كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

٢ ـ في الآية دلالة على حلّ هذه الأشياء في هذه الشريعة ، وإلّا لما كان لتخصيص اليهود بالتحريم فائدة.

٣ ـ في الآية دلالة على جواز النسخ وكونه تابعا للمصلحة واللطفيّة (١).

٤ ـ في قوله « ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ » دلالة على جواز ضم العقاب الدنيويّ إلى العقاب الأخرويّ ، بل وعلى جواز العقاب على الذّنب في الدنيا لا غير ، على قول من يقول بانقطاع عقاب المعاصي كما هو مذهب الحق ، وفيه دلالة على كون التضييق والمشاقّ ألطافا ، وعلى جواز كون منع المنافع لأجل العصيان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّ الإنسان ليحرم الرّزق بذنب يصيبه (٢).

٥ ـ في قوله « وَإِنّا لَصادِقُونَ » من المبالغة والتأكيد في الردّ عليهم ما لا يخفى ، لإتيانه بالجملة الاسميّة ، والتصدير بانّ المؤكّدة للإسناد ، واتباعها باللّام في خبرها : [ لصادقون ]

العاشرة ( وَما لَكُمْ أَلّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) (٣)

أي أيّ سبب حصل لكم فيه؟ أي لا سبب لكم في ترك أكل ما ذكر اسم الله عليه ، والواو في « وَقَدْ فَصَّلَ » للحال أي لأيّ سبب تركتم أكله ، والحال أنّ الله قد فصّل لكم الحلال من الحرام ، وليس هذا من جملته ، وهو إشارة إلى قوله « ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (٤) » الآية « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » من الحرام فهو حلال

__________________

(١) والغبطة ، خ.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٢٦٨ باب الذنوب.

(٣) الانعام : ١١٩.

(٤) المائدة : ٣.

٣٢١

لكم على وجه الرخصة ، وإنّ كثيرا من الناس ليضلّون فيحرّمون ما أحلّه الله بمجرّد أهوائهم لا مستندين إلى علم « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ » أي المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام ، وهنا فوائد :

١ ـ دلّت الآية الكريمة على إباحة ما ذكر اسم الله عليه ، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه ، ودلّ على الثاني قوله تعالى فيما بعد « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ » وهو نصّ في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وأحمد وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه » (١) وقال أصحابنا وأبو حنيفة بتحريم ما تركت التسمية فيه عمدا لا نسيانا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان » (٢) والحديث محمول على النسيان هذا إن صحّ سنده وأما الآية فأوّلها الحنفيّة بالميتة ، وجعلوا التسمية اسما للمذكّى أو أنّها محمولة على ما أحلّ لغير الله به ، لقوله « وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » فإنّ الفسق عبّر به عن ذلك كما تقدّم ، والأولى حملها على إضمار العمد أو التخصيص به ، لما تقرّر في الأصول أنّها خير من النقل.

٢ ـ الواجب في التسمية ذكر الله تعالى مع التعظيم مثل بسم الله أو الله أكبر أو سبحان الله أو الحمد لله أو لا إله إلّا الله ولو اقتصر على لفظة « الله » لم يجز على الأقرب ويجب كونها بالعربيّة مع الاختيار ، وصادرة عن الذابح فلو سمّى غيره لم يحلّ.

٣ ـ المراد بالاضطرار المستثنى في الآية ما يخاف معه التلف أو المرض أو الضّعف عن متابعة الرفقة مع الضرورة إلى المرافقة ، أو عن الركوب مع الضرورة إليه ولا يشترط الاشراف على الموت ، بل يباح إذا خيف ذلك وإذا أبيح له وجب ذلك لوجوب حفظ النفس ثمّ يتناول قدر ما يزول معه الضرر من غير زيادة عملا بالعلّة.

٤ ـ هذا العام وهو قوله « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » مخصوص بالنسبة إلى الفاعل

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد عن راشد بن سعد كما في الدر المنثور ج ٣ ص ٤٢.

