غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

في ما به ينعقد اليمين

قال رحمه‌الله : لا ينعقد اليمين الا بالله ، أو بأسمائه التي لا يشركه فيها غيره ، إذ مع إمكان المشاركة ينصرف إطلاقها [إليه ،] فالأول كقولنا : ومقلب القلوب الذي نفسي بيده الذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، والثاني كقولنا : والله والرحمن ، والأول الذي ليس قبله شي‌ء ، والثالث كقولنا : والخالق والباري والرازق ، وكل ذلك ينعقد به اليمين مع القصد.

أقول : اعلم أن المصنف رحمه‌الله قسم ما ينعقد به اليمين إلى ثلاثة أقسام :

الأول : بالله تعالى.

الثاني : بأسمائه التي لا يشركه فيها غيره.

الثالث : ما يمكن معه المشاركة وينصرف إطلاقه إليه تعالى.

ثمَّ عرف الأول الذي هو الحلف بالله تعالى بقوله : ومقلب القلوب ، والذي نفسي بيده ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، وتابعه العلامة على ذلك ، وهو تعريف ابن إدريس ، فعندهم أن هذه الألفاظ ليست أسماء لله بل دالة عليه.

واستضعفه الشهيد ، قال : لأن مرجعه إلى أسماء تدل على صفات الافعال ،

٤٦١

كالخالق والرازق التي هي أبعد في الانعقاد من الأسماء الدالة على صفات الذات ، كالرحمن الرحيم هذا كلامه رحمه‌الله ، لأن صفاته تعالى على قسمين : صفات ذات ، وصفات فعل ، وصفات الذات كالرحمن الرحيم ، وكعظمة الله وجلالة الله وقدرة الله وكبرياء الله وما شابه ذلك ، وصفات الفعل كالخالق والرازق والمصور ، فكما أن الخالق فاعل الخلق والرازق فاعل الرزق ، فكذا مقلب القلوب ، لأنه فاعل التقليب.

وانما كانت صفات الافعال أبعد في الانعقاد من صفات الذات ، لأن صفات الافعال مشتركة بينه وبين خلقه ، فإنه يقال : خالق الخلق له تعالى ، وخالق الافك لغيره تعالى ، ويقال : رازق الخلق له تعالى ، ورازق الجند لغيره تعالى ، ورب العالمين له تعالى ورب البيت لغيره ، وصفات الذات مختصة به تعالى ، والحلف بالصفة المشتركة أبعد في الانعقاد من الحلف بالصفة المختصة.

قال رحمه‌الله : ولو قال : وقدرة الله ، وعلم الله ، فان قصد المعاني الموجبة للحال لم ينعقد اليمين ، وإن قصد كونه قادرا عالما جرى مجرى القسم بالله القادر والعالم ، وكذا ينعقد بقوله : وجلال الله وعظمة الله وكبرياء الله ، وفي الكل تردد.

أقول : المراد بالمعاني الموجبة للحال ما ذهب إليه الأشاعرة من كونه قادرا بقدرة وعالما بعلم ، فان قصد الحالف هذه المعاني لم ينعقد يمينه قطعا ، وان قصد كونه قادرا عالما انعقدت يمينه عند الشيخ وابن إدريس والعلامة من غير تردد ، وكذا الحلف بعظمة الله وجلال الله وكبرياء الله ، وما شابه ذلك من صفات الذات لم يترددوا في الانعقاد ، والمصنف تردد في ذلك من أن انعقاد اليمين حكم شرعي يفتقر ثبوته الى دليل شرعي لأصالة براءة الذمة ، والدليل إنما دل على انعقادها بالحلف به أو بأسمائه المختصة أو المشتركة مع انصراف إطلاقها إليه لقوله عليه

٤٦٢

السلام : «من كان حالفا فليحلف بالله أو يترك» (١) ، ومن أن الصفات المختصة به تعالى يعبر بها عن الذات كما يعبر بالأسماء المختصة ، فينعقد اليمين بها كما ينعقد بالأسماء وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : وكذا أشهد ، إلا أن يقول : بالله ، وفيه للشيخ قولان.

