روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-950-X
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه ثقتي

الحمد لله المتفضّل بشرح معالم شريعته لإرشاد الأنام ، المتطوّل بإرسال الرسل لتبريز الأحكام وتمييز الحلال عن الحرام ، مكمّل من اختارهم من خلقه بالقيام بوظائف هذا المرام ، وجاعل أقدامهم واطئةً على أجنحة ملائكته الكرام ، ومرجّح مدادهم يوم القيام على دماء الشهداء الأعلام.

أحمده سبحانه ، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره من جميع الآثام ، وأُصلّي وأُسلّم على نبيّه الذي شيّد وأحكم الأحكام أشدّ تشييد ـ وأحكم إحكامٍ ، محمّد الذي أزاح بنور عزّته غياهب الظلام ، وأدأب نفسه الشريفة في تبليغ رسالة الملك العلام ، ودعا بشريعته المقدّسة إلى دار السلام ، وعلى آله الغرّ الكرام أئمّة الإسلام ، وحَفَظَة الشرع الكريم عن تطرّق الأوهام ، صلاةً وسلاماً دائمين لا انقضاء لهما ولا انفصام ما تعاقب الليالي والأيّام وتناوب الشهور والأعوام.

وبعد ، فهذا تعليق مختصر كافل بالإمداد للمشتغل (١) بكتاب الإرشاد ، حقّقت فيه مقام المقال حسب مقتضى الحال ، معرضاً عن تطويل العبارة بالقيل والقال ، مكتفياً في الغالب بالجواب عن السؤال ، راجياً في ذلك وجْهَ الله الكريم وثوابه الجسيم ، والتقرّب إلى نبيّه محمّد وآله عليهم أفضل الصلاة والتسليم ، معترفاً بالقصور عن شَأْو هذا الشأن ، وبأنّ الإنسان محلّ الخطاء والنسيان ، ما خلا الذوات المقدّسة الذين هم أعيان الإنسان ، وأيّ كلام لا يتأتّى عليه كلام؟ حاشا كلام الملك العلام وأنبيائه وأوصيائه عليهم‌السلام.

مع أنّي أرجو ممّن اشتمل على الإنصاف إهابه ، وقلّ في سبيل الحسد ذهابه وقليل ما

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : «للمشتغلين».

٢١

هم أن يحمد منّي ما يجده في مطاويه ، ويشكر سعيي عند وقوفه على دقائق مودعة فيه لا يجدها إذا أرادها في كتاب ، ولا يبتهج بها إلا المتّقون من اولي الألباب ، والله يحقّ الحقّ بكلماته ويُبطل الباطل ولو كره المبطلون.

هذا ، مع تقسّم البال وتقلقل الحال من تراكم أمواج فتن وأهوال ، وعلى الله قصد السبيل وإرشاد الدليل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

اعلم أنّ العلماء رضوان الله عليهم قد استقرّ أمرهم على أن يبتدئوا في مصنّفاتهم بتسمية الله تعالى وتحميده ؛ اقتداءً بخير الكلام ، كلام الملك العلام ، واستدلالاً بأحاديث وردت عن رسوله وآله «، فسلك المصنّف رحمه‌الله هذا النهج القويم ، وقال : (بسم الله الرحمن الرحيم).

وتوهّم التنافي بين مشهوري خبري «البَسْمَلة» و «الحَمْدَ له» اللّذين أحدهما : قوله عليه‌السلام : «كلّ أمرٍ ذي بال لم يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر (١)» والثاني : قوله عليه‌السلام : «كلّ أمرٍ ذي بال لم يُبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم» (٢)» ـ باعتبار أنّ الابتداء بمدلول أحدهما يوجب تأخير الآخر يندفع : بأنّ الابتداء هو التقديم على المقصود الذاتي ، وهو مسائل الفنّ ، والخطبة بأجمعها مقصودة بالعرض ، والمحلّ متّسع ، أو بأنّ الابتداء حقيقيّ وإضافيّ ، فالحقيقيّ حصل بالبَسْمَلَة ، والإضافيّ بالحَمْد لَه ، فهو مبتدأ به بالإضافة إلى ما بعده ، أو بأنّ الحمد هو الثناء بنعوت الكمال ، واسم الله المتعال منبئ عن صفات الإكرام ونعوت الجلال ، فالابتداء بالتسمية يستلزم العمل بالخبرين جميعاً.

والمراد بالأمر ذي البال ما يخطر بالقلب من الأعمال ، جليلةً كانت أم حقيرة ، فإنّ أفعال العقلاء تابعة (٣) لقصودهم ودواعيهم المتوقّفة على الخطور بالقلب.

والأبتر يطلق على المقطوع مطلقاً ، وعلى مقطوع الذنب ، وعلى ما لا عقب ولا نتيجة له ، وعلى ما انقطع من الخير أثره.

والمعنى على الأوّل والأخير أنّ ما لا يبتدأ فيه من الأُمور بالتسمية مقطوع الخير والبركة ، وعلى الثاني يراد به الغاية الحاصلة من البتر ، وهي النقص وتشويه الخلقة ونقص القدر.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٣ ـ ٤ ؛ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٥ ، ذيل الحديث ٧.

(٢) المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٩ : ٧٢ / ١٤١ ؛ سنن أبي داود ٤ : ٢٦١ / ٤٨٤٠ بتفاوت يسير.

(٣) في «م» : تقع تابعة».

٢٢

وفي تخصيص الوصف بالآخر مع أنّ الفائت مع عدم التسمية الأوّل إشارة إلى اعتبار ما لا تسمية فيه في الجملة وإن كان ناقصاً ، بخلاف ناقص الرأس مثلاً ؛ فإنّه لإبقاء له.

والكلام في الثالث نحو الكلام في الأوّل والأخير ؛ فإنّ ما لا نتيجة له ولا عقب ناقص البركة ، مضمحل الفائدة ، منقطع الخير.

والتعبير بالابتداء الصادق على القول والكتابة يدخل فيه ابتداء العلماء بها كتابةً ، وابتداء الصنّاع بها قراءةً ، فسقط ما قيل (١) : إنّه إن أراد بالابتداء القراءة ، لم تكن فيه دلالة على الاجتزاء بالكتابة ، فلا يتمّ تعليلهم ابتداء التصنيف بها ؛ لأنّ الكتابة لا تستلزم القراءة. وإن أُريد الكتابة ، لم يحصل امتثال النجّار ونحوه للخبر حتّى يبتدئ أوّلاً ، فيكتب بسم الله إلى آخره ؛ لاندفاع ذلك بالتعبير بالابتداء على وجهٍ كلّيّ. نعم ، ربما استفيد من القرائن الحاليّة اختصاص كلّ أمرٍ بما يناسبه من فردَي الابتداء ، فلا تكفي الكتابة لمريد النجارة مثلاً.

