة والمبالاة بها.

وإنّما كره ، جمعاً بين رواية النهي عن الوضوء بفضلها عن الصادق عليه‌السلام (٣) وبين نفي البأس إذا كانت مأمونةً عن الكاظم عليه‌السلام (٤) ؛ إذ لا قائل بالتحريم.

__________________

(١) في ق ، م» : «أو ساقية.

(٢) الفقيه ١ : ٨٦ / ٣٩٧ ، التهذيب ١ : ٣٢٢ / ٩٣٨.

(٣) الكافي ٣ : ١٠ ـ ١١ / و ٣ و ٤ ، التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٤ ـ ٦٣٦ ، الاستبصار ١ : ١٧ / ٣٢ ـ ٣٤.

(٤) التهذيب ١ : ٢١ ـ ٦٣٢ ، الاستبصار ١ : ١٦ ـ ١٧ / ٣٠.

٤٣٠

وأطلق الشيخ في المبسوط (١) الكراهةَ ؛ لإطلاق بعض الأخبار. وحمل المطلق على المقيّد طريق الجمع.

وطرّد الشهيد رحمه‌الله الحكمَ في كلّ متّهم (٢).

ونُوقش (٣) فيه حيث إنّه تصرّف في النصّ.

(و) سؤر (البغال والحمير) الأهليّة دون الوحشيّة ، وكذا الدوابّ ؛ لكراهة لحم الجميع.

(و) سؤر (الفأرة والحيّة) وكذا كلّ ما لا يؤكل لحمه.

(وما مات فيه الوزغ) بالتحريك جمع وزغة دابّة معروفة ، وكذا ما خرج منه حيّاً ، وسام أبرص من أصنافه.

وفي الصحاح : سام أبرص من كبار الوزغ (٤).

(و) ما مات فيه (العقرب) وقد روي عن الباقر عليه‌السلام الأمر بإراقة ما يقع فيه العقرب (٥). وهو للتنزيه أو للسمّ.

وفي كثير من هذه قول بالمنع (٦) مستند إلى روايات معارضة بأشهر منها. وحملها على الكراهة طريق الجمع.

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٠.

(٢) البيان : ١٠١.

(٣) المناقش هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٢٤.

(٤) الصحاح ٣ : ١٠٢٩ ، «ب ر ص».

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٠ / ٦٦٤ ، الاستبصار ١ : ٢٧ / ٦٩.

(٦) أنظر النهاية ـ للطوسي ـ : ٦.

٤٣١
٤٣٢

(النظر السادس : فيما يتبع الطهارة)

وهو إزالة النجاسة الذي يطلق عليه الطهارة مجازاً.

ولمّا كان الحكم بوجوب إزالتها وكيفيّته موقوفاً على العلم بها لتوقّف التصديق بالشي‌ء على تصوّره أشار إلى تعدادها أوّلاً ، فقال (النجاسات عشرة) أنواع :

(البول والغائط من) الحيوان (ذي النفس السائلة) أي : ذي الدم الذي يجتمع في العروق ، ويخرج إذا قطع شي‌ء منها بسيلان وقوّة ، بخلاف دم ما لا نفس له ، كالسمك ، فإنّه يخرج ترشيحاً.

وإنّما يكونان نجسين إذا كانا من الحيوان (غير المأكول) اللحم ، سواء كان تحريمه (بالأصالة) أي : بأصل الشرع ، لا بسببٍ عارض له أوجب تحريمه بعد أن كان محلّلاً (كالأسد ، أو) كان تحريمه (بالعرض ، كالجلال) ومثله موطوء الإنسان.

ومستند الجميع قول الصادق عليه‌السلام اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه (١). والغائط كالبول إجماعاً ؛ لعدم القائل بالفرق.

وأخرج جماعة (٢) من الأصحاب الطيرَ ، وابنُ الجنيد بولَ الرضيع قبل أكله اللحم (٣) ؛ استناداً إلى روايات معارضة بأشهر منها ، أو قابلة للجمع.

ودخل في غير المأكول الإنسانُ بجميع أصنافه حتّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يثبت أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٧ / ٣ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٠.