أقول : إذا قال : أشهد ، ولم يقل : بالله ، لم ينعقد ، كما لو قال : أقسم ، ولم يقل : بالله ، وإن قال : أشهد بالله (٢) ، قال الشيخ في الخلاف : لا يكون يمينا ، وتبعه ابن إدريس ، لأن هذا لفظ الشهادة ، ولفظ الشهادة لا يسمى يمينا ، وقال في المبسوط : إن أراد به اليمين كان يمينا ، وتبعه ابن البراج ، واختاره المصنف والعلامة للعرف ، ولاستعمال ذلك في اللعان (٣).

قال رحمه‌الله : وكذا وحق الله ، فإنه حلف بحقه لا به ، وقيل : ينعقد ، وهو بعيد.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : إذا قال وحق الله كانت يمينا إذا أراد يمينا ، وقال في الخلاف : لا يكون يمينا قصد أو لم يقصد ، واختاره المصنف والعلامة في القواعد والإرشاد ، وهو مذهب ابن إدريس ، لأنه حلف بحق الله وحق الله فروضه وعباداته ، واختار العلامة في المختلف والتحرير وابنه في شرح القواعد الانعقاد مع قصد اليمين بالله ، واستقربه الشهيد وإن أطلق به القصد كما لو قصد به الله الحق أو المستحق للعبادة ، ولأن حق صفة عامة فإذا أضيفت الى الله اختصت به ، ولأن اختصاص الإضافة تفيد الاختصاص فهو كما لو حلف بعظمة الله وكبرياء الله ، وليس ببعيد من الصواب.

__________________

(١) المستدرك ، كتاب الايمان ، باب ٢٤ ، حديث ١ مع اختلاف يسير.

(٢) في «ر ١» : لله.

(٣) في «ن» : اللغات.

٤٦٣

قال رحمه‌الله : ولو تراخى عن ذلك من غير عذر حكم باليمين ، ولغي الاستثناء ، وفيه رواية مهجورة(٤)، ويشترط في الاستثناء النطق ، ولا يكفي النية.

أقول : البحث هنا في موضعين :

الأول : يجوز الاستثناء بمشيئة الله في اليمين إجماعا ، وقد استثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يمينه ، «قال : والله لأغزون قريشا إن شاء الله» (٥) ، واستثنى أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين ، «قال : والله لأقتلنهم غدا إن شاء الله» (٦) ، لكن بشرط الاتصال العادي فلو فصل بالتنفس والسعال وابتلاع اللقمة وقذف النخامة بحيث لا يخرج عن الاتصال لم يضر ، ولو تراخى لغير عذر حكم باليمين ولغي الاستثناء عملا بعادة (٧) اللغة وأهل اللسان ، فإنهم لا يلحقون الاستثناء المنفصل بالكلام الأول بل يلغونه ، ولما رواه الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حلف على شي‌ء ورأى غيره خيرا فليكفر وليأت الذي هو خير» (٨) ، فلو جاز تأخير الاستثناء لارشدنا اليه لينحل اليمين به من غير كفارة ، وهو المشهور بين الأصحاب ، وروى محمد بن بابويه في الصحيح ، عن عبد الله بن ميمون ، عن الصادق عليه‌السلام ، «قال : للعبد أن يستثني ما بينه وبين أربعين يوما إذا نسي ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه ناس من اليهود فسألوه عن أشياء؟ فقال : تعالوا غدا أحدثكم ولم يستثن ، فاحتبس عنه جبرئيل

__________________

(٤) الوسائل ، كتاب الايمان ، باب ٢٩ ، حديث ٣ ، ٤ ، ٦.

(٥) المستدرك ، كتاب الايمان ، باب ١ ، حديث ٣ نقله عن العوالي وسنن ابي داود ، كتاب الايمان والنذور ، حديث ٣٢٨٥.

(٦) الكافي ، كتاب الايمان والنذور والكفارات ، باب النوادر ، حديث ١.

(٧) في «م» : بعبارة.

(٨) سنن ابن ماجه ، كتاب الكفارات ، باب ٧ ، حديث ٢١٠٨.

٤٦٤

عليه‌السلام أربعين يوما ثمَّ أتاه ، فقال : «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ‌ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ» (٩) ، وتأولها العلامة بحملها على ما إذا حلف وفي ضميره الاستثناء ونسيه لفظا ، فجاز له استدراكه ولا حد له ، والتقييد في الحديث بالأربعين للمبالغة وفي هذا التأويل نظر.

الثاني : هل يشترط النطق في الاستثناء أو يكفي النية؟ اختلف الأصحاب في ذلك على ثلاثة أقوال :

الأول : لا يكفي النية بل لا بد من النطق ، قاله الشيخ في المبسوط واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة في القواعد والإرشاد جزما.