و «الباء» في «بسم الله» إمّا صلة فلا تحتاج (٢) إلى ما تتعلّق به ، أو للاستعانة أو للمصاحبة (٣) متعلّقة بمحذوف اسم فاعل خبر مبتدإ محذوف ، أي : ابتدائي ثابت باسم الله ، أو فعل (٤) أو حال من فاعل الفعل المحذوف ، أي : ابتدئ متبرّكاً أو مستعيناً ، أو مصدر مبتدإ خبره محذوف ، أي : ابتدائي باسم الله ثابت ، ونحوه. ولا يضرّ على هذا حذف المصدر وإبقاء معموله ؛ لأنّه يتوسّع في الظرف والجارّ والمجرور ما لا يتوسّع في غيرهما ، وتقديم المعمول هنا أوقع ، كما في قوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) (٥) و (إِيّاكَ نَعْبُدُ) (٦) ولأنّه أهمّ وأدلّ على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود.

وإنّما كُسرت الباء ومن حقّ الحروف المفردة أن تُفتح ؛ لاختصاصها بلزوم الحرفيّة والجرّ كما كسرت لام الأمر ولام الجرّ إذا دخلت على المظهر ؛ للفرق بينها وبين لام التأكيد.

و «الاسم» مشتقّ من السمو ، حُذفت الواو من آخره ، وزِيدت همزة الوصل في أوّله ؛

__________________

(١) لم نعثر على القائل.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «لا يحتاج».

(٣) في «ق ، م» : «المصاحبة».

(٤) كلمة «أو فعل» لم ترد في «م».

(٥) هود (١١) : ٤١.

(٦) الفاتحة (١) : ٥.

٢٣

لأنّه من الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون.

وسُمّي اسماً لسموّه ؛ على مسمّاه وعُلوّه على ما تحته من معناه.

وقيل : أصله وسم ، (١) وهو العلامة.

والأوّل أولى ؛ بدليل تصغيره على سُمّي ، وجمعه على أسماء ؛ ولأنّ بينه وبين أصله على الأوّل مناسبة لفظيّة ومعنويّة ، بخلاف الثاني ؛ فإنّها معنويّة فقط.

وإنّما علّق الجارّ على الاسم مع أنّ المعنى إنّما يراد تعلّقه بالمسمّى ؛ للإشعار بعدم اختصاص التعلّق بلفظ «الله» لا غير ؛ لأنّه أحد الأسماء ، وللتحرّر من إيهام القسم ، ولقيام لفظ «الله» مقام الذات في الاستعمال ، ومن ثَمّ يقال : الرحمن ، والرحيم ، وغيرهما اسم من أسماء الله ، ولا ينعكس ؛ ولجريان باقي الأسماء صفة له من غير عكس.

و «الله» اسم للذات الواجب الوجود الخالق لكلّ شي‌ء ، وهو جزئيّ حقيقيّ لا كلّيّ انحصر في فرد ، وإلا لما أفاد قولنا : «لا إله إلا الله» التوحيد ؛ لأنّ المفهوم الكلّيّ من حيث هو محتمل للكثرة.

وعُورض بقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) فإنّ الله لو كان جزئيّاً حقيقيّا ، لما حسن الإخبار عنه بالأحديّة ؛ للزوم التكرار.

ويجاب : بأنّ الجزئي إنّما ينفي الكثرة الخارجيّة والتعدّد الذاتي مثلاً ، وهو مرادف للواحد ، فليس فيه إلا نفي الشريك المماثل مع جواز الكثرة بحسب أجزائه وصفاته ، بخلاف الأحد ؛ فإنّه يقتضي نفي التعدّد والكثرة فيه مطلقاً حتّى في الصفات ، فإنّها اعتبارات ونسب لا وجود لها في الخارج ، كما قال عليّ : عليه‌السلام وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه (٣) سلّمنا ، لكنّ المعارضة إنّما تتمّ لو جعلنا هو ضمير الشأن والله أحد مبتدأً وخبراً في موضع خبر هو وليس ذلك متعيّناً ؛ لجواز كون هو مبتدأً بمعنى المسئول عنه ؛ لأنّهم قالوا : «ربّك من نحاس أم من ذهب؟» (٤)»؟ فعلى هذا يجوز أن يكون الله خبر

__________________

(١) انظر الوسيط ـ للواحدي ـ ١ : ٦٣ ؛ والجامع لأحكام القرآن ١ : ١٠١ ؛ وتهذيب اللغة ١٣ : ١١٧ ، «س م ا».

(٢) الإخلاص (١١٢) : ١.

(٣) نهج البلاغة : ١٤ (الخطبة ١).

(٤) انظر مجمع البيان ٩ ـ ١٠ : ٥٦٤.

٢٤

المبتدأ وأحد بدلاً ، وحينئذٍ فلا يلزم من تساويهما في المعنى انتفاء كونه جزئيّاً حقيقيّا.

و «الرحمن الرحيم» اسمان بُنيا للمبالغة من «رحم» بتنزيله منزلة اللازم ، أو بجَعْله لازماً ونقله إلى فَعُل بالضمّ.

و «الرحمة» لغةً : رقّة القلب وانعطاف يقتضي الإحسان ، فالتفضّل غايتها ، وأسماؤه تعالى ، المأخوذة من نحو ذلك إنّما تؤخذ باعتبار الغاية دون المبدأ ، فالرحمة في حقّه تعالى معناها إرادة الإحسان ، فتكون صفةَ ذات ، أو الإحسان ، فتكون صفةَ فعل ، فهي إمّا مجاز مرسل في الإحسان أو في إرادته ، وإمّا استعارة تمثيليّة بأن مَثّلت حالَه تعالى بحالة مَلِك عَطَفَ على رعيّته ورقّ لهم ، فغمرهم معروفُه ، فأُطلق عليه الاسم وأُريد به غايته التي هي فعل لا مبدؤه الذي هو انفعال.

و «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» لأنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ، كما في «قطع» و «قطّع» و «كبار» و «كبّار».

ونُقض بـ «حَذِر» فإنّه أبلغ من «حاذر».

وأُجيب : بأنّ ذلك أكثريّ لا كلّيّ ، وبأنّه لا تنافي أن يقع في الأنقص زيادة معنى بسببٍ آخر ، كالإلحاق بالأُمور الجبلّيّة كـ «شَرِه» و «نَهم» وبأنّ الكلام فيما إذا كان المتماثلان في الاشتقاق متّحدَي النوع في المعنى ، كـ «غَرِث» و «غَرثان» و «صَدٍ» «صَديان» لا كـ «حَذِر» و «حاذر» للاختلاف.

وإنّما قدّم والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى ، كقولهم : «عالِم نحرير» و «جواد فيّاض ؛ لأنّه صار كالعَلَم من حيث إنّه لا يوصف به غيره ، أو أنّه صفة في الأصل لكنّه صار عَلَماً بالغلبة ، كما اختاره جماعة من المحقّقين.

قال ابن هشام : وممّا يُوضّح أنّه غير صفة : مجيئهُ كثيراً غير تابع ، نحو : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (١) (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (٢) (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) (٣) (٤). انتهى.

__________________

(١) الرحمن (٥٥) : ١ و ٢.

(٢) الإسراء (١٧) : ١١٠.

(٣) الفرقان (٢٥) : ٦٠.

(٤) مغني اللبيب ٢ : ٦٠٢.

٢٥

وفيه : إمكان بناء ذلك على حذف الموصوف وإبقاء الصفة ، كقوله تعالى (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) (١) و (أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) (٢) ويرجّح الأوّل مجازيّة الإضمار ، ويبتنى على عَلَميّته أنّه بدل لا نعت ، وأنّ «الرحيم» بعده نعت له لا للاسم دونه (٣) ؛ إذ لا يتقدّم البدل على النعت.

