كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

وردّ بأنّ المراد بالقوّة الرمي.

الثانية ( إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) (١).

والأصل بقاء المشروعيّة وعدم النسخ.

الثالثة ( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (٢).

أي ما أجريتم عليه ، من الوجيف وهو سرعة السير.

النوع الثامن

الشفعة

واشتقاقها إمّا من الشفع وهو الزّوج كأنّ المشفوع كان فردا فصار زوجا أو من الشفاعة وليس في الآيات الكريمة ما يدلّ عليها صريحا بخصوصيّتها بل لمّا كان مشروعيّتها لازالة الضّيق والضرر والمضاغنة الحاصلة من الشركة ، جاز أن يستدلّ عليها حينئذ بآيات تدلّ على رفع ذلك كقوله تعالى :

( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣).

وقوله ( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) (٤).

وقوله ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٥).

وموضوعها عندنا كلّ عقار مشترك بين اثنين فيبيع أحدهما حصّته فللآخر الانتزاع من المشتري مع بذل الثمن له ، ولها شروط نذكر منها كلّياتها وهي ثمانية :

__________________

(١) يوسف : ١٧.

(٢) الحشر : ٦٠.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) البقرة : ٢٢٠.

(٥) البقرة : ١٨٥.

٨١

١ ـ كون الشركة في عقار ثابت لا ما ينتقل من المبيعات.

٢ ـ انتقال الحصّة بالبيع لا بغيره من العقود.

٣ ـ عدم زيادة الشركاء على اثنين.

٤ ـ بقاء الشركة بالجزء المشاع ، فلو قسم وميّز فلا شفعة إلّا مع بقائها في الطريق أو النهر.

٥ ـ قدرة الشفيع على الثمن.

٦ ـ أن لا يكون كافرا والمشتري مسلما.

٧ ـ كون العقار قابلا للقسمة فلا شفعة في العضائد الضيّقة.

٨ ـ المطالبة على الفور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الشفعة لمن واثبها » (١) ولا تثبت عندنا بالجوار ولا في غير ما ذكرنا من المبيعات ولا مع زيادة الشركاء على اثنين ولا غير ذلك ممّا قيل ، لأنّ هذا الانتزاع على خلاف الأصل فيقتصر فيه على محلّ الوفاق.

النوع التاسع

اللقطة

وهي إمّا إنسان أو حيوان أو مال أو غير ذلك ولم يرد في الكتاب في شرعنا نصوصيّة عليها بل عموم :

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (٢).

وقوله ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (٣).

ولا ريب أنّ أخذ اللّقيط في موضع الحاجة برّ وإحسان إليه فلو لا مشروعيّته لأدّى إلى تلفه المنافي لحكمة الصانع الجواد الكريم الرؤف الرحيم وقد ورد حكاية اللّقطة في القرآن العزيز عن القرون الماضية كقوله :

__________________

(١) أخرجه في المستدرك ج ٣ ص ١٤٩ عن غوالي اللآلي ولفظه « الشفعة لمن يأتيها ».

(٢) آل عمران : ٣.

(٣) البقرة : ١٤٨ والمائدة : ٥١.

٨٢

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) (١).

وقوله ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ ) (٢).

وهاتان وإن لم يكن في ظاهرهما أمر لكن في مضمونهما تنبيه وإشارة إلى هذه الوظيفة المناسبة للشفقة على خلق الله تعالى.

واعلم أنّ أخذ اللّقيط واجب لظاهر قوله تعالى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) لكن على الكفاية لحصول المقصود بقيام من يحضنه وأمّا الحيوان والمال فلهما أحكام وتفاصيل علمت من السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة تذكر في غير هذا المكان.

النوع العاشر

الغصب

وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ وقد ورد في النهي عنه آيات كثيرة منها ما يدلّ بعمومه كقوله تعالى :

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (٣).

وقوله ( إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ ) (٤).

ومنها ما يدلّ بخصوصه ويدلّ على جواز المقاصّة والاستيفاء كقوله :

( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (٥).

وقوله ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (٦).

__________________

(١) القصص : ٨.

(٢) يوسف : ١٠.

(٣) البقرة : ١٨٨ والنساء : ٢٨.

(٤) براءة : ٣٥.

(٥) البقرة : ١٩٤.

(٦) الشورى : ٦٠.

٨٣

وقوله ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (١).

وتفاصيل ذلك وأحكامه مذكور في المطوّلات من كتب الفقه. فلتطلب منها لكنّا نذكر هنا فوائد.

١ ـ الاعتداء قد يكون بالاستيلاء ، وقد يكون بالإتلاف للمنفعة أو العين مباشرة أو تسبيبا من العامد أو المخطئ.

٢ ـ يجب على الغاصب والمعتدي ردّ ما غصبه أو أتلفه أو عوض ذلك مع التعذر فان لم يفعل تسلّط المالك على الانتزاع وسمّاه اعتداء وسيّئة مجازا تسمية للشي‌ء بمقابله.

