غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

أقول : قال الشيخ في المبسوط : إذا قال : لا شربت لك ماء من عطش عقيب تعديد انعامه عليك ، كقوله : أحسنت إليك أو وهبتك كذا أو أعطيتك كذا وكذا ، تعلق الحكم بشرب مائه من عطش ، فان انتفع بغير الماء من ماله وأكل من طعامه ولبس ثيابه وركب دوابه لم يحنث ، لأنه إنما ينظر الى مخرج اليمين ويحنث صاحبها ويبر (٣٢) على مخرجها دون أسبابها ، وقال بعضهم : يحنث بكل (٣٣) حال ، والأول أقوى عندي ، لأصالة براءة الذمة ، والثاني قوي لفحوى الخطاب : هذا آخر كلامه ، وهو يدل على تردده.

والمعتمد : أن مبنى اليمين على نية الحالف ، فان قصد بيمينه رفع المنة انصرف الى كل ما فيه منه ، وإن لم يقصد شيئا احتمل صرفه إلى الحقيقة اللغوية وهو الماء فقط ، ويحتمل صرفه الى العرف وفحوى الخطاب فيصرف الى كل ما فيه منه ، لان حلفه بعد تعديد إنعامه عليه يدل على الامتناع عن كل ما يعد نعمة ، ويحصل فيه منة ، ولعل الأقوى عدم الحنث ، لأصالة براءة الذمة ما لم يتحقق اشتغالها ، وهو غير متحقق مع الاحتمال.

قال رحمه‌الله : أما التطيب ففيه التردد ، ولعل الأشبه : أنه لا يحنث بالاستدامة.

أقول : الأفعال على ثلاثة أقسام :

الأول : ما يحنث فيه بابتداء الفعل واستدامته ، مثل السكنى واللبس والركوب والغصب والجماع ، فاذا حلف : لا ساكنت فلانا وهو ساكن معه ، وجب الخروج على الفور ، (وإذا حلف لا لبست ثوب زيد وهو لابسه ، وجب نزعه على

__________________

(٣٢) في الأصل وفي «ن» : وهي.

(٣٣) كذا في النسخ وفي الأصل : لكل.

٤٨١

الفور) (٣٤) ، وكذا لا ركبت وهو راكب وجب النزول على الفور ، ووجب رد المغصوب على الفور لو حلف لا غصبت شيئا ، ولو حلف عن الجماع وهو مجامع وجب النزع على الفور ، فلو تأخر في هذه الصور مع الإمكان حنث ، لأن اسم الفعل في هذه الصور يطلق على الاستدامة كما يطلق على الابتداء فاستوى حكمها (٣٥).

الثاني : ما يحنث بالابتداء دون الاستدامة ، وهو النكاح والإحرام والشراء والرهن والوقف ، وبالجملة كل عقد لازم ، فلو حلف لا نفعل أحد هذه العقود وقد فعله لا يحنث حتى يستأنفه.

الثالث : ما اختلف فيه ، هل يكون استدامته كابتدائه أم لا؟ وهو ثلاثة : الطيب والطهارة والسفر ، والشيخ ذهب الى عدم الحنث بالاستدامة واختاره المصنف والعلامة وابنه ، لأن التطيب حقيقة في الابتداء مجاز في الاستدامة ، لأنه يجوز للمتطيب أن يقول ما تطيبت الآن ، والسلب من علامات المجاز ، ولأصالة براءة الذمة.

قال رحمه‌الله : لو حلف : لا دخلت دار زيد ، أو لا كلمت زوجته أو لا استخدمت عبده ، كان التحريم تابعا للملك ، ومتى خرج شي‌ء من ذلك عن ملكه زال التحريم ، أما لو قال : لا دخلت دار زيد هذه ، تعلق التحريم بالعين ، ولو زال الملك ففيه قول بالمساواة حسن.

