روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]

روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

المؤلف:

زين الدين بن علي العاملي [ الشهيد الثاني ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-950-X
الصفحات: ٤٦٣
الجزء ١ الجزء ٢

وأُجيب (١) بعدم استلزامه تكليفنا بذلك ، فلعلّه تكليف الملائكة.

ويعارَض بخبر زرارة عن الباقر عليه‌السلام في الميّت جنباً يغسّل غسلاً واحداً يجزي للجنابة ولغسل الميّت. (٢)

وعدم تكفينه مشروط ببقاء ثيابه أو شي‌ء منها ، فلو جُرّد منها ، كُفّن ، كما فَعَل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمزة لمّا جُرّد ، فإنّه كفّنه وصلّى عليه بسبعين تكبيرة. (٣)

ولا فرق في دفنه بثيابه بين إصابة الدم لها وعدمها حتى السراويل ؛ لأنّها من الثياب.

وينزع عنه الفرو والجلود كالخفّين ؛ لعدم صدق اسم الثياب عليها ، فلا تدخل في النصّ المتقدّم ، فيكون دفنها معه تضييعاً ، وقد روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر في قَتلى أُحد أن تنزع عنهم الجلود والحديد. (٤)

ودعوى إطلاق اسم الثوب على الجلد مندفعة : بأنّ المعهود عرفاً هو المنسوج ، فينصرف الإطلاق إليه.

ولا فرق في نزعها عنه بين إصابة الدم لها وعدمها إلا على رواية (٥) ضعيفة برجال الزيديّة تضمّنت دفنها معه إن أصابها الدم.

ودفن الثياب معه واجب ، فلا تخيير بينها وبين تكفينه بغيرها عندنا.

(وصدر الميّت كالميّت في جميع أحكامه) فيجب تغسيله وتغسيل الجزء الذي فيه الصدر وتكفينه والصلاة عليه.

وفي وجوب تحنيطه نظر : من الحكم بكونه كالميّت ، ومن فَقْد مواضع الحنوط ، الواجبة. وإطلاق المصنّف هنا جريان الأحكام يقتضي الجزم بالحنوط ، فإن قلنا به ، أجزأ وضع مسمّى الكافور عليه.

ويمكن جريان الإشكال في تكفينه بالقِطَع الثلاثة ؛ لعدم وجوب ستر المئزر للصدر.

لكن يزول بجوازه أو استحبابه ، وبأنّ بعض الأصحاب يرى جواز كون الثلاثة لفائف

__________________

(١) المجيب هو الشهيد في الذكرى ١ : ٣٢٢.

(٢) التهذيب ١ : ٤٣٢ / ١٣٨٤ ؛ الإستبصار ١ : ١٩٤ / ٦٨٠ ؛ وفي الكافي ٣ : ١٥٤ / ١ مضمراً.

(٣) الكافي ٣ : ٢١٠ ٢١١ / ١ و ٢ ؛ التهذيب ١ : ٣٣١ / ٩٦٩ و ٩٧٠.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ٤٨٥ / ١٥١٥ ؛ سنن أبي داوُد ٣ : ١٩٥ / ٣١٣٤ ؛ سنن البيهقي ٤ : ٢٢ / ٦٨١٢ ؛ مسند أحمد ١ : ٤٠٩ / ٢٢١٨.

(٥) الكافي ٣ : ٢١١ ـ ٢١٢ / ٤ ؛ التهذيب ١ : ٣٣٢ / ٩٧٢.

٣٠١

تستر جميع البدن.

ولا يقال : لو كان جواز ستر الصدر بالمئزر كافٍ في وجوب تكفين الصدر بالثلاثة ، لزم مثله في الحنوط ؛ لاستحباب تحنيط الصدر فضلاً عن جوازه خاصّة.

لأنّا نجيب بالفرق بين الفردين ؛ فإنّه في المئزر محكوم عليه بالوجوب ، سواء زاد أم نقص ، غايته أنّه فرد كامل للواجب ، بخلاف تحنيط الصدر ؛ فإنّ وجوبه منتفٍ قطعاً.

ويمكن أن يقال في عدم وجوب التحنيط : إنّ الحكم بكون الصدر أو ما فيه الصدر بحكم الميّت من كلام الأصحاب ، والموجود في النصوص إنّما هو وجوب الصلاة والأغسال والتكفين ، بل في مرفوعة البزنطي في الميّت إذا قطع أعضاءً يصلّى على العضو الذي فيه القلب (١) وأُلحق بها الغسل لزوماً ، فيبقى وجوب التحنيط يحتاج إلى دليل ، مع خلوّ الجزء الموجود من موضعه.

ومن ثَمَّ قال الشهيد رحمه‌الله في بعض تحقيقاته على استشكال المصنّف في التحنيط : إن كانت محالّ الحنوط موجودةً ، فلا إشكال في الوجوب ، وإن لم تكن موجودةً ، فلا إشكال في العدم. (٢) وهو متّجه.

والقلب كالصدر ؛ لظاهر الرواية المتقدّمة. (٣)

ومثلها رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام في الرجل يأكله السبع فتبقى عظامه بغير لحم ، قال يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه ويدفن ، فإذا كان الميّت نصفين صلّي على النصف الذي فيه القلب. (٤)

ولأنّ الصلاة بُنيت لحرمة النفس ، والقلب محلّ العلم وموضع الاعتقاد الموصل إلى النجاة ، فله مزيّة على غيره من الأعضاء.

وفي حكمهما عظام الميّت جميعها ؛ لرواية علي بن جعفر ، المتقدّمة. (٥)

وأمّا أبعاضهما فألحقها في الذكرى بهما أخذاً بأنّها من جملةٍ يجب غسلها منفردة. (٦)

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣١٧ نقلاً عن البزنطي في جامعه.

(٢) كما في جامع المقاصد ١ : ٣٥٨ ؛ وحكاه العاملي أيضاً في مفتاح الكرامة ١ : ٤١٣ عن حواشي الشهيد.

(٣) وهي مرفوعة البزنطي.

(٤) الكافي ٣ : ٢١٢ / ١ ؛ التهذيب ١ : ٣٣٦ / ٩٨٣.

(٥) آنفاً.

(٦) الذكرى ١ : ٣١٩.

٣٠٢

وفي الحكم والسند منع ظاهر.

ولا يلحق بهما الرأس ؛ لعدم النصّ.

(و) القطعة من الإنسان (ذات العظم) غير ما ذُكر (والسقط لأربعة أشهر كذلك) يجب تغسيلهما بالغسل المعهود ، وتكفينهما بالقِطَع الثلاث على الظاهر.

ويمكن اعتبار القطعة حال الاتّصال ، فإن كانت القِطَع الثلاث تنالها حينئذٍ ، وجبت ، ولو نالها منها اثنتان ، كفتا ، ولو لم ينلها إلا واحدة ، كفت.