٣ ـ مع وجود العين ، للمالك انتزاعها ، وإن لم يرض الغاصب ، ومع تلفها وبذل الغاصب واعترافه لا يسلّط على أخذ العوض إلّا برضى الغاصب لأنّ له الخيار في جهات القضاء من أيّ أمواله شاء ، فان ماطل أو أنكر ولا بيّنة أو كانت على الأصحّ فللمالك الأخذ من أيّ أمواله اتّفق ، لكنّ المماثل أولى فان لم يجد أخذ المخالف.

٤ ـ المثل في الآية يمكن حمله على المساوي في الحقيقة ، وعلى المساوي في الحكم ، وعلى المساوي في الماليّة ، وقد يعبّر عن الأوّل بما يشترك جزؤه وكلّه في صدق الاسم وهو المراد بالمثليّ في عبارة الفقهاء.

٥ ـ المغصوب إن كان مثليّا بالمعنى الأوّل تعيّن مع فقده مثله ، ولا اعتبار بتفاوت الأسعار في الزيادة والنقصان عن حال الغصب ، فان تعذّر فقيمته حين الإعواز وإن لم يكن مثليّا بالمعنى المذكور ، وهو المعبّر عنه بأنّه من ذوات القيم يضمن بقيمته العليا من حين الغصب إلى حين التلف.

٦ ـ فوائد المغصوب ومنافعه مضمونة على الغاصب كالأصل بأعلى القيم كما قلناه ، سواء انتفع الغاصب بها أولا ، والحرّ المعتقل (٢) يضمن منافعه بالتفويت لا

__________________

(١) الشورى : ٤١.

(٢) نص : المعقد.

٨٤

الفوات والعبد كغيره من الأموال يضمن فوائده فواتا وتفويتا.

٧ ـ مع تعاقب الأيدي على المغصوب يرجع المالك على من شاء ببدل واحد أو على الجميع ببدل واحد ، فان كان المرجوع عليه مغرورا رجع على من غرّه وإلّا فلا.

٨ ـ يجب ردّ المغصوب وإن تعسّر كالساجة في البناء واللّوح في السفينة وإن أدّى إلى تلف مال الغاصب أمّا لو خشي غرق الغاصب أو حيوان محترم أو مال لغير الغاصب لم ينزع اللّوح وشبهه ، وكذا لو خيط بالمغصوب جرح حيوان له حرمة وخيف التلف بالنزع لم ينزع ، وضمن في الجميع القيمة ، ولو أمكن في اللّوح الصبر إلى الساحل انتزع فيه وأخذ الأجرة ، والخيار للمالك ، ولو طرء على المغصوب نقص انتزع مع أرشه ، ولو خلطه الغاصب بمساويه أو أجود ولم يمكن التميز تشاركا ولو كان بالأردء ضمن وكذا لو خلطه بغير جنسه كالزيت والشيرج.

٩ ـ زوائد المغصوب وإن كانت بفعل الغاصب مضمونة إن كانت متقوّمة عرفا وإلّا فلا ، ولو عدم المقوّم ووجد غيره لم يجبر الأوّل ، وكانا مضمومين أمّا لو كان الزائد بعين من الغاصب كالصنع كلّف الفصل وضمن النقص.

١٠ ـ المقبوض بالبيع الفاسد حكمه حكم المغصوب في الضمان بعينه وكذا فوائده وزوائده وبالجملة كلّ مضمون بعقد صحيح فهو مضمون بالفاسد ، وما لا فلا.

النوع الحادي عشر

الإقرار

وهو إخبار عن حقّ لازم للمخبر فالأخبار جنس وقولنا لازم للمخبر يخرج الشهادة فإنّها إخبار عن حقّ لكنّه لازم لغير المخبر ثمّ الحقّ قد يكون مالا وقد يكون عقوبة ، وقد يكون نسبا ، والمال قد يكون معلوما فيتّبع مدلول لفظه شرعا فان فقد فعرفا ، فان فقد فلغة ، وقد يكون مجهولا فيرجع إلى تفسير المقر بالمحتمل والعقوبة إن عيّنها لزمته ، وإن أبهم رجع إليه ، سواء كانت العقوبة عليه لقذف أو

٨٥

لجناية على غيره والنسب يلزم مع الشرائط وانتفاء الموانع حسّا وشرعا وفيه آيات :

الاولى ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ) (١).

والاعتراف افتعال من المعرفة ويقال عرفا [ على ] الإقرار مع المعرفة بما أقر به فلو لم يكن دليلا لما رتّب الذمّ والدعاء عليهم بقوله ( فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) أي بعدا لهم من رحمة الله من أسحقه إذا أبعده.

الثانية ( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (٢).

وشهادة الإنسان على نفسه إقرار منه بما شهد به.

الثالثة ( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا ) (٣).

ودلالتها على لزوم الحكم للمقرّ ظاهرة.

تفريع

لو قال : لي عندك كذا فقال : أنا مقرّ لك به ، لزمه قطعا أمّا لو قال أنا مقرّ هل يلزمه ذلك أم لا؟ قيل لا يلزم لاحتمال إضمار غير ما تقدّم أي مقر بالوحدانيّة أو النبوّة أو ببطلان دعواك فلا يكون صريحا في الجواب إذ هو أعم ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ وقيل يكون إقرارا لوجوده عقيب الدعوى ، فيكون منصرفا إليها للعرف وللآية فإنّهم لم يقولوا أقررنا بذلك.