أقول : إذا قال لا دخلت دار زيد هذه ، أو لا كلمت عبده هذا أو زوجته هذه ، هل يزول اليمين بزوال الإضافة أم لا؟ قال الشيخ رحمه‌الله في الخلاف : يزول بزوالها ، واستحسنه المصنف لأصالة براءة الذمة ، ولأنه إذا دخل الدار بعد

__________________

(٣٤) ما بين القوسين ليس في «ر ١».

(٣٥) في «م» : حكمهما.

٤٨٢

خروجها عن ملك زيد لا يقال دخل دار زيد ، فيجب أن لا يحنث ، لان اليمين متعلقة بالاسم فاذا زال الاسم زالت اليمين.

وقال ابن البراج : يحنث مع بقاء الإضافة وعدمها ، وهو ظاهر المصنف والعلامة في القواعد ، وبه قال فخر الدين والشهيد ، لان اليمين تعلقت بالعين وهي موجودة والإضافة للتعريف ، ولأن الدخول فعل موضوعه الدار وإضافتها الى زيد لا تقتضي تعلق الحكم بها ، لأنه أعم ولا دلالة للعام على الخاص.

هذا إذا لم يقصد الإضافة ولا العين بل أطلق وقصد ما يطلق عليه هذا اللفظ ، ومع القصد لا إشكال في التعليق بما قصده ، وكذا لو قصد في التعليق العداوة والمباينة للمضاف اليه ، اختصت اليمين بالإضافة دون العين.

(قال رحمه‌الله : أما لو قال : لا دخلت هذه الدار فانهدمت وصارت براحا ، قال الشيخ رحمه‌الله : لا يحنث ، وفيه اشكال ، من حيث تعلق اليمين بالعين فلا اعتبار بالوصف.

أقول : ومن عدم (٣٦) تسمية العرصة بالدار ، والأصح الحنث) (٣٧).

قال رحمه‌الله : لو حلف لا أدخل على زيد بيتا ، فدخل عليه وعلى عمرو ناسيا أو جاهلا بكونه فيه ، فلا يحنث ، وإن دخل مع العلم حنث ، سواء نوى الدخول على عمرو خاصة أو لم ينو ، والشيخ رحمه‌الله فصّل.

أقول : التفصيل مذهب الشيخ في المبسوط ، وهو إن نوى الدخول على عمرو دون زيد لم يحنث ، وإن لم يستثن زيدا بالنية حنث ، (لأن مبنى) (٣٨) هذه المسألة على من حلف لا يكلم زيدا ثمَّ سلم على جماعة هو فيهم واستثناه من

__________________

(٣٦) هذا من «ن» وفي الأصل و «ر ١» : عده أو عنده وهي غير واضحة.

(٣٧) ما بين القوسين ليس في «م».

(٣٨) في الأصل و «ر ١» : لا بد مبنى ، وفي «م» : لأنه مبنى وما أثبتناه من «ن».

٤٨٣

بينهم ، وقوى عدم الحنث مع الاستثناء ، فكذلك الدخول عنده ، وفرق بينهما في الخلاف وجوز الاستثناء في الكلام دون الدخول ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة ، وهو المعتمد ، لأن السلام لفظ عام فيجوز أن يخصه بقلبه ، والدخول فعل واحد فلا يجوز تخصيصه بعمرو دون زيد ، وإذا لم يقبل التخصيص فقد حنث بالدخول ، سواء خصص أو لم يخصص.

قال رحمه‌الله : وهل يحنث بدخوله عليه في مسجد أو الكعبة؟ قال الشيخ : لا ، لأن ذلك لا يسمى بيتا في العرف ، وفيه إشكال ، يبنى على ممانعته دعوى العرف.