(٢) راجع السراج المنير ج ٢ ص ٣١٧.

٣٢٢

وإلى المستباح : أمّا الأوّل بأن لا يكون باغيا ولا عاديا لقوله « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » والباغي هو الخارج على الإمام أو الّذي يبغي الميتة أي الراغب في أكلها والعادي هو قاطع الطريق أو الّذي يعدو شبعه ، ونقل الطبرسي أنّه باغي اللّذّة والعادي سدّ الجوعة ، أو عاد بالمعصية أو باغ في الإفراط في التقصير ، وعلى التفسير بالمعصية لا يباح للعاصي بسفره كطالب الصيد لهوا وطربا ، وتابع الجائر والآبق ، ولو اكره على الأكل فهو كخائف التلف وأمّا الثاني فهو كلّ ما لا يؤدّي إلى قتل معصوم الدّم كمسلم أو ذمّي أو معاهد لا ما أباح الشارع دمه كاللّائط والزاني المحصن والحربيّ والمرتدّ عن فطرة أمّا الخمر فيحرم التداوي بها إجماعا بسيطا ومركّبا وأمّا دفع التلف فقيل بالمنع أيضا والحق عدمه بل يباح دفعا للتلف وكذا باقي المسكرات ، نعم لو وجد الخمر وباقي المسكرات أخّر الخمر ، هذا كلّه مع عدم قيام غير الخمر مقامه وأما مع القيام فلا يجوز مطلقا.

كتاب المواريث

وفيه آيات :

الاولى ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ شَهِيداً ) (١).

الموالي هنا الورّاث فالتقدير حينئذ : جعلنا لكلّ إنسان موالي يرثونه ممّا ترك ، ومن للتعدية ، والضمير في « ترك » للإنسان الميّت أي يرثونه ممّا تركه و « الوالدان » خبر مبتدأ محذوف أي هم الوالدان والأقربون ويترتّبون (٢) الأقرب فالأقرب ، لقرينة معنى القرب ، وقال الزمخشري : تقديره ولكلّ شي‌ء [ جعلنا ] ممّا

__________________

(١) النساء : ٣٣.

(٢) يرثون ، خ.

٣٢٣

ترك الوالدان والأقربون موالي يرثونه ويحوزونه أو تقديره ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وفيهما نظر (١) أمّا الأوّل فلأنّه يفهم منه حينئذ أنّ لكلّ صنف من أصناف التركة وارثا وهو فاسد ، لأنّ الورّاث مشتركون في كلّ جزء من كلّ صنف من التركة وأمّا الثاني فلأنّ الوالدين والأقربين هم الورّاث لا الموتى ، بدليل أنّه عطف عليهم « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » وهم الورّاث لأنّه قال « فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » وقرئ عقدت وعاقدت ، والمعنى واحد والأيمان هنا جمع يمين اليد لأنّهم كانوا عند العهد يمسحون اليمنى باليمنى ، فيقول العاقد : دمك دمي ، وثأرك ثاري ، وحربك حربي ، وسلمك سلمي : ترثني وأرثك ، وتطلب بي واطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث حليفه وهذا من باب إسناد الفعل إلى آلته ، وقيل جمع يمين الحلف فيكون من باب إسناد الفعل إلى سببه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب ، فأقرّهم الله عليه في مبدء الإسلام ثمّ نسخ ذلك فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة فروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالعكس ولم يرث القريب ممّن لم يهاجر ونزل في ذلك « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (٢) » ثم نسخ ذلك بالقرابة والرحم والأنساب والأسباب لقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ (٣) ».

٢ ـ هذا الحكم أعني الميراث بالمعاهدة والمعاقدة ، وهو المسمّى بضمان الجريرة

__________________

(١) كذا في جميع النسخ المخطوطة وفي المطبوعة « وكلاهما ضعيفان ».

(٢) الأنفال : ٧٢.

(٣) الأنفال : ٧٥.

