مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-02-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٢٠
فقال لها الحسين بن علي عليهماالسلام : قديماً هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وأدخلت بيته من لا يحبّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قربه ، وإنّ الله سائلك عن ذلك يا عائشة ، إنّ أخي أمرني أن أقرّبه من أبيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ليحدث به عهداً ، واعلمي أنّ أخي أعلم الناس بالله ورسوله ، وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول الله صلىاللهعليهوآله ستره ، لأنّ الله تبارك وتعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيّ الإَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (١) ، وقد أدخلت أنت بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله الرجال بغير إذنه.
وقد قال الله عزّ وجلّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (٢) ، ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند إذن رسول الله صلىاللهعليهوآله المعاول.
وقال الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) (٣) ، ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلىاللهعليهوآله بقربهما منه الأذى ، وما رعيا من حقّه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إنّ الله حرّم من المؤمنين أمواتاً ما حرّم منهم أحياء ، وتالله يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عليهالسلام عند أبيه ( صلوات الله عليه ) جائزاً فيما بيننا وبين الله ، لعلمت أنّه سيدفن وإن رغم معطسك ».
قال : « ثمّ تكلّم محمّد بن الحنفية وقال : يا عائشة : يوماً على بغل ، ويوماً على جمل ، فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم ».
قال : « فأقبلت عليه فقالت : يا بن الحنفية ، هؤلاء الفواطم يتكلّمون فما كلامك؟
فقال لها الحسين عليهالسلام : وأنّى تبعدين محمّداً من الفواطم ، فو الله لقد ولدته
__________________
١ ـ الأحزاب : ٥٣.
٢ ـ الحجرات : ٢.
٣ ـ الحجرات : ٣.
ثلاث فواطم : فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم ، وفاطمة بنت أسد بن هاشم ، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص ابن عامر ».
قال : « فقالت عائشة للحسين عليهالسلام : نحوا ابنكم واذهبوا به ، فإنّكم قوم خصمون ».
قال : « فمضى الحسين عليهالسلام إلى قبر أُمّه ، ثمّ أخرجه فدفنه بالبقيع » (١).
وروي أنّ الإمام الصادق عليهالسلام قال : « لمّا أن حضرت الحسن بن علي عليهماالسلام الوفاة بكى بكاء شديداً وقال : إنّي أقدم على أمر عظيم ، وهول لم أقدم على مثله قط ، ثمّ أوصى أن يدفنوه بالبقيع.
فقال : يا أخي احملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله لأجدّد به عهدي ، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفني ، فستعلم يا بن أُم أنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله ، فيجلبون في منعكم ، وبالله أقسم عليك أن تهرق في أمري محجمة دم.
فلمّا غسلّه وكفّنه الحسين عليهالسلام ، وحمله على سريره ، وتوجّه إلى قبر جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآله ليجدّد به عهداً ، أتى مروان بن الحكم ومن معه من بني أُمية ، فقال : أيدفن عثمان في أقصى المدينة ، ويدفن الحسن مع النبيّ؟ لا يكون ذلك أبداً ، ولحقت عائشة على بغل ، وهي تقول : ما لي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ.
فقال ابن عباس لمروان : انصرفوا ، لا نريد دفن صاحبنا عند رسول الله ، فإنّه كان أعلم بحرمة قبر رسول الله من أن يطرق عليه هدما ، كما يطرق ذلك غيره ، ودخل بيته بغير إذنه ، انصرف فنحن ندفنه بالبقيع كما وصّى.
ثمّ قال لعائشة : واسوأتاه يوماً على بغل ، ويوماً على جمل » ، وفي رواية :
__________________
١ ـ الكافي ١ / ٣٠٠.
« يوماً تجمّلت ويوماً تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت ».
فأخذه ابن الحجاج الشاعر البغدادي فقال :
يا بنت أبي بكر لا كان ولا كنت |
|
لك التسع من الثمن وبالكلّ تملّكت |
تجمّلت تبغّلت وإن عشت تفيّلت (١)
وروي عن زياد المخارقي قال : « لمّا حضرت الحسن عليهالسلام الوفاة ، استدعى الحسين بن علي عليهماالسلام فقال : « يا أخي إنّي مفارقك ، ولاحق بربّي عزّ وجلّ ، وقد سقيت السمّ ، ورميت بكبدي في الطست ، وإنّي لعارف بمن سقاني السمّ ، ومن أين دهيت ، وأنا أخاصمه إلى الله تعالى ، فبحقّي عليك إن تكلّمت في ذلك بشيء ، وانتظر ما يحدث الله عزّ ذكره فيّ ، فإذا قضيت نحبي فغمّضني ، وغسّلني وكفّني ، واحملني على سريري إلى قبر جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله لأجدّد به عهداً ، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد ( رضي الله عنها ) فادفني هناك.
وستعلم يا بن أُم ، أنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند رسول الله صلىاللهعليهوآله فيجلبون في منعكم عن ذلك ، وبالله أقسم عليك أن تهريق في أمري محجمة دم ».
ثمّ وصّى عليهالسلام إليه بأهله وولده وتركاته ، وما كان وصّى به إليه أمير المؤمنين عليهالسلام حين استخلفه وأهله لمقامه ، ودلّ شيعته على استخلافه ، ونصّبه لهم علماً من بعده.
