روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-950-X
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

بالمقام ؛ لأنّ (١) الاستبراء مختصّ به (بللاً مشتبهاً بعده) أي : بعد الاستبراء والحال أنّه بعد الغسل أيضاً كما يدلّ عليه قوله (لم يلتفت) أي : لم يعد الغسل ، (٢) لكن يجب عليه على تقدير الاستبراء بالبول خاصّة الوضوءُ ؛ لزوال أثر المنيّ بالبول ، وعدم الاستبراء بعده اقتضى كونه بولاً ، كما قرّروه في باب الوضوء.

وإنّما أطلق عدم الالتفات ؛ لأنّ البحث عن الغسل.

والمراد بالمشتبه أن لا يعلم كونه منيّاً أو بولاً أو غيرهما ، فلو علم ، لزمه حكمه وإن اجتهد.

(وبدونه) أي : بدون الاستبراء المذكور (يعيد الغسل) ويتحقّق ذلك بعدم البول مع إمكانه وإن استبرأ ، وبعدمهما معاً ، فيعيد الغسل في صورتين ، ولا يجب شي‌ء في صورتين ، ويجب الوضوء خاصّةً في صورة ، وإنّما ترك تفصيلها ؛ لعدم تعلّقها بباب الغسل وإن اقتضاها التقسيم.

والضابط : أنّ البول مزيل لأجزاء المنيّ ، المتخلّفة ، وكذا الاستبراء المعهود مع عدم إمكان البول ، والاستبراء بعد البول مزيل لأجزاء البول ، وعليه تترتّب الأقسام الخمسة.

ومستند هذه الأقسام (٣) أخبار كثيرة :

كرواية سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول فخرج منه شي‌ء ، قال : «يعيد الغسل» قلت : المرأة يخرج منها بعد الغسل ، قال : «لا تعيد» قلت : فما الفرق؟ قال : لأنّ ما يخرج من المرأة إنّما هو من ماء الرجل. (٤)

وعنه عليه‌السلام في رواية حريز في الرجل يخرج من إحليله بعد ما اغتسل شي‌ء ، قال يغتسل ويعيد الصلاة إلا أن يكون قد بال قبل أن يغتسل فإنّه لا يعيد الغسل. (٥)

ودلّ على إعادته الوضوء خاصّةً قوله عليه‌السلام في رواية معاوية بن ميسرة في رجل رأى بعد الغسل شيئاً : إن كان بال بعد جماعه قبل الغُسل فليتوضّأ ، وإن لم يَبُل حتى اغتسل ثمّ وجد البلل فليعد الغسل. (٦)

__________________

(١) في «ق ، م» : «فإنّ».

(٢) في «م» أي : لم يلتفت بعد الغسل.

(٣) في «ق ، م» : «الأحكام» بدل «الأقسام».

(٤) الكافي ٣ : ٤٩ / ١ ؛ التهذيب ١ : ١٤٣ / ٤٠٤ ، و ١٤٨ / ٤٢٠ ؛ الاستبصار ١ : ١١٨ / ٣٩٩.

(٥) التهذيب ١ : ١٤٤ / ٤٠٧ ؛ الاستبصار ١ : ١١٩ / ٤٠٢ ، وفيهما : عن حريز عن محمد.

(٦) التهذيب ١ : ١٤٤ / ٤٠٨ ؛ الاستبصار ١ : ١١٩ / ٤٠٣.

١٦١

ودلّ على إجزاء الاجتهاد مع عدم التمكّن من البول قوله عليه‌السلام في رواية جميل بن درّاج في الرجل تصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثمّ يرى بعد الغسل شيئاً أيغتسل أيضاً؟ قال لا ، قد تعصّرت ونزل من الحبائل. (١)

ويستفاد حكم القادر على البول من الأخبار الدالّة على أنّ مَنْ لم يَبُل يُعيد الغسل ؛ فإنّها تحمل على القادر على البول ؛ جمعاً بين الأخبار.

(و) كذا يستحبّ (إمرار اليد على الجسد) حال غسله ؛ لما فيه من المبالغة في إيصال الماء إلى البشرة ، وهو المعبّر عنه بالدلك.

(وتخليل ما) أي الشي‌ء الذي (يصل إليه الماء) بدون التخليل ، كمعاطف الأُذنين والإبطين وما تحت ثدي المرأة والشعر الخفيف.

والمراد بوصول الماء إليه وصوله إلى ما تحته من البشرة ، وقد تقدّم الكلام عليه.

(والمضمضة والاستنشاق) ثلاثاً ثلاثاً بعد غَسل اليدين ثلاثاً من الزندين ، وقد تقدّم بيان ذلك كلّه.

(والغسل بصاع) هو تسعة أرطال بالعراقي ، وستّة بالمدني ؛ للحديث المتقدّم في الوضوء ، وغيره ، وقد اشتمل على النهي عن الزيادة ، وأنّ مستقلّة على خلاف سنّتهُ.

وهذا الصاع يتأدّى به واجبات الغسل ومندوباته المتقدّمة والمقارنة ، فيكون في قوّة ثلاثة أغسال ؛ لاستحباب تثليث الأعضاء.

(وتحرم التولية) في الغسل بصبّ الماء على الجسد والدلك حيث يحتاج إليه ، ونحوه.

(وتكره الاستعانة) فيه بنحو صبّ الماء في اليد ليغسل المكلّف ، ونحوه على الوجه الذي تقدّم في الوضوء.

ولا فرق في الكراهة بين كونها قبل النيّة الشرعيّة أو بعدها ، بل المعتبر كونها بعد العزم على الغسل أو الوضوء.

والتعبير بالاستعانة وهي طلب الإعانة هنا وفي الوضوء يقتضي عدم الكراهة لو أعان مَنْ لم يطلب منه ، والأخبار الدالّة على الكراهة تدفعه ، كحديث الوشّاء أنّه أراد الصبّ على الرضا عليه‌السلام فقال : «مه يا حسن» فقلت له : أتكره أن أُؤجر؟ فقال تؤجر أنت

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٤٥ / ٤٠٩ ؛ الاستبصار ١ : ١٢٠ / ٤٠٦.

١٦٢

وأُوزر أنا؟

وتلا قوله تعالى (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) (١) (٢) الآية ، فنهيه عليه السلام كان عن الإعانة مع عدم سبق الاستعانة. وكذا غيره من الأخبار ، فلا فرق في الكراهة بين تقدّم طلب الإعانة وعدمه ، لكنّ الاستعانة عبارة الأكثر.

ويمكن أن يقال في شمولها لمطلق الإعانة : إنّ باب «استفعل» قد يأتي لغير طلب الفعل ، بل للفعل نفسه كـ «استقرّ» و «استعلى» و «استبان» بمعنى «قرّ» و «علا» و «بان» وك «استيقن» و «استبان» بمعنى «أيقن» و «أبان» فيحمل كلامهم على ذلك.

وذكر ابن مالك في التسهيل (٣) أنّها تأتي للاتّخاذ ، كـ «استأجر» ويمكن الحمل عليه أيضاً.

وذكر جماعة (٤) من المفسّرين أنّ معنى قوله تعالى (اسْتَوْقَدَ ناراً) (٥) معنى «أوقد» فهو حينئذٍ من هذا الباب.

إن قيل : حمله على ذلك يوجب اختصاص الكراهة بالمُعين ؛ لأنّه موجد الإعانة ، والتكليف إنّما يتوجّه إلى الفاعل.

