غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

يشترط العدالة في الإقرار بالعين إلا إذا كان هناك دين مستغرق ، وقال الشيخ في النهاية : إذا كان عليه دين مستغرق (٢١) فأقر أن جميع ما في ملكه لبعض ورثته لم يقبل إقراره إلا ببينة ، فان لم يكن عند المقر له بينة أعطى صاحب الدين حقه أو لا ثمَّ ما يبقى يكون ميراثا ، قال ابن إدريس : ما ذكره رحمه‌الله صحيح إن أضافه الى نفسه ولم يقل إنه حق واجب ، وأما إن أطلق إقراره ولم يقل : جميع ما في ملكي ، أو هذه داري لفلان ، بل قال : هذه الدار لفلان ، أو جميع هذا الشي‌ء لفلان ، كان ذلك صحيحا ، سواء كان المقر له وارثا أو غير وارث ، في صحة كان إقراره أو في مرض ، وعلى جميع الأحوال.

قال العلامة في المختلف : والحق أن الشيخ رحمه‌الله لم يعتبر ما قاله ابن إدريس هنا ، إذ لا خصوصية لهذا الموضع بهذا الحكم ، بل إنما لم يقبل إقراره ، لأنه في الحقيقة إقرار في حق الغير فلا يسمع إلا بالبينة انتهى كلام العلامة ، والمراد بالبنية بينه المقر له على استحقاق المقر به ، وظاهر المختلف موافقة النهاية ، وهو الصحيح مع التهمة إذ لو صح ذلك لكان وسيلة إلى إسقاط حق أهل الدين ، لان كثيرا من الناس لا يبالي بذمته ويجتهد بإسقاط الحق عنه بالجحود والايمان الكاذبة والشهود المزوره ، فاذا حصل له إسقاط الحق عنه بإقراره ان ما في يده لورثته أو لغيرهم من غير بينة باستحقاق المقر له كان ذلك أهون عليه من كل شي‌ء ، وفعل ذلك أكثر الناس الا الأتقياء والصالحين وقليل ما هم.

الثالث : انه يمضى من الأصل مطلقا ، سواء كان لوارث أو لأجنبي ، وسواء كان متهما أو غير متهم ، وهو قول سلار وابن إدريس ، لعموم : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٢٢).

__________________

(٢١) هذه الكلمة ليست في النسخ.

(٢٢) تقدمت في الصفحة السابقة.

٤٤١

الرابع : أنه يمضي من الثلث إن كان لوارث ، سواء كان المقر متهما أو غير متهم ، ومن الأصل إن كان لأجنبي ، مع عدم التهمة ومعها من الثلث ، وهو قول المصنف في المختصر ولم أجد به قائلا غيره ، ولعل وجهه الجمع بين الأقوال والروايات (٢٣) ، والمعتمد الأول.

تنبيه : المراد بالتهمة العلم أو الظن المتاخم له بقرينة حالية أو مقالية بإرادة تخصيص المقر له ، وان الإقرار ليس صحيحا في نفس الأمر ، ولو اختلفا في التهمة فادعاها الوارث وأنكرها المقر له ، كان الأصل عدم التهمة فعلى مدعيها البينة وعلى المنكر اليمين مع عدمها ، ويكفيه الحلف على عدم العلم بالتهمة.

ولا يجب عليه الحلف على أنها ليست حاصلة في نفس الأمر ، لأن الإقرار مبني على الظاهر وهو غير مطلع على قصد المقر ، ولا يشترط في صحة الإقرار علم المقر له بثبوت الحق في ذمة المقر ، لإمكان خفاء سبب الاستحقاق ، فلا يجب عليه يمين الاستحقاق في ذمة المقر ، بسبب غير الإقرار ، لأنه قد لا يعلمه بل يجب عليه الحلف أنه لا يعلم كونه متهما في حقه ، ولا بينهما مواطاة على ذلك ، فان ذكر المقر السبب وصدقه المقر له وجب الحلف على الاستحقاق.

قال رحمه‌الله : ويقبل الإقرار بالمبهم ، ويلزم المقر بيانه ، فان امتنع حبس وضيق عليه حتى يتبين ، وقال الشيخ رحمه‌الله : يقال له : إن لم تفسر جعلتك ناكلا ، فإن أصر حلق المقر له.