فلمّا مضى عليهالسلام لسبيله ، غسّله الحسين عليهالسلام وكفّنه ، وحمله على سريره ، ولم يشكّ مروان ومن معه من بني أُمية أنّهم سيدفنونه عند رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فتجمّعوا له ولبسوا السلاح ، فلمّا توجّه به الحسين بن علي عليهماالسلام إلى قبر جدّه
__________________
١ ـ الخرائج والجرائح ١ / ٢٤٣.
رسول الله صلىاللهعليهوآله ليجدّد به عهداً أقبلوا إليهم في جمعهم ، ولحقتهم عائشة على بغل ، وهي تقول : ما لي ولكم تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ؟
وجعل مروان يقول : يا ربّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ؟ لا يكون ذلك أبداً ، وأنا أحمل السيف.
وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم وبني أُمية ، فبادر ابن عباس إلى مروان فقال له : ارجع يا مروان من حيث جئت ، فإنّا ما نريد أن ندفن صاحبنا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله ، لكنّا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ، ثمّ نردّه إلى جدّته فاطمة عليهاالسلام ، فندفنه عندها بوصيته بذلك ، ولو كان أوصى بدفنه مع النبيّ صلىاللهعليهوآله لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك ، لكنّه عليهالسلام كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره ، من أن يطرق عليه هدماً كما طرق ذلك غيره ، ودخل بيته بغير إذنه.
ثمّ أقبل على عائشة وقال لها : واسوأتاه ، يوماً على بغل ، ويوماً على جمل؟ تريدين أن تطفئي نور الله؟ وتقاتلين أولياء الله؟ ارجعي فقد كفيت الذي تخافين ، وبلغت ما تحبّين ، والله منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين.
وقال الحسين عليهالسلام : « والله لولا عهد الحسن إليّ بحقن الدماء ، وأن لا أهريق في أمره محجمة دم ، لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها ، وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم ، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا ».
ومضوا بالحسن عليهالسلام فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي الله عنها وأسكنها جنّات النعيم » (١).
ومثله في مناقب آل أبي طالب مع اختصار ، وزاد فيه : « ورموا بالنبال جنازته حتّى سل منها سبعون نبلاً » (٢).
__________________
١ ـ الإرشاد ٢ / ١٧.
٢ ـ مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٠٣.
( أبو محمّد ـ لبنان ـ .... )
حيثيّات صلحه :
س : أرجو منكم أن ترسلوا لي ملخّص عن حيثيّات صلح الإمام الحسن عليهالسلام مع معاوية ، لأنّ أهل السنّة يعتبرون أنّ الصلح قد أعطى الشرعية في الخلافة لمعاوية.
ج : للإجابة على سؤالكم لابدّ من الأخذ بعين الاعتبار أربعة أُمور يتوقّف عليها القول بشرعية خلافة معاوية :
١ ـ إنّ الإمام الحسن عليهالسلام بايع معاوية بيعة حقيقية!!
٢ ـ إنّ الإمام الحسن عليهالسلام تنازل عن الخلافة لمعاوية!!
٣ ـ إنّ الإمام الحسن عليهالسلام بايع مختاراً ، وبدون ظروف قاهرة!!
٤ ـ إنّ معاوية عمل بشروط البيعة أو الصلح!!
وإثبات كلّ واحدة من هذه المقدّمات دونه خرط القتاد ، وسوف نحاول مناقشتها لبيان عدم إمكانية ثبوتها.
النقطة الأُولى : إنّ المصادر التاريخية التي بمتناول أيدينا تثبت عدم حدوث بيعة من الإمام الحسن عليهالسلام لمعاوية ، بل لم يكن في الأمر غير المعاهدة والصلح ، وهذا غير البيعة ، كما يشهد له كلّ من عنده بعض الإلمام بالعربية.
وإليك بعض النصوص التاريخية التي ذكرت الهدنة أو المعاهدة ولم تذكر البيعة :
١ ـ قال يوسف : « فسمعت القاسم بن محيمة يقول : ما وفى معاوية للحسن بن علي عليهماالسلام بشيء عاهده عليه » (١).
٢ ـ في كلام للإمام الحسن عليهالسلام مع زيد بن وهب الجهنيّ قال : « والله ، لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي ، وأومن به في أهلي ، خير من أن يقتلوني
__________________
١ ـ علل الشرائع ١ / ٢١٢.
فتضيع أهل بيتي وأهلي … والله لإن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير ... » (١).
٣ ـ فلمّا استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتّى نزل بالنخيلة (٢).
٤ ـ في رواية له عليهالسلام : « إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانتها ... » (٣).
٥ ـ لمّا وادع الحسن بن علي عليهماالسلام معاوية ، صعد معاوية المنبر ، وجمع الناس فخطبهم ... (٤).
وممّا يؤيّد ذلك أنّ جميع المصادر التاريخية القديمة حين تذكر أحداث عام ( ٤١ هـ ) تقول : « صلح الحسن » ، وليست « بيعة الحسن ».
النقطة الثانية : هناك فرق واضح بين القيادة الدنيوية وحكومة الناس ـ مهما كانت الوسائل والسبل ـ وبين الخلافة الإلهيّة ، فحتّى لو سلّمنا ببيعة الإمام الحسن عليهالسلام فهي لا تثبت أكثر من القيادة الدنيوية لمعاوية على الناس ، وهذا لا يعني على الإطلاق التنازل عن الخلافة ، والمنصب الإلهيّ ، بل وليس من صلاحية الإمام ذلك.