قلنا : لمّا دلّ النصّ على تعلّق النهي بالمتوضّئ تعيّن صرف الحكم إليه بمعنى أنّه يكره له طلبها ابتداءً وقبولها إن عُرضت عليه ؛ لأنّ المصدر لا يتحقّق في الخارج هنا اختياراً إلا مع قبول المتوضّئ وأما المُعين فيمكن دخوله في العبارة أيضاً ؛ لأنّه موجد الإعانة حقيقةً ، فيتعلّق به الكراهة أيضاً. ولأنّه مُعين على المكروه وقد قال تعالى (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (٦) ومثله البيع بعد النداء يوم الجمعة إذا كان أحدهما غير مخاطب بها.

(ولو أحدث) المغتسل (في أثنائه) أي : أثناء غسل الجنابة ، و «ما» في قوله (بما) نكرة موصوفة ، أي بحدثٍ (يوجب الوضوء ، أعاده) أي : الغسل من رأس على أصحّ الأقوال الثلاثة ؛ لأنّ غسل الجنابة يرفع أثر الحدث الأكبر والأصغر على تقدير وجوده قبل الغسل ، فهو مؤثّر تامّ لرفعهما معاً ، فكلّ جزء منه مؤثّر ناقص في رفعهما بمعنى أنّ له صلاحيّة التأثير ، ولهذا لو أخلّ بلمعة يسيرة من بدنه ، لم يرتفع الحدث أصلاً ؛ لأنّ كمال التأثير

__________________

(١) الكهف (١٨) : ١١٠.

(٢) الكافي ٣ : ٦٩ / ١ ؛ التهذيب ١ : ٣٦٥ / ١١٠٧.

(٣) لا يوجد لدينا كتاب التسهيل.

(٤) منهم : الشيخ الطوسي في التبيان ١ : ٨٦ ؛ والطبرسي في مجمع البيان ٢١ : ٥٤ ؛ والبغوي في معالم التنزيل ١ : ٥٢.

(٥) البقرة (٢) : ١٧.

(٦) المائدة (٥) : ٢.

١٦٣

موقوف على كلّ جزء من الغسل ، فإذا فرض عروض حدث أصغر في أثنائه ، فلا بدّ لرفعه من مؤثّر تامّ ، وهو إمّا الغسل بجميع أجزائه ، كما قرّرناه ، أو الوضوء ، والثاني منتفٍ في غسل الجنابة ؛ للإجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب له ، وما بقي من أجزاء الغسل ليس مؤثّراً تامّاً لرفعه ، فلا بدّ من إعادته من رأس.

وهذا الدليل كما دلّ على وجوب إعادته دلّ على انتفاء القولين الآخرين ، وهُما : الاكتفاء بإتمامه خاصّةً ، كما اختاره ابن البرّاج وابن إدريس والشيخ علي (١) ؛ رحمهم‌الله ، أو إكماله والوضوء بعده ، كما هب إليه السيّد المرتضى (٢) ؛ والمحقّق (٣). ؛ إن قيل : لانسلّم أنّ الغسل يرفع الحدث الأكبر والأصغر معاً ، بل إنّما يرفع الأكبر المنويّ رفعه ، ولهذا لو خلا عن مقارنة الحدث الأصغر ، كان رفعه منحصراً في الأكبر ، والأصغر لا أثر له معه.

سلّمنا أنّ له أثراً لكن أثره يرتفع على جهة الاستتباع لأعلى جهة الاستقلال ، وإلا لوجب نيّة رفعه ؛ لحديث إنّما لكلّ امرئ ما نوى. (٤)

سلّمنا لكن عدم تأثير ذلك البعض المتقدّم على الحدث الأصغر في رفعه يقتضي وجوب الوضوء للحدث لا إعادة الغسل ، وإلا لزم كون الحدث الأصغر من موجبات الغسل ؛ لاشتراك الناقض والموجب في المعنى.

قلنا : لمّا دلّت الأدلّة بل الإجماع على أنّ الأحداث المعدودة سبب في وجوب الطهارة ثبت لها الحكم ، سواء تعدّدت أم اتّحدت ، وتداخلها مع اتّفاقها أو دخول الأصغر تحت الأكبر كما في الجنابة مع فرض الاجتماع لا يوجب سقوط ما ثبت لها من السببيّة ودلّ عليه الدليل وانعقد عليه الإجماع ، فالأصل فيها أن يكون كلّ واحد منها سبباً تامّاً في مسبّبها ، ولا معارض لذلك في غسل الجنابة إلا تخيّل الاكتفاء بالغسل لو اجتمع الأكبر والأصغر أو وجد الأكبر خاصّة ، فيقتضي عدم الفرق بين وجود الأصغر وعدمه. ولا حقيقة لهذا الخيال ؛ لأنّ التداخل لمّا ثبت للمتساويين قوّةً وضعفاً كما في اجتماع أحداث كثيرة توجب

__________________

(١) جواهر الفقه : ١٢ ، المسألة ٢٢ ؛ السرائر ١ : ١١٩ ؛ جامع المقاصد ١ : ٢٧٦.

(٢) حكاه عنه المحقّق في المعتبر ١ : ١٩٦.

(٣) المعتبر ١ : ١٩٦.

(٤) صحيح البخاري ١ : ٣ / ١.

١٦٤

الوضوء واكتفي بوضوء واحد باعتبار ورود النصّ فيه لم يبعد حينئذٍ دخول الأضعف تحت الأقوى حيث يرد به الشرع أيضاً ، كما في غسل الجنابة على تقدير مجامعته للحدث الأصغر.

ومن هذا يعلم ضعف استلزام تأثير الأصغر نيّة رفعه في الغسل ؛ إذ لا تجب نيّة جميع الأحداث المجتمعة حيث يحكم بتداخلها.

وحديث إنّما لكلّ امرئ ما نوى ؛ (١) لا يقولون به فيما لو اجتمعت أحداث تكفي عنها طهارة واحدة أمّا لتخصيصه بحديث إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك حقّ واحد منها (٢) إلى آخره ، وإمّا لأنّ رفع أحدها يقتضي رفع القدر المشترك بينها ؛ لتوقّف الخصوصيّة على رفع الجميع ؛ إذ ليس المراد ارتفاع حقيقة الخارج أو الحاصل ، بل رفع حكمه ، وهو شي‌ء واحد تعدّدت أسبابه ، وإذا كان كذلك في المتّفق فلِمَ لا جاز في المختلف مع نيّة رفع الأكبر والأقوى أو نيّة الاستباحة المطلقة؟ وإنّما لم يكتف بنيّة رفع الحدث الأصغر خاصّة على تقدير حصوله مع الأكبر ؛ لعدم دخول الأقوى تحت الأضعف ، ولهذا حَكَم جمع بعدم دخول غسل الجنابة ونحوها تحت غسل المستحاضة لغير الانقطاع والمتحيّرة ؛ لضعفه باستمرار الحدث مع اشتراكهما في الأكبريّة ، بل قيل : إنّ غسل الجنابة يجزئ عن غيره ولا يجزئ غيره عنه ؛ لضعفه بافتقار رفع الحدث مطلقاً إلى مجامعة الوضوء ، فكان هنا كذلك مع ما بين الحدثين من الاختلاف حكماً وقوّةً؟ وأمّا القول بأنّ اللازم من رفع تأثير ما مضى من الغسل وجوب الوضوء خاصّة لا إعادة الغسل : فقد أشرنا في أول الكلام إلى جوابه بالإجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب لغسل الجنابة ، وإلا لم يكن لنا عنه عدول ، ولهذا يكتفى بإعادة الوضوء لو عرض الحدث الأصغر في أثناء غسل يجامعه الوضوء على تقدير تقدّمه عليه ، أو يكتفى بإكمال الغسل مع الوضوء إن لم يكن تقدّم.