(الحمد) وهو لغةً : الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم ، فخرج بالجميل الثناءُ على غيره على قول بعضهم : إنّ الثناء حقيقة في الخير والشرّ ، وعلى رأي الجمهور : إنّه حقيقة في الخير فقط ، ففائدة ذِكْر ذلك تحقيق الماهيّة ، أو دفع توهّم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند مُجوّزه من الأُصوليّين.

وبالاختياري المدحُ ، فإنّه يعمّ الاختياري وغيره عند الأكثر. وعلى القول بالأُخوّة بمعنى الترادف يحذف القيد ليعمّ.

و «على جهة التعظيم» يخرج ما كان على جهة الاستهزاء أو السخرية ، (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤) ويتناول الظاهر والباطن ، إذ لو تجرّد عن مطابقة الاعتقاد أو خالفته أفعال الجوارح ، لم يكن حمداً ، بل هو تهكّم أو تمليح ، وهذا لا يقتضي دخول الجوارح والجنان في التعريف ؛ لأنّهما اعتُبرا فيه شرطاً لا شطراً.

ونُقض في عكسه بالثناء على الله تعالى بصفاته الذاتيّة ؛ فإنّها ليست اختياريّةً.

وأُجيب بأنّه يتناولها تبعاً ، أو أنّها منزّلة منزلة أفعال اختياريّة حيث إنّ ذاته اقتضت وجودها على ما هي عليه ، أو أنّها مبدأ أفعال اختياريّة ، فالحمد عليها باعتبار تلك الأفعال ، فالمحمود عليه اختياريّ في المآل ؛ تنزيلاً للمسبّب منزلة السبب ، والكلّ تكلّف.

و «الحمدُ» عرفاً : فعل يُنبئ عن تعظيم المُنْعِمِ من حيث إنّه مُنعم على الحامد أو غيره ، سواء كان باللسان أم بالجنان أم بالأركان.

و «الشكر» لغةً : هو هذا الحمد. وعرفاً : صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى

__________________

(١) سبأ (٣٤) : ١١.

(٢) الحديد (٥٧) : ٢٥.

(٣) في «ق ، م» بدل «لا للاسم دونه» : «لا لاسم الله».

(٤) الدخان (٤٤) : ٤٩.

٢٦

ما خلق لأجله.

و «المدح» لغةً : الثناء باللسان على الجميل مطلقاً على جهة التعظيم. وعرفاً : ما يدلّ على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل ، فبين كلّ من الستّة والبقيّة نسبة : إمّا تباين كالحمد اللغوي لا بالنظر إلى شرطه ، والمدح اللغوي مع الشكر العرفي ؛ لصدقهما بالثناء باللسان فقط ، والشكر إنّما يصدق بذلك مع غيره ، أو تساوٍ كالحمد العرفي مع الشكر اللغوي ، أو عموم وخصوص مطلق كالحمد اللغوي مع كلّ من المدحين ؛ لصدقه بالاختياري فقط ، وصدقهما به وبغيره ، أو مع الشكر العرفي بالنظر إلى شمول متعلّق الحمد لله تعالى ولغيره ، واختصاص متعلّق الشكر به تعالى ، وكالشكر اللغوي مع الشكر العرفي ؛ لصدقه بالنعمة فقط ، وصدق العرفي بها وبغيرها ، وكذا بين المدحين وبين الحمد والشكر العرفيّين ، وبين الشكر والمدح كذلك ، وبين الحمد والمدح كذلك ، وبين الشكر اللغوي والمدح العرفي ، أو عموم من وجه كالحمد اللغوي مع العرفي ؛ لصدقهما بالثناء باللسان في مقابلة نعمة ، وانفراد اللغوي ؛ لصدقه بذلك في غيرها ، والعرفي ؛ لصدقه بغير اللسان ، فمورده أعمّ ، ومتعلّقه أخصّ ، واللغوي عكسه ، أو مع الشكر اللغوي كذلك ، وكالحمد العرفي والشكر اللغوي مع المدح اللغوي ؛ لاجتماعهما معه في الثناء باللسان على النعمة ، وانفرادهما عنه ؛ لصدقهما بغير اللسان ، وانفراده عنهما ؛ لصدقه بغير النعمة ، فمورده أخصّ ، ومتعلّقه أعمّ ، وهُما بالعكس.

واعلم أنّ نقيض الحمد الذمُ ، والشكرِ الكفرانُ ، والمدحِ الهجوُ ، والثناءِ النثاءُ بتقديم النون.

(لله) الجار والمجرور ظرف مستقرّ مرفوع المحلّ على أنّه خبر لقوله : «الحمد» وهو في الأصل ظرف لغوٍ لَهُ ؛ لأنّه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة ، كقولهم : «شكراً» و «كفراً» فكان في الأصل أحمد حمداً لله ، وإنّما عدل عن النصب إلى الرفع ليدلّ على ثبات المعنى واستقراره.

ومنه قوله تعالى (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) (١) فزاد إبراهيم عليه‌السلام تحيّته بالرفع ؛ لتكون أحسن.

__________________

(١) هود (١١) : ٦٩.

٢٧

واللام في «الحمد» للاستغراق عند الجمهور. وللجنس عند الزمخشري (١) ، ولا فرق هنا ؛ لأنّ لام «لله» للاختصاص ، فلا فرد منه لغيره ، وإلا لوُجد الجنس في ضمنه ، فلا يكون الجنس مختصّاً به. وللحقيقة عند بعضهم بمعنى أنّ حقيقة الحمد وطبيعته ثابتة لله. وللعهد عن آخرين. وأجازه الواحدي (٢) بمعنى أنّ الحمد الذي حَمِد الله به نفسه وحَمِدَه به أنبياؤه وأولياؤه مختصّ به ، والعبرة بحَمْد مَنْ ذُكر.

وإنّما قدّم الحمد ؛ لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به وإن كان ذكر الله أهمّ في نفسه ؛ ولأنّ فيه دلالةً على اختصاص الحمد به. وجملة الحمد خبريّة لفظاً ، إنشائيّة معنىً ؛ لحصول الحمد بالتكلّم بها ، ويجوز أن تكون موضوعةً شرعاً للإنشاء.

(المتفرّد) بالتاء المثنّاة من فوق ، والراء المشدّدة بعد الفاء. ويحتمل على ضعفٍ أن تكون بالنون مع تخفيف الراء.

وإنّما رجّح الأوّل ؛ ليناسب مفتتح بقيّة الفقرات ، كـ «المتنزّه» و «المتفضّل» و «المتطوّل ؛ ولأنّه يقتضي المبالغة في الوصف ؛ لما مرّ من أنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى.

(بالقِدَم) الذاتي فلا أوّل لوجوده ، ولا يشركه فيه شي‌ء ، وهذا الوصف يستدعي كمال قدرته وعلمه ؛ لأنّ مشاركة غيره له فيه موجبة لواجبيّته المنافية لذلك ، ويندرج فيه باقي الصفات الثبوتيّة لزوماً.