والأوّل أولى ؛ للإطلاق ، ولإمكان إجزاء الثلاثة ساترة للميّت حال الاتّصال.

وينسحب في تحنيطها الإشكال المتقدّم.

(إلا في الصلاة) فإنّها لا تشرع إلا على المولود حيّاً ، كما سيأتي.

أمّا القطعة ذات العظم من الميّت فذكرها الشيخان ، (١) واحتجّ عليها في الخلاف بإجماعنا. (٢)

ولم نقف لها على نصّ بالخصوص ، ولكن نَقل الإجماع من الشيخ كافٍ في ثبوت الحكم ، بل ربما كان أقوى من النصّ.

قال في الذكرى : ويلوح ذلك من حديث علي بن جعفر ، المتقدّم ؛ لصدق العظام على التامّة والناقصة. (٣)

ويشكل ذلك بأنّ الخبر تضمّن وجوب الصلاة عليها ، ولا صلاة عندنا على الأبعاض غير ما ذكر ؛ وبأنّ المذكور في الرواية في الرجل يأكله السبع وتبقى عظامه بغير لحم ، وقد تقرّر في الأُصول أنّ الجمع المضاف يفيد العموم ، فلذلك قلنا : إنّ حكم عظام الميّت جميعها حكمه ؛ للرواية.

وإطلاق المصنّف القطعة ذات العظم يشمل المبانة من الحيّ والميّت ، وقد صرّح باتّحاد حكمهما فيما بعدُ ، واستقربه في الذكرى. (٤)

وقطع في المعتبر بدفن المبانة من الحيّ بغير غسل وإن كان فيها عظم ؛ محتجّاً بأنّها من

__________________

(١) المقنعة : ٨٥ ، النهاية : ٤٠ ؛ المبسوط ١ : ١٨٢.

(٢) الخلاف ١ : ٧١٦٧١٥ ، المسألة ٥٢٧.

(٣) الذكرى ١ : ٣١٧.

(٤) الذكرى ١ : ٣١٧.

٣٠٣

جملةٍ لا يغسّل ولا يصلّى عليها. (١)

وأجاب في الذكرى : بأنّ الجملة لم يحصل فيها الموت ، بخلاف المبانة من الميّت. (٢)

ومختار المعتبر أوجَه ؛ لعدم النصّ المقتضي للإلحاق ، فيبقى التمسّك بأصالة البراءة. وخروج المبانة من الميّت إنّما ثبت بالإجماع المذكور ، وإلا لكان الأصل عدم ثبوت أحكام الجملة للإجزاء.

نعم ، به رواية (٣) مرسلة سيأتي ذكرها لو تمّ الاحتجاج بها ، لم يثبت الحكم للمبانة من الحيّ كالميّت.

وأمّا السقط إذا استكمل أربعة أشهر : فمستنده ما رواه الأصحاب عن أحمد بن محمّد عمّن ذكره ، قال : إذا تمّ للسقط أربعة أشهر غسّل. (٤)

وما رواه زرعة عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن السقط إذا استوت خلقته يجب عليه الغسل واللحد والكفن؟ قال نعم ، كلّ ذلك يجب عليه إذا استوى. (٥)

وقَطعُ الاولى وضعف سماعة في سند الثانية مغتفر بقبول الأصحاب مع عدم المعارض.

ويجب بمسّه الغسل. وأمّا الصلاة فمنتفية بالإجماع نَقَله في المعتبر. (٦)

(و) القطعة (الخالية) من عظم (تُلفّ في خرقة وتدفن) من غير غسل (وكذا السقط لأقلّ من أربعة) أشهر لا يجب تغسيله بل يُلفّ في خرقة ويدفن وجوباً ؛ لأنّ المعنى الموجب للغسل هو الموت ، وهو مفقود هنا.

ولرواية محمّد بن الفضيل ، (٧) قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام أسأله عن السقط كيف يصنع به؟ قال السقط يدفن بدمه في موضعه. (٨)

وليس في الخبر ذكر الخرقة ، بل ظاهره أنه يدفن مجرّداً ، لكن ما اختاره المتأخّرون

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣١٩.

(٢) الذكرى ١ : ٣١٧.

(٣) وهي رواية أيّوب بن نوح ، التي تأتي في ص ٣١٠.

(٤) التهذيب ١ : ٣٢٨ / ٩٦٠.

(٥) التهذيب ١ : ٣٢٩ / ٩٦٢.

(٦) المعتبر ١ : ٣١٩.

(٧) في «ق ، م» والطبعة الحجريّة : «الفضل». وما أثبتناه من المصدر.

(٨) الكافي ٣ : ٢٠٨ / ٦ ؛ التهذيب ١ : ٣٢٩ / ٩٦١.

٣٠٤

أولى ، بل يظهر من المصنّف (١) دعوى الإجماع عليه.

(ويؤمر مَنْ وجب قتله بالاغتسال أوّلاً) غسل الأموات بالخليطين ، وكذا بالتحنيط والتكفين (ثمّ لا يغسّل) بعد موته بذلك السبب الذي اغتسل له.

ووجوب القتل في العبارة أعمّ من أن يكون في حدّ أو قصاص ، والنصّ عن الصادق عليه‌السلام في خبر مسمع ورد في المرجوم والمرجومة أنّهما يغتسلان ويتحنّطان ويلبسان الكفن قبل ذلك ، والمقتصّ منه بمنزلة ذلك (٢) فألحقه الأصحاب به.

والآمر له هو الإمام أو نائبه.

قال في الذكرى : ولا نعلم في ذلك مخالفاً من الأصحاب. (٣)

فلا يضرّ حينئذٍ ضعف طريق الرواية إلى مسمع.

وإنّما وجب عليه تكرار الاغتسال مع أنّه حيّ ؛ لأنّ المأمور به غسل الأموات ، غايته أنّه مقدّم بدليل التحنيط والتكفين بعده ، مع احتمال الاكتفاء بغسلٍ واحد ؛ لما ذكر ، ولأنّ الأمر لا يقتضي التكرار. وإنّما لم يغسّل بعد ذلك ؛ للامتثال.

ولا يقدح في الاجتزاء به الحدث ، تخلّل أو تأخّر ؛ للامتثال.

واحتمل في الذكرى (٤) إلحاقه بغسل الجنابة في الحدث المتخلّل.

ولا يدخل تحته شي‌ء من الأغسال الواجبة ، بل يتعيّن فعل ما وجب منها.

أمّا عدم دخولها تحته : فلعدم نيّة الرفع أو الاستباحة فيه.

وأمّا عدم دخوله تحتها : فللمغايرة كيفيّةً وحكماً.