وقد يتخيّل الإعادة هنا وطرد الخلاف بناءً على أنّ كلّ واحد من الغسل والوضوء مؤثّر ناقص في رفع الحدث مطلقاً بتقريب الدليل المتقدّم.

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣ / ١.

(٢) الكافي ٣ : ٤١ (باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع) الحديث ١ ؛ التهذيب ١ : ١٠٧ / ٢٧٩ بتفاوت يسير.

١٦٥

ويندفع بمنع ذلك ؛ للإجماع على جواز الصوم بالغسل خاصّة مع توقّفه على رفع الحدث الأكبر غير المسّ ، وكذا على جواز دخول المساجد وقراءة العزائم وغيرهما ممّا لا يتوقّف جوازه على رفع الحدث الأصغر ، وما يتوقّف على الوضوء كالصلاة ومسّ كتابة القرآن ونحوها يتوقّف على الغسل أيضاً.

وهذا يدلّ على أن الوضوء ليس له صلاحيّة التأثير فيما يتوقّف على الغسل خاصّة هنا ، ولا جزءاً من المؤثّر فيه ، فعلم منه أنّ حدث الغسل المكمل بالوضوء موجب للوضوء والغسل معاً ، فكان قائماً مقام الأكبر والأصغر معاً ، وكلّ واحد من الغسل والوضوء الرافعين له منصرف إلى موجبه ، لا أنّ لكلّ واحد منهما مدخلاً في رفع كلّ منهما.

وربما بالغ بعضهم (١) في تعدية حال الإعادة هنا وطرد الخلاف إلى ما لو وقع الحدث الأصغر بعد الغسل قبل الوضوء بناءً على ما قرّرناه من اشتراك الطهارتين في التأثير في الحدثين. وهو باطل قطعاً ؛ لما قلناه.

وقوله : إنّ نقض الغسل بهذا الحدث يستلزم كونه موجباً للغسل ، ضعيف جدّاً.

أمّا أوّلاً : فلأنّه لم يحصل مسمّى الغسل بعدُ حتى يقال : إنّه نقض الغسل ، وإنّما يتمّ ذلك لو كمل ، وهو غير المتنازع ، ولو فرض لم ينقضه إجماعاً ، وإنّما حكم بنقض بعض الغسل ، فلا يتمّ المدّعى.

واحتجّ المصنّف على مذهبه من وجوب الإعادة : بأنّ الحدث الأصغر لو تعقّب كمال الغسل أبطل حكم الاستباحة ففي أبعاضه أولى ، فلا بدّ من تجديد طهارة لها ، وهو الآن جنب ؛ إذ لا يرتفع إلا بكمال الغسل ، فيسقط اعتبار الوضوء. وهو دليل واضح ، وعبارته التي حكيناها هنا منقّحة ، وهي عبارته في النهاية. (٢)

وقد عبّر في المختلف (٣) عن هذا الدليل بلفظٍ لا يخلو ظاهره من مناقشة ، وحاصله : أنّ الحدث المذكور لو وقع بعد الغسل بكماله أبطله فأبعاضه أولى بالبطلان ، فيعيده.

وأورد عليه بعض المحقّقين منع الصغرى بأنّ الحدث الأصغر لو أبطل الغسل لأوجبه ؛

__________________

(١) لم نتحقّقه.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ١١٤.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٧٦ ، المسألة ١٢٣.

١٦٦

لاشتراك الناقض والموجب في الحكم ، ومنع مساواة ما بعد الإكمال لما قبله ؛ لأنّه بعد الإكمال ارتفع الحدث ، فأمكن طروء حدثٍ آخر ، بخلاف الأثناء ، وبأنّ أثر الأصغر إنّما هو الوضوء ، فلو سلّم تأثيره ، كان اللازم الوضوء خاصّة. (١)

وجواب الأوّل : أنّه عنى بالإبطال إبطال الاستباحة التي هي غايته ، وهو استعمال شائع ، وقد صرّح به في العبارة التي حكيناها عنه من النهاية.

وقد تقدّم جواب الثاني ؛ فإنّ الأصل في الحدث التأثير حيثما وقع ، والاجتزاء بالغسل عنه مع الجنابة ؛ للنصّ لا يرفع ما ثبت له من الحكم ، والأصل في الحدث الأصغر إيجاب الوضوء ، لكن امتنع هنا ؛ للإجماع على عدمه في غسل الجنابة ، وقد تقدّم تحقيق ذلك.

واحتجّ في الذكرى بنحو ما ذكرناه ، وحاصله : أنّ الحدث لا يخلو عن أثرٍ ما مع تأثيره بعد الكمال ، والوضوء ممتنع في غسل الجنابة. (٢)

وزيّفه ذلك المحقّق بأنّ أثر الحدث الأصغر لا يظهر ما دام الأكبر موجوداً ، وما لم يتمّ الغسل فالحدث بحاله. ولو سُلّم فلِمَ لا يكون أثره هنا كأثره قبل الشروع في الغسل. (٣)؟

وقد تقدّم جواب هذا التزييف منقّحاً.

قال في الذكرى : وقد قيل : إنّه مرويّ عن الصادق عليه‌السلام في كتاب عرض المجالس للصدوق. (٤)

واعترض (٥) بأنّ مثل هذه الرواية لا اعتبار بها في الاستدلال.

وأنت خبير بأنّ الشهيد رحمه‌الله لم يخرجها للاستدلال ، بل لما كان الظاهر أنّه ليس في المسألة نصّ عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام.

وذكر بعض (٦) الأفاضل أنّ في الإعادة روايةً في الكتاب المشار إليه ذكره على جهة الإرشاد لأعلى جهة الاستدلال لتحاشيه عن توهّم مثل ذلك ، رحمه‌الله تعالى.

__________________

(١) المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٢٧٥.

(٢) الذكرى ٢ : ٢٤٨.

(٣) جامع المقاصد ١ : ٢٧٥.

(٤) الذكرى ٢ : ٢٤٨.

(٥) المعترض هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٢٧٥.

(٦) لم نتحقّقه.

١٦٧

(المقصد الثاني)

من المقاصد الأربعة المعقودة لبيان أسباب الغسل (في) بيان ماهيّة (الحيض) وبيان أحكامه الخاصّة به.

وهو لغةً : السيل ، يقال : حاض الوادي : إذا سال. وبعضهم اعتبر في صدق اسمه القوّة ، فأطلقه لغةً على السيل بقوّة. (١) وشرعاً : دم يقذفه الرحم إذا بلغت المرأة ثمّ يعتادها غالباً في أوقات معلومة.

هذا هو الاصطلاح المشهور من انقسام تعريفه إلى اللغوي والشرعي. وللبحث في ذلك مجال ؛ فإنّ الظاهر من كلام أهل اللغة أنّ الحيض قد يطلق لغةً على هذا الدم المخصوص ، لا باعتبار سيلانه بقوّة أو بغير قوّة ؛ بل يطلق ابتداءً على مصطلح أهل الشرع ، فلا يكون بين التعريف اللغوي والشرعي فرق من حيث الماهيّة.