(٢) منهم : الشيخ الصدوق في الفقيه ١ : ٤١ ذيل الحديث ١٦٤ ، وابن أبي عقيل والجعفي كما في مختلف الشيعة ١ : ٢٩٨ ، المسألة ٢٢٠ ، والذكرى ١ : ١١٠.

(٣) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣٠١ ، المسألة ٢٢٢ ، والشهيد في الذكرى ١ : ١١١.

٤٣٣

امّ أيمن على شرب بوله وإن قال لها إذَن لا تلج النار بطنك (١) كما لم يثبت أنّه أقرّ حجّامه على شرب دمه ، بل روي أنّه أنكر في الموضعين حتى قال لأبي طيبة لا تَعُد ، الدم كلّه حرام (٢) والمثبت مقدّم على النافي.

والمعتبر في الغائط صدق اسمه ، فالحَبّ الخارج من المحلّ غير المستحيل طاهر.

واعتبر المصنّف في طهارته إمكان نباته لو زُرع (٣).

وليس بجيّد ، بل المعتبر صدق الاسم.

(والمنيّ من كلّ حيوان ذي نفس سائلة وإن كان مأكولاً) ولا فرق بين الآدمي وغيره ، ولا بين الحيوان البرّي والمائي ، كالتمساح ؛ لعموم قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما يغسل الثوب من المنيّ والدم والبول (٤). (والميتة من ذي النفس السائلة مطلقاً) سواء كان مأكول اللحم أم لا إجماعاً ، ومنه الآدمي.

لكن يجب أن يستثني منه ما إذا حكم بطهره شرعاً إمّا لتطهيره بالغسل وإن كان متقدّماً على موته ، كالمأمور به ليقتل ، أو لكونه لم ينجس بالموت ؛ لكونه شهيداً أو معصوماً.

والاحتجاج بأنّ الآدمي لو كان نجساً لما طهر بالغسل معارَض بأنّه لو كان طاهراً لما أمر بغسله ، وقبوله الطهارة يوجب اختلاف النجاسات في ذلك بوضع الشرع. ولا بُعد فيه عند مَنْ نظر إلى مختلفات الأحكام.

(وأجزاؤها) نجسة كجملتها (سواء أُبينت) أي فصلت الأجزاء (من حيّ أو ميّت إلا ما لا تحلّه الحياة) من تلك الأجزاء (كالصوف والشعر والوبر والعظم والظفر) والظلف والقرن والحافر. والسنّ من جملة العظم. وفي حكمها البيض إذا اكتسى القشر الأعلى ، والإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء مخفّفةً ، قاله الجوهري (٥). ويجوز تشديد الحاء وهي كرش السخلة قبل أن تأكل وإن حلّتها الحياة ، فإنّ هذه الأشياء كلّها طاهرة بالأصل وإن

__________________

(١) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ١ : ٣٧.

(٢) أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ١ : ٣٨.

(٣) منتهى المطلب ٢ : ١٧٩ ، نهاية الإحكام ١ : ٢٦٦ ، تذكرة الفقهاء ١ : ٥١.

(٤) سنن الدارقطني ١ : ١٢٧ / ١ ، سنن البيهقي ، ١ : ٢١ ـ ٣٢ ، ذيل ح ٤٠ ، مسند أبي يعلى ٣ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ١٦١١.

(٥) الصحاح ١ : ٤١٣ ، «ن ف ح».

٤٣٤

كانت من الميتة (إلا) أن تكون (من نجس العين ، كالكلب والخنزير والكافر) فإنّها نجسة ؛ لنجاسة أعيانها ، فيدخل فيه جميع أجزائها.

وخالف المرتضى رحمه‌الله في ذلك ، فحَكَم بطهارة ما لا تحلّه الحياة منها ؛ استناداً إلى عدم تنجّس ما لا تحلّه الحياة منها بالموت كغيرها من الميتات (١).