وتردّد في الذكرى (٥) ؛ لظاهر الأخبار الدالّة على الاجتزاء بغسلٍ واحد ، كخبر زرارة عن الباقر عليه‌السلام في الميّت جنباً يغسّل غسلاً واحداً يجزي للجنابة ولغسل الميّت ، لأنّهما (٦) حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة. (٧)

__________________

(١) نهاية الإحكام ٢ : ٢٣٤.

(٢) الكافي ٣ : ٢١٤ / ١ ؛ التهذيب ١ : ٣٣٤ / ٩٧٨.

(٣) الذكرى ١ : ٣٢٩.

(٤) الذكرى ١ : ٣٢٩.

(٥) الذكرى ١ : ٣٢٩.

(٦) ورد في «ق ، م» والطبعة الحجريّة : «ولأنّهما». وما أثبتناه من المصدر ، فإذن يلاحظ ما في جواب المؤلّف قدس‌سره عن الشهيد قدس‌سره.

(٧) الكافي ٣ : ١٥٤ / ١ وفيه مضمراً ؛ التهذيب ١ : ٤٣٢ / ١٣٨٤ ؛ الاستبصار ١ : ١٩٤ / ٦٨٠.

٣٠٥

والخبر ليس ممّا نحن فيه في شي‌ء ، ويمنع اجتماع الحرمتين ؛ لأصالة عدم تداخل المسبّبات مع اختلاف الأسباب ، وتداخلها في بعض الموارد لنصّ خاصّ.

وفي تحتّمه عليه أو التخيير بينه وبين غسله بعد الموت ؛ لقيامه مقامه نظر.

هذا بالنسبة إلى الآمر ، أمّا المأمور فيجب عليه امتثال الأمر إن وجد.

ولو سبق موته قتله أو قُتل بسبب آخر ، لم يسقط الغسل ، سواء بقي الأوّل كالقصاص مع ثبوت الرجم ، أم لا كما لو عفي عن القود ؛ لوجوب تجديده حينئذٍ ، وأصالة عدم إجزاء الغسل للسبب الآخر. ولا يجب الغسل بعد موته ؛ لقيام الغسل المتقدّم مقام الغسل المتأخّر عن الموت ؛ لاعتبار ما يعتبر فيه.

ولا يرد لزوم سبق التطهير على النجاسة ؛ لأنّ المعتبر أمر الشرع بالغسل وحكمه بالطهر (١) بعده وقد وجد الأمران ، وليست نجاسة الميّت بسبب الموت عينيّةً محضة ، وإلا لم يطهر ، فعُلم من ذلك أنّ تقديم الغسل يمنع من الحكم بنجاسته بعد الموت ؛ لسقوط غسله بعده ، وما ذلك إلا لعدم النجاسة.

ولمّا فرغ من أحكام الأسباب الخمسة للغسل شرع في حكم السبب السادس ، وهو المسّ ، وأدرجه في غسل الأموات ؛ لقلّة أحكامه ، ولأنّ غسل المسّ من لوازم تغسيل الميّت غالباً ، فبيان أحكامه كالمتمّم لأحكام غسل الأموات ، فقال :

(ومَنْ مسّ ميّتاً من الناس بعد برده بالموت وقبل تطهيره بالغسل ، أو مسّ قطعة ذات عظم أُبينت منه) أي من الميّت (أو) أُبينت (من) إنسان (حيّ وجب عليه) أي على اللامس لواحدٍ ممّا ذُكر (الغسل) على أشهر القولين.

واحترز بالبرد عمّا لو مسّه في حال حرارته الباقية عقيب خروج روحه ، فإنّه لا غسل إجماعاً.

وهل يجب عليه غَسل ما مسّه به؟ قيل (٢) لا ؛ لعدم القطع بنجاسته حينئذٍ ، وأصالة البراءة ، ولأنّ نجاسته ووجوب الغسل متلازمان ؛ إذ الغسل لمسّ النجس. وهو اختيار الشهيد (٣) رحمه‌الله.

__________________

(١) في «م» : «بالتطهير».

(٢) القائل هو ابن أبي عقيل كما في الذكرى ٢ : ٩٩.

(٣) الدروس ١ : ١١٧ ؛ الذكرى ٢ : ٩٩.

٣٠٦

واختار المصنّف الوجوب ؛ للحكم بأنّ الميّت نجس. (١)

وأجاب في الذكرى : بأنّا إنّما نقطع بالموت بعد البرد. (٢)

وفيه نظر ؛ لمنع عدم القطع قبله ، وإلا لما جاز دفنه قبل البرد ، ولم يقل به أحد خصوصاً صاحب الطاعون ، وقد أطلقوا القول باستحباب التعجيل مع ظهور علامات الموت ، وهي لا تتوقّف على البرد ؛ مع أنّ الموت لو توقّف القطع به على البرد ، لما كان لقيد البرد فائدة بعد ذكر الموت.

ونمنع التلازم بين نجاسته ووجوب الغسل (٣) لأنّ النجاسة علّقها الشارع على الموت والغسل على البرد ، وكلّ حديث دلّ على التفصيل بالبرد وعدمه دلّ على صدق الموت قبل البرد ، كخبر معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام إذا مسّه وهو سخن فلا غسل عليه ، فإذا برد فعليه الغسل (٤) فإنّ ضمير «مسّه» يعود على الميّت.

وعن عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام يغتسل الذي غسّل الميّت ، وإن غسّل ؛ الميّت إنسان بعد موته وهو حارّ فليس عليه غسل ، ولكن إذا مسّه وقبّله وقد برد فعليه الغسل ، ولا بأس أن يمسّه بعد (٥) الغسل ويقبّله. (٦)

وهذا الحديث كما يدلّ على صدق الموت قبل البرد ، كذلك يدلّ على جواز تغسيله قبله أيضاً ، وكذلك يدلّ على وجوب غسل المسّ ، وهو مع ما قبله حجّة على المرتضى القائل بعدم وجوب غسل المسّ ، (٧) وكذا غيرهما من الأحاديث الصحيحة.

وممّا يدلّ على وجوب الغسل بمسّه قبل البرد : ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميّت ، قال يغسل ما أصاب الثوب. (٨)

وما رواه إبراهيم بن ميمون قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقع ثوبه على جسد

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٣٥ ذيل الفرع «ب».

(٢) الذكرى ٢ : ١٠٠.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢٩ / ١٣٦٧.

(٤) كذا ، وفي المصادر : «قبّل» بدل «غسّل».

(٥) في «ق ، م» والطبعة الحجريّة : «قبل» بدل «بعد» وما أثبتناه من المصادر.

(٦) الكافي ٣ : ١٦٠ ـ ١٦١ / ٣ ؛ التهذيب ١ : ١٠٨ / ٢٨٤ ؛ الاستبصار ١ : ٩٩ / ٣٢٢.