وفيه تكذيب للقائل بِقدَم الأجسام السمائيّة ، كأرسطو ، وللقائل بأنّ مادّة العالم قديمة ، كسقراط ، على اختلافٍ في تلك المادّة.

(والدوام) الذاتي ، فلا آخر لوجوده ، ولا يشركه فيه شي‌ء.

والتقييد بالذاتي يخرج أهل الجنّة ؛ فإنّهم يشاركونه فيه ، لكن دوامهم ليس ذاتيّاً ، وهذا القيد من لوازم صفاته تعالى وإن لم يصرّح به ؛ فإنّها أُمور اعتباريّة ، ومرجعها حقيقةً إلى الذات المقدّسة.

وربما يقال في دفع المشاركة أيضاً : إنّ المراد انفراده تعالى بالقِدَم والدوام معاً بجعل الواو بمعنى «مع» وأهل الجنّة لا يشاركونه في الأُولى. والأوّل أولى.

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٩ ـ ١٠.

(٢) انظر : الوسيط ـ للواحدي ـ ١ : ٦٥ ـ ٦٦.

٢٨

وأولويّة تقديم هذه الفقرة على ما بعدها مبنيّة على أشرفيّة الصفات الثبوتيّة على السلبيّة بناءً على أنّها وجوديّة ؛ والوجود أشرف من العدم.

وفيه بحث في محلّ يليق به ، ولا يخفى خلوّ افتتاح المقال من براعة الاستهلال.

(المتنزّه) من النزاهة بفتح النون وهي البُعْد ، أي المتباعد (عن مشابهة الأعراض والأجسام ؛ لحدوثهما والله تعالى قديم واجب الوجود ، كما برهن عليه في محلّه.

وتعبيره بالبُعْد عن المشابهة كناية عن نفي المشابهة أصلاً ، لا أنّ بينهما مشابهةً بعيدة ، وهذه قاعدة معروفة من قواعد العرب يعبّرون بهذا وما جرى مجراه ، ومرادهم بذلك المبالغة في النفي وتأكيده.

ومن القاعدة قولهم : فلان بعيد عن الخنا (١) وغير سريع إليه.

قال المرتضى رضي‌الله‌عنه : يريدون أنّه لا يقرب الخنا ، لا نفي الإسراع إليه حسب. (٢).

وهكذا القول في البُعْد عن المشابهة في كلام المصنّف يراد به عدمها أصلاً ، لا حصولها على بُعْدٍ.

قال رحمه‌الله : ومنها : قوله تعالى (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٣) (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (٤) و (لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً.) (٥).

ومن كلامهم : فلان لا يرجى خيره ، وليس مرادهم أنّ فيه خيراً لا يرجى ، وإنّما غرضهم أنّه لا خير عنده على وجه من الوجوه.

وقول بعضهم :

لا تُفْزِعُ الأرْنَبَ أهوالُها

ولا ترى الضبّ بها يَنْجَحِر

أراد ليس بها أهوال تفزع الأرنب ، ولا ضبّ بها فينجحر.

وقول الآخر :

من أُناس ليس في أخلاقهم

عاجلُ الفحش ولا سوءُ الجَزعْ

__________________

(١) الخنا : الفحش. لسان العرب ١٤ : ٢٤٤ ، «خ ن ا».

(٢) أمالي السيّد المرتضى ١ : ٢٣٠.

(٣) الرعد (١٣) : ٢.

(٤) البقرة (٢) : ٤١.

(٥) البقرة (٢) : ٢٧٣.

٢٩

لم يرد أنّ في أخلاقهم فحشاً آجلاً ولا جزعاً غير سيّ‌ء ، وإنّما أراد نفي الفحش والجزع عن أخلاقهم. (١)

ونظائر ذلك كثيرة في كلامهم.

وفي هذه الفقرة إشارة إلى سائر صفاته السلبيّة إجمالاً.

(المتفضّل) أي : المحسن ، (٢) ، ومجيئُهُ بصيغة التفعّل مبالغة فيه ، كما سبق.

(بسوابغ الأنعام) أي بالأنعام السوابغ ، وأضاف الصفة إلى موصوفها مراعاةً للفاصلة ، وجرى في ذلك على مذهب الكوفيّين ، كـ «جرد قطيفة» و «أخلاق ثياب» وعند المانعين من إضافة الصفة إلى الموصوف يُؤوّل هنا بما أُوّل به تلك الأمثلة بأنّهم حذفوا الأنعام هنا حتى صارت السوابغ كأنّها اسم غير صفة ، فلمّا قصدوا تخصيصه بكونه صالحاً لأن يكون للأنعام وغيرها مثل خاتم في كونه صالحاً لأن يكون فضّةً وغيرها أضافوه إلى جنسه الذي يتخصّص به ، كما أضافوا خاتماً إلى فضّة ، فليس إضافته إليها من حيث إنّه صفة لها ، بل من حيث إنّه جنس مبهم أُضيف إليها ليتخصّص ، وعلى هذا القياس نظائر ذلك. (٣).

والسوابغ جمع كثرةٍ لـ «سابغة» وهي التامّة الكاملة. قال الجوهري : يقال : شي‌ء سابغ ، أي : كامل وافٍ ، وسبغت النعمة تسبغ بالضمّ سبوغاً ، أي اتّسعت. وأسبغ الله عليه النعمة ، أي : أتمّها ، ومنه إسباغ الوضوء : إتمامه. (٤).

والأنعام جمع قلّة لـ «نعمة» وهي لغةً : اليد والصنيعة والمنّة. وعرفاً هي : المنفعة الحسنة الواصلة إلى الغير على جهة الإحسان إليه ، وهي إمّا : ظاهرة أو باطنة ، قال الله تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٥) وربما تخصّ الباطنة باسم الآلاء. والعموم هنا أبلغ.

(المتطوّل) من الطّوْل بالفتح وهو المنّ ، يقال : طال عليه وتطوّل عليه : إذا امتنّ عليه ، (٦) ، أي : الممتنّ (بالفواضل) جمع «فاضلة» وهي الإحسان.

وأبلغ في وصفه مع إتيانه بجمع الكثرة بقوله : (الجسام) بالكسر ، أي : العظام ، جمع

__________________

(١) أمالي السيّد المرتضى ١ : ٢٢٨ ـ ٢٣٠.

(٢) في «م» زيادة : «وأيّ إحسان».

(٣) في الطبعة الحجريّة بدل «ذلك» : «كثيرة».

(٤) الصحاح ٤ : ١٣٢١ ، «س ب غ».

(٥) لقمان (٣١) : ٢٠.

(٦) في «ق» زيادة : قاله الجوهري. أنظر : الصحاح ٥ : ١٧٥٥ ، «ط ول».

٣٠

جسيم ، يقال : جسُم الشي‌ء ، أي : عظم ، فهو جسيم وجُسام بالضمّ.

وإنّما ترك ذكر المتفضّل والمتطوّل عليه ؛ لكون الغرض إثبات الوصف له على الإطلاق ، ثمّ مقام الخطابة يفيد العموم في أفراد مَنْ يصلح تعلّقه به ، أو للاختصار مع إرادة التعميم ، كما تقول : قد كان منك ما يؤلم ، أي : كلّ أحد ، ومنه قوله تعالى (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) (١) أي : يدعو كلّ أحد ، أو لمجرّد الاختصار ، كقولك : أصغيت إليه ، أي : اذني ، ومنه قوله تعالى (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) أي : إلى ذاتك ، وقوله تعالى (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٣) أي : بعثه الله ، أو لغير ذلك ممّا هو مقرّر في محلّه من فنّ المعاني.