وأُجيب (٢) : بأنّ المقتضي للتنجيس في الميتة صفة الموت ، وهي غير حاصلة فيما لا تحلّه الحياة ، وفيهما نفس الذات (٣) ؛ لقول الصادق عليه‌السلام في الكلب : رجس نجس» (٤) وقوله عليه‌السلام في الخنزير اغسل يدك إذا مسسته كما تمسّ الكلب (٥) وهو يقتضي أن تكون عينها نجاسةً ، فتدخل فيه جميع الأجزاء.

(والدم من ذي النفس السائلة) مطلقاً ؛ لعموم الخبر المتقدّم (٦) ، أو إطلاقه ، ومنه العلقة وإن كانت في البيضة حتّى ادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع على نجاستها (٧).

واحتجّ عليها في المعتبر : بأنّها دم حيوان له نفس (٨).

وفي الدليل منع ، وتكوّنها في الحيوان لا يدلّ على أنّها منه.

وقول ابن الجنيد بعدم نجاسة الثوب بدم كعقد الإبهام العليا (٩) مخالف للإجماع.

واحترز بذي النفس عن غيره ، كالسمك والجراد والبراغيث ونحوها ، فإنّ دمها طاهر عندنا إجماعاً ، نقله الشيخُ في الخلاف (١٠) ، وغيرُه (١١) من المتأخّرين ، فخلافه في المبسوط والجُمل (١٢) مدفوع باعترافه بالإجماع.

__________________

(١) مسائل الناصريّات : ١٠٠ ـ ١٠١ ، المسألة ١٩.

(٢) المجيب هو العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣١٤ ذيل المسألة ٢٣١ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٦١.

(٣) أي : مقتضي التنجيس في الكلب والخنزير نفس ذاتهما.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦ ، الاستبصار ١ : ١٩ / ٤٠.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣ / ١١٣٠.

(٦) في ص ٤٣٤.

(٧) الخلاف ١ : ٤٩٠ ـ ٤٩١ ، المسألة ٢٣٢.

(٨) المعتبر ١ : ٤٢٢.

(٩) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٢٠ ، ٤٢٧ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ٣١٧ ، المسألة ٢٣٣ ، والشهيد في الذكرى ١ : ١١٢.

(١٠) الخلاف ١ : ٤٧٦ ، المسألة ٢١٩.

(١١) كالمحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٤٢١ ، والشهيد في الذكرى ١ : ١١٢.

(١٢) المبسوط ١ : ٣٥ ، الجمل والعقود (ضمن الرسائل العشر) : ١٧٠ ـ ١٧١ حيث أفتى بنجاسة دم غير ذي النفس.

٤٣٥

ولقول الصادق عليه‌السلام : «ليس به بأس» (١) وعن علي عليه‌السلام أنّه كان لا يرى بأساً بدم ما لم يذكّ (٢).

ويستثنى من دم ذي النفس ما يستخلف في اللحم ممّا لا يقذفه المذبوح ، فإنّه طاهر حلال إذا لم يكن جزءاً من محرّم ، كدم الطحال.

ولا فرق بين تخلّفه في العروق أو في اللحم أو البطن ما لم يُعلم دخول شي‌ء من الدم المسفوح ، أو تخلّفه لعارضٍ ، كجذب الحيوان له بنفسه ، أو لذبحه في أرض منحدرة ورأسه أعلى ، فإنّ ما في البطن حينئذٍ نجس.

(والكلب والخنزير وأجزاؤهما) وإن لم تحلّها الحياة حتّى المتولّد منهما وإن باينهما في الاسم.

أمّا المتولّد من أحدهما وحيوانٍ طاهر فإنّه يتبع في الحكم الاسمَ ، سواء كان لأحدهما أم لغيرهما ، فإن لم يصدق عليه اسم أحدهما ولا غيرهما ممّا هو معلوم الحكم ، فالأقوى فيه الطهارة والتحريم.

(والكافر) بجميع أصنافه (وإن أظهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة ، كالخوارج) وهُم أهل النهروان ومَنْ دان بمقالتهم.

وسمّوا بذلك ؛ لخروجهم على الإمامُ بعد أن كانوا من حزبه ، أو لخروجهم من الإسلام كما وصفهم النبيّ

بأنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمِيّة (٣)

(٤) ويسمّون أيضاً الشراة ؛ لقولهم : نحن شرينا أنفسنا ابتغاء وجه الله. وخرجوا على إمامهم بشبهة التحكيم.