أقول : المعتمد اختيار المصنف وهو حبسه حتى يبين ، لأنه صار مقرا ، وبالامتناع عن التفسير يصير مانعا لحق قد ثبت عليه ، ومن امتنع من حق ثابت عليه مع قدرته عليه ، حبس حتى يخرج منه.

__________________

(٢٣) الوسائل ، كتاب الوصايا ، باب ١١ وباب ١٦.

٤٤٢

في المقر له

قال رحمه‌الله : لو أقر للبهيمة لم يقبل ، ولو قال : بسببها ، صح ويكون الإقرار للمالك ، وفيه إشكال ، إذ قد يجب بسببها ما لا يستحقه المالك ، كأرش الجناية على سائقها أو راكبها.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : إذا قال بسببها كان لمالكها حملا على أنه استأجرها أو جنى عليها ، وعوض الإجارة وأرش الجناية للمالك قطعا ، ولأن الأسباب المقتضية لتمليك المالك هي الغالبة ، ويرد عليه ما قاله المصنف ، لأنه قد يجب بسببها مالا يستحقه المالك ، كأرش الجناية على سائقها أو راكبها ، فحينئذ الكلام محتمل لأمرين وتخصيصه في أحدهما دون الأخر لا وجه له ، إذ لا دلالة للعام على الخاص.

وظاهر العلامة في القواعد والتحرير بطلان الإقرار ما لم يقل بسببها لمالكها أو لأجنبي ، فيلزم حينئذ ، فعلى هذا لو قال بسببها واقتصر لزم التفسير ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو أقرّ لحمل صح ، سواء أطلق أو بين سببا محتملا ،

٤٤٣

كالإرث والوصية ، ولو نسب الإقرار إلى السبب الباطل كالجناية عليه ، فالوجه الصحة ، نظرا إلى مبدإ الإقرار ، وإلغاء لما يبطله.

أقول : وجه الصحة عموم قوله عليه‌السلام : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٢٤) وقد أقر إقرارا ممكنا مع كونه مختارا فيلزم بما أقر به ، ولا يلتفت الى تفسيره بما يبطله ، لعدم قبول الإنكار بعد الإقرار وهذا اختيار المصنف والعلامة ، وقال ابن الجنيد وابن البراج : يبطل إقراره ، واختاره فخر الدين ، لأصالة براءة الذمة ، ولان الكلام كله كالجملة الواحدة لا يتم أوله إلا بآخره.

فرع : لو أقر لمسجد أو مقبرة وفسره بسبب صحيح ، كما لو قال من غلة وقفه صح الإقرار قطعا ، وان أطلق أو فسره بسبب فاسد كان فيه الوجهان المذكوران في الحمل ، والمعتمد صحة الإقرار له مطلقا سواء أطلق أو فسره بسبب صحيح أو فاسد.

قال رحمه‌الله : ولو أقر بعبد لإنسان فأنكر المقر له ، قال الشيخ : يعتق ، لأن كل واحد منهما أنكر ملكيته ، ولو قيل : يبقى على الرقية المجهولة المالك كان حسنا.

أقول : أما قول الشيخ فقد ذكر المصنف وجهه ، واما وجه ما استحسنه المصنف فإنه عبد محكوم برقه ، وهو مال ورفع الخاص لا يستلزم رفع العام ، لأنه لا يلزم من خروجه عن ملك المقر بالإقرار ، وخروجه عن ملك المقر له بالإنكار ، خروجه عن المالية المجهولة المالك ، فان ادعى العبد الحرية ، قال فخر الدين : يقبل دعواه ، لأنه مدع لا منازع له ، ويحتمل العدم للحكم عليه بالملكية.

فروع الأول : إذا أقر بعبد لزيد فكذبه زيد ، وأقر العبد أنه لعمرو وصدقه عمرو على إقراره ، قوّى الشيخ عتق العبد وعدم الالتفات إلى إقراره لعمرو ،

__________________

(٢٤) تقدم ذكر الرواية ص ٤٤٠.

٤٤٤

وصاحب اليد اعترف به لزيد وقد أنكره زيد فينعتق ، وتبعه ابن البراج.

واختار العلامة قبول إقرار العبد ، لانتفاء ملك المقر والمقر له ، فيبقى إقراره صادر عن عاقل فينفذ الإقرار إذ لا مزاحم له.