فتعينه إماماً للناس وخليفة كان من قبل الله تعالى ، فلا يمكن التنازل عنه ، فهو ـ كما يعبّر عنه الفقهاء ـ من الحقوق التي لا يصحّ إسقاطها ، ولا تقلها ، وممّا يدلّ على ذلك الروايات الكثيرة الدالّة على ثبوت الخلافة للإمام الحسن عليهالسلام : « إمامان قاما أو قعدا » (٥) ، فكيف يجوز للإمام الحسن عليهالسلام نزع ثوب ألبسه الله إيّاه؟
وممّا يؤيد ذلك ، ما جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لا يلين مفاء على مفيء « أي لا يكون الطليق أميراً على المسلمين أبداً ، ولو تأمّر عليهم لكان غاصباً لحقّ
__________________
١ ـ الاحتجاج ٢ / ١٠.
٢ ـ الإرشاد ٢ / ١٤.
٣ ـ مناقب آل أبي طالب ٣ / ١٩٦.
٤ ـ الأمالي للشيخ الطوسيّ : ٥٥٩.
٥ ـ الفصول المختارة : ٣٠٣ ، الإرشاد ٢ / ٣٠.
الإمارة ، ظالماً لهم بحكم الشرع والعقل والاعتبار ، فحيث كان معاوية طليقاً لم يكن له أن يتأمّر على المسلمين (١).
النقطة الثالثة : وهي نقطة مهمّة جدّاً ، لو أمكن إثباتها لشكّلت منعطفاً حادّاً في تحليلنا ، ولأمكن أن يقال ـ بوجه ما ـ شرعية قيادة معاوية وحكومته ، وذلك لأنّ الإنسان يحاسب ويؤاخذ على أعماله الاختيارية ، وليس ما اضطرّ إليه ، فهو منفيّ عنه ، وغير منظور عقلاً ونقلاً.
وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ دراسة الظرف الذي عاشه الإمام الحسن عليهالسلام يجعلنا نقطع بعدم إمكانية الاحتمال الأوّل ، وهو الاختيارية في حقّه ، فتعيّن الاحتمال الثاني ، ومعه لا مجال للقول بشرعية خلافة معاوية ، لأجل تنازل الإمام عليهالسلام له ، فهو يؤخذ به لو كان تنازله طواعية ، وليس كرهاً واضطراراً.
ولابدّ لتعيين الاحتمال الثاني من النظر في ثلاثة أُمور :
١ ـ حالة قوّاد جيش الإمام عليهالسلام.
٢ ـ أهل الكوفة.
٣ ـ رؤساء القبائل.
الأمر الأوّل : إنّ الإمام عليهالسلام أرسل في البدء قائداً من كندة في أربعة آلاف مقاتل ، توجّه إلى الأنبار ، فأرسل إليه معاوية بخمسمائة ألف درهم ، فأخذها وتوجّه إليه مع مائتي رجل من خاصّته وأهل بيته.
ثمّ أرسل الإمام عليهالسلام قائداً من مراد في أربعة آلاف ، فكتب لهم معاوية ، وأرسل له خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أيّ ولاية أحبّ من كور الشام ، فتوجّه إليه.
ثمّ أرسل الإمام عليهالسلام عبيد الله بن عباس قائداً على الجيش ، فضمن له معاوية ألف ألف درهم ، يعجّل له النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله إلى الكوفة ، فانسل في الليل إلى معسكر معاوية.
__________________
١ ـ بحار الأنوار ٤٤ / ٤.
الأمر الثاني : إنّ أكثر أهل الكوفة قد كتبوا إلى معاوية : « إنّا معك ، وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك » (١).
الأمر الثالث : كتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السرّ ، واستحثّوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن عليهالسلام إليه ، عند دنوّهم من عسكره أو الفتك به (٢).
وإذا رأينا الروايات التي يذكر فيها الإمام عليهالسلام سبب مصالحته مع معاوية ، لوجدنا أنّ الطريقة التي استعملها الإمام كانت هي المتعيّنة لكلّ لبيب ، ولكلّ خبير بالأُمور العسكريّة.
مضافاً إلى ما ذكرناه من النقاط الثلاث نذكر بعض الروايات زيادةً في التوضيح :
١ ـ هنالك صنف من الروايات يصرّح الإمام الصادق عليهالسلام لسدير حول عمل الإمام الحسن عليهالسلام بقوله : « فإنّه أعلم بما صنع ، لولا ما صنع لكان أمراً عظيماً ».
وبالتأكيد إنّ هذا الأمر العظيم من الخطورة والأهمّية بمكان ، بحيث يفضّل الإمام الصلح عليه ، وتجد هذا المعنى من الروايات في كتاب علل الشرائع (٣).
٢ ـ في الصنف الآخر من الروايات ، يتحدّث عليهالسلام عن السبب بما حاصله : « ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قُتل ».
وهذا القسم يعطينا صورة أوضح وأدقّ من الأوّل ، ويمكن أن يكون شرحاً للأمر العظيم ، الذي عبّرت به الروايات في الصنف الأوّل (٤).
٣ ـ في الصنف الثالث يصرّح عليهالسلام بالقول : « ويحكم ما تدرون ما عملت؟
__________________
١ ـ بحار الأنوار ٤٤ / ٤٥.
٢ ـ الإرشاد ٢ / ١٢.
٣ ـ علل الشرائع ١ / ٢١١.
٤ ـ نفس المصدر السابق.
والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت ... » (١).
٤ ـ في الصنف الرابع من الروايات يقول عليهالسلام : « والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سلماً ، والله لإن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحيّ منّا والميت » (٢).