إن قلت : إنّما ترك ذكر المتعلّق لعلمه تعالى بقصدهم ذلك ولذلك ترك ذكره في السؤال بقوله « أَأَقْرَرْتُمْ » ولم يقل « بذلك » قلت مراده تعالى إلزامهم بإقرارهم وكلامهم ولذلك قال « فَاشْهَدُوا » أي ليشهد بعضكم على بعض ، فيكون المراد إقرارهم لا قصدهم لعلمه بذلك.

__________________

(١) الملك : ١١.

(٢) الانعام : ١٣٠ والأعراف : ٣٦.

(٣) آل عمران : ٨١.

٨٦

ثمّ اعلم أنّ الصور المفروضة هنا لفظا أربعة :

١ ـ أنا مقرّ لك به وهو صريح في الإقرار.

٢ ـ أنا مقرّ لك ولم يقل به ، وفي هذا احتمال أنه مقرّ لك بغيره فلا يكون صريحا في الجواب.

٣ ـ أنا مقرّ به ولم يقل لك قال العلّامة يكون إقرارا وظاهر كلام الشهيد يكون إقرارا لاحتمال إقراره به لغيره لا له.

٤ ـ أنا مقر لا غير ولم يذكر الضميرين وفيه الاحتمالان المتقدّمان. فظاهر الآية يدل على كون كلّ إقرارا وحذف الضمير الدالّ على الربط لا يضرّ هنا لأنّه كثيرا مّا يحذف الضمير للعلم به ، ويؤيّده العرف ، وقرينة الخطاب ، ولأنّه لو قال : نعم ، في هذه الصور ـ لكان إقرارا فكذا فيما قلناه.

الرابعة ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (١).

وتقريره كما تقدّم.

الخامسة ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى ) (٢).

وكذا قوله ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (٣).

يستدلّ بهاتين الآيتين وشبههما على كون حرف الإيجاب يصلح إقرارا وأن بلى إيجاب بعد النفي و « نعم » تقرير لما سبق ، إن نفيا فنفيا وإن إيجابا فايجابا ولذلك قال ابن عبّاس في الآية الثانية لو قالوا نعم لكفروا ، أي نعم لست بربنا وفيه نظر لأنّ أهل العرف يستعملون نعم بمعنى بلى ويدلّ عليه قول الشاعر :

أليس الله يجمع أمّ عمرو

وإيّانا فذاك بنا تداني

__________________

(١) النساء : ١٣٤.

(٢) الملك : ٨.

(٣) الأعراف : ١٧١.

٨٧

نعم وترى الهلال كما أراه

ويعلوها النهار كما علاني (١)

والحقّ عندي التفصيل وهو أنّ الكلام إن صدر عن أهل اللّغة لم يكن إقرارا وإن صدر عن أهل العرف كان إقرارا وهنا فوائد :

١ ـ في الآية الأولى إشارة إلى كون المقرّ ذا معرفة بما أقرّ به ، فيدخل في ذلك اشتراط بلوغه وعقله ورشده.

٢ ـ في الآية الثانية والثالثة إشارة إلى وجوب الحكم على المقرّ بما أقرّ به مطلقا كما يجب الحكم بالبيّنة ولهذا سمّاه شهادة ، فيكون الإقرار أحد أدلّة الحكم.

__________________

(١) البيتان من قصيدة لجحدر العكلي وكان لصا مبزا أى غالبا فأخذه الحجاج فحبسه فقالها في الحبس وأنشدها أبو على القالي في الأمالي ج ١ ص ٢٧٧ وص ٢٧٨ وأنشد أشطرا من أبياتها المبرد في الكامل ص ١٢٦.

ثم ان الحجاج على ما نقل البكري أرسل على جحدر أسدا قد جوعه له ثلاثا فبطش جحدر بالأسد فقتله ، فعفا عنه الحجاج ووصله ، لما رأى من جرئته وشدته.

وأنشد البيتين أبو عبيد البكري في سمط اللآلي ص ٦١٧ ونقل الميمنى في ذيله أن البيتين للمعلوك في العيون ١ : ١٤٩ والشعراء ٢٦٧ والنوبرى ٢ : ٢٥٨ قال البكري هذا أيسر ما يقنع به المتشوق ويتعلق به المتتوق كما قال جميل :

أقلب طرفي في السماء لعلها

يوافق طرفي طرفها حين تنظر

وأنشد البيتين في المغني ناسبا الى جحدر في الباب الأول كلمة نعم وأنشدهما الرضى غير ناسب في شرح الكافية في حروف الإيجاب ج ٢ ص ٣٨٢ ط اسلامبول.

والضبط في الأمالي والسمط والمغني وشرح الكافية « أليس الليل يجمع أم عمرو » وهو المناسب وأظن أن ضبط « أليس الله كما في الكتاب من غلط الناسخ وعلى أى فهو كذلك في النسخ المخطوطة التي راجعناه.

ثم ان ضبط البيت الثاني في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة ص ١٦٩ ناسبا الى المعلوك هكذا :

أرى وضح الهلال كما تراه

ويعلوها النهار كما علاني

والوضح : الضوء والبياض جمعه أوضاح كسبب وأسباب.