قال الجوهري : يقال : حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً فهي حائض وحائضة ، إلى أن قال : وحاضت السمرة حيضاً ، وهي شجرة يسيل منها شي‌ء كالدم. (٢)

وقد أشار إلى ذلك (٣) في المعتبر حيث جرى أوّلاً على ما هو المشهور من أنّه إنّما سُمّي حيضاً من قولهم : حاض السيل : إذا اندفع ، فكأنّه لمكان قوّته وشدّة خروجه في غالب أحواله اختصّ بهذا الاسم.

قال : ويجوز أن يكون من رؤية الدم ، كما يقال : حاضت الأرنب : إذا رأت الدم.

__________________

(١) المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٢٨١.

(٢) الصحاح ٣ : ١٠٧٣ ـ ١٠٧٤ ، «ح ى ض».

(٣) في «ق ، م» : «هذا» بدل «ذلك».

١٦٨

وحاضت السمرة : إذا خرج منها الصمغ الأحمر. (١) انتهى.

ومتى ثبت ذلك عن أهل اللغة فهو خير من النقل ، كما قرّر في الأُصول.

ويمكن الجواب بأنّ مطلق استعمال أهل اللغة لا يدلّ على الحقيقة ؛ فإنّهم يذكرون الحقيقة والمجاز.

سلّمنا ، لكن حمله على الحقيقة يوجب الاشتراك ، والمجاز خير منه.

واعلم أنّ الحكمة في الحيض إعداد المرأة للحمل ثمّ اغتذاؤه به جنيناً ثمّ رضيعاً باستحالته لبناً ، ومن ثَمَّ قلّ حيض الحامل والمرضع على خلافٍ في الأوّل.

أمّا المرضع فالإجماع واقع على إمكانه لها ، وهو يؤيّد إمكانه للحامل ؛ إذ يمكن فضل الغذاء في الموضعين ، مضافاً إلى ما دلّ عليه من الروايات. فإذا خلت المرأة من حملٍ ورضاعٍ ، بقي الدم لا مصرف له ، فيستقرّ في مكانٍ ثمّ يخرج غالباً في كلّ شهر هلاليّ سبعة أَيّام أو ستّة أو أقلّ أو أكثر بحسب قُرب مزاجها من الحرارة وبُعده عنها ، وقد يطول احتباسه ويقصر بحسب ما ركبه الله تعالى في طبعها.

وقد عرّفه المصنّف بتعريفٍ حسّيّ بخواصّ يشترك في العلم بها الفقيه والعامّيّ بقوله (وهو في الأغلب) والتقييد بالأغلبيّة ؛ للتنبيه على أنّه قد يجي‌ء بخلاف ذلك على خلاف الغالب ؛ لما سيأتي أنّ الصفرة والكدرة في أيّام الحيض حيض ، كما أنّ الأسود الحارّ في أيّام الطهر استحاضة (أسود) على حذف الموصوف وإبقاء الصفة ، وهو شائع الاستعمال ، أي : دم أسود.

ولا يشكل بأنّ الإضمار معيب في التعريفات ؛ لأنّ ذلك حيث لا قرينة تدلّ عليه ، وهي موجودة هنا ، فالدم المحذوف في التعريف بمنزلة الجنس القريب شامل للدماء الثلاثة وغيرها.

وقوله : أسود (حارّ يخرج بحُرقة) بضمّ الحاء ، وهي اللذع الحاصل من خروج الدم بدفعٍ وحرارةٍ خاصّة ، مركّبة من القيود المذكورة ، خرج بها باقي الدماء غير دم الحيض.

وقد استُفيدت هذه الخواصّ من الأخبار ، كقول أبي عبد الله عليه‌السلام دم الحيض حارّ تجد له حُرقة. (٢)

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٩٧.

(٢) الكافي ٣ : ٩٢٩١ / ٣ ؛ التهذيب ١ : ١٥٢١٥١ / ٤٣١.

١٦٩

وفي حديثٍ آخر عنه عليه‌السلام دم الحيض حارّ عبيط أسود له دفع وحرارة. (١)

والعبيط بالعين والطاء المهملتين : الخالص الطريّ.

وذكر الحرارة في الحديث الثاني مرّتين إمّا للتأكيد ، أو أراد بالثانية معنى الحُرقة المذكورة في الحديث الآخر.

وإنّما خصّصنا الثانية بذلك ؛ لقرينة الدفع المجاور لها ؛ فإنّ الحُرقة كما قدّمنا مسبّبة عنه وعن الحرارة.

وقوله (من) الجانب (الأيسر) جارٍ على المشهور بين الأصحاب ، وسيأتي تحقيقه. وعلى هذا التقدير فهو من جملة الخاصّة المركّبة ، فالتعريف حينئذٍ رسميّ ؛ لعدم الفصل القريب.

وإنّما قلنا : إنّ القيود المذكورة خاصّة مركّبة لا فصول ؛ لأنّ كلّ واحد منها مع كونه من الأعراض اللاحقة للذات أعمّ من المعرّف وفصوله ؛ فإنّ الأسود مثلاً أعمّ من الدم المطلوب تعريفه بل من سائر الدماء ؛ لتعلّقه بكلّ جسم أسود ، وكذلك الحارّ والخارج بحُرقةٍ ومن الأيسر ، لكن جميع هذه القيود من حيث الاجتماع مخرجة ما عدا المعرّف.

وكلّ هذا إنّما هو في أغلب أحواله ، كما سبق.

(فإن اشتبه) دم الحيض (بالعُذرة) بضمّ العين المهملة وسكون الذال المعجمة ، أي : بدم العُذرة على حذف المضاف ؛ لأنّ العُذرة هي البكارة لا دمها ، وضعت قطنةً بعد أن تستلقي على ظهرها وترفع رِجْليها ثمّ تصبر هنيئةً ثمّ تُخرجها إخراجاً رفيقاً (فإن خرجت القطنة مطوّقةً) بالدم (فهو) دم (عُذرة ، وإلا) أي : وإن لم تخرج القطنة مطوّقةً بل مستنقعةً بالدم (فحيض).

ومستند ذلك روايات عن أهل البيت عليهم‌السلام ، لكن في بعضها الأمر باستدخال القطنة من غير تقييد بالاستلقاء ، وفي بعضها استدخال الإصبع مع الاستلقاء. وطريق الجمع حمل المطلق على المقيّد ، والتخيير بين الإصبع والكرسف إلا أنّ الكرسف أظهر في الدلالة.

وفي حديث خلف بن حمّاد عن أبي الحسن الثاني عليه‌السلام في حديثٍ طويل إنّ هذا الحكم سرّ من أسرار الله تعالى ، فلا تذيعوه ولا تعلّموا هذا الخلق أُصول دين الله ، بل ارضوا لهم ما رضي الله لهم من ضلال. (٢)

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩١ / ١ ؛ التهذيب ١ : ١٥١ / ٤٢٩.

(٢) الكافي ٣ : ٩٢ ـ ٩٣ / ١.

١٧٠

والمحقّق في المعتبر قطع بالحكم للعُذرة بالتطوّق ، ونفى الحكم للحيض بالاستنقاع محتجّا بأنّه محتمل. (١)

وجوابه : منع الاحتمال مع ورود النصّ والحال أنّه جامع للصفات غير أنّه مشتبه بالعُذرة خاصّة ، فلا احتمال حينئذٍ.