٣٢٤

منسوخ عند الشافعيّ مطلقا لا إرث له ، وعند أصحابنا ليس كذلك ، بل هو ثابت عندنا عند عدم الوارث النسبيّ والسّببيّ لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه خطب يوم الفتح فقال ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدّة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام (١) » وعند أبي حنيفة إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صحّ.

٣ ـ على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتعاهد ، يكون الآية غير منسوخة جملة بل تكون محكمة لكنّ الإرث فيها مجمل يفتقر إلى شرائط ومخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب أو من السنّة الشّريفة.

وقال بعضهم : المعاقدة هنا هي المصاهرة ، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين واحتاره المعاصر ، وفيه بعد لأنّه عدول عن الظاهر ، وعن قول الأكثر.

الثانية ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) (٢).

قد ذكرنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يورّثهم بالهجرة لا بالقرابة تأليفا لقلوبهم كإسهام الكفّار من الصّدقة وأنّه نسخ ذلك بهذه الآية ، وبآيات الإرث ، والمعنى أنّ اولي الأرحام بعضهم أولى بميراث بعضهم من المهاجرين وغيرهم ، ثمّ استثنى الوصيّة للأولياء بقوله « إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً » أي أصدقائكم من المؤمنين والمعروف الوصيّة وعدّى الفعل بإلى لتضمّنه معنى الاسداء ، وقال بعضهم في الآية دلالة على أنّه لا وصيّة لوارث وليس بشي‌ء.

الثالثة ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبرسي في مجمع البيان ج ٣ ص ٤٢.

(٢) الأحزاب : ٦.

(٣) النساء : ٧.

٣٢٥

كان الجاهليّة لا يورّثون إلّا من ذاد عن الحريم بالصفاح ، وطاعن عنهم بالرماح وقيل كانوا يورّثون الرجال دون النساء ، فنزلت هذه الآية وأمثالها ردّا عليهم ، وسبب نزولها أنّ الأوس بن ثابت الأنصاريّ مات وترك زوجة مسمّاة بأمّ كحّة وثلاث بنات ، فقام ابنا عمّه سويد وعرفجة ، وهما وصيّاه وأخذا ماله ولم يعطيا زوجته وبناته شيئا وكانوا كما قلنا عنهم لا يورّثون النساء ، ولا الصغار.

فجاءت أمّ كحّة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الفضيخ وحكت القصّة ، واشتكت من حاجتهنّ إلى النفقة ، فدعاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا ينكأ عدوّا فنزلت ، وأثبت لهنّ الميراث في الجملة ، ولم يتبيّن كيفيّة التوارث ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تحدثا في مال أوس شيئا حتّى انظر ما ينزّل الله فانّ الله جعل لهنّ ميراثا ولم يبين كم هو؟ فنزل « يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ » الآية.

وفي الآية دلالة على بطلان التعصيب لأنّه فرض الإرث لصنفي الرجال والنساء فلو جاز أن يقال للنساء لا يرثن في موضع لجاز أن يقال للرجال لا يرثون واللّازم باطل وكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بنصّ الآية ، وقوله « مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً » يؤكّد ذلك ، أي النصيب ثابت في كلّ جزء ممّا ترك.

إن قلت : هذا وارد عليكم لأنكم تقولون إنّ الأخ لا يرث مع البنت ، قلنا إنّما قلنا ذلك لبعد الدرجة والآية يراد بها توارثهما مع التساوي في الدرجة لا مطلقا.

الرابعة ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ

٣٢٦

آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (١).