أقول : هذه المسألة مبنية على ان المسجد والكعبة ، هل يسمى كل واحد منهما بيتا في العرف أو لا؟ قال الشيخ : لا يسمى بيتا ، لأن البيت إذا أطلق يتناول ما بني للايواء والسكنى ، فلا يحنث بما بني للعبادة والصلاة ، واستند في ذلك الى العرف ، وتابعه العلامة في قواعده واختاره الشهيد ، واستشكله المصنف وبنى الإشكال على ممانعة العرف (٣٩) الشيخ دعوى العرف ، أي يمنع دعوى الشيخ أن كلا من الكعبة والمسجد لا يسمى بيتا في العرف ، لأن الله تعالى سماه بيتا (٤٠) فهو بعرف الشرع يسمى بيتا ، وان كان بعرف العادة والاستعمال لا يسمى بيتا ، وإذا طرئ عرف الشرع على عرف اللغة أو الاستعمال كان الحكم لعرف الشرع ، وهو مذهب ابن إدريس.

والمعتمد اتباع القصد فان خلا عن القصد انصرف الى عرف الحالف.

قال رحمه‌الله : العقد : اسم للإيجاب والقبول فلا يتحقق إلا بهما ، فاذا حلف ليبيعن لا يبرّ إلا مع حصول الإيجاب والقبول ، وكذا لو حلف ليهبن ، وللشيخ في

__________________

(٣٩) هذه الكلمة ليست في «م» و «ن».

(٤٠) الحج : ٣٠ ، النور : ٣٦.

٤٨٤

الهبة قولان ، أحدهما : أنه يبر بالإيجاب ، وليس بمعتمد.

أقول : الاكتفاء بالإيجاب خاصة مذهبه في الخلاف ، واشتراط القبول مذهبه في المبسوط ، وهو المشهور بين الأصحاب ، لأن الهبة عقد وهو لا يكون الا بين اثنين فهو كالبيع ، الا أن القبول في الهبة قد يكون قولا وقد يكون فعلا ، ولا يكون البيع الا بالقول دون الفعل.

قال رحمه‌الله : قال الشيخ : الهبة : اسم لكل عطية متبرع بها ، كالهدية والنحلة والعمرى والوقف والصدقة ، ونحن نمنع الحكم في العمرى والنحلة إذ يتناولان المنفعة ، والهبة تتناول العين ، وفي الوقف والصدقة تردد ، منشؤه متابعة العرف في أفراد كل واحد باسم.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : في العمرى والنحلة ، هل يعدان هبة أم لا؟ ذهب الشيخ إلى أنهما نوعان من أنواع الهبة ، فإذا حلف لا وهبت له فأعمره أو نحلة حنث عند الشيخ ، واختاره العلامة والشهيد ، لمساواة المنافع للأعيان في النقل والتقويم ، فاذا تبرع بها كانت هبة كالعين ، ومنع المصنف من ذلك ، لأن إطلاق الهبة ينصرف الى تمليك الأعيان فما لا يكون تمليكا للأعيان لا يكون هبة ، فلا يحنث بتمليك المنفعة مجردة عن العين ، لأصالة براءة الذمة.

الثاني : في الوقف والصدقة المندوبة ، هل يتناولهما اسم الهبة؟ قال الشيخ : يتناولهما اسمها إذا حلف على عدم الهبة ، واختاره العلامة في القواعد والمختلف لاندراجهما تحت اسم الهبة ، لأنها كل عطية متبرع بها حال الحياة ، وانما قلنا حال الحياة ليخرج الوصية ، لأنها عطية متبرع بها لكنها بعد الموت. فلا تسمى هبة.