الثاني : الاكتفاء بالنية والاعتقاد ، سواء حلف سرا أو علانية ، وهو قول العلامة في المختلف ، وقواه الشهيد.

الثالث : من حلف علانية فليستثن علانية ، ومن حلف سرا فليستثن سرا ، وهو قول (الشيخ في النهاية) (١٠) ، ورواه محمد بن بابويه (١١).

قال رحمه‌الله : ولا يدخل بالاستثناء غير اليمين وهل يدخل الإقرار؟ فيه تردد ، والأشبه انه لا يدخل.

أقول : المراد بدخول الاستثناء (١٢) في الإقرار أنه إذا عقب الإقرار بالمشيئة بطل الإقرار ولم يلزمه ما أقر به ، كما يبطل اليمين إذا عقب بها.

إذا عرفت هذا فمنشأ التردد من أن الاستثناء يتضمن بطلان ما أقر به ، فهو

__________________

(٩) من لا يحضره الفقيه ، باب ٩٨ الايمان والنذور والكفارات ، حديث ٢ (ج ٣ ص ٢٢٩) وفي الوسائل ، كتاب الايمان ، باب ٢٩ ، حديث ٦.

(١٠) في «م» بدل ما بين القوسين : الشهيد.

(١١) من لا يحضره الفقيه ، باب ٩٨ الايمان والنذور والكفارات ، حديث ٢٩ (ج ٣ ص ٢٣٣ ، حديث ٢٩) وفي الوسائل ، كتاب الايمان ، باب ٢٥ ، حديث ٢.

(١٢) في «ر ١» : الإقرار.

٤٦٥

كالإنكار عقيب الإقرار فلا يكون مقبولا ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة في القواعد ، وابنه في شرحه.

ومن أصالة براءة الذمة مما أقر به ، والأصل عدم لزومه له ، فاذا استثنى بطل إقراره ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره العلامة في المختلف ، والمعتمد الأول.

قال رحمه‌الله : والحروف التي يقسم بها : الباء ، والواو ، والتاء ، وكذا لو خفض ونوى القسم من دون النطق بحرف القسم على تردد أشبهه الانعقاد.

أقول : منشؤه من أصالة عدم انعقاد اليمين ، خرج ما اتفق عليه ـ وهو مع الإتيان بأحد حروف القسم ـ يبقى الباقي على أصالة عدم الانعقاد ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف ، وحكاه عن جميع الفقهاء إلا أبا جعفر الأسترآبادي ، وتبعه ابن إدريس.

ومن أن أهل اللغة جوزوا حذف حرف القسم ، ولو بطل القسم حينئذ لما جاز ذلك في اللغة ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره المصنف والعلامة ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو قال : هاء الله كان يمينا ، وفي أيمن الله تردد ، من حيث هو جمع يمين ، ولعل الانعقاد أشبه ، لأنه موضوع للقسم بالعرف ، وكذا ايم الله ، ومن الله ، وم الله.

أقول : منشأ التردد في أيمن الله ، من اختلاف النحاة في هذه اللفظة ، قال الكوفيون هي جمع يمين ، واستدلوا بقول الشاعر :

تبدي لها من أيمن وأشمل (١٣).

__________________

(١٣) لسان العرب ، مادة شمل.

٤٦٦

فلو لم يكن جمعا لما قابلها بالاشمل ، فعلى هذا لا يكون يمينا (قطعا) (١٤) ، لأن اليمين ليس بقسم فكذا جمعها ، لأنه عبارة عن تضعيف الواحد.

وقال البصريون : هي مفردة ، واشتقاقها من اليمن والبركة ، فعلى هذا يكون يمينا قطعا.

والمشهور انعقاد اليمين بها ، لأنها موضوعة للقسم.

وأما ايم الله فأصلها : أيمن الله ، فحذف النون منها تخفيفا لكثرة استعمالها ، وهمزتها تكسر وتفتح ، وأما من الله فأصلها : أيمن الله أيضا ، فحذفت الهمزة تخفيفا ، وبقيت الياء ساكنة ، والابتداء بالساكن محال فحذفت أيضا ، وحكى الجوهري في الصحاح في هذه اللفظة : ثلاث لغات : فتح الميم والنون وكسرهما وضمهما.