(٧) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٢٢٢ ، المسألة ١٩٣ ؛ والمحقّق في المعتبر ١ : ٣٥١ و ٣٥٢.

(٨) الكافي ٣ : ١٦١ / ٤ ؛ التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١٢ ؛ الاستبصار ١ : ١٩٢ / ٦٧١.

٣٠٧

الميّت. قال إن كان غُسّل فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وإن كان لم يغسّل الميّت فاغسل ما أصاب ثوبك. (١)

وهذان الخبران دلله على نجاسة الميّت مطلقاً من غير تقييد بالبرد ، فمدّعي التقييد يحتاج إلى دليل عليه. ودلا أيضاً على أنّ نجاسة الميّت تتعدّى مع رطوبته ويبوسته ؛ للحكم بها من غير استفصال ، وقد تقرّر في الأُصول أنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يدلّ على العموم في المقال ، وإلا لزم الإغراء بالجهل.

ويندرج في قبليّة التطهير بالغسل المُيمّمُ ولو عن بعض الغسلات ، ومَنْ فُقد في غسله الخليطان أو أحدهما ؛ فإنّ الأصحّ وجوب الغسل بمسّ كلّ واحد منهم ومُغَسّل الكافر ومَنْ تعذّر تغسيله ، لكن يندرج في العبارة الشهيدُ ، فإنّه لم يطهر بالغسل ، بل هو طاهر في نفسه ، ولا يجب بمسّه غسل ، فكان عليه أن ينبّه على حكمه.

وظاهر العبارة أنّ وجوب الغسل بالمسّ مغيّا بكمال الغسل ؛ لعدم صدق اسمه عليه قبل إكماله ، فيجب الغسل بمسّ عضو كمل غسله قبل كمال غسل الجميع ، ولصدق اسم الميّت الذي لم يغسّل عليه قبل كماله.

ورجّح المصنّف (٢) في غير هذا الكتاب والشهيد (٣) وجماعة (٤) عدم وجوب الغسل بمسّ عضو كمل غسله ؛ لأنّ الظاهر أنّ وجوب الغسل تابع لمسّه نجساً ؛ للدوران ، وقد حكم بطهارة العضو المفروض ، ونجاسة الميّت وإن لم تكن عينيّةً محضة إلا أنّها عينيّة ببعض الوجوه ، فإنّها تتعدّى مع الرطوبة. وأيضاً فقد صدق كمال الغسل بالإضافة إلى ذلك العضو. ولأصالة البراءة من وجوب الغسل.

وفيه نظر ؛ لأنّ الحكم لا يتمّ إلا مع جَعل نجاسته عينيّةً محضة ، أمّا الحكميّة فلا دليل على تبعّضها ، بل الأصل كون هذا الغسل كغسل الأحداث ، فيكون مجموع الغسل هو السبب التامّ في رفع النجاسة الحكميّة ، ولهذا وجبت النيّة في غسله.

نعم ، لو جعلناها عينيّةً محضة كما هب إليه المحقّق (٥) فلا إشكال في عدم الوجوب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦١ / ٥ ؛ التهذيب ١ : ٢٧٦ / ٨١١.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ٢٢.

(٣) البيان : ٨٢ ؛ الذكرى ٢ : ١٠٠.

(٤) انظر جامع المقاصد ١ : ٤٦٣.

(٥) المعتبر ١ : ٣٤٩.

٣٠٨

ونمنع كون الغسل تابعاً لمسّه نجساً ، بل لمسّه بعد البرد ، بل ذلك عين المتنازع.

وعلّيّة الدوران ممنوعة ، وينتقض على مذهب الشهيد بمسّ العظم المجرّد ، فإنّه يوجب به الغسل ، (١) مع أنّه قد يكون طاهراً ، بل قد تطهّر قبل مسّه ، فإنّه قابل للطهارة من الخبث ، ولا يتعلّق به الحدث منفصلاً ؛ لأنّه جزء لا تحلّه الحياة ، وقد أجمع الأصحاب على طهارة ما لا تحلّه الحياة من غير نجس العين ، ومنه العظم ، فإيجابه الغسل بمسّه ينقض دوران وجوب الغسل مع نجاسة الممسوس.

وأمّا قوله وقد حكم بطهارة الجزء المفروض إلى آخره ، فجوابه : أنّ الغسل المجعول غاية لنجاسة الميّت هو غسل الميّت لا عضو من أعضائه قطعاً. وأصالة البراءة قد انتفت بالأدلّة.

نعم ، يبقى هنا إشكال ، وهو : أنّ مقتضى القواعد الفقهيّة أنّ طهارة المحلّ من الخبث تحصل بانفصال الغسالة عن المغسول ، ولا تتوقّف بعدها على تطهير جزء آخر ، فعلى هذا إذا كمل غسل عضو ، وجب الحكم بطهارته من الخبث بحيث لا يجب غسل اللامس له بعد ذلك الغسل الخبثي ؛ إذ لو توقّف طهارة ذلك العضو من الخبث على طهارة المجموع ، لزم مخالفة القاعدة السالفة ، وحينئذٍ يبعد الحكم بوجوب الغسل بمسّه دون غسل العضو اللامس ؛ إذ لم يعهد انفكاك الغُسل عن الغَسل إلا على مذهب الشهيد من وجوب الغُسل بمسّ العظم المجرّد ، (٢) مع أنّه قد يكون طاهراً من الخبث ؛ لأنّه ممّا لا تحلّه الحياة.

ويندفع : بأنّ الاستبعاد مع قيام الدليل غير مسموع ، كيف! وقد وقع مثله على مذهب الشهيد رحمه‌الله ، ولزم من ذلك أنّ بين نجاسة المحلّ اللامس ووجوب الغسل بالمسّ عموماً وخصوصاً من وجه ، يجتمعان في مسّ الميّت بعد البرد وقبل التطهير ، وتنفرد نجاسة العضو اللامس [عن الغسل] بالمسّ قبل البرد على ما مرّ ، وينفرد الغسل عن نجاسة اللامس بمسّ العظم المجرّد مع عدم الرطوبة أو مع إزالة الخبث عنه ، وفي العضو الممسوس بعد كمال غسله وقبل كمال غسل الميّت.

وبالجملة ، فالمسألة من المشكلات ، وللتوقّف في حكمها وجه ، وما ذكره الجماعة متّجه ، غير أنّ الأدلّة النقليّة الخاصّة لا تساعد عليه. والله أعلم.

__________________

(١) الدروس ١ : ١١٧ ؛ الذكرى ٢ : ١٠٠.

(٢) الدروس ١ : ١١٧ ؛ الذكرى ٢ : ١٠٠.