هنا أبحاث :

١ ـ في تفسير الآية وكلماتها :

« يُوصِيكُمُ » أي يأمركم ويعهد إليكم في ميراث أولادكم وإنّما لم يقل للذكر من أولادكم لأنّ الحكم المبهم إذا أبهم ثمّ فسير كان أوقع في النفس وأحفظ لجواز فوات المقصود لو وقع مفسّرا ابتداء وتقديره للذكر منهم ، فحذفت لدلالة الكلام عليه كما حذف في قولهم « البرّ الكرّ بستّين » وقدّم الذّكر لشرفه ولذلك ضوعف حظّه كما ضوعف عقله ودينه والضمير في « كُنَّ نِساءً » للورثة وتأنيثه بتأنيث الخبر كما في قولهم من كانت أمّك وإنما قال « كانَتْ واحِدَةً » ولم يقل بنتاكما قال « نساء » لأن الغرض هنا الامتياز في العدد ، وهناك الامتياز في الصنف ، والضمير في « أبويه » للميّت يفسّره سياق الكلام. و « لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا » بدل منه بدل البعض عن الكلّ وباقي الفوائد تأتي في محلّها.

٢ ـ دلّت الآية الكريمة على اجتماع الأولاد والأبوين في الميراث فيكون النوعان في مرتبة واحدة ، يرث كل واحد من النوعين مع صاحبه ، ولو انفرد أحد النوعين عن الآخر حاز الإرث ، ثمّ إنّه تعالى ذكر أحوال الذكور مع الإناث وأحوال الإناث منفردات وحال الأبوين منفردين وحال الأبوين مع الأولاد ، ولم يذكر حال الذكور منفردين ، فيرد سؤال عن علّته والجواب أنه لمّا ذكر الإناث منفردات ، وفصل بين الواحدة والأكثر ، علم أنّ الذكور يتساوون وإلّا لفصّلهم كما فصّل الإناث وحينئذ لم يحتج إلى ذكرهم.

٣ ـ أنّه ذكر أنّ الواحدة من الإناث لها النصف ، وأنّ النساء فوق اثنتين

__________________

(١) النساء : ٢.

٣٢٧

لهنّ الثلثان ، ولم يذكر الاثنين فما وجهه ، والجواب أنّهم اختلفوا فيهما فقال ابن عبّاس لهما النصف لظاهر الآية وهو قوله « فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ » وقال الباقون وهو الحق أنّ حكمهما حكم ما زاد وهو أنّه لهما الثلثان لوجوه الأوّل النص عن أهل البيت عليهم‌السلام وإجماع الطائفة بل إجماع الأمّة الثاني : أنّه لو كان لهما النصف لكان التقييد بالواحدة ضائعا الثالث أنّ البنت الواحدة لهما مع أخيها الثلث إذا انفردت فبالأولى أن يكون لها مع أختها الثلث فيكمل لهما الثلثان الرّابع أنّه أوجب للأختين الثلثين ، والبنات أقرب وأمسّ رحما من الأختين فيكون لهما أيضا الثلثان على وجه الأولى.

٤ ـ ولد الولد يقوم مقام أبيه ، ويرث ميراثه ، قيل لأنّه ولد ، ولهذا حرمت بنت البنت وبنت الابن لدخولهما في حكم « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ (١) » ولأنّه تحرم زوجته على جدّه وكذا تحرم عليه منكوحة الجدّ ، ولدخوله في في الوقف الآن لو وقف على بني هاشم وبني عليّ وإلّا لبطل الوقف ولا قائل به ، وكذا نقول في الوصيّة.

كذا قال الراونديّ والمعاصر وليس بشي‌ء أمّا أوّلا فلأنّه لو كان ولدا حقيقة لشارك الولد في الميراث ، واللّازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وأمّا ثانيا فلصدق النّفي عليه وهو ينافي الحقيقة ، وأمّا ثالثا فلضعف متمسّكهم فانّ التحريم فيما ذكروه مستفاد من خارج وكذا الدخول في الوقف مستفاد من القرينة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يرث كلّ منهم نصيب من يتقرّب به ، فلبنت الابن الثلثان ، ولابن البنت الثلث لو اجتمعا ، وقال المرتضى بالعكس والأكثر على ما قلناه لتضافر الروايات بذلك ، وانعقاد الإجماع بعده على ما قلناه.

٥ ـ أنّه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا السدس مع وجود الولد ، سواء كان ذكرا أو أنثى. لإطلاق لفظه ، ثمّ الولد إن كان ذكرا حاز الباقي إجماعا وإن كان أنثى واحدة ، فلها نصف الأصل ، يبقى السدس يردّ عندنا

__________________

(١) النساء : ١٢.