وأما وم الله فأصلها : ايم الله.

واعلم أن التردد في الجميع ، لأن أصل الجميع أيمن الله ، والتردد واقع فيه فيكون التردد واقعا في الجميع.

__________________

(١٤) ليست في النسخ.

٤٦٧
٤٦٨

في الحالف

قال رحمه‌الله : ويصح اليمين من الكافر كما يصح من المسلم ، وقال في الخلاف : لا يصح ، وفي صحة التكفير منه تردد ، منشؤه الالتفات الى اعتبار نية القربة.

أقول : ومن عموم الايات (١٥) والأخبار (١٦) الدالة على وجوب فعل الكفارة مع الحنث.

وأعلم أن الأصحاب اختلفوا في انعقاد يمين الكافر ، قال الشيخ في المبسوط بانعقاده ، واختاره ابن البراج والمصنف والعلامة في القواعد والإرشاد والتحرير ، لعموم الآيات الدالة على انعقاد اليمين ، وهو مذهب الشهيد ، قال : لأن القربة غير مرادة.

وقال في الخلاف : لا ينعقد يمين الكافر ، واختاره ابن إدريس ، لأن اليمين إنما يصح بالله ممن يكون عارفا بالله ، والكافر غير عارف بالله فلا يصح يمينه.

__________________

(١٥) المائدة : ٨٩.

(١٦) الوسائل ، كتاب الايمان ، باب ١٥ و ٣٠.

٤٦٩

وفصل العلامة في المختلف ، قال : إن كان الكفر باعتبار جهل الله وعدم علمه به ينعقد (١٧) يمينه ، لأنه يحلف بغير الله ، وإن كان باعتبار جحده نبوة أو فريضة معلومة الثبوت من دين الإسلام ، انعقدت يمينه بالله تعالى ، لوجود المقتضي وهو الحلف بالله من عارف به عاقل ولا ولاية لا حد عليه ، وإذا انعقدت وجب عليه الفعل المحلوف عليه ، فان كان من الطاعات وقصد إيقاعه على وجه التقرب الى الله ، وجب تقديم الإسلام وفعله إذا لا طاعة من الكافر ، وإن كان غير طاعة وجب عليه فعله مطلقا ، ومتى حنث وجبت عليه الكفارة ، لوجود المقتضي ، لكن لا يصح منه أداؤها إلا بتقديم الإسلام عليه ، فان أسلم بعد الحنث سقطت الكفارة عنه ، لعموم : «الإسلام يجب ما قبله» (١٨).

واعلم أنه لا يتحقق الحنث قبل الموت الا مع التقييد بزمان معين ، ومع عدمه لا يتحقق الا بعد الموت فيعاقب عليه في الآخرة ، واختار فخر الدين وأبو العباس في مقتصره مذهب المختلف ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولا ينعقد من الولد مع والده إلا مع إذنه ، وكذا يمين المرأة والمملوك إلا أن يكون اليمين في فعل واجب أو ترك قبيح ، ولو حلف أحد الثلاثة في غير ذلك كان للأب والزوج والمالك حل اليمين ولا كفارة.

أقول : في عبارة المصنف هنا تسامح ، لأنه حكم أولا بعدم انعقاد يمين الثلاثة مع عدم إذن الوالد والزوج والمالك ثمَّ قال : ولو حلف أحد الثلاثة كان للزوج والأب والمالك حل اليمين ، والحل إنما يكون بعد العقد ، وقد حكم بعدم الانعقاد فينبغي وقوعها لاغية فلا تفتقر الى حل ، وانما تفتقر الى الحل على الوجه الذي خرجه العلامة في القواعد ، قال : ولو قيل بانعقاد ايمانهم كان وجها ، نعم لهم الحل

__________________

(١٧) في النسخ : لم ينعقد.

(١٨) عوالي اللئالي ٢ : ٥٤ ، ٢٢٤.

٤٧٠

في الوقت مع بقاء الوالد والزوجية والعبودية ، فلو مات الأب أو طلقت الزوجة أو أعتق العبد وجب عليهم الوفاء مع بقاء الوقت ، وعبارة التحرير كعبارة الشرائع فالاعتراض متوجه عليه أيضا.

الا أن يقال : المراد بعدم الانعقاد عدم اللزوم ، والمراد بالاذن هو السابق على اليمين والمتعقب له ، وهو تعسف ، لأن فيه حملا للفظ على غير ظاهره ، لأن ظاهر عدم الانعقاد وقوعه لاغيا ، وظاهر الاذن هو السابق على العقد.

