غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مفلح الصّيمري البحراني


المحقق: الشيخ جعفر الكوثراني العاملي
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

في كيفيّة اللعان

قال رحمه‌الله : ولا يصح إلا عند الحاكم أو من ينصبه لذلك ، ولو تراضيا برجل من العامة فلاعن بينهما جاز ، ويثبت حكم اللعان بنفس الحكم ، وقيل : يعتبر رضاهما بعد الحكم.

أقول : هنا ثلاث مسائل :

الأولى : في اشتراط إيقاعه عند الحاكم أو من يأمره ، وهو مجمع عليه ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تولى اللعان بنفسه بين هلال بن أمية وزوجته (٣٣) ، وبين العجلاني وزوجته (٣٤) ، ولأنه إما أيمان أو شهادات ، ولا يثبت حكم أحدهما إلا عند الحاكم ، قال الشيخ : ولا يفتقر الى حضوره بل إلى استدعائه وإلقائه على الزوجين ، والمعتمد أنه لا بد من حضوره وأمره وسماعه الشهادات ، فلو أمر به ثمَّ أوقعاه بغيبته لم يقع ، ولا يفتقر الى حضور الزوجين معا ، فلو لاعن كل واحد منهما بغيبة صاحبه جاز.

__________________

(٣٣) سنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٣٩٤.

(٣٤) الوسائل ، كتاب اللعان ، باب ١ ، حديث ٩.

٣٤١

الثانية : إذا تراضيا برجل وهو جامع لشرائط الاجتهاد فلاعن بينهما ، هل يصح ذلك أم لا؟ بالصحة قال ابن حمزة والشيخ في موضع من المبسوط ، واختاره المصنف والعلامة في القواعد والإرشاد ، لأن الخصمين إذا تراضيا بحكم أحد من الرعية ، وهو جامع لشرائط الاجتهاد ، جاز له الحكم بينهما.

وقال العلامة في المختلف ، وفخر الدين في شرح القواعد : لا يجوز ، لأن اللعان حكم شرعي يتعلق به أحكام وكيفيات مخصوصة ، وحكمه يتعدى الى غير الزوجين كنفي الولد ، فيناط بالإمام وخليفته دون غيرهما.

الثالثة : على القول بصحة إيقاعه من غير الحاكم ومنصوبه ، هل يلزم بنفس الإيقاع أو يفتقر إلى التراضي بعده؟ يبنى على مسألة ، هي أن الخصمين إذا تراضيا برجل من العامة غير القاضي المنصوب من قبل الإمام يحكم بينهما ، فهل ينفذ (٣٥) حكمه بنفس الحكم أو يفتقر الى تراضيهما بعده؟ فيه خلاف ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في باب القضاء (٣٦).

قال رحمه‌الله : فالواجب التلفظ بالشهادة على الوجه المذكور ، وأن يكون الرجل قائما عند التلفظ ، وكذا المرأة ، وقيل : يكونان جميعا قائمين بين يدي الحاكم.

أقول : اختلف علماؤنا في المرأة حال تلفظ الرجل بالشهادات واللعن ، هل تكون قائمة أو قاعدة؟ قال الشيخ في المبسوط : تكون قاعدة ، وهو مذهب ابني (٣٧) بابويه وابن إدريس ، واختاره المصنف والعلامة في القواعد والتحرير ، وقال الشيخ في النهاية : يجب قيامهما معا ، وبه قال المفيد وابن أبي عقيل وأبو

__________________

(٣٥) في «ن» : (يثبت).

(٣٦) لم نعثر عليه في كتاب القضاء.

(٣٧) في «م» : (ابن).

٣٤٢

الصلاح وابن حمزة وسلار وابن زهرة ، واختاره العلامة في المختلف ، وهو اختيار فخر الدين ، ودليل الفريقين الروايات (٣٨).

قال رحمه‌الله : وقال الشيخ : اللعان أيمان وليست شهادات ، ولعله نظر الى اللفظ فإنه بصورة اليمين.