(أحمده) بفتح الميم ؛ لأنّ ماضيه «حمِد» بكسرها ، كعَلِم يعلَم ، وما في قوله : (على ما) موصولة ، وصلتها (فضّلنا) والعائد على الموصول الهاء في (به) و «من» في قوله : (من الإكرام) لبيان الجنس.

وأشار بذلك إلى قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) إلى قوله (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٤).

والذي كرم به بنو آدم على ما اختاره محصّلو المفسّرين : القوّة والعقل والنطق والعلم والحكمة وتعديل القامة والأكل باليد ، وتسليطهم على غيرهم ، وتسخير سائر الحيوانات لهم ، وأنّهم يعرفون الله ، وأن جَعَل محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم ، وغير ذلك من النعم التي خُصّوا بها.

ويحتمل أن يريد المصنّف ما هو أخصّ من ذلك ، وعلى هذا يجوز كون «من» تبعيضيّةً ، لكنّ الأوّل أمتن وأبدع.

(وأشكره على جميع الأقسام) أي : الأحوال ؛ لأنّه تعالى في جميع الحالات لا يفعل إلا لغرضٍ تعود مصلحته على العبد ، فيستحقّ الشكر على جميعها.

وهاتان الفقرتان وإن كانتا خبريّتين لفظاً لكنّهما إنشائيّتان معنىً ، فإنّ الإنشاء أكثر فائدةً وأعم نفعاً وأقوى حمداً وشكراً.

__________________

(١) يونس (١٠) : ٢٥.

(٢) الأعراف (٧) : ١٤٣.

(٣) الفرقان (٢٥) : ٤١.

(٤) الإسراء (١٧) : ٧٠.

٣١

ولمّا فرغ من حمد الله والثناء عليه بما هو أهله توسّل في تحصيل مرامه بالدعاء للأرواح المقدّسة المتوسّطة بين النفوس الناقصة المنغمسة في الكدورات البشريّة ، وبين المبدإ الفيّاض المتنزّه عن شوائب النقص في استفادة العنايات والأنوار منه وإفاضتها عليها بقوله : (وصلّى الله) من الصلاة المأمور بها في قوله تعالى (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) (١).

وكان الأحسن أن تقرن الصلاة عليه بالسلام ، كما يقتضيه ظاهر الآية ، لكنّ أصحابنا جوّزوا أن يراد بقوله (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) أي : انقادوا لأمره انقياداً ، كما في قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) إلى قوله (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣) فلذلك سهل الخطب عندهم في إفراد الصلاة عن السلام وإن احتمل أن يراد به التحيّة المخصوصة ؛ لعدم تحتّم ذلك.

والصلاة : الدعاء من الله وغيره ، لكنّها منه مجاز في الرحمة ، كما قال بعضهم. وقال آخرون : هي منه الرحمة.

ويرجّح الأوّل أنّ المجاز خير من الاشتراك ، وقوله تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (٤) فإنّ العطف يقتضي المغايرة. وربما يرد هذا على الأوّل أيضاً ، لكن يمكن دفعه بأنّ التصريح بالحقيقة بعد إرادة المجاز يفيد تقوية المدلول المجازيّ ، ولجأ بعضهم إلى أنّها من الله تعالى بمعنى الرضوان حذراً من ذلك.

والأولى في الجواب عن ذلك : المنع من اختصاص العطف بلزوم المغايرة ؛ فإنّ من أنواع «الواو» العاطفة عطف الشي‌ء على مرادفه ، كما ذكره ابن هشام في المغني (٥). وذَكَر من شواهده قوله تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (٦) وقوله تعالى (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (٧) ونحو (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٨) وقوله عليه‌السلام : صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لِيَلِيني منكم ذوو الأحلام والنهى» (٩).

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٥٦.

(٢) الأحزاب (٣٣) : ٥٦.

(٣) النساء (٤) : ٦٥.

(٤) البقرة (٢) : ١٥٧.

(٥) مغني اللبيب ١ : ٤٦٧.

(٦) البقرة (٢) : ١٥٧.

(٧) يوسف (١٢) : ٨٦.(٨) طه (٢٠) : ١٠٧.

(٩) سنن ابن ماجة ١ : ٣١٢ ـ ٣١٣ / ٩٧٦ ؛ سنن أبي داود ١ : ١٨٠ / ٦٧٤ ؛ سنن النسائي ٢ : ٧٨ ؛ سنن الدارمي ١ : ٢٩٠ ؛ سنن البيهقي ٣ : ١٣٧ ، ذيل ح ٥١٦١ ؛ المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٨ ؛ مسند أحمد ٥ : ١٠٢ / ٦٦٥٣ باختلاف يسير.

٣٢

وقول الشاعر :

وألفى قولها كذباً ومَيْناً (١)

وهذه الجملة إنشائية معنىً ؛ لأنّ الدعاء كلّه من قبيل الإنشاء ، ووقوعه بصيغة المضي ؛ للتفاؤل بحصول المسئول والحرص على وقوعه ، كما قرّر في المعاني ، ولمناسبة المقام ، فلا إشكال في عطفها على ما قبلها من هذا الوجه.

نعم ، تخالف جملة الحمد الاولى في كونها فعليّةً. وفي عطفها على الاسميّة كلام ، والحقّ جوازه وإن كان مرجوحاً ، ولو جُعلت الواو للاستئناف صحّ أيضاً إلا أنّه لا ضرورة إليه.

(على سيّدنا محمّد) عطف بيان على «سيّدنا» أو بدل منه على ما اختاره ابن مالك (٢) من أنّ نعت المعرفة إذا تقدّم عليها أُعرب بحسب العوامل ، وأُعيدت المعرفة بدلاً ، وصار المتبوع تابعاً ، كقوله تعالى (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ) (٣) على قراءة الجرّ.

و «محمد» عَلَم منقول من اسم المفعول المضعّف للمبالغة ، سُمّي بِه نبيّنا عليه الصلاة والسلام ؛ إلهاماً من الله تعالى ؛ وتفؤلاً بأنّه يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله الحميدة.

وقال الجوهري : المحمّد : الذي كثرت خصاله المحمودة (٤).

وقد ورد أنّه قيل لجدّه عبد المطلب وقد سمّاه في سابع ولادته لموت أبيه قبلها : لِمَ سمّيْتَ ابنك محمداً وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ قال : رجوت أن يُحْمد في السماء والأرض (٥). وقد حقّق الله رجاءه.

(النبي‌ء) بالهمز من النبإ ، وهو الخبر ؛ لأنّ النبيّ مُخبر عن الله تعالى ، ويجوز ترك الهمز وهو الأكثر إمّا تخفيفاً من المهموز بقلب همزته ياءً ، وإمّا لأنّ أصله من النّبوة بفتح النون وسكون الباء ، أي : الرفعة ؛ لأنّ النبيّ مرفوع الرتبة على غيره من الخلق.