وقد روي عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال عن خارجيّ بعد مفارقته إيّاه مشرك والله ، إي والله مشرك

(٥). (والغُلاة) جمع غال ، وهو لغةً : مجاوزة الحدّ في شي‌ء. والمراد هنا الدين ، زادوا في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٥٥ / ٧٤٠ ، الإستبصار ١ : ١٧٦ / ٦١١.

(٢) الكافي ٣ : ٥٩ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢٦٠ / ٧٥٥.

(٣) في «ق ، م» والطبعة الحجريّة : «الرامي» بدل «الرميّة» وما أثبتناه هو الصحيح كما في المصادر.

(٤) سنن الترمذي ٤ : ٤٨١ / ٢١٨٨ ، سنن البيهقي ٨ : ٢٩٥ / ١٦٧٠٠ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ١٤٦ و ١٤٧.

(٥) أورده الشهيد في الذكرى ١ : ١١٦ ، وانظر الكافي ٢ : ٣٨٧ (باب الكفر) الحديث ١٤.

٤٣٦

الأئمّة عليهم‌السلام واعتقدوا فيهم أو في أحدهم أنّه إله ، ونحو ذلك.

ويطلق الغلوّ أيضاً على مَنْ قال بإلهيّة أحدٍ من الناس.

والأنسب أن يكون هو المراد هنا.

وفي حكمهم النواصبُ ، وهم الذين ينصبون العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام كما تقدّم ، والمجسّمةُ ، كما اختاره المصنّف (١) في غير هذا الكتاب ، وهُم قسمان : مجسّمة بالحقيقة ، وهم الذين يقولون : إنّ الله جسم كالأجسام. ولا ريب في كفر هذا القسم وإن تردّد فيه بعض (٢) الأصحاب. ومجسّمة بالتسمية المجرّدة ، وهُم القائلون بأنّه جسم لا كالأجسام. وفي نجاسة هذا القسم تردّد ، وكأنّ الدليل الدالّ على نجاسة الأوّل دالّ على الثاني ؛ فإنّ مطلق الجسميّة يوجب الحدوث وإن غاير بعضها بعضاً.

وألحق الشيخُ بهم : المجبّرةَ (٣) ، والمرتضى (٤) وجماعة : مَنْ خالف الحقّ مطلقاً.

وما ذكره المصنّف من الفِرَق على جهة المثال ، وضابطه : مَنْ جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة وإن انتحل الإيمان فضلاً عن الإسلام.

والأصل في نجاسة الكافر بأقسامه بعد إجماع الإماميّة قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٥) وإضمار «ذو نجس» ونحوه على خلاف الأصل لا يصار إليه إلا مع تعذّر الحمل على الحقيقة وقد قال الله تعالى عن اليهود والنصارى (تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ) (٦) وعمّن خالف الإيمان (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) وخروج بعض الأفراد لدليلٍ لا ينفي دلالته على الباقي.

وأيضاً فالنصارى قائلون بالتثليث وهو شرك ، وكلّ مَنْ قال بنجاستهم قال بنجاسة جميع الفِرَق ، فالفرق إحداث قول ثالث خارج عن الإجماع.

(والمسكرات) المائعة بالأصالة ، فالخمر المجمّد نجس ، والحشيشة ليست نجسةً وإن عرض

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ٢٤ ، منتهى المطلب ٣ : ٢٢٤.

(٢) لم نتحقّقه.

(٣) المبسوط ١ : ١٤.

(٤) نسبه إليه المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٦٤.

(٥) التوبة (٩) : ٢٨.

(٦) المؤمنون (٢٣) : ٩٢.

(٧) الأنعام (٦) : ١٢٥.

٤٣٧

لها الذوبان.

وتوقّف المصنّف في المنتهي في تحريم الحشيشة ؛ لعدم وقوفه على قولٍ لعلمائنا فيها ، قال : والوجه أنّها إن أسكرت ، فحكمها حكم الخمر في التحريم لا النجاسة (١).