فرع : على القول بوقوع اليمين لاغية مع عدم الاذن ، فلو أجازها الأب أو الزوج أو المالك بعد الحلف لم ينعقد ، لأن الإجازة لا تؤثر في الفاسد ، وعلى القول الآخر ينعقد مع الإجازة.

٤٧١
٤٧٢

في متعلق اليمين

قال رحمه‌الله : إذا حلف : لا يشرب من لبن عنز له ، ولا يأكل من لحمها ، لزمه الوفاء ، وبالمخالفة الكفارة ، إلا مع الحاجة الى ذلك ، ولا يتعداها التحريم ، وقيل يسري التحريم إلى أولادها على رواية فيها ضعف.

أقول : الرواية إشارة الى ما رواه عيسى بن عطية ، «قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني آليت أن لا أشرب من لبن عنز لي ولا آكل من لحمها فبعتها وعندي من أولادها؟ قال : لا تشرب من لبنها ولا تأكل من لحمها فإنها منها» (١٩) ، وبمضمونها أفتى الشيخ في النهاية ، وأنكر ابن إدريس تعدية التحريم إلى الأولاد ، واختاره المصنف والعلامة (٢٠) وهو المعتمد ، لأصالة الإباحة ، ولعدم تناول النهي للأولاد ، ولضعف الرواية ، لأن في طريقها عبد الله بن الحكم وهو ضعيف ، وسهل بن الحسن ويعقوب بن إسحاق وهما مجهولان.

قال رحمه‌الله : إذا حلف لا يأكل طعاما ما اشتراه زيد ، لم يحنث بأكل ما

__________________

(١٩) الوسائل ، كتاب الايمان ، باب ٣٧ ، حديث ١.

(٢٠) هذه الكلمة من النسخ وليست في الأصل.

٤٧٣

يشتريه زيد وعمرو ، ولو اقتسماه على تردد ، ولو اشترى كل واحد منهما طعاما وخلطاه ، قال الشيخ : إن أكل زيادة على النصف حنث ، وهو حسن.

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الاولى : أن يأكل ما اشتراه زيد وعمرو صفقة واحدة قبل القسمة ، والمشهور عدم الحنث هنا ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف ، وبه قال ابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد ، لأن كل جزء يشار اليه لم ينفرد زيد بشرائه ، بل يقال : اشتراه زيد وعمرو ، لأن الشراء عقد واحد فاذا اشترك فيه اثنان اختص كل واحد منهما في العرف بنصفه ، فلم تكتمل الصفقة لأحدهما فلا يقع الحنث.

وقوى في المبسوط الحنث ، لأنهما لما اشترياه معا فكل واحد قد اشترى نصفه ، لان على كل واحد منهما ثمن نصفه ، فاذا كان لزيد نصفه فقد أكل من طعام اشتراه زيد.

الثانية : اقتسماه ثمَّ أكل من حصة زيد ، هل يحنث أم لا؟ تردد المصنف في ذلك ، ومنشؤه من أن القسمة تمييز لما اشتراه زيد عما اشتراه عمرو ، فإذا أكل مما حصل بعد القسمة لزيد صدق عليه أنه أكل مما اشتراه زيد ، ومن أن ذلك القدر الحاصل لزيد بالقسمة لم يشتره زيد بانفراده ، فلا يحنث بأكله ، وهو اختيار ابن إدريس والعلامة وهو المعتمد.

الثالثة : لو اشترى زيد طعاما صفقة بانفراده واشترى عمرو طعاما بانفراده ثمَّ خلطاه وأكل منه الحالف ، هل يحنث؟ قوى الشيخ في الخلاف والمبسوط عدم الحنث ما لم يزد على النصف ، والحنث إذا زاد ما اكله عليه ، لأنه لا يقطع على أنه أكل من طعام انفرد زيد بشرائه حتى يزد على النصف ، واختاره المصنف والعلامة في القواعد ، وقال ابن البراج : يحنث بأكل القليل والكثير ، لأنه

٤٧٤

لم يقطع أنه لم يأكل من طعام اشتراه زيد.