٣٠٩

وأمّا مسّ القطعة ذات العظم : فقد تقدّم الكلام فيها ، وأنّ الشيخ ادّعى الإجماع على وجوب الغسل بمسّها إذا أُبينت من ميّت ، (١) وبه مع ذلك رواية مرسلة رواها أيّوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة ، فإذا مسّه إنسان فكلّ ما كان فيه عظم فقد وجب على مَنْ مسّه الغُسلُ ، وإن لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه. (٢)

وهذه الرواية قد تدلّ بإطلاقها على حكم المبانة من الحيّ والميّت وإن كان الأصحاب قد ذكروها في الميّت خاصّة. وردّها المحقّق (٣) بالإرسال.

ويمكن أن يقال : إنّ هذه القطعة من شأنها الحياة ، فإذا قُطعت ، صدق اسم الميّت عليها ؛ لأنّ الموت عدم الحياة عمّا من شأنه أن يكون حيّاً ، فكلّ ما دلّ على حكم الميّت دلّ عليها ، فإن تمّ ذلك ، ثبت الحكم في القطعتين من غير فرق ، ولا ريب أنّ وجوب الغسل بمسّهما أولى وأحرى ، خصوصاً مع حكم أجِلة الأصحاب بالتسوية بينهما في الوجوب ، كالمصنّف (٤) في سائر كتبه ، والشهيد (٥) وغيرهما ، (٦) ودعوى الشيخ (٧) الإجماع ، مع أنّ المنقول بخبر الواحد حجّة عند المحقّقين ، فلا عبرة بقدح المحقّق (٨) فيه ، وضعف الخبر قد ينجبر بالشهرة وقبول الأصحاب.

وهل العظم المجرّد من اللّحم بحكم ذات العظم سواء اتّصل أم انفصل؟ قيل (٩) نعم ؛ لدوران الغسل معه وجوداً وعدماً ، وهو اختيار الشهيد (١٠) رحمه‌الله.

ويضعّف : بمنع علّيّة الدوران ، وبجواز كون العلّة هي المجموع المركّب منه ومن اللحم ، ولأنّ العظم طاهر في نفسه ؛ إذ لا تحلّه الحياة ، فلا يفيد غيره نجاسةً ، ولو فرضت نجاسته ،

__________________

(١) الخلاف ١ : ٧٠١ ، المسألة ٤٩٠.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ / ١٣٦٩ ؛ الاستبصار ١ : ١٠٠ / ٣٢٥.

(٣) المعتبر ١ : ٣٢٥.

(٤) تحرير الأحكام ١ : ٢١ ؛ مختلف الشيعة ١ : ١٥١ ، المسألة ١٠١ ؛ منتهى المطلب ٢ : ٤٥٨ ؛ نهاية الإحكام ١ : ١٧٣.

(٥) البيان : ٨٢ ؛ الذكرى ٢ : ٩٦.

(٦) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٤٥٩.

(٧) الخلاف ١ : ٧٠١ ، المسألة ٤٩٠.

(٨) المعتبر ١ : ٣٥٢.

(٩) انظر : جامع المقاصد ١ : ٤٦٤.

(١٠) الذكرى ٢ : ١٠٠ ؛ الدروس ١ : ١١٧.

٣١٠

فهي عرضيّة خبثيّة تزول بتطهيره ، كباقي المنجّسات بالخبث.

نعم ، هو على تقدير اتّصاله تابع للميّت ، كما يتبعه شعره وظفره ، أمّا حال الانفصال فلا ، فإلحاقه حينئذٍ بباقي الأجزاء التي لا تحلّها الحياة أوجَه وإن كان القول بوجوب الغسل بمسّه أحوط.

وهذا في غير السنّ والضرس ، أمّا فيهما فالقول بالوجوب (أشدّ ضعفاً ) ؛) لأنّهما في حكم الشعر والظفر.

هذا مع الانفصال ، أمّا مع الاتّصال فيمكن المساواة والوجوب ؛ لأنّه جزء من جملة يجب الغسل بمسّها. (٢)

كلّ ذلك مع عدم طهارته بالغسل ، أمّا معه ولو بالقرينة كالموجود في مقبرة المسلمين فلا غسل بمسّه ، بخلاف الموجود في مقبرة الكفّار. ولو تناوب عليها الفريقان ، تعارض أصالة عدم الغسل والشكّ في الحدث.

ورجّح الشهيد سقوط الغسل ، (٣) وفيه نظر.

ولو جهلت ، تبعت الدار.

واعلم أنّ كلّ ما حكم في مسّه بوجوب الغسل مشروط بمسّ ما تحلّه الحياة من اللامس لما تحلّه الحياة من الملموس ، فلو انتفى أحد الأمرين ، لم يجب الغسل ، فإن كان تخلّف الحكم لانتفاء الأوّل خاصّة ، وجب غسل اللامس خاصّة ، وإن كان لانتفاء الثاني خاصّة ، فلا غسل ، ولا غسل مع اليبوسة ، وكذا إن كان لانتفاء الأمرين معاً.

هذا كلّه في غير العظم المجرّد كالشعر والظفر ونحوهما ، أمّا العظم فقد تقدّم الإشكال فيه ، وهو في السنّ أقوى.

ويمكن جريان الإشكال في الظفر أيضاً ؛ لمساواته العظمَ في ذلك.

ولا فرق في الإشكال بين كون العظم والظفر من اللامس أو الملموس.

(ولو خلت) القطعة المبانة من حيّ أو ميّت (من عظم ، أو كان الميّت) الممسوس (من غير

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «ق ، م» : «أضعف».

(٢) في الطبعة الحجريّة : «يجب بمسّها الغسل».

(٣) الدروس ١ : ١١٧.

٣١١

الناس) ممّا له نفس سائلة (غسل) اللامس (يده) بل العضو اللامس (خاصّة).

أمّا عدم الغُسل : ففي الأخبار السابقة ما يدلّ عليه.

وأمّا وجوب غَسل اليد في القطعة الخالية من العظم : فظاهر مع الرطوبة ؛ لنجاسة ميّت الآدميّ ، وتنجّس الملاقي لها برطوبة.

وأمّا مع عدمها : فلأنّ نجاسة الميّت عند المصنّف (١) حكميّة بالنسبة إلى تنجيس الملاقي لها مطلقاً.

ويدلّ عليه أيضاً ما تقدّم (٢) من خبر الحلبي وإبراهيم بن ميمون عن الصادق ؛ عليه‌السلام حيث دلله على نجاسة الثوب الملاقي لبدن الميّت من غير تقييد بالرطوبة وعدمها.