وقال ابن إدريس : قوله الهبة عبارة عن كل عطية يملكه إياها متبرعا بغير عوض فغير واضح ، لأن الوقف كذلك ولا يسمى هبة بغير خلاف ، وصدقة

٤٨٥

التطوع عندنا لا تسمى هبة ، بل بينها وبين الهبة فرق كثير ، لأن صدقة التطوع (٤١) بعد القبض لا يجوز الرجوع فيها ، والهبة يجوز الرجوع فيها ، وتردد المصنف في ذلك لافراد كل واحد من الهبة والصدقة والوقف باسم ، واليمين إنما تناول اسم الهبة فلا يدخل الوقف والصدقة (باسم فيها ، بل) (٤٢) وللمغايرة في الحكم أيضا ، لأن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته بخلاف العين الموهوبة ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان (٤٣) يقبل الهبة ويرد الصدقة ، ولأن المقصود من الصدقة التقرب الى الله تعالى وتحصيل الأجر ، والمقصود من الهبة تحصيل المودة ، فإذا حصل المغايرة في الاسم والحكم والغاية خرجا عن حد الهبة وهو قوي.

قال رحمه‌الله : إذا حلف لا يفعل لم يتحقق الحنث إلا بالمباشرة ، فإذا قال : لا بعت ، أو لا شربت ، فوكل فيه لم يحنث ، أما لو قال : لا بنيت بيتا فبناه البناء بأمره أو استئجاره ، قيل : يحنث نظرا الى العرف ، والوجه : أنه لا يحنث إلا بالمباشرة ، ولو قال : لا ضربت فأمر بالضرب لم يحنث ، وفي السلطان تردد ، أشبهه أنه لا يحنث إلا بالمباشرة ، ولو قال : لا أستخدم فلانا فخدمه بغير إذنه لم يحنث ، ولو توكل لغيره في البيع أو الشراء ففيه تردد ، والأقرب الحنث لتحقق المعنى المشتق منه.

أقول : إذا حلف لا يفعل ثمَّ باشر الفعل بنفسه حنث مطلقا ، سواء كان (مما جرت عادته) (٤٤) بمباشرة ذلك الفعل أو لا ، وإن فعله غيره بإذنه أو فعله هو نيابة عن غيره ، هل يحنث أم لا؟ البحث هنا في موضعين :

الأول : أن يفعله غيره بأمره ، فنقول : إن كان الحالف عادته (٤٥) مما يلي ذلك

__________________

(٤١) في الأصل : لأن الصدقة التطوع الهبة القربة ، وما أثبتناه من «م» و «ن».

(٤٢) في «ن» : فيها ، وفي «م» و «ر ١» : فيهما.

(٤٣) هذه الكلمة في «ر ١».

(٤٤) في «ن» بدل ما بين القوسين : ما جرت العادة.

(٤٥) هذه الكلمة ليست في النسخ.

٤٨٦

الفعل بنفسه فوكل فيه غيره لم يحنث ، لأنه لم يفعله ، لأن الإيمان إنما تتعلق بحقائق الأسماء والأفعال ، فإذا فعله غيره فهو وإن أضيف اليه لم يفعله حقيقة ، لصحة سلب الفعل عنه.

وإن كان الحالف ممن لم تجر عادته بتولي ذلك الفعل بنفسه مثل السلطان ، يحلف على عدم البيع أو الشراء أو الضرب فيأمر فيه ، أو غير البناء يحلف على عدم البنيان ، فيأمر فيه ، هل يحنث أم لا؟ تردد المصنف في ذلك ثمَّ رجح عدم الحنث ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف وابن إدريس ، لأن حقيقة اضافة الفعل اليه أن يباشره بنفسه ، وانما ينسب ما يفعله غيره بأمره اليه على ضرب من المجاز ، ولهذا يحسن أن يقال ما ضربه وإنما ضربه غلامه ، والايمان تتعلق بالحقائق دون المجازات ، والأصل براءة الذمة ، وقوى في المبسوط الحنث وقوى (٤٦) عدمه أيضا ، واختار العلامة وابنه والشهيد الحنث اتباعا للعرف ، لان العرف صرف حقيقة اللفظ الى مجازه ، فيصير اعتبار المجاز حيث اقترن بالعرف أولى من اعتبار الحقيقة إذا فارقت العرف ، لأن المتبادر الى فهم السامع حمل اللفظ عند إطلاقه إلى المتعارف بين الناس وإن خالف الحقيقة.