(وما) أي : والدم الخارج من المرأة ولو على الوجه المتقدّم (قبل) إكمال (التسع) سنين القمريّة لا الشمسيّة (و) الخارج (من) الجانب (الأيمن) على أشهر القولين (و) الخارج (بعد) بلوغ المرأة سنّ (اليأس) من الحيض أو الولد (و) الخارج (أقلّ من ثلاثة) أيّام بلياليها (متوالية) لا في جملة عشرة على أصحّ القولين (والزائد عن أكثره) أي أكثر الحيض (و) الزائد عن (أكثر النفاس) وسيأتي بيانه (ليس بحيض) خبر «ما» الموصولة ، أي : ليس جميع ما ذُكر حيضاً وإن كان بصفة دم الحيض.

أمّا الأوّل : فلما تقدّم من أنّ دم الحيض إنّما خلقه الله تعالى لحكمة إعداد الرحم للحمل وتربية الولد حملاً ثمّ رضيعاً ، وذلك كلّه مفقود في الصغيرة التي لم تكمل التسع ، ولقول أبي عبد الله عليه‌السلام حين سُئل عن حدّها إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين (٢) فإذا كمل لها تسع سنين أمكن حيضها.

والإجماعِ نَقَله في المعتبر عن أهل العلم كافّة. (٣)

وشرطنا إكمال التسع ؛ لعدم صدقها حقيقةً بدونه. ولقوله عليه‌السلام إذا كمل لها تسع إلى آخره ، فلا يكفي الطعن في التاسعة. والتقييد بالقمريّة ؛ لأنّه المتعارف المستعمل شرعاً.

والأقرب أنّه تحقيق لا تقريب ، مع احتماله ، فلو قلنا به ، فإن كان بين رؤية الدم واستكمال التسع ما لا يسع الحيض والطهر ، كان الدم حيضاً. ولا فرق في ذلك بين البلاد الحارّة والباردة.

بقي هنا بحث ، وهو : أنّ المصنّف (٤) وغيره ذكروا أنّ الحيض للمرأة دليل على بلوغها وإن لم يجامعه السنّ ، وحكموا هنا بأنّ الدم الذي قبل التسع ليس بحيض ، فما الدم المحكوم

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٩٨.

(٢) الكافي ٦ : ٨٥ / ٤.

(٣) المعتبر ١ : ١٩٩.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ١٦٨.

١٧١

بكونه حيضاً حتى يستدلّ به على البلوغ قبل التسع؟

وجَمَع بعض مَنْ عاصرناه بين الكلامين بحمل الدم المحكوم بكونه حيضاً دالا على البلوغ على الحاصل بعد التسع وقبل إكمال العشر.

وتحريره أنّ البلوغ بالسنّ لها قيل بالتسع ، وقيل بالعشر ، وعلى القولين لو رأت دماً بشرائط الحيض بعد التسع ، حكم بالبلوغ.

ولا يخفى ما في هذا الجمع من البُعد ، بل الأولى في الجمع بين الكلامين أنّه مع العلم بالسنّ لا اعتبار بالدم قبله وإن جَمَع صفات الحيض ، ومع اشتباهه ووجود الدم في وقت إمكان البلوغ يحكم بالبلوغ ، ولا إشكال حينئذٍ.

وأمّا الحكم الثاني وهو أنّ الدم الخارج من الجانب الأيمن ليس بحيض فقد اختلف فيه كلام الأصحاب بسبب اضطراب الرواية.

فذهب الأكثر (١) ومنهم المصنّف في جميع كتبه (٢) إلى ما ذُكر هنا ، وأنّ الخارج من الأيسر حيض ، ومن الأيمن ليس بحيض.

وذهب أبو علي ابن الجنيد إلى أنّ الحيض يعتبر من الجانب الأيمن. (٣)

واختلف كلام الشهيد رحمه‌الله ، ففي بعض (٤) كتبه عمل بالأوّل ، وفي بعضها (٥) بالثاني.

ومنشأ هذا الاختلاف متن. الرواية.

فروي في الكافي عن محمد بن يحيى رفعه عن أبان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فتاة منّا بها قرحة في جوفها والدم سائل لا تدري من دم الحيض أو من دم القرحة ، قال : مُرها فلتستلق على ظهرها وترفع رِجْليها وتستدخل إصبعها الوسطى ، فإن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيسر فهو من القرحة. (٦)

__________________

(١) منهم : الشيخ الصدوق في الفقيه ١ : ٥٤ ؛ والشيخ الطوسي في النهاية : ٢٤ ؛ والمبسوط ١ : ٤٣ ؛ وابن إدريس في السرائر ١ : ١٤٦.

(٢) منها : تحرير الأحكام ١ : ١٣ ؛ وتذكرة الفقهاء ١ : ٢٥٢ ؛ ومختلف الشيعة ١ : ١٩٤ ، المسألة ١٤٠ ؛ ومنتهى المطلب ٢ : ٢٦٩ ؛ ونهاية الإحكام ١ : ١١٦.

(٣) حكاه عنه المحقّق في المعتبر ١ : ١٩٩.

(٤) البيان : ٥٧.

(٥) الدروس ١ : ٩٧ ؛ الذكرى ١ : ٢٢٩.

(٦) الكافي ٣ : ٩٤ ـ ٩٥ / ٣.

١٧٢

وعلى هذا المعنى عمل ابن الجنيد.

وأمّا التهذيب : فالذي نقله الشهيد في الذكرى عن كثير من نسخه أنّ الرواية فيه كما في الكافي بلفظها بعينه ، (١) والموجود في بعض نسخة في الرواية بعينها إلى أن قال : فإن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو من الحيض ، وإن خرج من الجانب الأيمن فهو من القرحة. (٢) وعلى هذه النسخة عمل المصنّف ، ونقلها في احتجاجه (٣) عن التهذيب ساكتاً عليها. وبمضمونها أيضاً أفتى الشيخ في النهاية ، (٤) وهو يؤيّد صحّتها ؛ لأنّ عمله في النهاية إنّما هو على ما صحّ عنده من الرواية.

واعترضها السيّد جمال الدين ابن طاوُس صاحب البُشرى بعد اعترافه بوجودها في بعض نسخ التهذيب بأنّ ذلك تدليس. (٥) وفيه : أنّ التدليس إنّما يكون في الإسناد دون المتن ، كما يروي عمّن لقيه ولم يسمع منه مُوهماً أنّه سمع منه ، أو يروى عمّن عاصره ولم يلقه مُوهماً أنّه لقيه وسمع منه ، فالأسدّ حينئذٍ ما ذكره المحقّق في المعتبر ، والشهيد في الدروس : أنّ الرواية مضطربة ، (٦) فإنّ الاضطراب كما يكون في الإسناد يكون في المتن.

واعترض (٧) بأنّ الاضطراب إنّما يصدق إذا تساويا ، أمّا إذا ترجّح أحدهما بمرجّح فلا ، والمرجّح هنا موجود مع رواية الأيسر بأنّه حيض ؛ لفتوى الشيخ بمضمونها في النهاية.

قيل : ولا تعارضها رواية محمّد بن يعقوب لها بخلاف ذلك ؛ لأنّ الشيخ أعرف بوجوه الحديث وأضبط خصوصاً مع فتوى الأصحاب بمضمونها. (٨)

وفيه : الشكّ في كون ذلك ترجيحاً مع ما قد عرفت من أنّ أكثر نُسخ التهذيب موافقة

__________________

(١) الذكرى ١ : ٢٢٩.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦ / ١١٨٥.

(٣) انظر : مختلف الشيعة ١ : ١٩٤ ، المسألة ١٤٠ ؛ ومنتهى المطلب ٢ : ٢٦٩.

(٤) النهاية : ٢٤.