وأمّا حكم الميّت من غير الناس ممّا له نفس فإنّ نجاسته تتعدّى مع الرطوبة قطعاً ؛ لما مرّ. أمّا مع عدمها : فكذلك عند المصنّف ، (٣) ومن ثَمَّ أطلق الحكم هنا ؛ لإطلاق قول الصادق عليه‌السلام ولكن يغسل يده. (٤)

ويحتمل العدم كباقي النجاسات ، وهو اختيار الشهيد (٥) رحمه‌الله.

وفي حكم هذين الأمرين مسّ الميّت قبل البرد ، فإنّه يوجب غَسل ما مسّه به خاصّة عند المصنّف (٦) مطلقاً ، وقد تقدّم تحقيقه.

واعلم أنّ الذي استفيد من الأخبار واختاره جماعة (٧) من الأصحاب : أنّ نجاسة الميّت عينيّة من وجه وحكميّة من آخر.

أمّا الأوّل : فلحكمهم بتعدّيها إلى غيرها ، كما دلّ عليه إطلاق الأخبار ، كخبر الحلبي وإبراهيم بن ميمون ، (٨) والحكميّة الحدثيّة ليست كذلك.

وأمّا كونها حكميّةً من وجه : فلزوالها بالغسل ، وافتقاره إلى النيّة كالجنابة وغيرها.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٢٢ ؛ نهاية الإحكام ٢ : ٢٢٣ ؛ تذكرة الفقهاء ١ : ٣٥٠ ، المسألة ١٢٢.

(٢) في ص ٣٠٧ و ٣٠٨.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ١٧٣.

(٤) الكافي ٣ : ٦١٦٠ / ٤ ؛ التهذيب ١ : ٢٦٢ / ٧٦٣ ؛ و ٢٧٧ / ٨١٦.

(٥) البيان : ٨٢ ؛ الذكرى ١ : ١٣٣.

(٦) قواعد الأحكام ١ : ٢٢.

(٧) منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ٤٦٢.

(٨) تقدّمت الإشارة إلى مصادرهما في ص ٣٠٧ ، الهامش (٨) و ٣٠٨ ، الهامش (١).

٣١٢

وأمّا حكم المنتقلة منها إلى اللامس فإن كان مع الرطوبة ، فهي عينيّة محضة ، فلو لمس اللامس له برطوبة آخر برطوبة ، نجس أيضاً ، وهلمّ جرّاً.

وخلاف ابن إدريس (١) في ذلك ضعيف.

وإن كان مع اليبوسة فقيل : هي حكميّة محضة ، أي محكوم بوجوب تطهير اللامس ، ولا تتعدّى النجاسة إلى غيره ، فلو مسّه بغير رطوبة ثمّ مسّ رطباً ، لم ينجس الثاني. وهو اختيار المصنّف في القواعد. (٢) وفيه نظر ؛ لإطلاق النصوص المتقدّمة بوجوب غَسل الملاقي لبدن الميّت ، وما ذاك إلا لنجاسته ، ومن حكم النجس تنجيسه لغيره مع ملاقاته له برطوبة ، فالظاهر حينئذٍ كون نجاسة اللامس له مطلقاً عينيّةً محضة ، فينجس الملاقي لها مع الرطوبة ، ويعتبر في إزالتها ما يعتبر في إزالة العينيّة.

__________________

(١) السرائر ١ : ١٦٣.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ٢٢.

٣١٣
٣١٤

(النظر الرابع : في أسباب التيمّم)

المسوّغة له (وكيفيّته) وهي بيان أفعاله على وجه التفصيل.

وقوله (يجب التيمّم لما تجب له الطهارتان) ليس من الأسباب ولا الكيفيّة ، وإنّما ذكره استطراداً ، وقد تقدّم الكلام عليه في أوّل الكتاب في بيان أقسام الطهارة.

وهذه العبارة أجود ممّا تقدّم هناك في قوله والتيمّم يجب للصلاة والطواف إلى آخره والمندوب ما عداه لاستلزام ما تقدّم كون التيمّم للّبث في المساجد مع الاحتياج إليه وللصوم مع تعذّر الغسل ولمسّ خطّ المصحف كذلك مندوباً ، بخلاف قوله هنا ، بل هو كالمنافي لما تقدّم ، لكن لا مشاحّة في اللفظ مع الاتّفاق على المعنى.

(وإنّما يجب) التيمّم (عند) العجز عن الماء ، فمسوّغه في الأصل شي‌ء واحد ؛ للآية. (١)

لكن للعجز أسباب (فقد الماء) بأن لا يوجد مع طلبه على الوجه المعتبر ، وسيأتي بيانه ، أو الخوف على النفس أو المال من استعماله مع وجوده ، المعبّر عنه بقوله (أو تعذّر استعماله للمرض) أي لحصول مرضٍ مانع من استعمال الماء بأن يخاف زيادته أو بُطء بُرئه أو عسر علاجه ، أو لخوف حصول المرض بسبب الاستعمال وإن لم يكن موجوداً حالَ الاستعمال.

ولا فرق في ذلك بين المرض العامّ لجميع البدن والمختصّ بعضو.

ولو كان المرض يسيراً بحيث يتحمّل مثله عادةً ، كالصداع ووجع الضرس ، فظاهر العبارة عدم جواز التيمّم ؛ لعدم التعذّر عادةً ، وصرّح به في غير هذا الكتاب. (٢)

__________________

(١) النساء (٤) : ٤٣ ؛ المائدة (٥) : ٦.

(٢) تذكرة الفقهاء ٢ : ١٦٠ ، الفرع «ج».

٣١٥

وفي النهاية (١) علّق الجواز على مطلق المرض ، وهو ظاهر اختيار الذكرى (٢) ؛ محتجّاً بالعسر والحرج ، وبنفي الضرر في الخبر ، (٣) مع أنّه لا وثوق في المرض بالوقوف على الحدّ اليسير ، ولأنّ ضرر ما ذُكر أشدّ من ضرر الشّين وقد أطبقوا على جواز التيمّم لخوفه.

وفي حكم المرض وخوفه العجزُ عن الحركة التي يحتاج إليها في تحصيل الماء لكِبَرٍ أو مرضٍ أو ضعف قوّة ، فيباح له التيمّم إلا أن يجد معاوناً ولو بأُجرة مقدورة.

وكذا العجز بسبب ضيق الوقت بحيث لا يدرك منه بعد الطهارة قدر ركعة ، فإنّه يتيمّم وإن قدر على الماء بعد الوقت ، خلافاً للمحقّق (٤) رحمه‌الله.

ولو أمكن زوال الضرر بالإسخان وتمكّن منه ولو بعوض مقدور وإن كثر ، لم يجز التيمّم.

ولا فرق في ذلك بين متعمّد الجنابة وغيره على الأشبه ؛ لإطلاق النصوص ، ونفي الضرر ، خلافاً للمفيد (٥) وجماعة (٦) حيث ذهبوا إلى عدم جواز التيمّم حينئذٍ وإن خاف على نفسه ، وللشيخ في النهاية حيث جوّزه عند خوف التلف وأوجب الإعادة (٧) ؛ استناداً إلى أخبار لو سُلّم دلالتها كانت معارضةً بأقوى منها وأظهر دلالةً.