وهذا البحث انما يتوجه مع إطلاق (٤٧) اللفظ (عند إطلاقه إلى المتعارف) (٤٨) وقصد مدلوله ، أما مع قصد المباشرة أو الأمر فلا يحنث بل يتبع القصد.

الثاني : إذا باشر الفعل المحلوف على تركه لغيره كما لو حلف لا يبيع ولا يشتري ثمَّ باع أو اشترى لغيره ، هل يحنث أم لا؟ تردد المصنف في ذلك ثمَّ رجح الحنث ، قال : لتحقق المعنى المشتق منه ، لأن البائع من صدر منه البيع ،

__________________

(٤٦) في النسخ : ثمَّ قوى.

(٤٧) كذا.

(٤٨) ما بين القوسين ليس في النسخ.

٤٨٧

والمشترى من صدر منه الشراء ، وهذا المعنى متحقق في المباشر للبيع والشراء ، سواء كان لنفسه أو لغيره.

ويحتمل عدم الحنث ، لأن المتبادر الى الفهم عند إطلاق لفظ البيع والشراء ما كان لنفسه دون غيره ، فيحمل اللفظ عند إطلاقه إلى المتبادر الى فهم السامع ويعضده أصالة البراءة.

قال رحمه‌الله : إذا حلف ليضربن عبده مائة سوط ، قيل : يجزي الضغث ، والوجه انصراف اليمين الى الضرب بالآلة المعتادة كالسوط والخشبة.

أقول : إذا حلف ليضربن عبده مائة سوط في الحد والتعزير المأمور به ، انعقدت اليمين ووجب الوفاء بها ، ولا يجب الوفاء بها (٤٩) إذا كان للتأديب على شي‌ء من المصالح الدنيوية ، ولا يحنث بالترك بل يكون أولى.

ومع وجوب الوفاء ، قال الشيخ في المبسوط : يجزي ضربة واحدة بضغث مشتمل على العدد لقوله تعالى (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) (٥٠) ، ولأن حقيقة الضرب وقوع الإله المضروب بها على المضروب بقوة فعل (٥١) الضارب ، وقد حصل المسمى الحقيقي فيبرئ.

واختار المصنف عدم اجزاء الضغث مع عدم الخوف على نفس المضروب ، بل لا بد من الضرب بالآلة المعتادة للضرب ، كالسوط والخشبة ، واختاره المصنف وهو المعتمد ، لاقتضاء العرف ذلك والأيمان تنصرف الى المتعارف بين الناس ، وهنا هو المتعارف ، فينصرف اليمين عند إطلاق اللفظ اليه.

تنبيه : لا بد في الضرب من الإيلام ، فلا يجزي وضع الآلة ورفعها من غير

__________________

(٤٩) ليست في الأصل.

(٥٠) صاد : ٤٤.

(٥١) في النسخ : بفعل.

٤٨٨

إيلام ، لأنه لا يسمى في العرف ضربا الا مع الإيلام ، ومع عدمه لا يصدق عليه (٥٢) اسم الضرب حقيقة ، واللكم واللطم المؤلم يسمى ضربا ، بخلاف العصر والخنق والقرص ، خلافا لابن الجنيد في الثلاثة.

قال رحمه‌الله : إذا حلف لا ركبت دابة العبد ، لم يحنث بركوبها ، لأنها ليست له حقيقة ، وإن أضيفت إليه فعلى المجاز ، أما لو قال : لا ركبت دابة المكاتب ، حنث بركوبها ، لان تصرف المولى ينقطع عن أمواله ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه مما قاله المصنف ، ومن عدم تمامية الملك ، لأنه ممنوع من التصرف في أمواله بغير الغبطة ولأصالة براءة الذمة ، والمشهور الحنث ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره العلامة في كتبه (٥٣).

قال رحمه‌الله : التسري [هو] وطئ الأمة ، وفي اشتراط التحذير نظر.