والقول بنجاسة المسكر هو المشهور بين الأصحاب.

ونقل المرتضى فيه (٢) الإجماع ، ومستنده مع الإجماع وصفه في الآية (٣) بالرجس المرادف للنجاسة (٤) ، ولذلك يؤكّد بها ، كقولهم : رجس نجس.

ويدلّ عليها أيضاً أخبار ، منها : قول الصادق عليه‌السلام : «لاتصلّ في ثوب أصابه خمر أو مسكر حتى تغسل» (٥). ولا تخلو تلك الأخبار من ضعف إمّا في السند أو الدلالة ، ومن ثَمَّ قال الصدوق (٦) وجماعة (٧) بطهارتها تمسّكاً بأحاديث ، مع مساواتها لتلك في الضعف. وقصور بعضها في الدلالة لا تقاوم الإجماعَ وإن كان منقولاً بخبر الواحد وظاهر القرآن.

(و) في حكمها (العصير) العنبي على المشهور خصوصاً بين المتأخّرين.

ويظهر من الذكرى أنّ القائل به قليل ، ولا نصّ عليه ظاهراً (٨).

وفي البيان : لم أقف على نصّ يقتضي تنجيسه (٩).

وإنّما ينجس عند القائل به (إذا غلى) وهو أن يصير أعلاه أسفله بنفسه أو بالشمس أو بالنار (واشتدّ) وهو أن يحصل له ثخانة ، وهي مسبّبة عن مجرّد الغليان عند الشهيد (١٠) ، وتبعه الشيخ عليّ (١١) رحمه‌الله.

__________________

(١) منتهى المطلب ٣ : ٢٢٢.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «فيها».

(٣) المائدة (٥) : ٩٠.

(٤) مسائل الناصريّات : ٩٥ ـ ٩٦ ، المسألة ١٦.

(٥) التهذيب ١ : ٢٧٨ / ٨١٧ ، الاستبصار ١ : ١٨٩ / ٦٦٠.

(٦) الفقيه ١ : ٤٣.

(٧) منهم : الجعفي كما في الذكرى ١ : ١٤٤ ، وابن أبي عقيل كما في مختلف الشيعة ١ : ٣١٠ ، المسألة ٢٣٠.

(٨) الذكرى ١ : ١١٥.

(٩) البيان : ٩١.

(١٠) الذكرى ١ : ١١٥.

(١١) جامع المقاصد ١ : ١٦٢.

٤٣٨

ووجهه : أنّ الغليان لمّا كان هو الموجب لها فكلّ جزء منه يوجب جزءاً منها ، ولمّا كان المعتبر أوّل أخذه في الثخانة كفى فيه أوّل أخذه في الغليان وإن لم تظهر للحسّ.

وفي المعتبر : يحرم مع الغليان ، ولا ينجس إلا مع الاشتداد (١).

وهذا هو الظاهر ، فإنّ التلازم غير ظاهر خصوصاً فيما غلى بنفسه.

والحكم مخصوص بعصير العنب كما ذكرناه ، فلا يلحق به عصير التمر وغيره حتّى الزبيب على الأصحّ ما لم يحصل فيه خاصّة الفقّاع ؛ للأصل ، وخروجه عن مسمّى العنب ، وذهاب ثلثيه بالشمس ، فكما تعتبر في نجاسته فكذا في طهارته ، فيحلّ طبيخه ، خلافاً لجماعة من الأصحاب محتجّين بمفهوم رواية عليّ بن جعفر عن أخيه حيث سأله عن الزبيب يؤخذ ماؤه فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ، فقال : «لا بأس» (٢).

ودلالة المفهوم الوصفي ضعيفة عندنا لو صحّ سند الحديث ، كيف! وفي طريقه سهل بن زياد.

وغاية نجاسة العصير ذهاب ثلثيه بالنار وغيرها ، أو انقلابه خلاً قبل صيرورته دبساً.

ولو أصاب شيئاً قبل ذهاب الثلثين فنجّسه ، كفى في طُهره جفاف ثلثي ما أصاب من البلل ؛ لوجود علّة الطهر ، فلا يتخلّف عنها المعلول.