(٥) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ١ : ٢٣٠.

(٦) المعتبر ١ : ١٩٩ ؛ الدروس ١ : ٩٧.

(٧) المعترض هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٢٨٣.

(٨) القائل هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٢٨٤.

١٧٣

للكافي ، فيعارض مرجّح عمل الشيخ بمضمونها أمران : أحدهما : أكثريّة النسخ بخلافه ، والثاني : مخالفة الكافي ، وإذا لم يحصل بهما الترجيح ، فلا أقلّ من المساواة الموجبة للاضطراب.

هذا كلّه ، مع أنّ الرواية مرسلة أرسلها محمّد بن يحيى عن أبان ، فلذلك اطّرحها المحقّق في المعتبر ، وقال : إنّ الرواية مقطوعة مضطربة ، فلا أعمل بها. (١) فعنده هذه العلامة مطّرحة.

وأُجيب بأنّ عمل الأصحاب بمضمونها واشتهارها بينهم جابر لوهن إرسالها ، وقد اعترف بذلك المحقّقُ في غير موضعٍ من الكتاب.

بقي هنا شي‌ء ، وهو : أنّ الرواية مع تسليم العمل بها إنّما دلّت على الحكم للحيض عند اشتباهه بالقرحة لا مطلقاً ، وكذلك عبارة أكثر الأصحاب حتى المصنّف في كثير من عباراته ، وظاهره في هذا الكتاب اعتبار الجانب ، سواء حصل اشتباه بالقرحة أم لا.

وتظهر الفائدة فيما لو انتفت القرحة وخرج الدم من الجانب المخالف بأوصاف الحيض وشرائطه ، فإنّ مقتضى الرواية وكلام الجماعة أنّه حيض ؛ لإمكانه.

ويمكن حمل كلام مَنْ أطلق الحكم على ذلك نظراً إلى المستند ، مع أنّ النظر لا يأبى الإطلاق ؛ لأنّ الجانب إن كان له مدخل في حقيقة الحيض ، وجب اطّراده ، وإلا فلا.

لكنّ الوقوف على ظاهر النصّ وكلام الأكثر يقتضي تخصيص مدخليّته بمصاحبة القرحة.

وبالجملة ، فللتوقّف في هذه المسألة وجه واضح ، وإن كان ولا بدّ فالعمل بما (٢) عليه الأكثر ، وهو الحكم للحيض بخروجه من الجانب الأيسر.

وأمّا الحكم الثالث وهو أنّ الخارج بعد سنّ اليأس لا يكون حيضاً فممّا لا خلاف فيه بين أهل العلم ، كما نقله المحقّق في المعتبر ، (٣) مضافاً إلى ذلك ما دلّ عليه من الأخبار وإن اختلف في تقديره ، وسيأتي الكلام فيه.

وأمّا الرابع وهو اشتراط عدم قصوره عن ثلاثة أيّام متوالية فعليه إجماع أصحابنا

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٩٩.

(٢) في الطبعة الحجريّة : «فالعمل على ما».

(٣) المعتبر ١ : ١٩٩.

١٧٤

وبعض مَنْ خالفنا ، كأبي حنيفة. (١)

ومستنده روايات من طرقنا وطرقهم.

ولفظ الأخبار «ثلاثة أيّام (٢)» والليالي معتبرة فيها إمّا لكونها داخلةً في مسمّاها بناءً على أنّ «اليوم» اسم للّيل والنهار ، أو للتغليب ، وقد صرّح بدخولها في بعض (٣) الأخبار وفي عبارة بعض الأصحاب (٤) وادّعى المصنّف في المنتهي عليه الإجماع. (٥)

وأمّا قيد التوالي : فعليه الأكثر ، (٦) وخالف فيه الشيخ في النهاية ، (٧) واكتفى بحصولها في جملة عشرة ؛ استناداً إلى رواية (٨) مَنَع من العمل بها شذوذُها وإرسالُها ، فالعمل على ما عليه الأكثر ، ودلّ عليه ظاهر النصّ من اعتبار الثلاثة من غير تقييد.

لكن ما المراد من التوالي؟ ظاهر النصّ الاكتفاء بوجوده في كلّ يوم من الثلاثة وإن لم يستوعبه ؛ لصدق رؤيته ثلاثة أيّام ؛ لأنّها ظرف له ، ولا تجب المطابقة بين الظرف والمظروف ، وهذا هو الظاهر من كلام المصنّف.

وربما اعتبر مع ذلك في تحقّقه أن تتّفق ثلاثة دماء وما بينها في ثلاثة أيّام من غير زيادة ولا نقصان ، فيعتبر في ذلك أنّها إذا رأته في أوّل جزء من أوّل ليلة من الشهر ، تراه في آخر جزء من اليوم الثالث بحيث يكون عند غروبه موجوداً ، وفي اليوم الوسط يكفي أيّ جزء كان منه.

وربما بالغ بعضهم ، فاعتبر فيه الاتّصال في الثلاثة بحيث متى وضعت الكرسف تلوّث به

__________________

(١) الهداية للمرغيناني ١ : ٣٠ ؛ بدائع الصنائع ١ : ٤٠ ؛ المبسوط للسرخسي ٣ : ١٤٧ ؛ حلية العلماء ١ : ٢٨١ ؛ المجموع ٢ : ٣٨٠ ؛ العزيز شرح الوجيز ١ : ٢٩١ ؛ المغني والشرح الكبير ١ : ٣٥٤.

(٢) الكافي ٣ : ٧٥ (باب أدنى الحيض ..) الحديث ٢ ، و ٧٦ / ٥ ؛ علل الشرائع ١ : ٣٣٨ / ١ ، الباب ٢١٧ ؛ الخصال ٢ : ٦٠٦ ؛ التهذيب ١ : ١٥٨١٥٧ / ٤٥٢.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٢٠٤ / ٦٢٣ ؛ سنن أبي داوُد ١ : ٧١ / ٢٧٤ ؛ سنن النسائي ١ : ١٢٠ و ١٨٢ ؛ سنن البيهقي ١ : ٤٩٣ / ١٥٧٦ و ١٥٧٧.

(٤) كما في جامع المقاصد ١ : ٢٨٧ ؛ وانظر : المعتبر ١ : ٢٠٢ حيث حكى عن ابن الجنيد قوله في مختصره : أقلّه ثلاثة أيّام بلياليها.

(٥) منتهى المطلب ٢ : ٢٧٩.

(٦) منهم : ابنا بابويه كما في الفقيه ١ : ٥٠ ؛ والشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٤٢ ؛ وأبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ١٢٨ ؛ وابن حمزة في الوسيلة : ٥٦ و ٥٧ ؛ وابن إدريس في السرائر ١ : ١٤٥.

(٧) النهاية : ٢٦.

(٨) الكافي ٣ : ٧٦ / ٥ ؛ التهذيب ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨ / ٤٥٢.

١٧٥

في جميع أجزائها ، وقد صرّح بهذا الاعتبار الشيخ جمال الدين بن فهد في المحرّر ، (١) والمحقّق الشيخ علي في الشرح ، وزاد فيه أنّ الاكتفاء بحصوله فيها في الجملة رجوع إلى ما ليس له مرجع. (٢)

وأمّا الحكم الخامس والسادس وهو أنّ الزائد عن أكثره وأكثر النفاس ليس بحيض فالوجه في الأوّل ظاهر ، وفي الثاني ما هو مقرّر من أنّ النفاس حيض محتبس ، ومن ثَمَّ شاركه في معظم الأحكام ، ولا بدّ من تخلّل عشرة هي أقلّ الطهر بين النفاس والحيض ليكون ما قبله وما بعده حيضاً أو كالحيض ، وإنّما جمع بين الأمرين مع اشتراكهما في العلّة ورجوع الثاني إلى الأوّل ؛ لافتراقهما اسماً وحكماً من حيث الجملة ، فلا يلزم حينئذٍ من نفي كون الزائد عن أقصى مدّة الحيض حيضاً نفي كون الزائد عن أقصى مدّة النفاس حيضاً.