وهذا الصنف من الروايات يشير إشارة واضحة إلى ما أثبتناه في بداية النقطة الثالثة من الوضعية الحسّاسة والحرجة في جيش الإمام ، والقلوب المريضة والضعيفة التي كانت تحكم الوضع آنذاك.
٥ ـ خطب الإمام الحسن عليهالسلام بعد وفاة أبيه : « وكنتم تتوجّهون معنا ، ودينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم ، وكنّا لكم وكنتم لنا ، وقد صرتم اليوم علينا ... » (٣).
٦ ـ قال الإمام الحسن عليهالسلام لخارجي عاتبه على صلحه : « فإنّ الذي أحوجني إلى ما فعلت : قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي ، وانتهابكم متاعي ... » (٤).
٧ ـ قول الإمام عليهالسلام لحجر بن عدي : « وإنّما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم » (٥).
٨ ـ قول الإمام عليهالسلام حينما عذلوه على الصلح : « لا تعذلوني فإنّ فيها مصلحة » (٦).
__________________
١ ـ كمال الدين : ٣١٦ ، إعلام الورى ٢ / ٢٣٠ ، كشف الغمّة ٣ / ٣٢٨.
٢ ـ الاحتجاج ٢ / ١٠.
٣ ـ تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٦٨ ، أُسد الغابة ٢ / ١٣ ، جواهر المطالب ٢ / ٢٠٧ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٤٠٦.
٤ ـ تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٦٣ ، المعجم الكبير ١ / ١٠٥ ، تهذيب الكمال ٦ / ٢٤٥ ، جواهر المطالب ٢ / ١٩٧ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٤٠٥.
٥ ـ تنزيه الأنبياء : ٢٢٣.
٦ ـ مناقب آل أبي طالب ٣ / ١٩٧.
ولو لاحظنا التشبيه الذي يستعمله الإمام عليهالسلام في بيان الهدف من صلحه لحصلنا على المزيد من القناعة ، بأنّ صلحه لم يكن إلاّ لمصلحةٍ كبرى يقتضيها الإسلام ، ولا تعني على الإطلاق أهلية معاوية للخلافة :
١ ـ في كلام يخاطب به أبا سعيد فيقول له : « علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلىاللهعليهوآله لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية ، أُولئك كفّار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل ... » (١).
٢ ـ يشبّه جهلنا بالحكمة الداعية للصلح بقضية الخضر وموسى عليهماالسلام.
فقال عليهالسلام : « ألا ترى الخضر عليهالسلام لمّا خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى عليهالسلام فعله ، لاشتباه وجه الحكمة عليه ، حتّى أخبره فرضي ، هكذا أنا ... » (٢).
٣ ـ وقوله عليهالسلام : « وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ... كذلك أنا » (٣).
النقطة الرابعة : قبل بيان وفاء معاوية للإمام الحسن عليهالسلام بالشروط لابدّ من ذكر البنود التي اشترطها الإمام على معاوية ، وإن كان من المؤسف جدّاً ، أنّ التاريخ أجحف مرّة أُخرى بعدم ذكره التفصيلي لجميع البنود ، وإنّما حصلنا على شذرات من هنا وهناك ، ومن هذه البنود :
١ ـ أن لا يسمّيه أمير المؤمنين (٤).
٢ ـ أن لا يقيم عنده شهادة للمؤمنين (٥).
٣ ـ أن لا يتعقّب على شيعة علي عليهالسلام شيئاً (٦).
__________________
١ ـ علل الشرائع ١ / ٢١١.
٢ ـ نفس المصدر السابق.
٣ ـ الاحتجاج ٢ / ٨.
٤ ـ علل الشرائع ١ / ٢١٢.
٥ ـ نفس المصدر السابق.
٦ ـ نفس المصدر السابق.
٤ ـ أن يفرّق في أولاد من قُتل مع أبيه يوم الجمل ، وأولاد من قُتل مع أبيه بصفّين ألف ألف درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد (١).
٥ ـ أن لا يشتم علياً عليهالسلام (٢).
ولو تأمّلنا في هذه البنود لوجدناها بنفسها تنفي الخلافة عن معاوية ، وهذا من تدبير الإمام عليهالسلام ، فمن المسلّم به أنّ الإمام عليهالسلام من المؤمنين ، بل على رأسهم ، فإذا كان معاوية ليس أميراً للمؤمنين عملاً بالبند الأوّل فهذا يعني أنّه ليس أميراً على الإمام الحسن ، بل على سائر المؤمنين ، وكذلك البند الثاني ، فكيف يكون الإنسان خليفة ولا تجاز عنده الشهادات؟!
مضافاً إلى هذا وذاك ، فإنّ التاريخ يصرّح بأنّ معاوية لم يف للحسن بن علي عليهماالسلام بشيء عاهده عليه (٣).
وأخيراً ، فقد بات من الواضح عند الجميع ، أنّ الصلح لا يمثّل إعطاء شرعية لخلافة معاوية ، ولا تنازلاً عنها ، ولا أيّ شيء من هذا القبيل ، وعذراً للتطويل ، فإنّ الأمر يستحقّ ذلك.
( ..... ـ .... ـ .. )
لماذا صالح معاوية ولم يثأر كأخيه الحسين :
س : لقد قام الإمام الحسن عليهالسلام بمصالحة معاوية بن أبي سفيان ، بينما ثار الإمام الحسين عليهالسلام ضدّ يزيد بن معاوية؟
فلماذا صالح الحسن عليهالسلام؟ بينما ثار الحسين عليهالسلام؟ وهل يعتبر هذان العملان متناقضان؟ ونحن نعلم أنّ الأئمّة معصومون ، وشكراً لكم.