٣٢٨

على الأبوين والبنت ، أخماسا إلّا مع الاخوة ، فيرد أرباعا على البنت والأب ، وقال الفقهاء إن كان الأب موجودا كان الباقي له ، لأنّه عصبة ، وإلّا فإنّه يكون للعصبة من الاخوة والأخوات والأعمام وأولادهم الذكور إلّا أولاد الأخت فإنّهم ليسوا عصبة وسيأتي دليلهم على التعصيب ، وأمّا مع الاثنتين فصاعدا فلا فاضل في التركة إلا مع فقد أحدهما فيكون الزائد عندهم للعصبة.

واعلم أنّ ولد الولد يقوم أيضا مقام أبيه في مقاسمة الأبوين خلافا لبعض أصحابنا فإنّهم خصّوا الإرث بالأبوين والإجماع على خلافه.

٦ ـ مع عدم الولد وإن نزل الأمّ الثلث كما نصّت الآية الكريمة عليه إلا أن يكون هناك إخوة أقلّهم ذكران أو أربع إناث ، أو أربع خناثى ، أو ذكر وأنثيان فيكون لها السدس من الأصل فيهما والباقي بعد السدس والثلث في الصورتين يكون للأب لإجماع أصحابنا ، ولما يأتي من بطلان التعصيب.

هذا لو وجد الأبوان أمّا مع فقد أحدهما فإن كان الموجود الأب فالمال له إجماعا وإن كان الام فلها الثلث والباقي يردّ عليها عندنا ، وقال الفقهاء إنّ الزائد على الثلث يكون للاخوة بناء على قولهم بالتعصيب ، فعندهم أنّ الاخوة يحجبون الأمّ لأنفسهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ يشترط عندنا لحجب الاخوة شروط : الأوّل : وجود الأب ، الثاني :العدد المذكور ، الثالث أن لا يكونوا كفرة ولا قتلة ولا رقّا الرابع : إن يكونوا كلّهم منفصلين لا حملا ، الخامس : كونهم للأبوين أو للأب.

٢ ـ إنّما حجبوا الامّ توفيرا لنصيب الأب لكونه ذا عيلة بوجودهم ، فاقتضت الحكمة التوفير عليه لمكان نفقتهم.

٣ ـ يرد هنا سؤال ، وهو أنّكم قلتم إنّ الأخوين يحجبان ، وهو مناف اللفظ الجمع الّذي هو منطوق الآية وأجيب بأنّه لمّا حصل الإجماع على ذلك وجب التأويل بأنّه لو أتى بلفظ التثنية لم يتناول الجمع لا حقيقة ولا مجازا بخلاف لفظ الجمع فإنّه يغلب على المثنّى كما يغلب المذكّر على المؤنّث ، والمخاطب على الغائب ، و

٣٢٩

في الجملة الأشرف على الأخسّ والجمع أشرف لأنّ فيه معنى الزيادة ، ولذلك شرط في جمع السلامة ما لا يشترط في المثنّى من العقل وغيره ، لا أنّ المثنى جمع لغة كما قال الزمخشري لأنّ العرف طار على اللّغة ، وقد ثبت في الأصول تقدم الحقيقة العرفيّة ، ولذلك إذا قال زيد : « فلانة طالق » حمل على إزالة قيد النكاح لا غير ، من إزالة الرقّ والحبس وغير ذلك ، هذا ونقل عن ابن عبّاس أنّه لم يحجب إلّا بثلاثة فما زاد ، والإجماع على خلافة.

٤ ـ قوله « لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً » الحق أنّه أراد النفع الأخرويّ بأن يشفع بعضهم في بعض ، فان كان الوالد أرفع درجة شفع أن يرفع ولده إليه ، وإن كان الولد أرفع سأل الله بأن يرفع أباه إليه ، وقيل النفع الدنيوي وقيل المراد وجوب النفقة من الطرفين إذا كان أحدهما محتاجا دون الآخر أعني الأب والابن وقيل لا تدرون أيّكم يموت قبل صاحبه فينتفع الآخر بما له.