وفصل العلامة في المختلف ، قال : إن كان مائعا كاللبن والعسل أو ما يشبه الممتزج كالدقيق ، حنث بأكل قليله وكثيره ، لامتزاجه واختلاط جميع أجزائه بعضها ببعض ، فأي شي‌ء أكل منه علم ان فيه جزءا مما اشتراه زيد ، وان كان متميزا كالرطب والخبز لم يحنث حتى يأكل أكثر مما اشتراه عمرو ، وهذا هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : لو حلف لا شربت من الفرات ، حنث بالشرب من مائها ، سواء كرع منها ، أو اغترف بيده ، أو بإناء ، وقيل : لا يحنث الا بالكرع منها ، والأول هو العرف.

أقول : إذا حلف لا شربت من الفرات أو من نهر ، قال الشيخ في الخلاف : متى شرب من مائها حنث ، سواء اغترف بيده أو بإناء أو كرع منها كالبهيمة واختاره المصنف والعلامة في القواعد والتحرير ، لأن معنى هذا الكلام لا شربت من مائها ، بهذا جرت العادة وهو المتعارف عند الناس.

وقوى في المبسوط عدم الحنث بدون الكرع ، واختاره ابن إدريس ، لأن الكلام في الحقائق دون المجاز ، وهذا هو الحقيقة وما عداه مجاز ، لأنه إذا شرب غرفا بيده ما شرب منها ، وانما شرب من يده وكذلك الإناء ، والأول هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا حلف : لا أكلت رؤوسا ، انصرف الى ما جرت العادة بأكله غالبا ، كرؤس البقر والغنم والإبل ، ولا يحنث برؤوس الطيور والسمك والجراد ، وفيه تردد ، ولعل الاختلاف عادي ، وكذا لو حلف : لا يأكل لحما ، وهنا يقوى أنه يحنث بالجميع ، ولو حلف : لا يأكل شحما ، لم يحنث بشحم الظهر ، ولو قيل : يحنث ، كان حسنا ، ولو قال : لا ذقت شيئا ، فمضغه ولفظه ، قال الشيخ : يحنث وهو حسن.

٤٧٥

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الأولى : إذا حلف لا يأكل الرؤوس ، فان نوى نوعا انصرف اليمين اليه. وإن خلا عن النية ، هل ينصرف إلى الحقيقة اللغوية أو العرفية؟ قال الشيخ في المبسوط والخلاف : لا يحنث إلا بأكل رؤوس النعم خاصة كالإبل والبقر والغنم ، لأنها هي المأكولة بالعرف والعادة ، وهو ظاهر المصنف والعلامة في القواعد والتحرير والشهيد.

وقال ابن إدريس يحنث بأكل جميع الرؤوس ، لأن ذلك هو الحقيقة ، فلا يعدل عنه الى المجاز.

وقال العلامة في المختلف : إن نوى الحالف نوعا صرف اليه ، وان لم ينو ، فان كان هنا عرف خاص يعهده الحالف انصرف (٢١) إطلاق لفظه اليه ، وحمل (٢٢) عليه والا حمل على الحقيقة اللغوية ، واختاره فخر الدين.

الثانية : إذا حلف لا يأكل لحما ، فان نوى معينا انصرف اليه ، وإن لم ينو شيئا انصرف الى لحم الانعام والصيد والطائر ، وهل ينصرف الى لحم السمك أيضا ويحنث باكله؟ ذهب الشيخ في المبسوط الى عدم الحنث بأكل لحم الحيتان ، واختاره العلامة في القواعد والتحرير ، للعرف والعادة (٢٣) ، وقال في الخلاف : يحنث بأكله لان اسم اللحم يطلق عليه ، لقوله تعالى (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) (٢٤) ، ورجحه ابن إدريس وقواه المصنف ، وقال العلامة في المختلف : يرجع الى العرف.

الثالثة : إذا حلف لا يأكل شحما ، هل يحنث بشحم الظهر؟ ذهب الشيخ في

__________________

(٢١) في النسخ : ويصرف.

(٢٢) في النسخ : حمل ، بدون الواو.

(٢٣) ليست في الأصل.

(٢٤) فاطر : ١٢.

٤٧٦

المبسوط الى عدم الحنث به ولا بالألية ، قال : لان الشحم هو ما يكون في الجوف من شحم الكلاء (٢٥) وغيره فإن أكل منه حنث ، وإن أكل من غيره لم يحنث ، لأن اسم الشحم لا يقع عليه ، واختاره العلامة في القواعد ، لأنه لحم سمين ولهذا يحمر عند الهزال.