الثاني : إذا أقر بعين لزيد فكذبه لم تسلم العين لزيد ، وهل يترك في يد المقر أو ينتزعها الحاكم؟ يحتمل الأول ، لأنا لا نعرف مالكها ويد من له أهلية اليد عليها ، والأصل في يد المسلم وأفعاله الصحة فهو أولى الناس بحفظها ، ويحتمل انتزاع الحاكم لها وكونه أولى من صاحب اليد ، لأنه ولي الغائب فحينئذ له أن يتركها في يد صاحب اليد ويكون أمينا للحاكم.

الثالث : لو رجع المقر له عن تكذيب المقر وصدقه على إقراره له بالعين ، قبل رجوعه ، لأنه لم يصدر منه اعتراف لغيره بل اقتصر على مجرد الإنكار ، وذلك غير قادح في رجوعه ، لأنه (٢٥) صاحب اليد قد أعترف له بها (فصدقه وله) (٢٦) انتزاعها ، ولا فرق بين العبد وغيره على القول ببقاء العبد على الرقية المجهولة المالك.

الرابع : لو رجع المقر عن إقراره وكذب نفسه بالإقرار بعد إنكار المقر له ، لم يقبل رجوع المقر ، لأنه اعترف بالحق لغيره وسلبه عن نفسه فلا يقبل رجوعه بعد ذلك ، لعموم : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٢٧) ، والفرق بين رجوع المقر والمقر له أن رجوع المقر إنكار بعد إقرار وهو غير مقبول ورجوع المقر له اعتراف بدعوى أنكرها قبل والاعتراف بعد الإنكار مقبول.

قال رحمه‌الله : ولو أقر أن المولى أعتق عبده ثمَّ اشتراه ، قال الشيخ : صح

__________________

(٢٥) في «م» و «ر ١» : لأن.

(٢٦) في النسخ بدل ما بين القوسين : وصدقه فله.

(٢٧) تقدم ذكر الرواية قريبا.

٤٤٥

الشراء ولو قيل يكون ذلك استنقاذا لا شراء كان حسنا ، وينعتق.

أقول : الشهادة على الغير بعين في يده يكون إقرارا من الشاهد من وجه ، بمعنى أنه لو لم ينفذ شهادته ثمَّ حصل يوما من الدهر في يد الشاهد ، بحيث لو لا شهادته كان ملكه ، تمحضت تلك الشهادة للإقرار وحكم عليه بمقتضاها ، فلو قال : أن زيدا أعتق سالما ، لم يحكم بحريته لمجرد قوله ويبقى على ملك زيد ، فلو اشتراه الشاهد من زيد ، قال الشيخ في المبسوط : صح الشراء ، لأن الشارع لم يعتبر قول الشاهد فكان شراؤه صحيحا ، لأنه اشترى عينا مملوكه للبائع في ظاهر الشرع فيصح شراؤه ، واستحسن المصنف كون الشراء هنا استنقاذا ، لان البيع مركب من جزئين إيجاب وقبول ، وصحة البيع موقوفة على صحتهما ويفسد بفساد أحدهما ، والقبول غير صحيح لاعتراف المشتري بحرية العبد والحر لا يصح تملكه. والمعتمد أنه بيع من جهة البائع واستنقاذ من جهة المشتري فلا يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الحيوان ولا خيار الشرط.

فان مات هذا العبد ولا وارث له ، قال المصنف كان للمشتري من تركته قدر الثمن خاصة ، وأطلق القول في ذلك والمراد به إذا اعترف أنه أعتقه عتقا يستحق به الولاء على العبد ، أما إذا لم يكن له على العبد ولاء فإنه لا يجوز أخذ شي‌ء من تركته. واستشكل الشهيد أخذ الثمن من تركته على تقدير ثبوت الولاء ، لأن المشتري متبرع بدفع الثمن فليس له مقاصة المدفوع اليه ، ثمَّ أجاب بأن مثل هذا الدفع مرغب فيه للاستنقاذ ، ويكون مضمونا على القابض لظلمة.

قال رحمه‌الله : إذا قال : علي ألف وقطع ، ثمَّ قال : من ثمن مبيع لم أقبضه ، لزم الالف ، ولو وصل فقال : له علي ألف من ثمن مبيع وقطع ، ثمَّ قال : لم أقبضه ، قبل ، سواء عين المبيع أو لم يعينه ، وفيه احتمال بالتسوية بين الصورتين ، ولعله أشبه.