أقول : هل اللعان شهادات أو أيمان؟ قال الشيخ في المبسوط : هو أيمان ، لما روى عكرمة عن ابن عباس ، «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما لاعن بين هلال بن أمية وزوجته ، قال : إن أنت به على نعت كذا وكذا ، فما أراه إلا وقد كذب عليها ، وان أتت به على نعت كذا وكذا ، فما أراه الا من شريك بن السجا ، قال : فأتت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن» (٣٩) ، فسمى اللعان يمينا ، وعندهم أنه شهادة ولا يصح الا ممن تصح منه الشهادة (٤٠). هذا آخر كلام المبسوط ، وجزم العلامة في القواعد أنه أيمان ، وظاهر المصنف أنه شهادات.

ولا شك أن اللعان قد اشتمل على أحكام تشابه اليمين ، وأحكام تشابه الشهادات.

فالمشابهة لليمين اشتراط اسم الله فيه ، ولا شي‌ء من الشهادات يشترط فيه ذلك ، وأيضا افتقاره إلى صيغة مخصوصة ، وهي : أشهد بالله ، وليست الشهادة كذلك ، بل يكفي ما يدل على المعنى ، والشهادة لا تصح لنفس الشاهد ، وهنا الشهادة لنفسه فلا يكون شهادة.

وأما المشابهة لأحكام الشهادات : إن أصل الزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود ،

__________________

(٣٨) الوسائل ، كتاب اللعان ، باب ١.

(٣٩) سنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٣٩٤.

(٤٠) المبسوط ٥ : ١٨٣. مع اختلاف يسير في عبارة المبسوط.

٣٤٣

وهو مشتمل على أربعة شهادات ، ولأن الله تعالى سماه شهادة لقوله تعالى : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) (٤١) ويلحقه أحكام أخر غير ما ذكرناه مما تشابه الايمان والشهادات أعرضنا عنها لئلا يطول الكتاب.

__________________

(٤١) النور : ٦.

٣٤٤

في الأحكام

قال رحمه‌الله : ولو أكذب نفسه بعد اللعان لحق به الولد ، لكن يرثه الولد ولا يرثه الأب ولا من يتقرب به ، وترثه الأم ومن يتقرب بها ، ولم يعد الفراش ولم يزل التحريم ، وهل عليه الحد؟ فيه روايتان ، أظهرهما : أنه لا حد.

أقول : رواية عدم الحد هي رواية الحلبي عن الصادق عليه‌السلام : «في رجل لاعن امرأته وهي حبلى ، ثمَّ ادعى ولدها بعد ما ولدت ، وزعم أنه منه؟ فقال : يرد إليه الولد ولا تحل له ، لأنه قد مضى التلاعن» (٤٢) وهو يدل على نفي الحد ، لأن قوله (مضى التلاعن) دليل على ترتب أثره عليه ، ومن جملته نفي الحد ، وإنما خرج الولد خاصة للنص والإجماع ، وصونا له عن الضياع ، فيبقى الباقي على أصله ، وهو مذهب الشيخ (في النهاية) (٤٣) ، واختاره المصنف والعلامة في المختلف والتحرير والإرشاد ، وأبو العباس في المقتصر.

والرواية المتضمنة لثبوت الحد رواية محمد بن الفضل عن أبي الحسن عليه

__________________

(٤٢) الوسائل ، كتاب اللعان ، باب ٦ ، حديث ٢ مع اختلاف.

(٤٣) ما بين القوسين ليس في «ر ١».

٣٤٥

السلام ، «قال : سألته عن رجل لاعن امرأته وانتفى من ولدها ثمَّ أكذب نفسه ، هل يرد عليه ولده؟ فقال : إذا أكذب نفسه جلد الحد ورد عليه ابنه ، ولا ترجع عليه امرأته أبدا» (٤٤) ، وهي صريحة في إثبات الحد ، وحملها الشيخ في التهذيب على حصول الإكذاب قبل إتمام اللعان ، وآخر الخبر يدفعه ، لأن قوله (ولا ترجع عليه امرأته أبدا) يدل على كون الإكذاب بعد اللعان ، وإلا لم تحرم عليه امرأته.

وبوجوب الحد قال الشيخ في المبسوط ، واختاره العلامة في القواعد ، وابنه في شرحه.

قال رحمه‌الله : ولو اعترفت بعد اللعان لم يجب عليها الحد الا أن تقر أربع مرات ، وفي وجوبه معها تردد.

أقول : منشؤه من أنها أقرت أربع مرات ، وكل من أقر بالزنا أربع مرات مع إمكانه وجب عليه الحد ، ومن عموم قوله تعالى (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) (٤٥) ، وقد شهدت فيسقط عنها الحد ، وهو اختيار فخر الدين للشبهة.