ومتى حكم بطهره حكم بطهر آلات طبخه ، وأيدي مزاوليه وثيابهم ، كما يحكم بطُهر آنية الخمر وما فيها من الأجسام الموضوعة للعلاج وغيره بانقلابه خلا ، وطُهرِ يد نازح البئر والدلو والرشاء وحافّات البئر وجوانبها.

والسرّ في جميع ذلك أنّه لولا الحكم بطهره ، لكانت طهارة هذه الأشياء أمّا متعذّرةً أو متعسّرةً جدّاً بحيث يلزم منه مشقّة عظيمة وحرج واضح مدفوع بالآي والخبر.

ولو وضع فيه أجسام طاهرة ، تبعته في الطهارة والنجاسة ، قطع به المصنّف في النهاية (٣) ، ويؤيّده طُهر الأجسام المطروحة في الخمر المنقلب خلاً. وليس قياساً ممنوعاً ، بل جليّا من باب مفهوم الموافقة.

(و) العاشر من أنواع النجاسات العشر (الفُقّاع) وهو من تفرّدات علمائنا ، وقد ورد

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٢٤.

(٢) الكافي ٦ : ٤٢١ / ١٠ ، التهذيب ٩ : ١٢١ / ٥٢٢.

(٣) نهاية الأحكام ١ : ٢٧٣.

٤٣٩

في الأخبار من الطريقين كونه بمنزلة الخمر.

نقل المرتضى عن أحمد بإسناده أنّ الغبيراء التي نهى النبيّ عنها هي الفقّاع.

وعن زيد بن أسلم : الغبيراء التي نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها هي الأسكركة ، وهي خمر الحبشة (١).

ومن طريق الأصحاب : ما رواه سليمان بن جعفر (٢) ، قال : قلت للرضا : ما تقول في شرب الفقّاع؟ فقال : «هو خمر مجهول» (٣).

وعنهُ هي خمرة استصغرها الناس (٤). والأصل في الفقّاع ما يُتّخذ من ماء الشعير ، كما ذكره المرتضى في الانتصار (٥) ، لكن لمّا ورد النهي عنه معلّقاً على التسمية ثبت له ذلك سواء أعمل منه أم من غيره إذا حصل فيه خاصّته ، وهي (٦) النشيش.

وما يوجد في الأسواق ممّا يُسمّى فُقّاعاً يحكم بتحريمه تبعاً للاسم ، إلا أن يعلم انتفاؤه قطعاً ، كما لو شُوهد الناس يضعون ماء الزبيب وغيره الخالي من خاصّيّته في إناءٍ طاهر ولم يغيبوا به عن العين ثمّ أطلقوا عليه اسم الفُقّاع ، فإنّه لا يحرم بمجرّد هذا الإطلاق ؛ للقطع بفساده.

واعلم أنّ ما ذكرناه من كون الفُقّاع هو أحد الأنواع العشرة للنجاسة هو المشهور في التقسيمات ، وإلا فيمكن جَعْل العصير العنبي أحدَ العشرة ، أو هو مع الفُقّاع بناءً على اشتراكهما في معنى واحد ، وهو كونهما بحكم المسكر.

ولمّا فرغ من بيان النجاسات بذكر أنواعها شرع في بيان حكمها وهو المقصود بالذات ، فقال :

(وتجب إزالة النجاسات) المذكورة (عن الثوب والبدن للصلاة والطواف) وجوباً مشروطاً بوجوبهما ، لا مستقرّاً بمعنى تحريمهما بدون الإزالة ولو كانا مندوبين ، فوجوب

__________________

(١) الانتصار : ٤٢١ ، المسألة ٢٣٩.

(٢) في التهذيب : سليمان بن حفص.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤ / ١٠ ، التهذيب ٩ : ١٢٤ / ٥٣٩ ، الإستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٦٨.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٣ / ٩ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٠ ، الاستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٦٩.

(٥) كما في جامع المقاصد ١ : ١٦٢ ، وانظر : الانتصار : ٤٢٠ ، المسألة ٢٣٩.

(٦) في «ق ، م» : «هو».

٤٤٠