٨٨

٣ ـ في الآية الرابعة إشارة إلى وجوب الإقرار بالحقّ اللّازم للمقرّ لقوله ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) أي بالعدل ، والأمر للوجوب.

٤ ـ في الآية الثالثة ( وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ) أي عهدي ، سمّى العهد إصرا لأنّه يوصر أي يشدّ ، والآثار ما يعقد به الشي‌ء ويشدّ ، أو لأنّ الوفاء به شديد.

النوع الثاني عشر

الوصية

وهي لغة مشتقّة من وصى يصي أي يصل (١) يقال أوصى يوصي إيصاء ، ووصّى يوصّي توصية ، والاسم الوصيّة والوصاية ، وشرعا هو تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة وسمّي ذلك وصيّة لأنّ الموصى يصل تصرفه بعد الموت بما قبله.

وفيه آيات ثلاثة :

الأولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٢).

وهنا فوائد :

١ ـ « كتب » أي فرض وفاعله « الوصيّة » وإنّما ذكّره لكون تأنيث الوصيّة غير حقيقيّ أو لوجود الفصل أو لأنّ معناها أن يوصي ، ومعناه المصدر ، وحضور الموت ظهور أسبابه وأماراته ، والخير المال بدليل قوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (٣).

__________________

(١) نص : وصل.

(٢) البقرة : ١٨٠.

(٣) العاديات : ٩.

٨٩

٢ ـ قيل الآية منسوخة بآية الإرث وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّ الله تعالى أعطى كلّ ذي حق حقّه ألا لا وصيّة لوارث (١) » قلنا الأصل عدم النسخ ولأنّ شرطه المنافاة ولا منافاة بين الوصيّة والإرث ، إذ هو زيادة في الصلة ولو سلّم النسخ فهو رافع للوجوب لا الجواز ، وذلك لأنّ رفع المركّب لا يستلزم رفع جميع أجزائه ، كما بيّن في الأصول ، وأمّا الحديث فنمنع صحّته ولو سلّم فآحاد لا ينسخ الكتاب عند الأكثر ، ولو سلّم جواز النسخ به ، لكان لنا هنا أن نحمله على التخصيص بما زاد على الثلث ، والتخصيص خير من النسخ ، لما تقرر في الأصول أو نحمله على الإضمار الّذي هو خير أيضا أي لا وصيّة واجبة لوارث.

وبالجملة الإجماع منعقد على مشروعيّة الوصيّة فلا تكون منسوخة فيكون الحديث على تقدير صحّته مخصّصا وليس تخصيص الوارث بعدم الوصيّة له مطلقا أولى من تخصيصه بما زاد على الثلث ، وقد روى أصحابنا عن الباقر عليه‌السلام أنّه سئل هل يجوز الوصيّة للوارث؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية (٢) وأمّا رواية السكونيّ عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال « من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية (٣) » فضعيفة لكون السكونيّ عاميّا ومع تسليمها فلا تنفي الوصيّة للوارث إلّا من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة.

٣ ـ دلالة الآية على جواز الوصيّة للوارث ظاهرة لأنّ الوالدين وارثان قطعا وكذا قوله « وَالْأَقْرَبِينَ » يعمّ كلّ قريب وارثا كان مع الوالدين كالأولاد إجماعا والاخوة عند الخصم ، أو غير وارث لأنّ الجمع المعرّف باللّام للعموم ، كما تقرر في الأصول.

__________________

(١) رواه أبو داود ( ج ٢ ص ١٠٢ ) وابن ماجة كما في مشكاة المصابيح ص ٢٦٥ وروى عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا وصية لوارث الا أن يشاء الورثة.

(٢) راجع الكافي ج ٧ ص ٩ باب الوصية للوارث.

(٣) رواه في التهذيب ج ٢ ص ٣٨٢ ورواه في الفقيه ج ٢ ص ٢٦٦ وترك قوله « ممن لا يرث ».

٩٠

فائدة : الأقارب الّذين يرثون لكن معهم من يحجبهم مثل الأخت (١) مع الأب أو مع الولد يستحب الوصيّة لهم وبه قال جميع الفقهاء وعامّة الصحابة ، وقال قوم يجب الوصيّة لهؤلاء وهو ضعيف.

٤ ـ اختلف في المال المتروك الّذي تعلّق الأمر بحصوله فقال الزهريّ كل ما يقع عليه اسم المال قليلا كان أو كثيرا وقال النخعيّ من ألف إلى خمسمائة درهم وقال ابن عبّاس ثمان مائة درهم ، « وروي عن عليّ عليه‌السلام أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبع مائة أو ستّمائة درهم ، فقال ألا اوصي؟ فقال : لا إنّما قال الله تعالى ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) وليس لك كثير مال (٢) » قال الراوندي وبهذا نأخذ.