ووجوب الحد مذهب الشيخ في النهاية وابن البراج وابن إدريس ويحيى بن سعيد وظاهر الإرشاد.

قال رحمه‌الله : إذا قذفها فأقرت قبل اللعان ، قال الشيخ : لزمها الحد إن أقرت أربعا ، وسقط عن الزوج ، ولو أقرت مرة فإن كان هناك نسب لم ينتف الا باللعان ، وكان للزوج أن يلاعن لنفيه ، لأن تصادق الزوجين على الزنا لا ينفي النسب ، إذ هو ثابت بالفراش ، وفي اللعان تردد.

أقول : التردد انما هو في اللعان فقط ، دون ثبوت الحد عليها مع الإقرار

__________________

(٤٤) الوسائل ، كتاب اللعان ، باب ٦ ، حديث ٦.

(٤٥) النور : ٨.

٣٤٦

أربعا ، ودون سقوط الحد عنه بالإقرار ولو مرة ، فهذا الاشكال (٤٦) فيه عندهم (٤٧) ، والاشكال إنما هو في ثبوت اللعان مع تصادقهما على الزنا ، واستشكله العلامة في كتبه أيضا ، ومنشأ الاشكال عندهم من أن تصادق الزوجين على الزنا لا ينفي النسب الثابت بالفراش ، ومن أن اللعان إنما يتصور مع تكاذبهما ولا تكاذب (٤٨) هنا ولا لعان.

قلت : مع التحقيق ينبغي انتفاء هذا الإشكال ، لأنه إذا تصادقا على الزنا ، لا يخلو إما أن يتصادقا على أن الولد من ذلك الزنا الذي تصادقا عليه أم لا.

فان كان الأول لم يتصور اللعان ، لأن من شرطه أن تشهد المرأة (أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ) ، وهذا الشرط منتف مع عدم التكاذب ، فينتفي المشروط وهو اللعان.

وإن كان الثاني وهو الا يتصادقا (على أن) (٤٩) الولد من ذلك الزنا الذي تصادقا عليه ، وادعى الزوج أنه منه أو من غيره (ولم) (٥٠) تصدقه عليه ، (أو ادعى) (٥١) أنه ليس ولده وأطلق ، وادعت أنه ولده فهاهنا (لا إشكال) (٥٢) في عدم نفيه عنه بغير لعان ، (لأن الولد لاحق به (٥٣) في ظاهر الشرع وقد تكاذبا في نفيه فلا ينتفي إلا باللعان) (٥٤) فالإشكال منتف على التقديرين ، وهذا واضح

__________________

(٤٦) كذا

(٤٧) في «ن» : (عنده مسلم ثمَّ).

(٤٨) في النسخ : (فلا لعان).

(٤٩) ما أثبتناه من «ر ١» في باقي النسخ : (بأن).

(٥٠) في «ر ١» : (ولو لم).

(٥١) في «ر ١» : (إن ادعى).

(٥٢) في «م» و «ر ١» : (الإشكال).

(٥٣) في «م» : (له).

(٥٤) ما بين القوسين ليس في «ر ١».

٣٤٧

لا غبار عليه.

قال رحمه‌الله : إذا قذفها فاعترفت ثمَّ أنكرت فأقام شاهدين باعترافها ، قال الشيخ : لا يقبل إلا بأربعة ويجب الحد ، وفيه إشكال ينشأ من كون ذلك شهادة بالإقرار لا بالزنا.

أقول : إذا قذفها فأنكرت فادعى إقرارها وأقام شاهدين بالإقرار ، هل يقبل بالنسبة إلى إسقاط الحد عنه؟ قال الشيخ : لا يقبل إلا أربعة ويجب عليه الحد ، لأنها (٥٥) شهادة على الزنا ، وشهادة الزنا لا تقبل فيها إلا أربعة ، لعموم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٥٦) ، واستشكل المصنف من أنها شهادة على الإقرار لا على الزنا ، فإنها لو أقرت مرة واحدة سقط الحد عن القاذف بتلك المرة ، فإذا ثبت إقرارها بالشاهدين (٥٧) انتفى الحد عنه ولا يثبت زناها بذلك ، بل فائدة هذه الشهادة سقوط الحد عنه.