__________________
١ ـ علل الشرائع ١ / ٢١٢.
٢ ـ الغدير ١٠ / ٢٦٢ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٦٦ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٨٥ ، الكامل في التاريخ ٤ / ٤٠٥.
٣ ـ الغدير ١٠ / ٢٦٢ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٤٠٥.
ج : لا تناقض بين صلح الإمام الحسن وثورة الإمام الحسين عليهماالسلام ؛ حيث إن حركة أهل البيت لنصرة الدين وحفظة حركة تكاملية ، فكل إمام يبدأ من حيث انتهى الإمام الذي قبله ، وذلك باختلاف الظروف في الأزمنة المختلفة ، بل تجد المعصوم الواحد تتعدد مواقفه بتعدد الظروف ، فالنبي صلىاللهعليهوآله الذي جاهد المشركين في بدر وأُحد وغيرهما تراه يصالحهم في الحديبية ، فالنبي هو النبي إلا أن الظروف تختلف ، كذلك أمير المؤمنين علي عليهالسلام الذي صبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى على ما جرى بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله تراه يقاتل أعداء الله في عدّة مواطن ، فعلي هو علي إلا أنّ الظروف تختلف.
فالنبي وأهل بيته الأطهار لكلٍّ أفعلهم وتصرفاتهم تنصبّ في السعي لحفظ الدين ، فلو اقتضى ذلك المصالحة ولو مع المشركين تراهم يصالحون ولو اقتضى الأمر الجهاد تراهم في أعلى مراتب الشجاعة والتضحية فالحسين كان مع أخيه الحسن عليهماالسلام في الصلح بل وبعد أخيه الحسن لما يزيد على العشر سنين ولم يقم بالثورة حتى تحققت الظروف المناسبة ، فكانت تلك الثورة العظيمة ، ولو كان الإمام الحسن عليهالسلام موجوداً في تلك الظروف لما اختلف موقفه عن موقف الإمام الحسين عليهالسلام. فتأمل.
ويظهر ذلك جليّاً من مراجعة كلمات الإمام الحسن والإمام الحسين عليهماالسلام. فكما ورد عن الإمام الحسين أنه قال عند خروجه على يزيد : « وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي » (١) ورد عن الإمام الحسن نفس هذا الأمر. وإليك بعض هذه النصوص :
١ ـ قال له رجل : بايعت معاوية ، ومعك أربعون ألفاً ، ولم تأخذ لنفسك وثيقة ، وعهداً ظاهراً؟
فقال له : « إنّي لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر منّي عند اللقاء ، ولا اثبت عند الحرب منّي ، ولكنّي أردت صلاحكم ... » (٢).
__________________
١ ـ لواعج الأشجان : ٣٠.
٢ ـ شرح نهج البلاغة ١٦ / ١٥.
٢ ـ وقال له رجل آخر : يا ابن رسول الله ، لوددت أن أموت قبل ما رأيت أخرجتنا من العدل إلى الجور ....
فقال له الإمام عليهالسلام : « إنّي رأيت هوى معظم الناس في الصلح ، وكرهوا الحرب ، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون ، فصالحت ... » (١).
٣ ـ وقال له ثالث : لم هادنت معاوية وصالحته وقد علمت أنّ الحقّ لك دونه ، وأنّ معاوية ضالّ باغ؟
فأجابه الإمام عليهالسلام : « علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلىاللهعليهوآله لبني ضمرة ، وبني أشجع ، ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية ، أُولئك كفّار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل ... » (٢).
٤ ـ وقال له رجل : لماذا صالحت؟
فأجابه عليهالسلام : « إنّي خشيت أن يجتث المسلمون على وجه الأرض ، فأردت أن يكون للدين ناع ».
( .... ـ .... ـ ... )
ومضامين كتاب الصلح :
س : جاء في كتاب كشف الغمّة : ومن كلامه عليهالسلام ما كتبه في كتاب الصلح الذي استقرّ بينه وبين معاوية ... : « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الراشدين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ... » (٣).
__________________
١ ـ الأخبار الطوال : ٢٢٠.
٢ ـ علل الشرائع ١ / ٢١١ ، الطرائف : ١٩٦.
٣ ـ كشف الغمّة ٢ / ١٩٣.
فما هو الردّ على أهل السنّة إذ إنّهم يستشهدون به.
ج : لقد ورد هذا المتن من الصلح في كتاب كشف الغمّة ، وفيه :
أوّلاً : إنّ مجرد نقل مؤلّف من الشيعة لموضوع لا يعني بالضرورة قبوله له ، أو قبول طائفته لذلك وتبنّيهم له.
ثانياً : إنّ ما ذكر هنا لم يرد عندهم مسنداً ، ولا عرف عنهم مثبتاً.
ثالثاً : إنّ المقصود من تعبير الخلفاء الراشدين ، هم أهل البيت عليهمالسلام لا من غصب هذا العنوان ، وهذا نوع من التورية في الكلام ، فقد يكنّون عن أنفسهم بذلك تغطية ورمزاً ، وهذا كثير ، وإلاّ لقال له : والعمل بسنّة الشيخين ، كما قيل لأمير المؤمنين عليهالسلام يوم الشورى.
رابعاً : لعلّ ما هنا هو من باب المماشاة نظير قول نبيّ الله إبراهيم عليهالسلام ـ وهو سيّد الموحّدين ـ كما حكاه في الكتاب الكريم : ( قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسئَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) (١).