٥ ـ قوله « بِالْمَعْرُوفِ » قيل المراد به المعلوم فعلى هذا لا تصح الوصيّة بالمجهول ، وهو باطل عندنا فإنّه لو أوصى بشي‌ء أو بجزء أو نصيب صحّ لعموم الآية الثانية ، ورجع في غير المنصوص إلى الوارث ، وقيل المراد به بالعدل وهو أولى فيحتمل وجوها : الأوّل : أنّه ممّا لا يزيد على الثلث الثاني : أن يوصي للفقير والأشدّ حاجة ولا يفضّل الغنيّ على الفقير ، الثالث : أن لا يضرّ بورثته لو كانوا فقراء ، ولو أوصى بما دون الثلث ، الرابع : أن يقلّل في الوصيّة ولو كان الوارث غنيّا فالرّبع أفضل من الثلث ، والخمس أفضل من الربع ، والسدس أفضل من الخمس ، لما ورد عن سعد بن أبي وقّاص قال : مرضت فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعودني فقلت : يا رسول الله اوصي بمالي كلّه؟ قال : لا ، قلت النصف؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال الثلث ، والثلث كثير إنّك إن تدع ذرّيتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم (٣) » قوله « حَقًّا » مصدر أي حقّ ذلك حقّا.

__________________

(١) في بعض النسخ : مثل الاخوة.

(٢) تراه في الدر المنثور ج ١ ص ١٧٤. وقال : أخرجه عبد الرزاق والفريابى وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن عروة.

(٣) أخرجه في مشكاة المصابيح ص ٢٦٥ وقال : متفق عليه.

٩١

٦ ـ « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ » إلى آخره ، الوصيّة وإن كانت جائزة لكن يجب العمل بها بعد الموصى من غير تغيير ولا تبديل ، ولذلك قال « فَمَنْ بَدَّلَهُ » أي بدّل ذلك الإيصاء من وصيّ وشاهد ووارث وحاكم وغيرهم بعد ما سمعه وتحقّقه فإنّما إثم ذلك التبديل على المبدّل ، والضمير في « بدّله » راجع إلى مصدر أوصى وهو الإيصاء وفي « إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وعيد للمبدّل والمغيّر ، أي يسمع ويعلم التبديل والتغيير ، ولا يفوته شي‌ء.

٧ ـ « فَمَنْ خافَ » أي توقّع أو علم من قولهم أخاف أن يرسل السماء « مِنْ مُوصٍ » قرء حمزة والكسائي وأبو بكر « موص » من وصى بالتشديد والباقون موص بالتخفيف من أوصى يوصي والضمير في « خاف » يرجع إلى « من » والجنف الميل إلى إفراط أو تفريط « أَوْ إِثْماً » بأن يوصي بالباطل أي بما لا يجوز الوصيّة به كالمحرّمات فعلى هذا الجنف هو الوصيّة بزائد على الثالث أو بما فيه إضرار بالوارث « فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ » أي بين الوارث والموصى له « فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » وفي الكلام تنبيه على أنّ مطلق التبديل والتغيير غير منهيّ عنه ، بل التبديل بالباطل عن الحقّ أمّا عن الباطل إلى الحقّ فجائز.

قيل : كان الأوصياء يمضون الوصيّة بعد نزول قوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) ولو كان الوصيّة بهما كانت ولو بالمال كلّه فنسخ بقوله « فَمَنْ خافَ » إلى آخره.

وقيل : المراد فمن خاف من موص في حال مرضه الّذي يريد الوصيّة فيه جنفا أو إثما فلا جناح عليه أن يردّه عن ذلك ، ويشير عليه بالنهج الصحيح ، ويصلح بين الموصى والورثة والموصى له ، بحيث لا يقع بينهم خلاف يؤدّي إلى الإثم ويكون الخوف على ظاهره ، ولا يكون مترقّبا ولا متوقّعا ، وهو وجه حسن جيّد مطابق غير أن الأوّل عليه الأكثر ، وبه قال الباقر والصادق عليهما‌السلام وكفى بقولهما مرجّحا له. قوله ( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وعد لمن بدّل الباطل بالحقّ مقابل لوعيد من بدل الحقّ بالباطل.

٩٢

الثانية ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ).

وكذا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ).

وقوله ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١).

دلّت هذه الآيات ونظائرها على تأخير الميراث عن الوصيّة والدين وبقي هنا سؤال تقريره لم قدّم الوصيّة على الدين مع أنّ الفقهاء مجمعون على تقديم مؤنة التجهيز من أصل التركة ، ثمّ الدين من الأصل أيضا ثمّ الوصيّة من الثلث وأيضا الدين يجب أداؤه سواء أوصى به الميّت أو لا ، والوصيّة لا يجب إلّا إذا أوصى بها والجواب أنّ « أو » هنا بمعنى « إلّا » تقديره من بعد وصيّة إلّا أن يكون هناك دين.

فان قلت : إنّ « أو » لا يكون بمعنى « إلّا » أو « إلى » إلّا إذا دخلت على فعل مضارع ، وهنا ليس كذلك. قلنا : الفعل هنا مقدّر ، وهو يحصل أو يكون أو يوجد وإنّما قدّرنا ذلك لئلّا يلزم حمل القرآن على الركاكة.