وقال ابن إدريس : يحنث بشحم الظهر ، واستحسنه المصنف واختاره العلامة في المختلف والتحرير ، وهو المعتمد ، لأن الشحم عبارة عن غير اللحم من أي موضع كان ، سواء كان شحم الألية أو الظهر أو البطن ، ولأن اللحم والشحم جنسان مفترقان في الاسم والحقيقة ، أما افتراقهما في الاسم فظاهر ، وأما افتراقهما في الحقيقة فلأن اللحم أحمر كثيف ذو طعم خاص ، والشحم أبيض رخو ذو طعم آخر ، سواء كان في الجوف أو في الظهر أو غيره ، ولقوله تعالى (مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) (٢٦) ، فلو لم يكن شحما كان الاستثناء من غير الجنس فيكون مجازا والأصل عدمه.

الرابعة : إذا حلف لا ذقت شيئا فمضغه ولفظه حنث ، لأن الذوق عبارة عن معرفة طعم الشي‌ء ، وهو يحصل بالمضغ وإن لم يبتلعه.

قال رحمه‌الله : لو قال : لا أكلت من هذه الحنطة ، فطحنها دقيقا أو سويقا. لم يحنث ، وكذا لو حلف : لا يأكل الدقيق فخبزه وأكله ، وكذا لو حلف : لا يأكل لحما ، فأكل إلية لم يحنث ، وهل يحنث بأكل الكبد والقلب؟ فيه تردد.

أقول : هنا مسائل :

الأولى : إذا حلف لا أكلت من هذه الحنطة ، فطحنها دقيقا أو سويقا ، أو حلف لا يأكل الدقيق فخبزه وأكله ، هل يحنث أم لا؟

__________________

(٢٥) في النسخ : الكلى.

(٢٦) الأنعام : ١٤٦.

٤٧٧

اختلف الأصحاب في ذلك ، قال الشيخ في الخلاف : (لا يحنث ، وجزم به المصنف والعلامة في القواعد ، وقال ابن البراج يحنث ، واختاره العلامة في المختلف والتحرير) (٢٧).

والتحقيق : أن الأيمان قد تتبع الأعيان المتعينة بالإشارة ، كما لو قال : لا أكلت هذا الطعام أو لا لبست هذا الثوب ، فان اليمين يتعلق بتلك العين ، فلا يحل له أكل ذلك الطعام ولا لبس ذلك الثوب على أى حال كان.

وقد تتبع الأسماء ، كما لو حلف : لا أكلت حنطة أو لا لبست ثوبا ، تعلق اليمين بالاسم هنا ، فلو أكل دقيقا أو خبزا لم يحنث ، لزوال الاسم بزوال الصفة.

فلو اجتمع الاسم والإشارة ، كما لو قال : لا أكلت هذه الحنطة ، فهنا تعلقت اليمين بالعين والاسم ، فان تغيرت الصفة تغيرا لا يوجب تغير الاسم فلا يخلو إما ان تستحيل الاجزاء أم (٢٨) لا ، فان استحالت (٢٩) الاجزاء كما لو حلف : لا يأكل هذه الحنطة فصارت دقيقا أو سويقا ، أو هذا الدقيق فصار خبزا ، هل يتبع اليمين العين أو الاسم؟ يحتمل الأول ، لأن العين التي تعلقت بها اليمين موجودة وانما تغيرت بالطحن والخبز ، لأن مبني الأيمان على العرف ، وإضافة الأكل إلى الحنطة انما يكون على هذه الصفة ، لأن اسم الأكل لا ينصرف إلى الحنطة إلا إذا صارت دقيقا أو سويقا أو خبزا ، ويحتمل الثاني لأصالة براءة الذمة ، ولأنه حلف على أكل ما هو مسمى حنطة لا ما يسمى دقيقا.

الثانية : إذا حلف لا يأكل لحما فأكل الألية ، هل يحنث أم لا؟ نقول : من اقتصر على أن الشحم هو ما في البطن ، كالشيخ في المبسوط اقتضى قوله الحنث

__________________

(٢٧) ما بين القوسين ليس في «م».

(٢٨) كذا.

(٢٩) في النسخ والأصل : استحالة.

٤٧٨

بالألية ، إذا حلف : لا يأكل لحما ، لأنها لحم.