ولمّا حكم بأنّ الخارج بعد سنّ اليأس لا يكون حيضاً أراد أن يبيّن السنّ الذي تصير به المرأة يائسةً ، فقال (وتيأس) المرأة (غير القرشيّة) وهي المنسوبة إلى قريش بأبيها خاصّة على المشهور. واحتمال الاكتفاء بالأُمّ هنا أرجح من غيره في نظائره ؛ لأنّ للأُمّ مدخلاً شرعيّاً في لحوق حكم الحيض في الجملة بسبب تقارب الأمزجة ، ومن ثَمَّ اعتبرت الحالات وبناتهنّ في المبتدأة ، كما سيأتي. والمراد بـ «قريش» القبيلة المتولّدة من النضر بن كنانة بن خزيمة ، وجلّ هذه القبيلة الهاشميّون (والنبطيّة) وهي المنسوبة إلى النبط ، وهُم على ما ذكره في الصحاح : قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين. قال : وفي كلام أيّوب بن القِرّيّة أهل عمان عرب استنبطوا ، وأهل البحرين نبيط استعربوا () ببلوغ) أي : بإكمال (خمسين) سنة هلاليّة ، فلا يكفي الطعن في السنة الأخيرة ؛ فإنّ الاعتبار هنا تحقيق لا تقريب (وإحداهما) أي : القرشيّة والنبطيّة (ب) بلوغ (ستّين) سنة ، وهذا التفصيل هو المشهور.

ومستنده في غير النبطيّة صحيحة ابن أبي عمير عن الصادق عليه‌السلام إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلا أن تكون امرأةً من قريش. (٤)

__________________

(١) المحرّر (ضمن الرسائل العشر) : ١٤٠.

(٢) جامع المقاصد ١ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٣) الصحاح ٣ : ١١٦٢ ، «ن ب ط».

(٤) الكافي ٣ : ١٠٧ / ٣ ؛ التهذيب ١ : ٣٩٧ / ١٢٣٦.

١٧٦

وما ورد في بعض الأخبار من إطلاق الحكم بالستّين والخمسين (١) مقيّد بهذا التفصيل ؛ جمعاً بين الأخبار.

وحكم المصنّف في المنتهي (٢) بالإطلاق الأوّل والشيخ في النهاية (٣) بالثاني ، والتفصيل طريق الجمع ، مع أنّ في طريق خبر الستّين ضعفاً.

وما يوجد في بعض القيود من الحكم باليأس بالخمسين بالنسبة إلى العبادة مطلقاً وبالستّين بالنسبة إلى العدّة مطلقاً ليس له مرجع يجوز الاعتماد عليه ولا فقيه يعوّل على مثله يستند إليه. واشتماله على نوع من الاحتياط غير كافٍ في الذهاب إليه ، وربما استلزم نقيض الاحتياط في بعض موارده.

وأمّا النبطيّة : فذكرها المفيد روايةً ، (٤) وتبعه جماعة (٥) بحيث صار إلحاقها بالقرشيّة هو المشهور ، لكن لم يوجد بها خبر مسند ، ومن ثَمَّ تركها المحقّق في المعتبر ، وخصّ الحكم بالقرشيّة. (٦)

واستوجه المحقّق الشيخ علي إلحاقها بها مستنداً مع الشهرة إلى أنّ الأصل عدم اليأس ، فيقتصر فيه على موضع الوفاق ، والاحتياط في بقاء الحكم بالعدّة وتوابع الزوجيّة ؛ استصحاباً لما كان ؛ لعدم القطع بالمنافي. (٧)

وأنت خبير بأنّ هذا الأصل قد انتفى بما ورد من النصوص الدالّة على الحكم إمّا بالتفصيل القاطع للشركة أو بالإطلاق المتقدّم. والاحتياط المذكور يُعارَض بمثله ؛ فإنّ الحكم بصحّة الرجعة ولحوق أحكام الزوجيّة مع وجود الدليل الدالّ على نفيهما يوجب التهجّم على الفروج والأموال بما لا يصلح سنداً. والاستصحاب المدّعى قد انقطع بالدليل.

بقي هنا شي‌ء ، وهو : أنّك قد علمت أنّ المراد بالقرشيّة من انتسبت إلى النضر بن كنانة ، فهي حينئذ أعمّ من الهاشميّة ، فكلّ امرأة علمت انتسابها إليه أو انتفاءها عنه

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠٧ / ٢ و ٤ ؛ التهذيب ١ : ٣٩٧ / ١٢٣٥ و ١٢٣٧.

(٢) منتهى المطلب ٢ : ٢٧٢.

(٣) النهاية : ٥١٦.

(٤) المقنعة : ٥٣٢.

(٥) منهم : ابن حمزة في الوسيلة : ٥٦ ؛ والشهيد في الدروس ١ : ٩٧.

(٦) المعتبر ١ : ١٩٩.

(٧) جامع المقاصد ١ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

١٧٧

فحكمها واضح. ومَن اشتبه نسبها كما هو الأغلب في هذا الزمان من عدم العلم بنسب غير الهاشميّين غالباً فالأصل يقتضي عدم كونها قرشيّةً.

والاحتياط الذي ذكره الشيخ المحقّق يوجب إلحاقها بها.

وقد عرفت أنّ الاحتياط لا يسلم في جهة واحدة ، فالأخذ بالأصل متعيّن.

وإن حصل الاتّفاق من الزوجين على الاحتياط بأن تتعبّد فيما بين الخمسين والستّين في أيّام الدم المحتمل كونه حيضاً ، وتعتدّ بالأشهر إن طابقت الأطهار المحتملة ، وإلا فأكثر الأمرين ، ولا يراجعها الزوج في هذه العدّة ، إلى غير ذلك من الأحكام كان حسناً ، وحينئذٍ يتمشّى ذلك في النبطيّة ، وفي تمشّيه حينئذٍ في التفصيل المتقدّم المزيّف بالنسبة إلى القرشيّة نظر.

(وأقلّه) أي : الحيض (ثلاثة أيّام) والأخبار من طرقنا على ذلك متظافرة ، مضافاً إلى إجماعنا ، ورواه العامّة عن واثلة بن الأسقع وأبي أمامة الباهلي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أقلّ الحيض ثلاثة أيّام وأكثره عشرة أيّام. (١)

(متواليات) فلا يكفي كونها في جملة عشرة ، خلافاً للشيخ في أحد قوليه وابن البرّاج. (٢)

وقد عرفت أنّ مستندهما رواية مرسلة ، فلا تكون حجّةً مزيلة لحكم الأصل ، وهو عدم الحيض. ولأنّ العبادة ثابتة في الذمّة بيقين ، فلا يسقط التكليف إلا مع تيقّن السبب.