خامساً : وهو المهمّ وعمدة ما في الباب : إنّ هناك قاعدة ثابتة عقلاً ومتعارفة عملاً ، ومتبعة سيرةً ، تعرف عندهم بقاعدة الإلزام ، يستعان بها في مقام الاحتجاج وإلزام الخصم بما يلتزم به ، ويتظاهر بالاعتقاد به ، ولا يستطيع إنكاره ، بمعنى أنّ كلّ ما اعترف به الخصم واعتقد بصحّته صحّ الاستناد إليه وإلزامه به ، وليس معنى هذا اعتقاد القائل به بذلك أو التزامه به كما هو واضح.
وقد جاءت نصوص في الشريعة المقدّسة تؤيّد ما ذكرناه ، منها : ما جاء في التهذيب عن أبي الحسن عليهالسلام أنّه قال : « ألزموهم بما ألزموا أنفسهم » (٢).
__________________
١ ـ الأنبياء : ٦٢ ـ ٦٣.
٢ ـ تهذيب الأحكام ٩ / ٣٢٢.
هذا ، ولعلّ فلسفة هذا العمل ، هو أنّ معاوية لم يلتزم حتّى بسيرة خلفائهم فضلاً عن غيرهم ، وقطعاً لو لم يشترط هذا الشرط لتظاهر الرجل بعدم الموافقة ، ولما تمّ الصلح الظاهري ، والله العالم.
( أحمد ـ البحرين ـ ٤٢ سنة ـ طالب أكاديمي )
حكمة صلحه وجهاد أخيه :
س : هذا أحد حجج أهل السنّة على الشيعة فما قولكم فيه :
لقد تنازل الحسن بن علي لمعاوية وسالمه ، وفي وقت كان يجتمع عنده من الأنصار والجيوش ما يمكنه من مواصلة القتال.
وخرج الحسين بن علي في قلّة من أصحابه في وقت كان يمكنه فيه الموادعة والمسالمة ، ولا يخلو أن يكون أحدهما على حقّ ، والآخر على باطل ، لأنّه إن كان تنازل الحسن مع تمكّنه من الحرب حقّاً كان خروج الحسين مجرّداً من القوّة مع تمكّنه من المسالمة باطلاً ، وهذا يضعكم في موقف لا تحسدون عليه ، لأنّكم إن قلتم أنّهما جميعاً على حقّ جمعتم بين النقيضين ، وهذا القول يهدم أُصولكم.
ج : إنّ صلح الإمام الحسن عليهالسلام ونهضة الإمام الحسين عليهالسلام يتّفقان في الأهداف ، ويختلفان في كيفية التعامل مع الحكم السائد.
فبما أنّ الإمام الحسن عليهالسلام كان يواجه معاوية ومَكْرِه ونفاقه فاضطرّ إلى أن يكشف زيفه حتّى يتضّح للجميع عدم مشروعية الحكم الأمويّ ـ وإن كان واضحاً عند المؤمنين في واقعة صفّين وقبلها أو بعدها ـ فتبيّن من صلحه عليهالسلام عدم التزام معاوية بمواعيده ، ومن ثمّ تنفيذ مخطّطاته الظالمة فور سيطرته على الحكم بدون منازع ، من قتل وتشريد المؤمنين ، وتنصيب ولاة الجور عليهم ، والاستمرار في سبّ أمير المؤمنين عليهالسلام على المنابر ، وأخذ البيعة ليزيد و ... ـ وهذا الأمر كلّه قد حصل بفضل صلحه عليهالسلام.
وإلاّ فإنّ الاستمرار في الحرب مع معاوية كان لا ينتج هذه الثمرات كلّها أو
بعضها ، كيف وقد رأى الإمام عليهالسلام عدم قناعة أكثر جيشه باستمرار الحرب ، أو حتّى مؤامرة بعضهم لقتله أو أسره عليهالسلام ، ففي هذه الظروف لم يكن للإمام عليهالسلام أيّ خيار إلاّ أن ينتخب هذا الأسلوب ـ الصلح ـ لتستمر مواجهته مع العدوّ في شكلها الجديد.
ثمّ إنّ اتخاذه عليهالسلام هذه الطريقة قد مهدّت ـ في نفس الوقت ـ الأرضية المناسبة لنهضة أخيه الإمام الحسين عليهالسلام ، فتربّت الثلّة الواعية من المؤمنين في تلك الفترة ، وتحت الظروف القاسية ، فأصبحت فيما بعد أنصاراً أوفياء للإمام الحسين عليهالسلام في كربلاء.
ومن جانب آخر فقد تمّت الحجّة على الجميع في معرفتهم الحكم الأمويّ ، الذي جاء في مستهلّه بثوب الرياء والتزوير ، وتظاهر بالإسلام ، فتعرّفوا عليه في شكله الحقيقيّ.
ثمّ جاء دور الإمام الحسين عليهالسلام الذي كان متمّماً لدور أخيه الإمام الحسن عليهالسلام ، فقد استثمر الحالة الموجودة في المجتمع ، من عدم قناعتهم بمشروعية الدولة الأمويّة ـ وهذا قد نتج مسبقاً من صلح الإمام الحسن عليهالسلام ـ وبما أنّ الحكم الأمويّ في عصره عليهالسلام قد تمثّل في يزيد ـ وهو الذي كشف القناع عن وجهه ، بعدم التزامه بالمبادئ ، والظواهر الإسلامية ـ فقام بالأمر وتصدّى للطاغية ، وإن أدّى ذلك إلى الشهادة ، فقد انتصر في كسر صولة الظالم ، وفتح الباب لمكافحة الغي الأمويّ ، وهذا ما نراه جليّاً في الحركات المتأخّرة عن واقعة كربلاء ، فكلّها جاءت متأثّرة من نهضة الإمام الحسين عليهالسلام.