فإن قلت : إذا كانت بهذا المعنى يجب أن يكون جوابا لأحد الأمور الثمانية وليس ها هنا شي‌ء منها ، قلت : هي هنا جواب الأمر إذ تقدير « يُوصِيكُمُ اللهُ » أعطوا أولادكم ، وهذا أحسن من قول من قال إنّ أو هنا للإباحة ، ليدلّ على أنّ لوصيّة والدين واجبان يستحقّان التقديم على قسمة التركة مجتمعين ومنفردين ، وإنّه إنّما قدّم الوصيّة لأنّها مشتبهة بالميراث ، شاقّة على الورثة ، مندوب إليها ، لأنّ ما قلناه مطابق للقاعدة الشرعيّة منصور بالدليل اللّغويّ وهنا فوائد :

١ ـ دلّت هذه الآية على مشروعيّة الوصيّة مطلقا ، لوارث وغيره وأنّها مقدّمة على الميراث.

٢ ـ ظاهر الآية يقتضي وجوب العمل بالوصيّة مطلقا ، والإجماع والأحاديث خصّا ذلك بالثلث ، فما دون ، وأنّ الزائد موقوف على إجازة الوارث.

٣ ـ استدلّ الشافعيّة وبعض الفقهاء بالآية على أنّ الموصى له يملك الوصيّة

__________________

(١) الايات الثلاث في صورة النساء : ١٠ و ١١.

٩٣

بالموت ، لأنّه جعل الإرث بعدها فلو لم ينتقل إلى الموصى له بقي بغير مالك ، لأنّ الميّت زال ملكه بالموت ، ولأنّ الملك يستحيل كونه بلا مالك لأنّه نسبة بينه وبين المملوك ، ويستحيل ثبوته للميّت ، فانّ الموت علّة في زوال الاملاك عنه ، ويستحيل أيضا ثبوته للوارث وإلّا لتلقّى الموصى له الملك عنهم ، وهو باطل إجماعا فعلى هذا يكون القبول كاشفا.

وقال جماعة : إنّ القبول سبب في الملك لأنّ الملك حادث لا بدّ له من سبب وليس هو الموت وحده ، وإلّا لكفى من غير قبول ، ولا الإيجاب وحده لذلك أيضا ولا هما معا لأنّهما لو كفئا لما صحّ الردّ بعدهما قبل القبول ، كما لا يصح بعد القبول ، لكنّه يقع الردّ بعدهما ، ولا يقع بعد القبول ، وليس الفارق إلّا حصول الملك في الثاني دون الأوّل.

فعلى هذا يكون الملك قبل القبول للوارث لكنّه غير مستقرّ كما يملك المشتري المبيع في زمن الخيار ، فان وقع الفسخ عاد الملك إلى البائع كذا هنا إذا قبل الموصى له عاد الملك إليه ، وإلّا استقرّ ملك الوارث ، ولأنّ الملك قبل القبول وبعد الموت لا بدّ له من مالك ليس هو الميّت لعدم صلاحيّته ، ولا الموصى له لعدم قبوله ، فيكون للوارث وهو المطلوب.

ويجاب عن الآية بأنّ المراد بعد وصيّته كاملة ، وهي المشتملة على الإيجاب والقبول ، وهذا القول يقوى في نفسي ويتفرّع عليه ملك النماء قبل القبول. فعلى الثاني يكون للوارث وعلى الأوّل يكون للموصى له.

٤ ـ إطلاق الآية يقتضي عدم اشتراط تعيين الموصى به ، ولا الموصى له ، كما لو أوصى لأحد هذين فإنّه يعيّن الوارث ، ولو أوصى بعتق أحد هذين ، فإنّه يعيّن الوارث أيضا نعم يستحبّ القرعة لازالة التهمة.

الثالثة ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (١).

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

٩٤

وقوله ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (١).

لو أوصى بجزء من ما له قال الشافعيّ ليس فيه مقدّر والأمر فيه إلى الورثة وأجمع أصحابنا على خلافه لكن اختلفوا :

فقال الشيخ وجماعة إنّه العشر استدلالا برواية ابن سنان (٢) عن الصادق عليه‌السلام صحيحا « قال إنّ امرأة أوصت إليّ وقالت : ثلثي تقضى به ديني وجزء منه لفلانة فسألت ابن أبي ليلى فقال ما أرى لها شيئا ما أدري ما الجزء فسألت الصادق عليه‌السلام بعد ذلك وأخبرته الخبر فقال : كذب ابن أبي ليلى لها عشر الثلث إنّ الله أمر إبراهيم عليه‌السلام وقال له ( اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، فالجزء هو العشر » ومثله رواية أبان بن تغلب عن الباقر عليه‌السلام (٣).

وقال المفيد وسلّار إنّه السبع استدلالا برواية [ ابن ] أبي نصر قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى بجزء ماله فقال : واحد من سبعة إنّ الله يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ومثله رواية إسماعيل بن همام عن الرضا عليه‌السلام (٤).

والأقوى العمل على الأوّل لأن الأصل بقاء الملك على الوارث خولف في العشر لأنّه أقل ما قيل ، ولولاه لحمل على أقلّ ما يتملّك كما لو أوصى بنصيب وشبهه وكذا قال الشيخ لو أوصى بسهم كان ثمنا لأنّه أقلّ السهام المفروضة ، وبشي‌ء ، كان سدسا حملا على آية الخمس ، فإنّه يقسم ستّة أقسام وهو ضعيف وقال الشافعيّ هنا كما قال في الجزء.

__________________

(١) الحجر : ٤٤.