(أو) تعذّر استعماله (للبرد) المؤلم في الحال ألماً شديداً لا يتحمّل مثله عادةً مع أمن العاقبة ، فإنّه يسوغ له التيمّم حينئذٍ ، كما صرّح به المصنّف في المنتهي والنهاية (٨) ؛ لعموم قوله عليه‌السلام : «لا ضرر. (٩)» أمّا لو تألّم بالبرد ألماً يمكن تحمّله عادةً ، لم يجز التيمّم قطعاً ؛ لانتفاء الضرر ، وعليه

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ١٩٥.

(٢) الذكرى ١ : ١٨٦.

(٣) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ؛ الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ؛ التهذيب ٧ : ١٤٧١٤٦ / ٦٥١ ؛ سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ / ٢٣٤١ ؛ سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٨ / ٨٤ و ٨٥ ؛ مسند أحمد ١ : ٥١٥ / ٢٨٦٢.

(٤) المعتبر ١ : ٣٦٦.

(٥) المقنعة : ٦٠.

(٦) منهم : ابن الجنيد كما هو ظاهره. انظر : مختلف الشيعة ١ : ٢٧٧ ، المسألة ٢٠٦.

(٧) النهاية : ٤٦.

(٨) منتهى المطلب ٣ : ٢٨ ؛ نهاية الإحكام ١ : ١٩٥.

(٩) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ؛ الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ؛ التهذيب ٧ : ١٤٦ ١٤٧ / ٦٥١ ؛ سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ / ٢٣٤١ ؛ سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٨ / ٨٤ و ٨٥ ؛ مسند أحمد ١ : ٥١٥ / ٢٨٦٢.

٣١٦

يُحمل الخبر باغتسال الصادق عليه‌السلام في ليلة باردة وهو شديد الوجع. (١)

ويمكن المنع من التيمّم مع البرد الذي لا تخشى عاقبته مطلقاً ؛ لظاهر الخبر ، وهو الظاهر من اختيار الشهيد (٢) رحمه‌الله.

وحكم الحَرّ في ذلك حكم البرد ، وإنّما خصّه بالذكر ؛ لأنّه الأغلب في المنع.

(و) كذا لو كان تعذّر استعماله لسبب (الشين) وهو ما يعلو البشرة من الخشونة المشوّهة للخلقة ، وربما بلغت تشقّق الجلد وخروج الدم.

وإنّما كان مانعاً ؛ لأنّه نوع من الأمراض خصوصاً مع تشقّق الجلد.

ولا فرق في الشين بين شدّته وضعفه ؛ للإطلاق ، وصرّح به المصنّف في النهاية ، (٣) وقيّده في المنتهي بكونه فاحشاً (٤) ؛ لقلّة ضرر ما سواه. وهو أولى.

والمرجع في ذلك كلّه إلى ما يجده من نفسه ظنّاً أو تجربةً ، أو إلى إخبار عارف ثقة أو مَنْ يظنّ صدقه وإن كان فاسقاً أو صبيّاً أو امرأةً أو عبداً أو كافراً لا يتّهمه على دينه. ولا يشترط التعدّد. ولا فرق في ذلك بين الطهارتين.

ومتى خشي شيئاً من ذلك ، لم يجز استعمال الماء ؛ لوجوب حفظ النفس ، فلو خالف واستعمله ، ففي الإجزاء نظر : من امتثال أمر الوضوء أو الغسل ، ومن عدم الإتيان بالمأمور به الآن ، فيبقى في العهدة ، والنهي عن استعماله في الطهارة ، المقتضي للفساد في العبادة. وهو أقرب.

(أو خوف العطش) الحاصل أو المتوقّع في زمان لا يحصل فيه الماء عادةً أو بقرائن الأحوال له أو لغيره من النفوس المحترمة التي لا يهدر إتلافها إنسانيّة أم حيوانيّة ، ولا اعتبار بغيرها كالمرتدّ عن فطرة والحربيّ والكلب العقور والخنزير وكلّ ما يجوز قتله ، سواء وجب كالزاني المحصن ، أم لا كالحيّة والهرّة الضارية.

ولا فرق في خوف العطش بين الخوف على النفس أو شي‌ء من الأطراف ، أو خوف مرض يحدث بسببه أو يزيد ، أو خوف ضعف يعجز معه عن المشي حيث يحتاج إليه ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٩٨ / ٥٧٥ ؛ الاستبصار ١ : ١٦٢ ـ ١٦٣ / ٥٦٣.

(٢) البيان : ٨٥.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ١٩٥.

(٤) منتهى المطلب ٣ : ٢٨.

٣١٧

أو مزاولة أُمور السفر التي لا يتمّ بدونها ؛ لأنّ ذلك كلّه ضرر.

ولا فرق في تقديم دفع العطش على الطهارة بين أن يكون عنده ماء نجس يمكنه دفع العطش به والطهارة بالطاهر أولا ؛ لأنّ رخصة التيمّم أولى من رخصة استعمال النجس.

نعم ، لو أمكن أن يتطهّر به ويجمع المتساقط من الأعضاء للشرب على وجه يكتفي به ، وجب ؛ جمعاً بين الحقّين.

ولو تطهّر به في موضع العطش ، فالظاهر البطلان ، كما لو تطهّر به مع خوف الضرر بالمرض ؛ للنهي المقتضي للفساد.

واستقرب المصنّف في النهاية الإجزاء ؛ لامتثال أمر الوضوء. (١)

وفيه نظر ؛ لأنّ مطلقه مقيّد بالقدرة على استعمال الماء ، وهو منتفٍ هنا.

(أو) خوف (اللصّ أو السبع) في طريق الماء على النفس المحترمة ، أو شي‌ء من الأطراف كذلك ، أو المال المحترم له أو لغيره ، فيسقط عنه السعي إليه وإن كان قريباً منه ؛ لنفي الحرج ، والنهي عن الإلقاء في التهلكة. ولقول الصادق عليه‌السلام لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع. (٢)

والخوف من وقوع الفاحشة كذلك ، سواء الذكر والأُنثى ، وكذا الخوف على العِرض وإن لم يَخَف على البُضع.

وفي إلحاق الخوف على الدابّة بذلك نظر ، والظاهر الإلحاق ؛ لدخوله في الفاحشة.

والخوف مع عدم سببٍ موجب له بل بمجرّد الجبن كالخوف للسبب عند المصنّف (٣) وجماعة (٤) ؛ لاشتراكهما في الضرر ، بل ربّما أدّى الجبن إلى ذهاب العقل ، الذي هو أقوى من كثير ممّا يسوغ التيمّم لأجله ، أمّا الوهم الذي لا ينشأ عنه ضرر فلا.