وعلى ما اختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة في المختلف من أن الشحم يعم ما في البطن وغيره لا يحنث وهو المعتمد.

الثالثة : إذا حلف لا يأكل لحما ، هل يحنث بأكل الكبد والقلب؟ تردد المصنف في ذلك من أصالة براءة الذمة ، وانفراد الكبد والقلب باسم خاص غير اسم اللحم ، ومن صدق اسم اللحم عليه لغة. وعدم الحنث فيهما مذهب الشيخ في الخلاف ، وجزم به العلامة في القواعد والحنث فيهما (٣٠) مذهب ابن إدريس ، والأول هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : لو حلف لا يأكل بسرا فأكل منصفا حنث ، وفيه قول آخر ضعيف.

أقول : القول الآخر لابن إدريس ، فإنه قال : الذي يقوى في النفس أن لا يحنث للعرف ، لأن الإنسان إذا قال لغلامه : اشتر لنا رطبا ، فاشترى منصفا لم يمتثل أمره ، وكذلك إذا أمره باشتراء البسر فاشترى المصنف ، لان العرف والعادة أن الرطب هو الذي نضج جميعه ، والبسر هو الذي جميعه لم ينضج.

والحنث مذهب الشيخ رحمه‌الله ، واختاره المصنف والعلامة في القواعد والتحرير ، لأن المنصف هو الذي نصفه رطب ونصفه بسر ، فاذا حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا فقد أكل الرطب وأكل معه شي‌ء آخر ، وكذا لو حلف لا يأكل بسرا فأكل منصفا ، وقال العلامة في المختلف : يحكم للأغلب والأكثر ، فإن كان مذنبا فإنه يجري عليه حكم البسر ، وإن كان قد أرطب أكثره فإنه يجري عليه حكم الرطب ، ولم يفرق في التحرير بين المذنب والمصنف.

قال رحمه‌الله : الفاكهة تقع على : الرمان والعنب والرطب ، فمتى حلف لا

__________________

(٣٠) في النسخ : بهما.

٤٧٩

يأكل فاكهة حنث بأكل واحد من ذلك ، وفي البطيخ تردد.

أقول : الفاكهة : اسم لما يتفكه به بعد الطعام وقبله ، وليس المقصود منه التقوت بل التنعم ، فهل البطيخ فاكهة؟ تردد المصنف في ذلك ، من أنه يصدق عليه اسم الفاكهة عرفا ، ولان له نضجا كنضج الرطب ، يحلو إذا نضج ويوكل كالعنب فيكون فاكهة ، ومن أنه من الخضروات كالقثاء والخيار ، ولا خلاف في أن الخضروات ليست فاكهة فلا يكون البطيخ فاكهة ، ولأنه ورد في تفسير قوله تعالى (أَزْكى طَعاماً) (٣١) ، أنه البطيخ فلا يكون فاكهة.

والأول مذهب الشيخ في المبسوط ، واختاره العلامة في الإرشاد والتحرير ، وهو مذهب الشهيد ، لأنه عد من الفاكهة حب الصنوبر والبطيخ بقسميه ، واشترط العلامة في التحرير الرطوبة فلا يحنث يابس الفاكهة.

قال رحمه‌الله : إذا قال : لا شربت ماء هذا الكوز لم يحنث إلا بشرب الجميع.

أقول : إذا قال : والله لا شربت ماء هذا البئر ، هل يحنث بشرب البعض أو لا يحنث الا بشرب الجميع دون البعض؟ قيل : لا يحنث بشرب البعض لأصالة براءة الذمة ، ولأن الكلام يحمل على الحقيقة دون المجاز ، وحقيقة ماء البئر جميعه ، فاذا شرب البعض لم يحنث ، لأن اليمين تعلقت بجميع ماء البئر وهو لم يشربه فلم يحنث ، فلهذا استحسنه المصنف.

والمشهور الحنث بالبعض حملا لليمين على العرف والعادة ، وهي لم تجر بشرب جميع ماء البئر إذ لا يمكن ذلك ، فيحمل الكلام على عدم الشرب من مائها ، لأن بذلك جرت العادة ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا قال : لا شربت لك ماء من عطش ، فهو حقيقة في تحريم الماء ، وهل يتعدى الى الطعام؟ قيل : نعم عرفا ، وقيل : لا تمسكا بالحقيقة.

__________________

(٣١) الكهف : ١٩.

٤٨٠