قال رحمه‌الله : إذا قذفها فماتت قبل اللعان سقط اللعان وورثها الزوج وعليه الحد للوارث ولو أراد دفع الحد باللعان جاز ، وفي رواية أبي بصير : «إن قام رجل من أهلها فلاعنه فلا ميراث له ، والا أخذ الميراث» ، وإليه ذهب [الشيخ] في الخلاف ، والأصل أن الميراث يثبت بالموت فلا يسقط باللعان المتعقب.

أقول : إذا قذف الرجل (٥٨) زوجته وجب عليه الحد ، وانما يسقط بالبينة أو بالاعتراف أو اللعان ، فان ماتت قبل ذلك كان الحد باقيا وللوارث المطالبة به ،

__________________

(٥٥) في النسخ : (لأنه).

(٥٦) النور : ٤.

(٥٧) في «ن» : (بالشاهد) ، وفي «ر ١» : (بشاهدين).

(٥٨) هذه الكلمة ليست في «م» و «ر ١».

٣٤٨

فاذا طالب به ، هل له إسقاطه بلعانه وحده من غير احتياج الى اللعان (٥٩) من الوارث؟ قال الشيخ في المبسوط : الوجه أنه لا لعان بعد موتها لوروده بين الزوجين ، واختاره ابن إدريس ، وجوزه المصنف والعلامة في القواعد ، واختاره أبو العباس لعموم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) (٦٠) ، فعلى هذا يكون فائدة لعانه سقوط الحد خاصة دون باقي أحكام اللعان من البينونة (٦١) والتحريم المؤبد ، لتوقف ذلك على لعانهما (٦٢) ، ويحكم بموتها على زوجيته ، فيرثها وعليه مئونة التجهيز وهو أولى بغسلها والصلاة عليها.

وهل لأحد من ورثتها ملاعنته لتبين منه ويسقط إرثه؟ قال الشيخ في النهاية والخلاف : نعم ، وبه قال ابن حمزة وابن البراج ، لرواية (٦٣) أبي بصير ، ومنعه في المبسوط ، وبه قال ابن إدريس واختاره المصنف والعلامة ، لإضافة اللعان الى الزوجين في الآية لا إلى الولي (٦٤) ، ولأن اللعان أيمان وكيف يحلف الإنسان عن غيره؟ ولأن الإرث قد ثبت بالموت فلا يبطل باللعان المتعقب له ، وهذا هو المعتمد.

قال رحمه‌الله : إذا قذفها ولم يلاعن فحد ثمَّ قذفها به ، قيل : لا حد ، وقيل : يحد ، تمسكا بحصول الموجب وهو أشبه ، وكذا الخلاف فيما لو تلاعنا ثمَّ قذفها به ، وهنا سقوط الحد أظهر.

__________________

(٥٩) في النسخ : (لعان).

(٦٠) النور : ٦.

(٦١) في «ن» : (التسوية).

(٦٢) في «م» و «ن» : (لعانها).

(٦٣) الوسائل ، كتاب اللعان ، باب ١٥ ، حديث ١.

(٦٤) في «م» : (المولى).

٣٤٩

أقول : تكرار القذف من غير تخلل حد ولا لعان لا يوجب غير حد واحد إجماعا ، فإن تخلل أحدهما حصل الخلاف ، فهنا مسألتان :

الأولى : إذا قذفها ولم يلاعن فحد ثمَّ قذفها به ثانيا ، هل يجب عليه حد أم لا؟ للشيخ قولان ، أحدهما : عدم الحد ، قاله في المبسوط ، قال : لأنه يثبت كذبه لعجزه عن البينة ، والقذف إنما يكون بما يحتمل الصدق والكذب ، وهذا محكوم بكذبه ، وقال في الخلاف بوجوب الحد لوجود المقتضي وهو القذف ، وانتفاء المانع وهو وجود ما يسقطه من بينة أو إقرار أو لعان فيثبت الحد ، واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد.

الثانية : إذا قذفها فلاعن ثمَّ قذفها به(٦٥) ثانيا ، قال الشيخ في المبسوط (والخلاف) (٦٦) بعدم ثبوت الحد ، واختاره المصنف والعلامة ، لأن اللعان جار مجرى إقامة البينة أو الإقرار في سقوط الحد ، ومع إقامة البينة أو الإقرار لا يجب الحد بإعادة القذف ، فكذلك لا يجب مع اللعان للمساواة.