__________________

(١) عجز بيت لعدي بن زيد العبادي من شعراء الجاهليّة ، وصدره :

فقدّدت الأديم لراهشيه

.........................

مغني اللبيب ١ : ٤٦٧ ؛ الصحاح ٦ : ٢٢١٠ ؛ لسان العرب ١٣ : ٤٢٥ ، «م ى ن».

(٢) حاشية الصبّان على شرح الاشموني على الفيّة ابن مالك ٣ : ٧٢.

(٣) إبراهيم (١٤) : ١ و ٢.

(٤) الصحاح ٢ : ٤٦٦ ، «ح م د».

(٥) البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٢ : ٣٢٥.

٣٣

وهو إنسان أوحى إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه ، فإن أُمر بذلك فرسول أيضاً.

وقيل : وأُمر بتبليغه وإن لم يكن له كتاب أو نَسْخ لبعض شَرع مَنْ قبله ، فإن كان له ذلك فرسول أيضاً. (١) فهارون رسول ، على الأوّل دون الثاني ، ويوشع غير رسولٍ ، عليهما.

وقيل : إنّهما بمعنى (٢).

وإطلاق الرسول على المَلَك غير مستعمل هنا ، فعموم الرسول من هذه الجهة غير مراد.

(المبعوث) أي : المرسل (إلى الخاصّ) وهُم أهله وعشيرته ، أو العلماء ، أو مَنْ كان في زمانه (والعامّ) وهو في مقابلة الخاصّ بالاعتبارات الثلاثة ، وهي مترتّبة في القوّة ترتّبها في اللفظ.

(وعلى عترته) وهُم الأئمّة الاثنا عشر ، وفاطمة «.

قال الجوهري : عترة الرجل : نسله ورهطه الأدنون (٣). فيدخل في الأوّل مَنْ عدا عليّ عليه‌السلام ، ويدخل هو في الثاني.

(الأماجد) جمع أمجد ؛ مبالغة في ماجد. يقال : مجُد الرجل بالضمّ ، فهو مجيد وماجد ، أي : كرم.

(الكرام) قال ابن السكّيت : الشرف والمجد يكونان في الآباء ، يقال : رجل شريف ماجد : له آباء متقدّمون في الشرف.

قال : والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء لهم شرف (٤).

(أمّا بعد) ما سبق من الحمد والصلاة. وآثر هذه الكلمة ؛ للأحاديث الكثيرة أنّ رسول اللهُ يقولها في الخُطبة وشبهها ، رواه عنه اثنان وثلاثون صحابيّاً. وفيه (٥) إشارة إلى الباعث على التصنيف ، كما هو دأبهم.

و «أمّا» كلمة فيها معنى الشرط ، والتقدير : مهما يكن من شي‌ء بعد الحمد والصلاة فهو كذا ، كما نصّ عليه سيبويه (٦) ، ولذلك كانت الفاء لازمةً لها.

__________________

(١) أنظر الكشّاف ٣ : ١٦٤ ؛ والتفسير الكبير ـ للرازي ـ ١٢ : ٥٠.

(٢) مجمع البيان ٧ ـ ٨ : ٩١.

(٣) الصحاح ٢ : ٧٣٥ ، «ع ت ر».

(٤) نقله عنه الجوهري في الصحاح ٢ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، «م ج د».

(٥) قوله : «ما سبق من الحمد .. وفيه» لم يرد في «م».

(٦) كما في شرح ابن عقيل ٢ : ٣٩٠.

٣٤

قال الشيخ الرضي رحمه‌الله :

أصل «أمّا زيد فقائم» مهما يكن من شي‌ء فزيد قائم ، أي إن يقع في الدنيا شي‌ء يقع قيام زيد ، فهذا جزم بوقوع قيامه وقطع به ؛ لأنّه جعل حصول قيامه لازماً لحصول شي‌ء في الدنيا وما دامت الدنيا ، فلا بدّ من حصول شي‌ء فيها.

ثمّ لمّا كان الغرض الكلّي من هذه الملازمة المذكورة لزوم القيام لزيدٍ حُذف الملزوم الذي هو الشرط ، أعني «يكن من شي‌ء» وأُقيم ملزوم القيام وهو زيد مقام ذلك الملزوم ، وبقي الفاء بين المبتدأ والخبر ؛ لأنّ فاء السببيّة ما بعدها لازم لما قبلها ، فحصل لهم من حذف الشرط وإقامة بعض الجزاء موقعه شيئان مقصودان ، أحدهما : تخفيف الكلام بحذف الشرط ، والثاني : قيام ما هو الملزوم حقيقة في قصد المتكلّم مقام الملزوم في كلامهم ، أعني الشرط ، وحصل أيضاً من قيام بعض الجزاء موضع الشرط ما هو المتعارف من شغل حيّز واجب الحذف بشي‌ء آخر ، وحصل أيضاً بقاء الفاء متوسّطةً في الكلام كما هو حقّها (١). انتهى.

وإنّما حكيناه ملخّصاً مع طوله ؛ لعظم قدره ومحصوله.

و «بعد» من الظروف الزمانيّة ، وكثيراً ما يحذف منه المضاف إليه وينوى معناه. وتُبنى على الضمّ. ويجوز في ضبطها (٢) هنا أربعة أوجه : ضمّ الدال ، وفتحها ، ورفعها منوّنةً ، وكذا نصبها. ومجموع الكلمتين يُسمّى بفصل الخطاب.

وقد اختلف فيمن تكلّم (٣) بهذه الكلمة أوّلاً ، فقيل : داوُد عليه‌السلام (٤) وقيل (٥) نبيّنا محمّدُ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : عليّ عليه‌السلام (٦). وقيل : قُسّ بن ساعدة (٧). وقيل : كعب بن لُؤيّ (٨). وقيل : يَعْرب بن قحطان (٩). وقيل : سحبان بن وائل (١٠). ولا فائدة مهمّة في هذا الخلاف.

__________________

(١) شرح الكافية في النحو ٢ : ٣٩٦.

(٢) في «م» : «وفي تجويز ضبطها» بدل «ويجوز في ضبطها».

(٣) في «م» : «في المتكلّم» بدل «فيمن تكلّم».

(٤) الأوائل ـ للعسكري ـ : ٤٥ ؛ الأوائل ـ للطبراني ـ : ٦٨ / ٤٠ ؛ الأوائل ـ لابن أبي عاصم النبيل ـ : ٦٧ / ١٩١ ؛ الوسائل إلى مسامرة الأوائل : ٢١ / ١١٧ ؛ الجامع لأحكام القرآن ١٥ : ١٦٢.

(٥) لم نعثر على القائل فيما بين أيدينا من المصادر.

(٦) كما في كشف الالتباس ١ : ٧.

(٧) الأوائل ـ للعسكري ـ : ٤٥ ؛ الوسائل إلى مسامرة الأوائل : ٢١ / ١١٨ ؛ الأغاني ١٥ : ٢٤٦.

(٨) الوسائل إلى مسامرة الأوائل : ٢١ / ١١٩.

(٩) الوسائل إلى مسامرة الأوائل : ٢١ / ١١٩.

(١٠) خزانة الأدب ١٠ : ٣٦٩.

٣٥

(فإنّ الله سبحانه كما أوجب على الولد طاعة أبويه) بقوله (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) (١) ونظائرها.