(٢) رواية عبد الله بن سنان عن عبد الرحمن بن سيابة كما في الكافي ج ٧ ص ٣٩.

(٣) ورواية معاوية بن عمار أيضا ، راجع الكافي ج ٧ ص ٤٠.

(٤) أخرجهما في الوسائل كتاب الوصايا ، ب ٥٤ ح ١٢ و ١٤. عن التهذيب والاستبصار.

٩٥

الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) (١).

هنا فوائد :

١ ـ روي أنّ تميما الداريّ وعدّي بن بدّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلمّا قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة ، وطرحها إلى متاعه ، ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتّشاه وأخذا منه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب ، فغيباه.

فأصاب أهله الصحيفة وطالبوهما بالإناء فجحدوا فترافعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد صلاة العصر عند المنبر وخلّا سبيلهما.

ثمّ وجد الإناء في أيديهما فأتاهم بنوسهم في ذلك فقالا قد اشتريناه منه ، ولكن لم يكن لنا عليه بيّنة فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً ) فقام عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة السهميّان

__________________

(١) المائدة : ١٠٦ ـ ١٠٨.

٩٦

فحلفا وأخذا الإناء (١).

٢ ـ في تفسير الآيتين وحلّ تركيبهما : قوله « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره محذوف أي عليكم شهادة بينكم و « اثْنانِ » فاعل فعل محذوف أي يشهد اثنان وفائدة الإبهام والتفسير تقرير الحكم في النفس مرّتين ولمّا قال « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » كأنّ قائلا يسأل من يشهد؟ فقال « اثْنانِ » أي يشهد اثنان لا أنّ « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره « اثْنانِ » لأنّ شرط الاخبار وبالمفرد أن يجمعهما ذات واحدة و « إِذا حَضَرَ » ظرف لمتعلّق الجارّ والمجرور ، أي عليكم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم أسباب الموت و « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدل منه وقوله « مِنْكُمْ » أي من المسلمين « و ( غَيْرِكُمْ ) » أي غير المسلمين ، وقيل « مِنْكُمْ » أي من أقاربكم و « غَيْرِكُمْ » أي من الأجانب ، وقد وقع الجارّان والمجروران هنا صفة للاثنان « تَحْبِسُونَهُما » أي تقفونهما وهو صفة لآخران ، والشرط مع جوابه المحذوف المدلول عليه بقوله « أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » اعتراض فائدته الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد منكم اثنان فان تعذّر كما في السفر فآخران من غيركم والأولى أنّ « تَحْبِسُونَهُما » لا تعلّق لهما بما قبلهما لفظا ولا محلّ لها من الاعراب ، والمراد بالصلاة صلاة العصر ، لأنّه وقت اجتماع الناس ، أو أنّها وقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ، فاللّام فيها للعهد وقيل أيّ صلاة كان فاللّام للجنس وهو أولى.

وقوله « لا نَشْتَرِي بِهِ » هو المقسم عليه « وإِنِ ارْتَبْتُمْ » أي ارتاب الوارث ، وهو اعتراض فائدته اختصاص القسم بحال الريبة ، والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضا من الدنيا ، أي لا نحلف بالله كذبا لأجل طمع ولو كان المقسم له ذا قربى ، و

__________________

(١) ترى القصة في الكافي ج ٧ ص ٥ ، وهكذا أخرجها المفسرون عند تفسير الآية كما في مجمع البيان ج ٣ ص ٢٥٦ و ٢٥٩ والدر المنصور ج ٢ ص ٣٤٣ وذكره العسقلاني تارة في ترجمة عدا بن بداء ج ٢ ص ٤٦٠ وتارة في ترجمة بديل ابن ابى مريم ج ١ ص ١٤٥ وتارة في ترجمة تميم الداري ج ١ ص ١٨٦. وذكره أبو داود في سننه ج ٢ ص ٢٧٦ باب شهادة أهل الذمة.

٩٧

جوابه محذوف أي لا نستبدل « وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ » أي الله الّذي قد أمرنا بإقامتها ف « إِنّا إِذاً » أي إذا كتمناها « لَمِنَ الْآثِمِينَ » وكان الشعبيّ يقف على « شهادة » ويبتدئ ب « آلله » بالمدّ على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام عنه ، « فَإِنْ عُثِرَ » أي اطّلع على أنّهما فعلا ما يوجب إثما فشاهدان آخران « مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » وهم الورثة ، وقرأ حفص استحقّ على البناء للفاعل ، والأوليان أي الأحقّان بالشهادة ، لقرابتهما وهو خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان أو خبر « آخران » أو بدل منهما أو من الضمير في « يقومان » وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم « الأوّلين » على أنّه صفة للّذين أو بدل منه.

قوله « لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما » أي يميننا أصدق من يمينهما لخيانتهما وكذبهما في يمينهما. وإطلاق الشهادة على اليمين مجاز لوقوعها وموقعها كما في اللّعان.

قوله « ذلِكَ » أي الحكم الّذي تقدّم أن تحليف الشاهد قوله « عَلى وَجْهِها » أي على نحو ما حملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، وقوله « أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ » أي تردّ اليمين على المدّعين بعد إيمانهم فيفتضحون بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.