الخامسة ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١).

لمّا فرغ من ميراث الوالدين والأولاد ، شرع في بيان إرث الأزواج والكلالات ، وقدّم الأزواج لأنّهم ورّاث مع جميع الطبقات ، والزوج يطلق لغة على الرّجل والمرأة بالإضافة إلى الآخر ، وفي العرف يخصّ بالرّجل وتتميّز الأنثى بالتاء ، فيقال زوج وزوجة ، وإنما جعل للزوج النصف وللمرأة الربع للعلّة المتقدّمة ، وأجاب الأئمّة عليهم‌السلام بوجوه :

__________________

(١) النساء : ١٢.

٣٣٠

الأوّل جواب الصادق عليه‌السلام لمّا سأله ابن أبي العوجاء : أنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عقل إنما ذلك على الرّجال.

الثّاني جواب الرّضا عليه‌السلام أنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت يعني المهر والرجل يعطي فلذلك وفّر على الرّجل ولأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرّجال لذلك وذلك قوله تعالى « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » الآية (١).

الثالث جواب الصادق عليه‌السلام لمّا سأله عبد الله بن سنان عن ذلك فقال عليه‌السلام لما جعل لها من الصّداق (٢).

الرابع جواب العسكريّ عليه‌السلام لمّا سأله الفهفكيّ على ما رواه أبو هاشم الجعفري ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما ويأخذ الرّجل القوي سهمين؟

فأجاب عليه‌السلام لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنما ذلك على الرّجال قال السائل فقلت في نفسي قد كان قيل لي أنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه‌السلام فأجابه بمثل هذا الجواب ، فأقبل عليه‌السلام عليّ فقال : نعم هذه مسئلة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسئلة واحدا (٣) إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ المراد بالولد في قوله « إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ » أعم من أن يكون الولد من الزّوج الوارث أو من غيره من الأزواج وكذلك الولد من الزّوج أعم من أن يكون من المرأة الوارثة أو من غيرها من الزوجات أو الإماء ، وكذلك أعمّ من كونه ذكرا أو أنثى وكذا ولد الولد يقوم مقام أبيه.

٢ ـ يشترط في الولد هنا أن يكون وارثا فلو كان كافرا أو قاتلا أو رقّا لم يكن لوجوده تأثير.

٣ ـ نصيب الزوجة إن كانت واحدة فهو لها ، وإن كنّ أزيد اشتركن فيه ربعا كان أو ثمنا ، لظاهر الآية والإجماع.

__________________

(١) علل الشرائع ج ٢ ص ٢٥٧ الطبعة الحروفية بقم.

(٢) علل الشرائع ج ٢ ص ٢٥٧ الطبعة الحروفية بقم.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٨٥.

٣٣١

٤ ـ استحقاق الزّوجة عندنا مخصوص بالزّوجية الدائمة فلا ترث بالمنقطع على الأصح.

٥ ـ إن كانت الزوجة ذات ولد من الميّت ورثت من جميع تركته وإن لم يكن لها ولد منه ورثت ممّا عدا العقار عينا وأمّا العقار فلا ترث من رقبة الأرض شيئا لا عينا ولا قيمة ، وأمّا الأبنية والأخشاب والأشجار فيعطى منها القيمة ربعا أو ثمنا على القول الأصحّ لأصحابنا ، وهذا تخصيص انفردت به الإماميّة لما دلت عليه رواياتهم عن أئمتهم عليهم‌السلام.

٦ ـ إرث الزوجة عندنا غير مشروط ببقاء الزوجيّة إلى الموت فإنّها قد ترث وإن ارتفعت الزوجيّة كما في المريض يطلّق في مرضه فانّ زوجته المطلقة ترث ما لم تخرج السنة أو يبرء من مرضه أو تتزوج ، على ذلك إجماع الإمامية.