والمراد بالأبوين : الأب والأُمّ ، وجمعهما باسم أحدهما ؛ تغليباً ومراعاةً لجانب التذكير ، كما يراعى جانب الأخفّ مع التساوي فيه ، كالحسنين والعمرين ، ولو تساويا خفّةً وثقْلاً ، جاز جمعهما باسم أيّهما كان ، كالكسوفين والظهرين.

(كذلك أوجب عليهما) أي على الأبوين (الشفقة عليه بإبلاغ مراده) حذف المفعول في الإبلاغ إيجازاً ومبالغةً وتفخيماً لشأن المريد ، أي بإبلاغه مراده (في الطاعات وتحصيل مآربه) جمع إرب. وفيه خمس لغات ، وهي : الحاجة (من القُرُبات) واحدها قُربة ، وهي ما يطلب بها التقرّب إلى الله تعالى قرب الشرف لا الشرف.

(ولمّا) حرف وجود لوجود ، وعند جماعة (٢) ظرف بمعنى «حين» أو بمعنى «إذ» استعمل استعمال الشرط ، يليه فعل ماضٍ مقتضٍ جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود الأُولى ، والفعل الماضي هنا قوله (كثر طلب الولد العزيز) وهو هنا «الكريم» تقول : عززتُ على فلان : إذا كَرُمتَ عليه (محمّد) بدل من الولد ، أو عطف بيان عليه.

(أصلح الله له أمر دارَيْه) دنياه وآخرته (ووفّقه للخير) التوفيق : جَعْل الأسباب متوافقة ، وحاصله توجيه الأسباب بأسرها نحو المسبّبات ، ويقال : هو اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع (وأعانه عليه ، وأمدّ) أي : أمهل وطوّل (له في العمر السعيد) أي : الميمون ، خلاف النحس.

وإذا كان الوصف للإنسان ، قابلَ الشقيّ ، لكن يختلف فيهما الفعل الماضي ، فإنّه في الأوّل مفتوح العين ، وفي الثاني مكسورها ، قاله الجوهري. (٣).

(والعيش الرغيد) أي : الطيّب الواسع ، يقال : عيشَة رَغد ورَغَد : أي طيّبة واسعة.

(لتصنيف) متعلّق بـ «طلب» والتصنيف جَعل الشي‌ء أصنافاً ، وتمييز بعضها من بعض.

(كتاب) فعال من الكَتب ، وهو الجمع بمعنى المكتوب ، إلا أنّه خصّ استعماله بما فيه كثرة المباحث.

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٨ ؛ لقمان (٣١) : ١٤ ؛ الأحقاف (٤٦) : ١٥.

(٢) أنظر : مغني اللبيب ١ : ٣٦٩.

(٣) الصحاح ٢ : ٤٨٧ ، «س ع د».

٣٦

(يحوي النكت) جمع نكتة ، وهي الأثر في الشي‌ء يتميّز به بعض أجزائه عن بعض ، ويوجب له التفات الذهن إليه ، كالنقطة في الجسم والأثر فيه الموجب للاختصاص بالنظر ، ومنه رُطَبَة مُنكِتة : إذا بدا إرطابها ، ثمّ عُدّي إلى الكلام والأُمور المعقولة التي يختصّ بعضها بالدقّة الموجبة لمزيد العناية والفكر فيها ، فيسمّى ذلك البعض نكتة.

(البديعة) وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، وهي : الفعل على غير مثالٍ ، ثمّ صار يستعمل في الفعل الحسن وإن سُبق إليه مبالغةً في حسنه ، فكأنّه لكمال حسنه لم يسبق إليه.

(في مسائل) جمع مسألة ، وهي القول من حيث إنّه يُسأل عنه ، ويسمّى ذلك القول أيضاً مبحثاً من حيث إنّه يقع فيه البحث ، ومطلوباً من حيث يطلب بالدليل ، ونتيجةً من حيث يستخرج بالحجّة ، ومدّعىً من حيث إنّه يدّعى ، فالمسمّى واحد وإن اختلفت العبارات باختلاف الاعتبارات.

(أحكام) واحدها : حكم ، وهو بإضافته إلى (الشريعة) خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

ويدخل في الاقتضاء ما عدا المباح من الأحكام الخمسة ، ويدخل هو في التخيير ، وفي الوضع : السبب والشرط والعلّة والمانع وغيرها من الأحكام الوضعيّة ، وبسطه في محلّه.

و «الشريعة» فعيلة بمعنى مفعولة : ما شرعه الله لعباده من الدين.

وفي بعض النسخ : «في مسائل الشريعة» بغير توسّط الأحكام.

(على وجه الإيجاز والاختصار) والمعنى واحد ، وهو : أداء المقصود بأقلّ من العبارة المتعارفة بين الأوساط الذين ليسوا في مرتبة البلاغة ولا في غاية الفهاهة. (١).

(خالٍ عن التطويل والإكثار) وهُما أيضاً بمعنى ، وهو : أداء المعنى المقصود بلفظ أزيد من المتعارف بين مَنْ ذُكر ، وليس مطلق التطويل والإطناب واقعاً على وجه ينبغي العدول عنه ، بل مع خلوّه من النكتة والفائدة الموجبة له حسب مقتضى الحال ، وإلا فقد يكون مقتضى البلاغة استعماله ، كما قرّر في محلّه.

ولمّا كان الغرض من التصنيف إيصال المعنى إلى فهم المكلّف كان التطويل زيادةً على ما تحصل به التأدية خالياً عن البلاغة ، فلا جرم حسُن خُلوّ الكتاب من الإطناب.

__________________

(١) الفهّة والفهاهة : العيّ. الصحاح ٦ : ٢٢٤٥ ، «ف ه ه».

٣٧

(فأجبت) جواب «لمّا» أي : كان ما تقدّم سبباً لإجابة (مطلوبه) وفي جَعل المجاب هو المطلوب ضرب من التعظيم للمجاب.

(وصنّفت هذا الكتاب) و «هذا» إشارة إلى المدوّن في الخارج ، ويناسبه قوله : «فأجبت وصنّفت» فتكون الديباجة بعد التصنيف ، أو إلى المرتّب الحاضر في الذهن.

والإتيان بصيغة الماضي ؛ تفؤّلاً بلفظه على أنّه من الأُمور الحاصلة التي من حقّها أن يخبر عنها بأفعال ماضية ، أو لإظهار الحرص على وقوعه ؛ لأنّ الإنسان إذا عظمت رغبته في شي‌ء كثر تصوّره إيّاه ، فيورده بلفظ الماضي تخييلاً لحصوله. ومن هذا القبيل الدعاء بلفظ الماضي مع أنّه من قبيل الإنشاء ، كما هو مقرّر في المعاني.

والتحقيق أنّه إشارة إلى المرتب الحاضر في الذهن ، سواء كان وضع الديباجة قبل التصنيف أم بعده ؛ إذ لا حضور للألفاظ المرتّبة ولا لمعانيها في الخارج.