ويحتمل ثبوت الحد بالقذف الثاني ، لأن اللعان إنما أسقط الحد الذي وجب قبله بالقذف السابق عليه (٦٧) ولم يثبت زناها باللعان كما يثبت بالبينة أو الإقرار ، فإذا قذفها بعد اللعان وجب عليه الحد ، لعموم الآية (٦٨) ، والمعتمد سقوطه ، وهو المشهور بين الأصحاب ، والظاهر أن الخلاف الذي أشار إليه المصنف في قوله : (وكذا الخلاف فيما لو تلاعنا ثمَّ قذفها) للجمهور ، لعطفها على المسألة السابقة ، لأن الشيخ حكى فيها خلافا لهم ثمَّ اختلف قولاه فيها (٦٩) ، وأما هذه المسألة الثانية

__________________

(٦٥) من النسخ وليست في الأصل.

(٦٦) ما بين القوسين ليس في «م».

(٦٧) من النسخ وليست في الأصل.

(٦٨) النور : ٤.

(٦٩) في الأصل : فيهما.

٣٥٠

ففتاوي الأصحاب متطابقة على سقوط الحد فيها. وإن لم يحصل الجزم ، لاحتمال عدم السقوط كما بيناه.

قال رحمه‌الله : ولو قذفها ولاعن فنكلت ثمَّ قذفها الأجنبي قال الشيخ : لا حد كما لو أقام بينة ، ولو قيل : يحد ، كان حسنا.

أقول : إذا قذفها الزوج ولاعن فنكلت (٧٠) عن اللعان وحدت ثمَّ قذفها الأجنبي ، قال الشيخ في الخلاف والمبسوط : لا حد ، لأن النكول كالبينة ، وإذا قامت عليها البينة بالزنا لم يحد القاذف لها بل يعزر ، ولأنها بنكولها وحدها خرجت عن الإحصان ، والحد إنما يجب بقذف المحصنة ، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) (٧١) ، واستحسن المصنف وجوب الحد ، لأنه لم يوجد منها إقرار ، ولا قامت عليها بينة بالزنا ، فلا يزول إحصانها ، واختاره (المصنف و) (٧٢) العلامة وابنه ، وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : لو شهد أربعة والزوج أحدهم فيه روايتان ، إحداهما : ترجم المرأة ، والأخرى يحد الشهود ويلاعن الزوج ، ومن فقهائنا من نزل رد الشهادة على اختلال بعض الشرائط ، أو سبق الزوج بالقذف ، وهو حسن.

أقول : قال الشيخ في النهاية : إذا شهد أربعة نفر على امرأة بالزنا أحدهم زوجها (وجب عليها الحد ، وقد روي : «أن البينة يجلدون حد المفتري ويلاعنها زوجها) (٧٣)» (٧٤) ، قال : وهذه الرواية محمولة على أنه إذا لم (٧٥) تعدل الشهود

__________________

(٧٠) في «ن» : (ثمَّ نكلت).

(٧١) النور : ٤.

(٧٢) ما بين القوسين من «ر ١».

(٧٣) النهاية : ٦٩٠.

(٧٤) ما بين القوسين ليس في «م».

(٧٥) ليست في «ر ١».

٣٥١

واختلفوا في إقامة الشهادة أو اختل بعض شرائطها ، فاما مع اجتماع (٧٦) شرائط الشهادة كان الحكم ما قدمناه ، فقد ظهر أن مذهب الشيخ في النهاية وجوب حد المرأة ما لم يختل بعض شرائط الشهادة.

وقال محمد بن بابويه وأبو الصلاح تحد الشهود ويلاعن الزوج ، لأن الزوج هو المدعي فلا تقبل شهادته ، واختاره العلامة في القواعد والتحرير ، وبه قال فخر الدين.

وقال ابن حمزة وابن إدريس بوجوب حد المرأة ما لم يسبق قذف الزوج لها ، واستحسنه المصنف ، ومال إليه العلامة في المختلف ، لعموم قوله تعالى : (وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) (٧٧) ، ولم يفرق بين أن يكون الزوج أحدهم أو لا وهو خطاب للحكام.

__________________

(٧٦) هذه الكلمة من النسخ وليست في الأصل.

(٧٧) النساء : ١٥.

٣٥٢

كتاب العتق

٣٥٣
٣٥٤

أسباب العتق

قال رحمه‌الله : وعبارته الصريحة التحرير ، وفي الإعتاق تردد.