٣ ـ في هذه الآية أحكام :

١ ـ أنّ الّذي يحضره أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته إمّا من ذوي نسبه أو من أهل دينه ، وهو الإسلام ، فإن تعذّر ذلك عليه بأن كان في سفر فآخران من الأجانب أو أهل الذمة.

٢ ـ أنّه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على المسلمين وفي « غَيْرِكُمْ » على غيرهم (١) هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال أصحابنا بالأوّل ، وجوّزوا شهادة أهل الذمة

__________________

(١) كذا في النسخ كلها وحق العبارة أن يقول : « إذا حمل الضمير في منكم على المسلمين و « غَيْرِكُمْ » على غيرهم ، والا فالضميران مطابقان على القولين.

٩٨

مع تعذّر المسلمين في الوصيّة ، وقال جماعة من الفقهاء بالثاني وأنّ الآية منسوخة والأصحّ الأوّل لأصالة عدم النسخ ، وتكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الايمان والعدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة ، نعم يشترط عدالتهم في دينهم ، ويرجّحون على فسّاق المسلمين.

٣ ـ أنه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على الأقارب ، دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا ، وفيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين ، وسيأتي تمام ذلك في كتاب القضاء والشّهادات.

٤ ـ أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذّمّي في الوصيّة مع عدم عدول المسلمين هل يشترط السّفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم وبالاشتراط رواية مطروحة.

٥ ـ يرد على قول أصحابنا بقبول شهادة أهل الذمّة في الوصيّة [ مع عدم عدول المسلمين ] على ظاهر الآية وعدم نسخها سؤال وهو أنّ الآية دلّت على أنّه إذا وقع ارتياب يحلّف الشاهدان والإجماع منعقد على عدم تحليف الشاهد فلا يكون الحكم بشهادتهما باقيا فيكون منسوخا.

والجواب على تقدير كون الآية حجّة على المدّعى وبقاء حكمهما جاز أن يكون التحليف مختصّا بهذه الصّورة فكما أنه جاز قبول شهادة الذّمي جاز تحليفه ولهذا أفتى العلّامة بوجوب التحليف بعد العصر أو نقول لا نسلم أنّ تحليفهما لمكان شهادتهما حتّى يلزم تحليف الشاهد الّذي هو خلاف الإجماع ، بل إنّما حلّفا على تقدير دعوى خيانتهما ، ولم يكن لهما بيّنة بصدق قولهما فتوجّه اليمين عليهما وهذا أسد في الجواب.

٦ ـ ردّ اليمين على الورثة ، قيل سببه ظهور خيانة الوصيين ، فانّ تصديق الوصيّ باليمين على تقدير أمانته ، وعدم ظهور خيانته ، وهنا ظهر خيانتهما والوجه إنّه إنما ردّ اليمين لأنّ الوصيّين ادّعيا الشراء عن الميّت فأنكر الورثة الشراء فتوجّه عليهما اليمين على نفي العلم بالشراء.

٩٩

٧ ـ جواز شهادة أهل الذّمة في الوصيّة عند أصحابنا مختص بالمال ، فلا تسمع في الولاية إجماعا.

٨ ـ في جعل « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدلا من « إِذا حَضَرَ » تنبيه على الحضّ والحثّ على الوصيّة ، ووجوب الاشهاد بها لأنّ البدل هو المقصود بالنسبة.

٩ ـ في الآية دلالة على جواز التغليظ في اليمين بالوقت لقوله « بعد الصلاة » وفي القصّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلّفهما عند المنبر وفيه دلالة على التغليظ بالمكان.

١٠ ـ قد يفهم من القصّة أنه يجوز الدعوى لظاهر الظنّ أو لقرينة كالكتابة وكذا يجوز التحليف أيضا للظنّ مع عدم البيّنة لأنّ الورثة ادّعوا على الوصيّين بمجرد الكتاب الّذي وجدوه في متاع الميّت.

وفيه نظر لجواز استناد دعواهم إلى علم غير الكتابة أو إلى إخبار محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم.

١١ ـ أنّ الآية يقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف ، وهو خلاف الفتوى ومناف لقوله عليه‌السلام « من حلف فليصدّق ، ومن حلف له فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله في شي‌ء (١).

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء ، وأنّه كان للميّت ، ومع اعتراف الحالف يجوز المطالبة ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت الّتي حلّفا على نفيها أوّلا وبراءة ذمّتهما ، ادّعيا الشراء ، فأنكر الورثة فحلّفوا على نفي العلم وروي أنّ تميما الداريّ لمّا أسلم كان يقول ، صدق الله ورسوله إنّا أخذنا الإناء فأتوب إليه تعالى وأستغفره.

١٢ ـ فهم بعضهم من ظاهر الآية جواز الاستدلال بها على ردّ اليمين من المنكر على المدّعي خلافا لأبي حنيفة فإنّه لم يجوّزه ، وفيه نظر لأنّ الردّ هنا مجاز والتحقيق ما قلناه من دعوى الشراء وإنكار الورثة ، فتوجّه عليهم اليمين لمكان إنكارهم وحلفهم على عدم العلم.

__________________

(١) تراه في الكافي ج ٧ ص ٤٣٨.

١٠٠