٤٤٦

أقول : أما لزوم الألف في الصورة الأولى فهو إجماع لم أجد فيه مخالفا ، وأما الصورة الثانية فقد قال الشيخ في المبسوط والخلاف : يقبل قوله (لم أقبضه) ، وبه قال ابن البراج ، واختاره العلامة في المختلف وابنه في شرح القواعد ، لأن قوله (٢٨) (لم أقبضه) لا ينافي إقراره الأول ، لأنه قد يكون عليه ألف درهم ولا يجب عليه التسليم قبل قبض المبيع ، ولأن للإنسان أن يخبر بما هو ثابت في ذمته على حد ما هو ثابت في الذمة ، وقد يشتري الإنسان ولا يقبض المبيع وكان له أن يخبر بذلك ، ولو ألزم بغير ما أقر به كان ذلك ذريعة إلى سد باب الإقرار ، وقال ابن إدريس : لا فرق بين الصورتين ويجب عليه الالف ولا يقبل تفسيره ، لما فيه من إسقاط ما أقر به بعد الاعتراف ، واختاره المصنف والعلامة في التحرير.

__________________

(٢٨) من النسخ وفي الأصل : وقوله.

٤٤٧
٤٤٨

في الإقرار بالنسب

قال رحمه‌الله : ولا يعتبر تصديق الصغير ، وهل يعتبر تصديق الكبير؟ ظاهر كلامه في النهاية [لا ،] وفي المبسوط يعتبر ، وهو أشبه.

أقول : المشهور مذهب المبسوط وهو المعتمد ، لأن الأصل عدم الانتساب ، ولأنه إقرار في حق الغير فلا يقبل الا مع التصديق والبينة (٢٩) ، خرج منه الإقرار بالصبي والمجنون للإجماع على قبول ذلك من غير بينة ولا تصديق ، لأن تصديقهما غير معتبر.

واحتج الشيخ على مذهب النهاية بأن التصديق غير معتبر والا لما صح الإقرار بالطفل والمجنون. أجيب بأنه لا اعتداد بتصديقهما ، فلا يكون شرطا بخلاف البالغ العاقل.

قال رحمه‌الله : ولو أقر بابن إحدى أمتيه وعينه لحق به ، ولو ادعت الأخرى أن ولدها [هو] الذي أقر به كان القول قول المقر مع يمينه ، ولو لم يعين ومات ، قال الشيخ : يعين الوارث ، وان امتنع أقرع بينهما ، ولو قيل باستعمال

__________________

(٢٩) في النسخ : أو البينة.

٤٤٩

القرعة بعد الوفاة مطلقا ، كان حسنا.

أقول : وجه حسنه كونه أمرا مشكلا لتعذر العلم بخصوصية المقر به بعد موت المقر ، فيدخل في عموم : «كل أمر مشكل فيه القرعة» (٣٠) ، ولما في ذلك من العدل ، وقال الشيخ في المبسوط : يعين الوارث ، لأنه قائم مقام مورثه والأول هو المعتمد وهو اختيار العلامة ، وذهب الشهيد الى اختيار الشيخ.

قال رحمه‌الله : ولا يثبت النسب إلا بشهادة رجلين عدلين ، ولا يثبت بشهادة رجل وامرأتين على الأظهر ، ولا بشهادة رجل ويمين.

أقول : قال الشيخ في الخلاف وفي موضع من المبسوط : يثبت بشهادة رجل وامرأتين ، وقال في موضع آخر من المبسوط : لا يثبت إلا بشهادة رجلين عدلين ، واختاره ابن إدريس والمصنف والعلامة (٣١) وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو شهد الاخوان وكانا عدلين بابن للميت ، ثبت نسبه وميراثه ، ولا يكون ذلك دورا.

أقول : ذهب الشيخ في المبسوط الى ثبوت النسب دون الميراث حذرا من الدور ، لأنه قال : كل موضع يثبت النسب بالإقرار يثبت المال إلا في موضع واحد ، وهو إذا كان إثبات الميراث يؤدي الى إسقاطه ، مثل أن يقر الاخوان بابن للمورث ، فان نسبه يثبت ولا يثبت الميراث ، لأنه لو ورث حجب الأخوين فخرجا عن كونهما وارثين فيبطل الإقرار بالنسب ، إذ هو إقرار من غير وارث ، وإذا بطل النسب بطل الميراث فإذا أدى إثبات الميراث إلى إسقاطه أسقط ليثبت النسب دونه.