أقول : منشأ النظر من اختلاف الأصحاب في حقيقة التسري ، قال الشيخ في الخلاف : إذا حلف لا يتسرى فمتى تسرى حنث ، وما هو التسري؟ الاولى أن يقال : إنه عبارة عن الوطي والتخدير ، لأن الجارية ضربان : سرية وخادمة ، فاذا خدرها ووطى فقد تسرى وترك الاستخدام ، وتابعه ابن إدريس واختاره العلامة في الإرشاد.

ونقل في المبسوط ثلاثة أقوال : الأول : مذهبه في الخلاف والثاني : أن التسري مجرد الوطي أنزل أو لم ينزل ، حصنها أو لم يحصنها ، واختاره العلامة في التحرير والشهيد في دروسه. الثالث : أنه الوطي مع الانزال وان لم يخدرها ، ثمَّ قواه.

واختار العلامة في المختلف الرجوع الى العرف ، فإنه يختلف باختلاف

__________________

(٥٢) هذه من النسخ ، وفي الأصل : معه.

(٥٣) في «ن» : أكثر كتبه.

٤٨٩

الزمان والأصقاع (٥٤) والأوضاع (٥٥) ، واختاره فخر الدين وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا حلف لأقضين دين فلان الى شهر كذا ، كان غاية ، ولو قال : الى حين أو زمان ، قال الشيخ : يحمل على المدة التي حمل عليها نذر الصيام ، وفيه إشكال من حيث هو تعد عن موضع النقل وما عداه إن فهم المراد به ، والا كان مبهما.

أقول : إذا قال لأقضين حقه الى حين أو الى زمان ، قال الشيخ رحمه‌الله : يحمل على نذر الصوم ، وهو أن الحين ستة أشهر والزمان خمسة ، وقواه العلامة في المختلف ، لأن العرف الشرعي ناقل عن الوضع اللغوي ، والعرف الشرعي نقل الحين في نذر الصوم إلى ستة أشهر والزمان إلى خمسة أشهر ، واستقر (٥٦) العرف في ذلك.

وابن إدريس خص ذلك بمورد النقل ، وهو نذر الصوم خاصة ، لأن الزمان والحين من الأسماء المبهمة التي تقع على القليل والكثير ، قال تعالى (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٥٧) وفسر بيوم القيامة ، وقال تعالى (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) (٥٨) ، وفسره بعضهم بتسعة أشهر مدة حمله ، وقيل : هو أربعون سنة ، إشارة إلى آدم عليه‌السلام ، لأنه صور من حمأ مسنون وطين لازب ثمَّ نفخ فيه الروح بعد أربعين سنة ، وقال تعالى (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ) (٥٩) ،

__________________

(٥٤) من النسخ وفي الأصل : والاجتماع.

(٥٥) ليست في النسخ.

(٥٦) في «م» : واستقرب.

(٥٧) صاد : ٨٨.

(٥٨) الدهر : ١.

(٥٩) المؤمنون : ٥٤.

٤٩٠

وقال (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (٦٠) ، فهو اسم مشترك بين القليل والكثير ، ولا يمكن حمله على جميع معانيه فلهذا صار مبهما.

والبحث في الزمان كالبحث في الحين ، لأنه اسم مبهم يصدق على القليل والكثير أيضا.

والمعتمد : أنه (٦١) إن فهم المراد عمل عليه والا كان مبهما لا يتحقق الحنث فيه الا بموت أحدهما ، لحصول تعين الحنث حينئذ ، والأصل فيما عداه براءة الذمة.

__________________

(٦٠) الروم : ١٧.

(٦١) من «ر ١».

٤٩١
٤٩٢

في اللواحق

قال رحمه‌الله : اليمين بالبراءة من الله سبحانه ، أو من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينعقد ، ولا يجب فيها كفارة ، ويأثم ولو كان صادقا ، وقيل : يجب بها كفارة ظهار ولم أجد به شاهدا ، وفي توقيع العسكري عليه‌السلام الى محمد بن يحيى : يطعم عشرة مساكين ويستغفر الله (٦٢).