أقول : منشؤه من أصالة بقاء الملك على مالكه ، وأصالة بقاء الرق ما لم يعلم السبب الناقل ، وهو غير متحقق بغير لفظ التحرير ، لوقوع الخلاف فيما عداه ، ومن استعمال لفظ العتق في التحرير استعمالا ظاهرا بحيث لا يفهم منه عند الإطلاق إلا التحرير ، وإجماع علمائنا على حصول العتق بقوله : أعتقتك وتزوجتك وجعلت مهرك عتقك ، والاقتصار على لفظ التحرير فقط مذهب الشيخ في الخلاف ، وبه قال أبو الصلاح وابن البراج وابن إدريس ، ووقوعه بلفظ العتق مذهب العلامة والشهيد ، واختاره أبو العباس وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ولو قال لأمته : يا حرّة وقصد العتق ففي تحررها تردد ، والأشبه عدم التحرر لبعده عن الإنشاء.

أقول : منشأ التردد من أن الشارع وضع للعتق صيغة الأخبار حقيقة (١) ، وهي : أنت حرّة ، والنداء ليس اخبارا ، فلا يفيد العتق ، لأصالة بقاء الرق ما لم

__________________

(١) ليست في «ر ١».

٣٥٥

يعلم السبب المزيل له ، ومن أن حرف الإشارة لم يعتبره الشارع ، وانما الاعتبار بلفظ التحرير وقد أتى به ، فقوله : يا حرّة مع قصد التحرير ، بمعنى قوله : أنت حرّة ، والمعتمد مذهب المصنف وهو اختار فخر الدين.

قال رحمه‌الله : أما لو قال : بدنك أو جسدك فالأشبه وقوع العتق ، لأنه هو المعني بقوله : أنت حرة.

أقول : الألفاظ الموضوعة للتحرير ، أنت حرّ ، أو عبدي حر ، أو زيد حر ، أو هذا حر ، فلو قال : بدنك أو جسدك حر ، هل يقع التحرير؟ قال المصنف والعلامة وابنه والشهيد بوقوعه ، وهو المعتمد ، لأن الإنسان على اختلاف مذاهب المتكلمين ، اما جوهر مجرد أو أجزاء أصلية في البدن أو هذا الهيكل المحسوس ، وعلى كل تقدير فالملك إنما يتناول الهيكل المحسوس دون الجوهر المجرد والاجزاء الأصلية ، والتحرير ازالة الملك بعد ثبوته عما يثبت عليه الملك ، والملك انما يثبت على هذا الجسد ، فاذا قصده بالتحرير تحرر ، ويحتمل عدم التحرير ، لأنه ليس الصيغة المنصوص عليها ، والأصل بقاء الملك.

قال رحمه‌الله : وهل يشترط تعيين المعتق؟ الظاهر لا ، فلو قال : أحد عبيدي حر صح ، ويرجع الى تعيينه ، فلو عين ثمَّ عدل لم يقبل ، ولو مات قبل التعيين ، قيل : يعين الوارث ، وقيل : يقرع ، وهو أشبه لعدم اطلاع الوارث على قصده.

أقول : بعدم وجوب تعيين المعتق قال الشيخ وابن حمزة والمصنف ، والعلامة في جميع كتبه ، والشهيد في شرح الإرشاد ، وفي الدروس قال : فيه خلاف ، ولم يرجح شيئا ، وقال فخر الدين : وعندي في هذه المسألة توقف ، وقال عميد الدين : لم أقف على قول باشتراط التعيين.