(أو) الخوف من (ضياع المال) بسبب السعي وإن لم يكن من اللصّ أو السبع.

ويمكن أن يريد بخوف اللصّ أو السبع على النفس ، وبقوله أو ضياع المال ذهابه بسببهما ، والأوّل أشمل.

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) الكافي ٣ : ٦٥ / ٨ ؛ التهذيب ١ : ١٨٤ / ٥٢٨.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ١٨٨.

(٤) منهم : الشهيد في الذكرى ١ : ١٨٥.

٣١٨

ولا فرق بين المال القليل والكثير ؛ لإطلاق الأمر بإصلاحه.

(أو عدم الآلة) المحتاج إليها في تحصيل الماء ، كالدلو والرشاء حيث يحتاج إليهما.

والقادر على شدّ الثياب بعضها ببعض والتوصّل إلى الماء بها ولو بشقّ بعضها وإن نقصت أثمانها متمكّن مع عدم التضرّر بذلك.

ويتحقّق عدم الآلة والماء بعدم وجودهما معه أو مع باذل ولو بعوض أو إعارة لها أو هبة له ؛ لعدم المنّة الكثيرة في ذلك (أو) بوجودهما مع مَنْ لا يبذلهما إلا بثمن مع (عدم الثمن) في الحال أو في المآل حيث يمكن تأجيله إليه ، وكذا لو وجدت الآلة بأُجرة مع عدمها كذلك.

ولا يتحقّق بوجودها هبة أو وجود ثمنها أو ثمن الماء كذلك ؛ لأنّ ذلك كلّه ممّا يمتنّ به عادة ، ويحصل به ضرر وغضاضة وامتهان على نفوس الأحرار.

ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير ؛ لعدم انضباط أحوال الخلق في ذلك فاعلاً وقابلاً ، فربما عدّ بعضهم القليل كثيراً وشقّ على بعضهم تحمّل القليل كالكثير ، فالمرجع في ذلك إلى جنس ما يمتنّ به عادةً ، كما لم يفرّق بين كثير الماء وقليله في وجوب قبوله اعتباراً بالجنس. هذا إذا كان البذل على وجه التبرّع ، كالهبة ونحوها.

أمّا المنذور على وجه يدخل فيه المحتاج ويفتقر إلى القبول : فإنّ قبوله واجب ، كما يجب التكسّب له ؛ لوجوب تحصيل الشرط الواجب المطلق وانتفاء المنّة.

ولو كان النذر لا يحتاج إلى قبول ، فوجوب أخذه أولى ؛ لأنّ الملك فيه حينئذٍ قهريّ والمنّة منتفية.

وكما لا يجب قبول الهبة كذا لا يجوز مكابرة مالك الماء والآلة عليهما ؛ لانتفاء الضرورة ، بخلاف الماء للعطش والطعام في المجاعة.

(ولو وجده) أي الثمن (وخاف الضرر) على نفسه أو غيره من الأموال المحترمة كما تقدّم (بدفعه) عوضاً عن الماء أو الآلة ، لم يجب دفعه في ذلك بل لم يجز ؛ لأنّا سوّغنا ترك استعمال الماء لحاجته وهو غير المطهّر ، فترك بدله مع الحاجة أولى ، و (جاز) حينئذٍ (التيمّم) لصدق العجز عن تحصيل الماء.

فرع للمصنّف رحمه‌الله : لو وجد ماءً موضوعاً في الفلاة في حبّ أو كوز ونحوه للسابلة ، جاز له الوضوء ، ولم يسغ له التيمّم ؛ لأنّه واجد ، إلا أن يعلم أو يظنّ وضعه

٣١٩

للشرب. ولو كان كثيراً ، دلّت الكثرة على تسويغ الوضوء منه. ذكر ذلك كلّه في النهاية. (١) وللنظر في بعض قيوده مجال.

(ولو وجده) أي الماء (بثمن لا يضرّه في الحال) يمكن أن يريد به الزمان الحاضر ، فلا عبرة بخوف ضرره في المآل ؛ لإمكان تجدّد ما تندفع به الضرورة ، ولعدم الضرر بذلك حينئذٍ.

والأولى أن يراد به حاله ، أي حال نفسه ، فيجعل اللام عوضاً عن المضاف إليه ؛ ليعمّ الضرر الحاضر والمتوقّع حيث يحتاج إلى المال المبذول في مستقبل الزمان الذي لا يتجدّد له فيه مال عادةً.

فمتى لم يضرّه بذل الثمن في الحال أو المآل على ذلك الوجه (وجب الشراء) لانتفاء الضرر الذي باعتباره ساغ التيمّم (وإن زاد) الثمن المقدور عليه المفروض عدم التضرّر به مطلقاً (عن ثمن المثل) أضعافاً مضاعفة على المشهور ؛ لأنّه متمكّن ، والفرض انتفاء الضرر ، ولوجوب تحصيل شرط الواجب المطلق بحسب الإمكان.

ولقول الكاظم عليه‌السلام وقد سُئل عمّن وجد قدر ما يتوضّأ به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لها يشتري ، قد أصابني مثل هذا فاشتريت وتوضّأت. (٢)

(على إشكال) في ذلك ناشٍ ممّا ذكرناه ومن أنّ خوف فوات المال اليسير بالسعي إلى الماء مجوّز للتيمّم ، فكيف يجب بذل الكثير على هذا الوجه فيه!؟ ولتساوي الحكم في تضييع المال القليل والكثير ، وكفر مستحلّه ، وفسق غاصبه ، وجواز الدفع عنه. وهو اختيار ابن الجنيد. (٣)

وجوابه : الفرق بين جميع ما ذُكر وموضع النزاع بالنصّ ، وبالمنع من مساواة ما يبذله المكلّف باختياره وبين ما ينهب منه قهراً ؛ لما في الثاني من لزوم الغضاضة والإهانة الموجبة للضرر ، خلاف الأوّل ؛ لأنّ الفرض انتفاء الضرر فيه.

وفرّق المصنّف (٤) بينهما : بأنّ اللازم في الفرع إنّما هو الثواب ؛ لأنّه عبادة اختياريّة مطلوبة للشارع ، وهو أضعاف ما دفع ، وألزم في الأصل إنّما هو العوض ، وهو مساوٍ لما أُخذ منه ، فلم يتمّ القياس.

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ١٩٥.

(٢) الكافي ٣ : ٧٤ / ١٧ ؛ الفقيه ١ : ٢٣ / ٧١ ؛ التهذيب ١ : ٤٠٦ / ١٢٧٦.

(٣) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ١ : ٣٦٩.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ١٩٤.

٣٢٠