وممّا ذكرنا يظهر لك أنّ صلح الإمام الحسن عليهالسلام ، ونهضة الإمام الحسين عليهالسلام كلاهما في خطّ واحد في سبيل النيل لهدف موحّد ، فلا كثرة الجيوش ولا قلّة الأنصار هو العامل الأوّل في اختيارهما لأسلوب المواجهة ، بل الظروف كانت تختلف ، وباختلافها تتنوّع الأساليب ، وإن كانت جميعها في إطار محاولة رفع الظلم وتثبيت العدل.
فلو كان الإمام الحسين عليهالسلام في ظروف أخيه لأتّخذ نفس أسلوب الإمام الحسن عليهالسلام في صلحه ، ولو كان الإمام الحسن عليهالسلام يعيش في أيّام يزيد ، لانتهج أسلوب الكفاح والجهاد في وجه الأعداء ، فلا مغايرة في سيرتهما عليهماالسلام.
( علي ـ الكويت ـ .... )
لم يجبر على البيعة :
س : لماذا لم يجبر معاوية الإمام الحسن على البيعة؟ كما جبر يزيد الإمام الحسين على ذلك ، وشكراً ، وجزاكم الله ألف خير.
ج : لأنّ معاوية كان في دور توطيد حكمه الذي استتب له قريباً ، أي بعد عقد الصلح مع الإمام الحسن عليهالسلام ، فلأنَّ النفوس مشحونة بالبغضاء ومتحفّزة للقتال ، فالحرب كانت قريبة العهد ، كما أنّ نفوذ الإمام الحسن عليهالسلام لا زال فيه شيء من القوّة والسعة ، ومضامين شروط الصلح ما زالت حية ، لم يمض عليها وقت طويل حتّى تنسى ، وإنّ من شهدوا الصلح والتزموا به ما زالوا كثيرين ، فأيّ بادرة مخالفة مفضوحة لنقض شروط الصلح من قبل معاوية تقلب الكرة عليه ، ولذلك قام بعدّة أُمور للتمهيد لنقض شروط الصلح ، فقد نقض بعضها بمرور الزمن ، وبالحيلة والمكر.
وبدأ بقتل وملاحقة أصحاب الإمام ومؤيّديه ، والتضييق عليهم اقتصاديّاً ومعنويّاً ، واستخدم الإكراه والإغراء على مدى واسع في الأُمّة ، وشنّ حرب إعلامية على الإمام الحسن ، والإمام علي عليهماالسلام ، وبني هاشم ، منها :
سنّ السبّ على المنابر ، ووضع الأحاديث المكذوبة ، وبدأ بتوطيد ملكه وولاية العهد إلى يزيد ابنه ، ثمّ دسّ السمّ إلى الإمام الحسن عليهالسلام ، كلّ ذلك تمهيداً ليزيد ، فلمّا وصل الأمر إلى يزيد أخذ عمّاله البيعة بالإكراه من الأُمّة ، وليس لها قدرة على المقاومة ، ثمّ سعى لإكراه الرقم الأصعب في المعادلة ، وهو الإمام الحسين عليهالسلام.
( رنا ـ الأردن ـ .... )
كيفية مقتله :
س : أشكركم على ردّكم ، ولكن هل هناك مجال لمعرفة تفاصيل مقتل الإمام الحسن عليهالسلام؟
ج : قد ورد في كتاب وفيات الأئمّة ما نصّه : « إنّه لمّا تمّ الأمر لمعاوية بن أبي سفيان عشر سنين عزم أن يجعل ابنه يزيد ولي عهده ، فرأى أنّ أثقل الناس عليه مؤنة الإمام الحسن بن علي عليهماالسلام ، و ... ، ثمّ عزم على هلاك الحسن بن علي عليهماالسلام ، فأرسل إلى الأشعث بن قيس ... واستشاره معاوية في هلاك الحسن ، فقال له : الرأي عندي أن ترسل إلى ابنتي جعدة ، فإنّها تحت الحسن ، وتعطيها مالاً جزيلاً ، وتعدها أن تزوّجها من ابنك يزيد ، وتأمرها أن تسمّ الحسن.
فقال معاوية : نعم الرأي ، ... فاستدعى معاوية رجلاً من بطانته وخاصّته ، ودفع إليه مائة ألف درهم ، وكتب معه كتاباً إلى جعدة بنت الأشعث ، وأوعدها بالعطاء الجزيل ، وأن يزوّجها من ابنه يزيد إذا قتلت الحسن.
فسار الرجل ونزل في بعض بيوت المدينة ، وأرسل إلى جعدة سرّاً ، فأتت إليه ، فدفع لها المال والكتاب الذي من عند معاوية ، فسرّت بذلك سروراً عظيماً ، وكانت على رأي أبيها من بغض علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وعلمت أنّ أباها هو الذي أشار على معاوية بذلك ، فما زالت تتربّص به الغرّة ، وتنتهز فيه الفرصة والغفلة حتّى كانت ليلة من الليالي ، قدم عليهالسلام إلى منزله ، وكان صائماً في يوم صائف شديد الحرّ ، فقدّمت إليه طعاماً فيه لبن ممزوج بعسل قد ألقت فيه سمّاً ، فلمّا شربه أحسّ بالسمّ ، فالتفت إلى جعدة وقال لها : « قتلتني يا عدوّة الله قتلك الله ، وأيم الله لا تصيبين منّي خلفاً ، ولقد غرّك وسخر بك ، فالله مخزيه ومخزيك ».