إذا عرفت هذا فحجة القائلين بعدم الاشتراط عموم مشروعية العتق

٣٥٦

وأصالة عدم الاشتراط ، ويحتمل الوجوب ، لأن العتق أمر معيّن فيفتقر الى محل معين ، ولأصالة بقاء الرق ما لم يعلم السبب المزيل ، وهو غير معلوم مع عدم التعيين وعلى القول بالصحة يعين من شاء فان عين واحدا وعدل عنه الى غيره لم يقبل العدول ولم يعتق الثاني ، لأنه لم يبق محل للعتق ، بخلاف ما لو أعتق معينا واشتبه فعين ثمَّ عدل ، فإنهما يعتقان. والفرق أن التعيين في الصورة الأولى تعيين شهوة واختيار ، فاذا عينه في واحد تعين ولم يبق محل للعتق ، لأن محله واحد منهم وقد تعين ، والتعيين في الصورة الثانية تعيين إقرار واختيار ، فاذا عينه في واحد ثمَّ عدل عنه الى غيره لم يقبل العدول بالنسبة الى من عينه أولا ، وينعتق الثاني ، لأنه إقرار بعتقه ، «وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (٢) كما لو أقر لزيد بعين ثمَّ أقر بها لعمرو ، فإنه يغرم لعمرو ولا يمضي إقراره على زيد فكذا هنا ، وإذا مات قبل التعيين قيل تعيين الوارث ، لأنه قائم (٣) مقام الموروث واختاره العلامة في القواعد والإرشاد ، وقيل بالقرعة واختاره المصنف ، والعلامة في التحرير ، والشهيد في الدروس ، لعدم اطلاع الوارث على قصد الميت قاله المصنف ، وفيه نظر ، لأن المعتق لم يقصد معينا فلا يضر عدم الاطلاع على قصده ، ولأن القرعة لاستخراج ما هو معين في نفسه ، لا لتحصيل التعيين.

والتحقيق : أن الواقع هل هو العتق في الحال والتعيين كاشف أو سبب له صلاحية التأثير عند التعيين ، فعلى الأول يكون العمل على القرعة ، وعلى الثاني يكون التعيين للوارث ، ويتفرع على الوجهين فروع.

الأول : عدم جواز الاستخدام لواحد منهم قبل التعيين على الأول ، لأن فيهم حرا يحرم استخدامه وهو مشتبه ، وإذا اشتبه المحلل بالمحرم اجتنبا ، وعلى

__________________

(٢) الوسائل ، كتاب الإقرار ، باب ٣ ، حديث ٢.

(٣) في الأصل : قام.

٣٥٧

الثاني يجوز الاستخدام بالجميع قبل التعيين ، لعدم تحرير شي‌ء منهم قبل التعيين.

الثاني : عدم جواز بيع شي‌ء منهم قبل التعيين على الأول ، وجوازه على الثاني لما قلناه في الفرع الأول.

الثالث : عدم جواز وطي شي‌ء منهن لو كن إماء على الأول ، وجوازه على الثاني ، وأما النفقة فواجبة على الجميع قبل التعيين على الوجهين.

قال رحمه‌الله : وفي عتق الصبي إذا بلغ عشرا وصدقته تردد ، ومستند الجواز رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام.

أقول : منشأ التردد من الرواية (٤) المذكورة وبمضمونها أفتى الشيخ وابن البراج ، ومن ثبوت الحجر على الصبي (٥) حتى يبلغ ، وهو المشهور وهو المعتمد.

قال رحمه‌الله : ويبطل باشتراط نية القربة عتق الكافر لتعذرها في حقه ، وقال الشيخ في الخلاف : يصح.

أقول : جوز الشيخ في الخلاف والمبسوط عتق الكافر للمسلم وأثبت له الولاء على العتق ، لعموم قوله عليه‌السلام «الولاء لمن أعتق» (٦) ، لكنه لا يرثه ما دام كافرا ، لان الكفر يمنع الإرث من المسلم ، ومنع منه ابن إدريس والمصنف والعلامة في أكثر كتبه ، وهو مبني على اشتراط نية القربة ، لقوله عليه‌السلام «لا عتق الا ما أريد به وجه الله» (٧) وقال العلامة في المختلف : إن كان الكفر باعتبار جهله بالله تعالى فالوجه ما قاله ابن إدريس ، وإن كان باعتبار جحده النبوة أو بعض أصول الإسلام كالصلاة ، فالوجه ما قاله الشيخ ، وقواه الشهيد في شرح الإرشاد واستقربه في الدروس ، ولا بأس به إذا اعتقد أن العتق قربة الى الله ،

__________________

(٤) الوسائل ، كتاب العتق ، باب ٥٦ ، حديث ١.

(٥) في «ن» : عليه.

(٦) الوسائل ، كتاب العتق ، باب ٥٦ ، حديث ١.

(٧) الوسائل ، كتاب العتق ، باب ٣٥ ، حديث ١ و ٢.

٣٥٨

لعموم الدليل على صحة العتق إذا أريد به وجه الله ، فيقع وان لم يستحق عليه ثوابا لكفره.