__________________

(٣٠) الوسائل ، كتاب القضاء ، باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، حديث ١١ الى ١٨ ، والمستدرك ، كتاب القضاء ، باب ١١ من أبواب كيفية الحكم واحكام الدعوى ، حديث ١.

(٣١) ليست في الأصل.

٤٥٠

هذا كلامه رحمه‌الله ، حكم بأن إثبات الميراث يؤدي الى إسقاطه وذلك دور ، وجزم المصنف بثبوت الميراث ، لأنه تابع للنسب وقد ثبت بشهادتهما فيثبت الميراث ولا دور الى آخره.

٤٥١
٤٥٢

الجعالة

قال رحمه‌الله : إذا بذل جعلا فان عينه فعليه تسليمه مع الرد ، وإن لم يعينه لزمه مع الرد أجرة المثل ، إلا في رد الآبق على رواية أبي سيّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل في الآبق دينارا إذا أخذ في مصره ، وإن أخذ في غير مصره فأربعة دنانير(٣٢) ، وقال الشيخ رحمه‌الله في المبسوط : هذا على الأفضل لا الوجوب ، والعمل على الرواية ، ولو نقصت قيمة العبد ، وقيل الحكم في البعير كذلك ، ولم أظفر فيه بمستند.

أقول : إذا رد الإنسان عبد غيره أو ضالته ، لا يخلو إما أن يذكر المالك جعلا مجهولا أو معينا أو لم يجعل شيئا ، فإن جعل جعلا معينا لزم مع الرد ولا كلام ، وان جعل جعلا مجهولا لزم مع الرد أجرة المثل إلا في رد العبد والبعير ، فان في رد كل واحد منهما من المصر دينار قيمته عشرة دراهم ، ومن غير المصر أربعة دنانير قيمتها أربعون درهما ، وإن رده من غير ذكر جعل معلوم ولا مجهول لم يكن له شي‌ء في غير العبد والبعير إجماعا ، لأنه متبرع بالعمل فلا يستحق عليه جعلا ،

__________________

(٣٢) التهذيب ، كتاب المكاسب ، باب ٩٤ اللقطة والضالة ، ص ٣٩٨ ، حديث ١٢٠٣.

٤٥٣

وإن رد العبد و (٣٣) البعير فقد اختلف الأصحاب فيه ، ذهب الشيخ في النهاية والمفيد وابن حمزة إلى وجوب المقدار المذكور في الرواية التي أشار إليها المصنف ، وظاهره العمل بها ، وحمل الشيخ الرواية بالنسبة إلى المتبرع على الأفضل لا على الوجوب ، ولم يوجب ابن إدريس شيئا واختاره المتأخرون وهو المعتمد ، لأنه متبرع.

نعم لو أمر بالرد ولم يذكر عوضا فالأولى العمل بالرواية ، ومع العلم بها يجب العمل بها على إطلاقها وإن قصرت قيمة العبد والبعير عن المقدار المذكور فيها على ما هو مشهور بين الأصحاب ، واستشكله العلامة في القواعد ، وجزم به (٣٤) في التحرير كما (٣٥) جزم به المصنف هنا ، وهو لزوم المقدار وان قصرت قيمة العبد عنه ، والنص مختص في العبد ، وألحق الشيخان البعير بالعبد ، قال المصنف : ولم أظفر فيه بمستند.

قال رحمه‌الله : لو جعل لواحد جعلا على الرد ، فشاركه آخر في الرد ، كان للمجعول له نصف الأجرة ، لأنه عمل نصف العمل ، وليس للآخر شي‌ء ، لأنه تبرع وقال الشيخ : يستحق نصف أجرة المثل ، وهو بعيد.

أقول : قال الشيخ في المبسوط : ان قال لواحد : إن جئتني بعبدي فلك دينار فجاء به هو وغيره ، فان هذا الذي عينه يستحق نصف الدينار ولا يستحق للآخر شيئا ، لأنه تطوع به ، قال : وعلى ما قلناه يستحق أجرة المثل.

قال العلامة في المختلف بعد حكاية قول الشيخ : قوله (وعلى ما قلناه) ان من رد العبد فله ما عين ويجعل ذلك عاما مع الجعالة (٣٦) والإطلاق ، ويجعل

__________________

(٣٣) في النسخ : أو.