ثمّ إنّه عليهالسلام لزم البيت ، وألزم نفسه الصبر ، وسلّم لله الأمر ، فاشتدّ الأمر
عليه ، فبقي طوال ليلته فأكبّ عليه ولده عبد الله ، وقال له : يا أبت هل رأيت شيئاً فقد أغممتنا؟
فقال عليهالسلام : « يا بني هي والله نفسي التي لم أصب بمثلها » ، ثمّ قال : « افرشوا لي في صحن الدار ، وأخرجوني لعلّي أنظر في ملكوت السماوات » ، ففرش له في صحن الدار وأخرج فراشه ، فدخل عليه أخوه الإمام الحسين عليهالسلام فرآه متغيّراً وجهه ، مائلاً بدنه إلى الخضرة ، فقال له الحسين عليهالسلام : « بأبي أنت وأُمّي ما بك »؟
فقال له : « ... إنّي قد سقيت السمّ مراراً ، فلم اسق مثل هذه المرّة »! ... ، فقال : « يا أخي من تتهم »؟ فقال : « وماذا تريد منه »؟ فقال : « لأقتله » ، فقال : « إن يكن الذي أظنّه فالله أشدّ نقمة منك وأشدّ تنكيلاً ، وإن لم يكن فما أحبّ أن يؤخذ بي بريء ».
ثمّ إنّ الإمام الحسين عليهالسلام بكى لما رأى من حال أخيه ، فقال له الحسن عليهالسلام : « أتبكي يا أبا عبد الله ، وأنا الذي يؤتى إليّ بالسمّ فأقضي به ، ولكن لا يوم كيومك ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل ، يدّعون أنّهم من أُمّة جدّك فيقتلونك ، ويقتلون بنيك وذرّيتك ، ويسبون حريمك ، ويسيرون برأسك هدية إلى أطراف البلاد ، فاصبر يا أبا عبد الله ، فأنت شهيد هذه الأُمّة ، فعليك بتقوى الله ، والصبر والتسليم لأمره ، والتفويض له ، لتنال الأجر الذي وعدنا به ».
فقال له الإمام الحسين عليهالسلام : « ستجدني إن شاء الله صابراً راضياً مسلّماً له الأمر ، وأهون عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله » ، فقال له الإمام الحسن عليهالسلام : « وفّقت لكلّ خير يا أبا عبد الله ».
ثمّ إنّ الإمام الحسن عليهالسلام لمّا تحقّق دنو أجله ، دعا بالحسين عليهالسلام ، ودفع إليه كتب رسول الله صلىاللهعليهوآله وسلاحه ، وكتب أمير المؤمنين عليهالسلام وسلاحه ، وأوصاه بجميع ما أوصى به أمير المؤمنين عليهالسلام ، ثمّ قال له : « يا أخي إنّي مفارقك ولاحق بربّي عزّ وجلّ ، فإذا قضيت نحبي ، فغمّضني ، وغسّلني ، وكفّني ، واحملني
على سريري إلى قبر جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، لأجدّد به عهداً وميثاقاً ، ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد ، وادفنّي هناك ، وستعلم يا ابن أُمّي أنّ القوم يظنّون أنّكم تريدون دفني عند جدّي ، فيجدون في منعك ، فبالله أقسم عليك لا تهرق في أمري ملء محجمة دماً ».
ثمّ أوصاه بجميع أهله وأولاده ، وما كان أوصى به أمير المؤمنين حين استخلفه وأهله ، ودلّ شيعته على إمامة الحسين عليهالسلام ، ونصّبه لهم علماً من بعده ، ثمّ التفت إلى أولاده وأخوته ، وأمرهم باتباعه ، وأن لا يخالفوا له أمراً ....
ثمّ إنّ الحسن عليهالسلام قال : « أستودعكم الله ، والله خليفتي عليكم » ، ثمّ إنّه غمّض عينيه ومدّ يديه ورجليه ، ثمّ قضى نحبه وهو يحمد الله ويقول : « لا إله إلاّ الله » ، فضجّ الناس ضجّة عظيمة ، وصار كيوم مات رسول الله ، وخرج أولاده وأخوته يبكون وينوحون ، وأمثل بنو هاشم رجالاً ونساءً يبكون عليه ، ويدعون بالويل والثبور ، وعظائم الأُمور.
ثمّ إنّ الإمام الحسين عليهالسلام قام في تجهيز أخيه ، وأمر عبد الله بن العباس ، وعبد الله بن جعفر أن يناولاه الماء ، فغسّله ، وحنّطه ، وكفّنه ، كما أمره ، وصلّى عليه في جملة أهل بيته وشيعته ... » (١).
( .... ـ .... ـ ... )
بصلحه كشف حقيقة معاوية :
س : ما فائدة صلح الإمام الحسن عليهالسلام؟
ج : إنّ من فوائد الصلح هي كشف حقيقة معاوية للناس الذين كانوا في أيّامه ، والأجيال التي جاءت بعده على طول التاريخ ، ولولا تسليم الإمام الأمر لمعاوية ، ونكث معاوية لما أعطاه من شروط وعهود لما كانت تعرف حقيقة معاوية العدوانية.
__________________
١ ـ وفيات الأئمّة : ١١٥.