أقول : لا خلاف في عدم جواز الحلف بالبراءة من الله أو من رسوله أو من الأئمة عليهم‌السلام ، سواء كان الحالف صادقا أو كاذبا ، وانما الخلاف في وجوب الكفارة لو حلف ثمَّ حنث ، قال المفيد رحمه‌الله : ولا يجوز اليمين بالبراءة من الله ومن رسوله ومن أحد الأئمة عليهم‌السلام ، فمتى حلف بشي‌ء من ذلك ثمَّ حنث كان عليه كفارة ظهار ، ومثله قال الشيخ في باب الكفارات من النهاية ، وزاد : فان لم يقدر على ذلك كان عليه كفارة يمين ، وتبعه ابن البراج ، وقال ابن حمزة يأثم ويلزمه مع المخالفة كفارة النذر ، وقال في المبسوط والخلاف : يأثم ولا

__________________

(٦٢) التهذيب ، كتاب الايمان والنذور والكفارات ، باب النوادر ، حديث ٧ (ج ٧ ص ٤٦١) ونقله في الوسائل ـ عن محمد بن الحسن ـ في كتاب الايمان ، باب ٧ ، حديث ٣.

٤٩٣

كفارة ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة في أكثر كتبه ، لأصالة براءة الذمة ، ولأنه لا يمين بغير الله ، واعتمد العلامة في المختلف على توقيع العسكري عليه‌السلام الى محمد بن يحيى ، وقد أشار إليه المصنف وهو : «إطعام عشرة مساكين ثمَّ يستغفر الله تعالى» (٦٣).

قال رحمه‌الله : إذا انعقدت يمين العبد ، ثمَّ حنث وهو رق ففرضه الصوم في الكفارات مخيّرها ومرتبها ، ولو كفر بغيره من عتق أو كسوة أو إطعام ، فإن كان بغير إذن المولى لم يجز ، وإن أذن أجزأه ، وقيل : لا يجزيه ، لأنه لا يملك بالتمليك ، والأول أصح ، وكذا لو أعتق عنه المولى بإذنه.

أقول : القول بعدم الاجزاء وإن أذن له المولى نقله الشيخ في المبسوط عن بعضهم ثمَّ قواه ، قال : لأنه وإن ملكه مولاه لا يملك عندنا ، واختار المصنف الاجزاء مع الإذن ، لأنه كالمعسر ، فلو كفر الغير عن المعسر بإذنه صح ، وادعى العلامة الإجماع على ذلك ، وكما يصح عن المعسر يصح عن العبد ، إذا لا مانع سوى عدم الوجدان ، وهو كما يثبت بالإعسار يثبت بالارقاق ، واختاره العلامة.

وذهب فخر الدين الى عدم الاجزاء ، قال : أما العتق فلاشتراط الملك والعبد لا يملك ، وكذا الإطعام والكسوة إلا مع القول بأن تبرع الأجنبي يجزي عن الحي ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله ، وقد حكينا عن أبيه أنه ادعى الإجماع على إجزاء تكفير الغير عن المعسر بإذنه ، قاله في المختلف.

قال رحمه‌الله : ولو حنث من غير إذنه كان له منعه ولو لم يكن الصوم مضرا ، وفيه تردد.

أقول : إذا حلف العبد بإذن سيده ثمَّ حنث بغير إذنه ، هل له منعه من

__________________

(٦٣) التهذيب ، كتاب الايمان والنذور والكفارات ، باب النوادر ، حديث ٧ (ج ٧ ص ٤٦١) ونقله في الوسائل ـ عن محمد بن الحسن ـ في كتاب الايمان ، باب ٧ ، حديث ٣.