قال رحمه‌الله : ويعتبر في المعتق الإسلام والملك فلو كان المملوك كافرا لم يصح عتقه ، وقيل : يصح عتقه مطلقا ، وقيل : يصح مع النذر.

أقول : هنا ثلاثة أقوال :

الأول : عدم الصحة مطلقا ، وهو قول السيد المرتضى وابن الجنيد وسلار وأبي الصلاح وابن زهرة وابن إدريس ، واختاره المصنف هنا والعلامة في القواعد ، وهو مذهب فخر الدين ، لقوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (٨) والكافر خبيث ، ولما رواه سيف بن عميرة عن الصادق عليه‌السلام «قال : سألته أيجوز للمسلم أن يعتق مملوكا مشركا؟ قال : لا» (٩).

الثاني : الصحة مطلقا وهو قول الشيخ في المبسوط والخلاف ، لما رواه الحسن بن صالح عن الصادق عليه‌السلام «قال : إن عليا عليه‌السلام أعتق عبدا نصرانيا فأسلم حين أعتقه» (١٠)

الثالث : وقوعه مع النذر لا بدونه ، وهو قول الشيخ في النهاية ، واختاره المصنف في المختصر ، ووجهه الجمع بين الخبرين المذكورين ، وعلى القول بالصحة يشترط أن يتعلق النذر بعبد معين ، كقوله : لله علي أن أعتق سالما ، أما لو قال : لله علي أن أعتق عبدا كافرا ، لم ينعقد قطعا ، لأن الحكم على ماهية (١١) مقيدة بوصف يشعر بعلية ذلك الوصف ، وحينئذ يكون النذر معصية لا طاعة فيه أصلا ، فلا ينعقد. أما مع تعيينه من غير تقييد بالوصف. لا يكون الوصف مقصودا.

__________________

(٨) البقرة : ٢٦٧.

(٩) الوسائل ، كتاب العتق ، باب ١٧ ، حديث ٥.

(١٠) المصدر السابق ، حديث ٢.

(١١) في «م» و «ن» و «ر ١» : الماهية.

٣٥٩

قال رحمه‌الله : ويصح عتق ولد الزنا ، وقيل : لا يصح بناء على كفره ، ولم يثبت.

أقول : القائل ابن الجنيد وابن إدريس ، والمشهور الجواز وهو المعتمد ، لعدم ثبوت كفره ، ولما رواه سعيد بن يسار عن الصادق عليه‌السلام ، «قال : ولا بأس أن يعتق ولد الزنا» (١٢).

قال رحمه‌الله : ولو شرط على العتيق شرطا في نفس العتق لزمه الوفاء به ولو شرط إعادته في الرق إن خالف أعيد مع المخالفة عملا بالشرط ، وقيل : يبطل ، لأنه اشتراط لاسترقاق من ثبتت حريته.

أقول : يجوز أن يشترط على العتيق شرطا سائغا ، كقوله : أنت حر وعليك مائة دينار ، أو خدمة سنة مثلا ، ولا يكون هذا تعليقا بل عتقا وشرطا ، ولا يشترط رضا العبد في اشتراط الخدمة ، لأن السيد يملك الرقبة والمنافع ، فاذا استثنى منافعه مدة معلومة لم يفتقر الى رضاه ، ويشترط رضاه في اشتراط المال ، لأن المولى لا يملك إثبات مال في ذمة العبد الا برضاه.

إذا عرفت هذا ، (فاذا قال : فان لم تف بالشرط فأنت رد في الرق هل يصح هذا) (١٣) الشرط؟ فيه ثلاثة أقوال :

الأول : صحة العتق والشرط ، قاله الشيخ في النهاية وتبعه ابن البراج ، واختاره المصنف والعلامة في القواعد ، لعموم «المؤمنون عند شروطهم» (١٤) ولما رواه إسحاق بن عمار وغيره عن الصادق عليه‌السلام ، «قال سألته عن الرجل يعتق مملوكه ويزوجه ابنته ، ويشترط ان هو أغارها أن يرده في الرق؟ قال : له

__________________

(١٢) الوسائل ، كتاب العتق ، باب ١٦ ، حديث ١.

(١٣) ما بين القوسين سقط من «ر ١».

(١٤) مستدرك الوسائل ، كتاب البيع ، باب ٦ من أبواب الخيار ، حديث ٧.

٣٦٠