وعلى هذا القول لو رأت الأوّل والخامس والعاشر ، فالثلاثة حيض لا غير. فإذا رأت الدم يوماً وانقطع ، فإن كان يغمس القطنة ، وجب الغسل ؛ لأنّه إن كان حيضاً ، فقد وجب الغسل ؛ للحكم بأن أيّام النقاء طهر ، وإن لم يكن حيضاً ، فهو استحاضة. والغامس منها يوجب الغسل ، وإن لم يغمسها ، وجب الوضوء خاصّة ؛ لاحتمال كونه استحاضةً ، فإن رأته مرّة ثانية يوماً مثلاً وانقطع ، فكذلك ، فإذا رأته ثالثة في العشرة ، تبيّن (٣) أنّ الأوّلين حيض ، وتبيّن بطلان ما فَعَلَت بالوضوء ؛ إذ قد تبيّن أنّ الدم حيض يوجب انقطاعه الغسل ، فلا يجزئ عنه الوضوء. ولو اغتسلت للأوّلين احتياطاً ، ففي إجزائه نظر.

__________________

(١) سنن الدارقطني ١ : ٢١٩٢١٨ / ٦١٥٩ ؛ المعجم الكبير للطبراني ٨ : ١٢٩ / ٧٥٨٦.

(٢) النهاية : ٢٦ ؛ المهذّب ١ : ٣٤.

(٣) في «ق» والطبعة الحجريّة : «ثبت» بدل «تبيّن».

١٧٨

(وأكثره عشرة) أيّام باتّفاقنا ، فما زاد عن ذلك ليس بحيض قطعاً.

وما ورد في بعض (١) الأخبار من كون أكثره ثمانية إمّا مطّرح ؛ لشذوذه ، أو محمول على مَنْ تكون عادتها ذلك وتعبر رؤيتها العشرة.

و (هي) أي : العشرة (أقلّ الطهر) باتّفاقنا ، وللنصّ. (٢) ولا حدّ لأكثره ، خلافاً لأبي الصلاح حيث حدّه بثلاثة أشهر. (٣)

وادّعى المصنّف على الأوّل الإجماع ، وحَمَلَ قول أبي الصلاح على الغالب. (٤)

والحقّ : أنّ دعوى الإجماع هنا لا تتوقّف على حمل كلام أبي الصلاح ؛ لأنّ المنقول منه بخبر الواحد حجّة ، ومخالفة معلوم النسب لا تقدح فيه.

ومعنى حمله على الغالب عدم زيادته على الثلاثة غالباً ، لا أنّ الغالب كونه ثلاثةً ، فإنّ الأغلب كون الستّة والسبعة في الشهر الهلالي حيضاً وباقيه طهراً.

(وما) أي : والعدد الذي (بينهما) أي : بين الثلاثة والعشرة يجوز أن يكون حيضاً ، فيحكم به (بحسب العادة) المستقرّة بما أشار إليه بقوله (وتستقرّ) أي : العادة (بشهرين متّفقين) في حصول الحيض فيهما (عدداً) أي : في عدد أيّام الحيض (ووقتاً) أي : في وقت حصوله ، فإذا وقع في الشهر الأوّل في السبعة الأُولى ووقع في السبعة الاولى من الشهر الثاني ، فقد استقرّت العادة عدداً ووقتاً ، فإذا رأت في أوّل الثالث ، تحيّضت برؤيته ، ولو تجاوز العشرة ، رجعت إلى ما استقرّ لها من العدد.

ولو رأت الدم الثالث في آخر الشهر الثاني ، تحيّضت بالعدد أيضاً مع عبوره العشرة ، لكن هذه تستظهر بثلاثة في أوّله وجوباً أو استحباباً ؛ لتقدّمه على وقت العادة ، كما سيأتي إن شاء الله.

وقد علم من ذلك أنّه لا يشترط في استقرار العادة استقرار عادة الطهر ، خلافاً للشهيد رحمه‌الله ؛ فإنّه اشترط في الذكرى (٥) استقرار عادة الطهر في تحقّق العادة عدداً ووقتاً ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٥٧ / ٤٥٠ ؛ الإستبصار ١ : ١٣١ / ٤٥١.

(٢) الكافي ٣ : ٧٦ / ٤ و ٥ ؛ التهذيب ١ : ١٥٨١٥٧ / ٤٥١ و ٤٥٢ ؛ الاستبصار ١ : ١٣١ / ٤٥٢.

(٣) الكافي في الفقه : ١٢٨.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٥٧ و ٢٥٩ ، الفرع الثالث والرابع ؛ مختلف الشيعة ١ : ١٩٣ ، المسألة ١٣٩.

(٥) الذكرى ١ : ٢٣٢.

١٧٩

فبدونه يستقرّ العدد لا غير ، فحينئذٍ تستظهر برؤية الدم الثالث إلى ثلاثة وإن كان في وقت المتقدّم بناءً على استظهار المبتدأة والمضطربة. ولو عبر العشرة ، رجعت إلى العدد قطعاً.

وإنّما اشترط في تحقّقها الشهران ولم يكتف بالرؤية مرّة واحدة ؛ لأنّ العادة مأخوذة من المعاودة ولا تحصل بالمرّة الواحدة ، ولا تطلق إلا مع التكرار.

ولقوله عليه‌السلام : صلى‌الله‌عليه‌وآله دعي الصلاة أيّام أقرائك (١) أو تحيّضي أيّام أقرائك (٢) وأقلّ ما يراد بهذه اللفظة اثنان أو ثلاثة لكنّ الثلاثة منفيّة بالاتّفاق.

ولقول الصادق عليه‌السلام فإن انقطع لوقته من الشهر الأوّل حتى توالت عليه حيضتان أو ثلاث فقد علم أنّ ذلك صار لها وقتاً وخلقاً معروفاً. (٣)

وروى سماعة قال : سألته عن الجارية البكر أوّل ما تحيض يختلف عليها ، قال تجلس وتدع الصلاة ما دامت ترى الدم ما لم تجز العشرة ، فإذا اتّفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك عادتها. (٤)

(٥) وما ذكره المصنّف رحمه‌الله من استقرار العادة باتّفاق الوقت والعدد ليس على جهة الانحصار ، بل هو أحد أقسام العادة وأنفعها.

ولو فرض اختلاف الوقت مع اتّفاق العدد كما لو رأت في أوّل شهرٍ خمسةً وفي وسط الثاني خمسةً استقرّت عادتها عدداً ، فإذا رأت في شهر ثالث دماً وعَبَر العشرة ، تحيّضت بالخمسة المستقرّة ، لكن هذه تستظهر في أوّله ؛ لعدم استقرار الوقت ، بناءً على استظهار المضطربة.

ولو انعكس الفرض بأن استقرّ لها الوقت دون العدد كما لو رأت سبعةً أوّل شهر وثمانيةً في أوّل الثاني تحقّقت العادة بالنسبة إلى الوقت ، فتترك العبادة برؤية الدم في الثالث في الوقت ، لكن هل تكون مضطربةً بالنسبة إلى العدد فتتحيّض بثلاثة ، أو يثبت لها أقلّ العددين ؛ لتكرّره؟ وجهان ، اختار ثانيهما المصنّف في النهاية ، (٦) والشهيد في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٣ ٨٨ / ١ ؛ التهذيب ١ : ٣٨٤٣٨١ / ١١٨٣.

(٢) أورده المحقّق في المعتبر ١ : ٢١٢.

(٣) المصدر في الهامش (١).

(٤) في المصدر : «أيّامها».

(٥) الكافي ٣ : ٧٩ / ١ ؛ التهذيب ١ : ٣٨٠ / ١١٧٨.

(٦) نهاية الإحكام ١ : ١٤٤.

١٨٠