٤٩٤

الصيام أم لا؟ ظاهر الشيخ في المبسوط له المنع ، سواء كان الصوم مضرا أو مضعفا في بدنه وعمله كزمان الصيف ، أو غير مضر كزمان الشتاء وما جاوره (٦٤) ، لأنه إذا أذن له باليمين فقد منعه من الحنث.

وقال ابن البراج : إن كان الصوم يضره لسيده منعه ، وإن لم يضره ليس له منعه ، لان الصوم لا ضرر على السيد فيه.

وتردد المصنف من أن الأمر بالشي‌ء يستلزم الأمر بلازمه ، والكفارة من لوازم اليمين المأذون فيها ، لأن سبب الكفارة ليس الحنث المطلق ، بل الحنث عن اليمين المأذون فيها ، وهو اختيار العلامة في المختلف ، وابنه في شرح القواعد ، ونقله الشيخ في المبسوط عن قوم ، ومن أن الحنث مناف لليمين فهو ضد له ، والأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده. (فالأمر باليمين يستلزم (النهي عن) (٦٥) الحنث ، فلا يستلزم معلول الحنث) (٦٦) وهو قوى.

__________________

(٦٤) في «ن» و «ر ١» : أو ما جاوزه.

(٦٥) ما بين القوسين ليس في «م».

(٦٦) ما بين القوسين ليس في «ر ١».

٤٩٥
٤٩٦

كتاب النذر

٤٩٧
٤٩٨

في الناذر

قال رحمه‌الله : ويشترط في نذر المرأة بالتطوعات إذن الزوج ، وكذا يتوقف نذر المملوك على إذن المالك ، فلو بادر لم ينعقد وإن تحرر ، لأنه وقع فاسدا ، وإن أجاز المالك ، ففي صحته تردد ، أشبهه اللزوم.

أقول : منشأ التردد من الشك في إذن السيد ، هل هو شرط في الانعقاد ، بمعنى أن نذر المملوك لا ينعقد بدونه أو شرط في اللزوم ، بمعنى أنه ينعقد بدون الاذن لكنه لا يلزم الا معه؟ فعلى الأول لا يلزم مع الإجازة لأن الإجازة لا تؤثر في الفاسد الصحة ، وعلى الثاني يلزم مع الإجازة ، وهو اختيار المصنف والعلامة في القواعد ، والشهيد في دروسه وفي شرح الإرشاد.

وحكم الزوجة مع الزوج والولد مع الوالد حكم العبد مع سيده ، فعلى مذهب المصنف والعلامة والشهيد إذا أعتق العبد أو طلقت الزوجة أو مات الزوج أو الوالد قبل الحل والإجازة لزم النذر ، لوقوعه صحيحا ، لزوال مانع اللزوم وهو المعتمد.

فرعان : الأول : لو بيع العبد بعد النذر وقبل الإجازة والحل لم يلزم النذر

٤٩٩

لبقاء الحجر وللمشتري حله وإجازته.

الثاني : لو قال زيد : إن تزوجت عمرة فلله علي أن أطأها كل جمعة ، وقالت عمرة أن تزوجني زيد فلله على أن أصوم كل جمعه ثمَّ تزوجها انعقد نذرها دونه ، لأنها نذرت في حاله لا يتوقف نذرها على رضاه ، وقد حصل الشرط فانعقد النذر ووجب الوفاء به ، لأن نذر الوطي إنما يتناول الوطي المباح دون المحرم ، ولا شك في تحريم وطيها في صومها الواجب عليها ، كما لو كانت حائضا ، ولأنه لو نذر وطيها في يوم معين فاتفق الحيض فيه بطل نذره ، نعم لو صادف يوم الجمعة سفرا أو طهرت في أثنائه من الحيض أو النفاس وجب الوطئ لوجوب الوفاء بالنذر مع الإمكان ، ولا فرق بين علم كل واحد منها بنذر صاحبه وعدمه.

٥٠٠