(٣٤) هذه الكلمة ليست في النسخ.

(٣٥) في النسخ : بما.

(٣٦) في «م» : الجهالة.

٤٥٤

بأجرة (٣٧) المثل ما قرره الشارع لكن الوجه عدم ذلك ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

وقال في القواعد : ولو قصد الثاني إعانة العامل. وللعامل الجميع ، ولو قصد أجرة لنفسه فهو متبرع.

__________________

(٣٧) في النسخ : أجرة.

٤٥٥
٤٥٦

في اللواحق

قال رحمه‌الله : لو اختلفا في قدر الجعل أو جنسه ، فالقول قول الجاعل مع يمينه ، قال الشيخ : وتثبت أجرة المثل ، ولو قيل : أقل الأمرين من الأجرة والقدر المدعى ، كان حسنا ، وكان بعض من عاصرناه يثبت مع اليمين ما ادعاه الجاعل ، وهو خطأ ، لأن فائدة يمينه إسقاط دعوى العامل لا ثبوت ما يدعيه الحالف.

أقول : إذا اختلفا في قدر الجعل بعد الرد ، مثل أن قال المالك دينار ، وقال العامل بل جعلت دينارين ، أو في جنسه ، مثل أن قال المالك مثقال فضة ، وقال العامل بل مثقال ذهب ،فالبحث هنا في موضعين.

الأول : في اليمين ، هل هي على المالك خاصة ، لأنه منكر لما يدعيه العامل من الزائد على ما اعترف به ويكون القول قوله ، كما لو أنكر أصل الجعالة؟ أو يتحالفان ، لأن كل واحد منهما مدع لعقد مخالف للعقد الذي يدعيه صاحبه ، ومنكر لما يدعيه الأخر؟ فالأول قول الشيخ وابن البراج واختاره المصنف والعلامة في الإرشاد والتحرير ، والثاني قاله العلامة في القواعد ، والشهيد قال بالأول إن كان الاختلاف بالقدر وبالثاني إن كان الاختلاف بالجنس ، والأول

٤٥٧

أشهر بين الأصحاب.

الثاني : في الثابت للعامل بعد اليمين،وقد اختلف الأصحاب فيه على ثلاثة أقوال :

الأول : أجرة المثل ، وهو قول الشيخ وابن البراج ، لبطلان ما ادعاه العامل بيمين المالك ، ولا يقبل ما أعطاه (٣٨) المالك ، لعدم موافقة العامل عليه فلم يبق غير أجرة المثل.

الثاني : أقل الأمرين من أجرة المثل وما يدعيه العامل ، وأكثر الأمرين من أجرة المثل وما يدعيه المالك ، وهو مذهب المصنف والعلامة وابنه وهو المعتمد ، لأن أجرة المثل إن كانت أقل مما يدعيه العامل لم يستحق غيرها ، لبطلان ما ادعاه بيمين المالك ، وان كانت أكثر مما يدعيه لم يستحق الزائد ، لاعترافه بعدم استحقاقه لغير ما ادعاه (بيمين المالك) (٣٩) ، وإن كان ما يدعيه المالك أكثر من أجرة المثل فقد اعترف له به فيجب تسليمه اليه ، وإن كان أقل من أجرة المثل فهو قد أستحق أجرة المثل ، لبطلان ما يدعيه المالك بإنكار العامل.

الثالث : قول الفقيه محمد بن نما شيخ المصنف رحمهما‌الله تعالى ، وهو الذي أشار إليه بقوله : وكان بعض من عاصرناه يثبت مع اليمين ما ادعاه الجاعل قال : يحلف المالك ويثبت ما ادعاه ، وقواه الشهيد كما لو كان الاختلاف في الإجارة ، وكما (٤٠) يثبت ما يدعيه المؤجر مع يمينه ، كذا يثبت ما ادعاه الجاعل ، مع يمينه ، لأصالة عدم الزائد واتفاقهما على العقد المشخص بالأجرة المعينة وانحصارها في دعواهما ، فاذا حلف المالك على نفي دعوى العامل ثبت مدعاه لقضية الحصر.

__________________

(٣٨) في النسخ : ما ادعاه.

(٣٩) ما بين القوسين ليس في النسخ.

(٤٠) في النسخ : فكما.

٤٥٨

كتاب الأيمان

٤٥٩
٤٦٠