وتوضيح ذلك أنّ الكتاب المؤلّف لا يخلو إمّا أن يكون عبارةً عن الألفاظ المعيّنة أي العبارات التي من شأنها أن يلفظ بها الدالّة على المعاني المخصوصة ، وهو الظاهر ، وإمّا عن النقوش الدالّة عليها بتوسّط تلك الألفاظ ، وإمّا عن المعاني المخصوصة من حيث إنّها مدلولة لتلك العبارات أو النقوش ، فهذه ثلاثة احتمالات بسيطة وتتركّب منها ثلاثة أُخرى (١) ثنائيّة ، ورابع ثلاثي ، فالاحتمالات سبعة.

وأنت خبير بأنّه لا حضور في الخارج للألفاظ المرتّبة ولا لمعانيها ولا لما يتركّب منهما ولا لما يتركّب من النقوش معهما أو مع أحدهما ، وهذا كلّه واضح.

وأمّا النقوش الدالّة على الألفاظ فيحتمل أن يشار إليها بذلك. لكن فيه أنّ الحاضر من المنقوش لا يكون إلا شخصاً ، ولا ريب في أنّه ليس المراد تسمية ذلك الشخص باسم الكتاب ، بل تسمية نوعه ، وهو النقش الكتابي الدالّ على تلك الألفاظ المخصوصة بإزاء المعاني المخصوصة أعمّ من أن يكون ذلك الشخص أو غيره ممّا يشاركه في ذلك المفهوم ، ولا حضور لذلك الكلّي في الخارج ، فالإشارة إلى الحاضر المرتّب في الذهن أصوب على جميع التقديرات ، فكأنّه نزّل العبارات الذهنيّة التي أراد كتابتها منزلة الشخص المشاهد المحسوس ، فاستعمل لفظ «هذا» الموضوع لكلّ مشار إليه محسوس.

__________________

(١) في «ق ، م» : «احتمالات أخرى».

٣٨

(الموسوم) أي المسمّى ، يقال : وسمت الشي‌ء وَسماً وسِمَةً ، إذا أثّرت فيه أثراً. والهاء عوض من الواو ، ولمّا كانت السمة علامةً والاسم علامةً على مسمّاه اشتقّ له منه لفظ ، وهو أحد القولين في الاسم (بإرشاد الأذهان) جمع ذهن ، وهو قوّة للنفس مُعدّة لاكتساب الآراء (إلى أحكام الإيمان) المراد به هنا مذهب الإماميّة دامت بركاتهم (مستمدّاً) حال من الضمير في «صنّفت» أي : صنّفت هذا الكتاب في حال (١) كوني مستمدّاً (من الله حسن التوفيق) وقد تقدّم تعريفه (وهداية الطريق) إليه سبحانه.

والمراد بها الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب.

وقيل : الدلالة الموصلة إلى المطلوب (٢).

ويؤيّد الأوّل (إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣).

ويرد عليه (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٤) وعلى الثاني (وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٥).

وأُجيب عن الإيراد الأوّل بأنّ الهداية المنفيّة في الآية محمولة على الفرد الكامل ، وهو ما يكون موصلاً بالفعل لمن له الهداية ، أو يقال : الآية من قبيل (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٦) في تنزيل وجود الشي‌ء منزلة عدمه ؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا لم يكن مستقِلا بالهداية والدلالة ، بل دلالته بإقدار الله تعالى وتمكينه وتوفيقه فكأنّه ليس بهادٍ ، بل الهادي هو الله تعالى ، والحاصل يرجع إلى نفي الاستقلال في الهداية.

وأُورد عليه : بأنّه يلزم أنّ مَنْ يكون عارفاً بالشريعة ، متقاعداً عن العمل بمقتضاها مُهتدٍ ، وليس كذلك.

وأُجيب : بالتزام أنّه مُهتدٍ بالمعنى اللغوي ، أو مُهتدٍ بالنسبة إلى العلم وضالّ بالنسبة إلى مطلوبٍ آخر ، وهو نيل الثواب والفوز بالسعادة الأُخرويّة حيث لم يعمل بمقتضى علمه ، فيصدق الاسمان بالحيثيّتين.

وقد اتّسع مسلك الكلام بين العلماء الأعلام من الجانبين ، ولا يبعد القول بالاشتراك ،

__________________

(١) في الطبعة الحجريّة : «حالة».

(٢) الكشّاف ١ : ٣٥.

(٣) الشورى (٤٢) : ٥٢.

(٤) القصص (٢٨) : ٥٦.

(٥) فصّلت (٤١) : ١٧.

(٦) الأنفال (٨) : ١٧.

٣٩

وأولى منه أنّها حقيقة في الأوّل مجاز في الثاني ؛ لأرجحيّته على الاشتراك ، وكثرة استعمالها فيه. وتحقيقه في غير هذا المحلّ.

واعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله أضاف الهداية إلى مفعولها الثاني ، وهي تتعدّى بنفسها إلى المفعول الأوّل وإلى الثاني بنفسها أيضاً ، وب «إلى» وباللام. ومن الأوّل قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ) (١) ومن الثاني (هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ) (٢) ومن الثالث (الَّذِي هَدانا لِهذا) (٣).

(والتمست منه) أي : طلبت. ويُطلق على الطلب من المساوي حقيقةً أو ادّعاءً حسب ما يقتضيه المقام (المجازاة على ذلك) التصنيف ، وفي الإشارة إليه بصيغة البعيد توسّع (بالترحّم عليّ عقيب الصلوات ، والاستغفار) وهو سؤال المغفرة (لي في الخلوات) فإنّها مظنّة إجابة الدعوات ونزول البركات (وإصلاح ما يجده) في هذا الكتاب بمقتضى السياق. ويحتمل أن يريد الأعمّ منه ومن غيره ، كما صرّح به في وصيّته له في آخر القواعد (٤) (من الخلل والنقصان) بينهما عموم وخصوص مطلق ؛ فإنّ كلّ نقصان خلل ولا ينعكس.

(فإنّ السهو) وهو زوال الصورة عن القوّة الذاكرة ، أو عدم العلم بعد حصوله عمّا من شأنه أن يكون عالماً (كالطبيعة الثانية للإنسان).

وتوضيح ذلك : أنّ الطبيعة الأُولى للشي‌ء هي ذاته وماهيّته ، كالحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان ، وما خرج عن ماهيّته من الصفات والكمالات الوجوديّة اللاحقة لها تسمّى (٥) طبيعة ثانية ، سواء كانت لازمةً ، كالضحك والتنفّس بالقوّة للإنسان ، أم مفارقةً ، كهُما بالفعل له ، وسواء كانت لاحقةً بلا واسطة ، كالتعجّب اللاحق للإنسان ، أم بواسطة أمرٍ خارج عنه مساوٍ له ، كالضحك اللاحق له بواسطة التعجّب ، أم بواسطة جزئه ، كالحركة الإراديّة اللاحقة له بواسطة أنّه حيوان.

ثمّ لمّا كان السهو ليس طبيعةً أُولى وهو ظاهر ، ولا ثانيةً ؛ لأنّه أمر عدميّ فإنّ العدم

__________________

(١) الفاتحة (١) : ٦.

(٢) الأنعام (٦) : ١٦١.

(٣) الأعراف (٧) : ٤٣.

(٤) قواعد الأحكام ٢ : ٣٤٧.

(٥) في الطبعة الحجريّة : «سمّي».

٤٠