السادسة ( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) (١).

الكلالة القرابة ، واشتقاقها إمّا من الكلال وهو نقصان القوّة الجسمانيّة أو من الاكليل الّذي يحيط بالرأس والوسط خال ، ويطلق على الوارث والموروث من جهة أنّ كلّا منهما منتسب إلى الآخر ، وانتصابها هنا قيل خبرا لكان و « رجل » اسمها و « يورث » صفة الرّجل ، وقيل على أنّه مفعول له ، مثل قعدت عن الحرب جنبا ، والأجود أنّه على التميز لأنّ « يورث » يحتمل وجوها رفع إبهامه بقوله « كلالة ».

ثمّ إطلاقها على الموروث بمعنى أنّه لم يخلّف والدا ولا ولدا ، وعلى الوارث فقيل من ليس بوالد ولا ولد ، والأصح أنّه القرابة من جهة العرض لا لطول كالاخوة

__________________

(١) النساء : ١٢.

٣٣٢

والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وأولاد الجميع ، والمراد هنا هم الاخوة ممّن يتقرّب بالأمّ خاصّة أمّا أولا فلقراءة أبيّ وسعيد بن مالك « وله أخ أو أخت من الامّ » وأمّا ثانيا فلأنّه تعالى جعل للكلالة في آخر السّورة كما يجي‌ء للأختين الثلثين ، وللإخوة الكلّ ، وهنا جعل للواحد السدس وللأكثر الثلث فعلم أنّ الاخوة هنا غير الاخوة هناك ، وحيث إنّ المقدّر هنا نصيب الامّ كما تقدّم ناسب أن يكون المراد هنا الإخوة من قبلها ، وأمّا ثالثا فلروايات أصحابنا المتضافرة وأمّا رابعا فلأنّه إجماعيّ وهنا فوائد :

١ ـ أنّ الزائد عن المذكور من السدس والثلث يرد على الوارث منهم إذا لم يكن سواه عندنا وعند الفقهاء لأقرب عصبته كما يجي‌ء.

٢ ـ هذه المرتبة أعني مرتبة الاخوة هي المرتبة الثانية ، بعد مرتبة الأبوين والأولاد ، لا ينتقل الإرث إليها إلّا بعد عدم المرتبة الأولى بكلّيّتهم ، وكذا لا ينتقل عن هذه إلى الثالثة إلّا بعد عدمها بكلّيّتها.

٣ ـ قد تكرّر ذكر الوصيّة وأنّها مقدّمة على الميراث تأكيدا لحالها وقوله « غَيْرَ مُضَارٍّ » حال من يوصي بها و « المضارّة في الوصيّة » هو أن يوصي بأكثر من ثلث ماله أو يقرّ بدين ليس بحقّ عليه ، قصدا لمضارّة الوارث ودفعه عن الإرث.

٤ ـ قوله « وَصِيَّةً مِنَ اللهِ » نصب على المصدريّة » أي يوصيكم الله وصيّة كقوله فيما تقدّم « فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ». « وَاللهُ عَلِيمٌ » بنيّاتكم أي يعلم قصدكم في الوصيّة أنّها لوجه الله أو لأجل المضارّة « حَلِيمٌ » أي يتجاوز عن قصدكم المضارّة ولا يستعجل بعقوبتكم.

السابعة ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

٣٣٣

الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ) (١).

الكلالة قد عرفت أنّها قد تصدق على الإخوة من الأبوين وعلى الاخوة من أحدهما ، وقد تقدّم ذكر كلالة الأم ، والمراد هنا على الاخوة من الأبوين أو من الأب فنقول إذا اجتمع الكلالات كلّهم كان لمن تقرّب بالأمّ السدس إن كان واحدا والثلث إن كانوا أكثر ، والباقي للمتقرّب بالأبوين ويسقط المتقرّب بالأب ، لكنّه يقوم مقام المتقرّب بالأبوين عند عدمهم ، ويرث نصيبهم وإن عدم المتقرّب بالأمّ كان المال للمتقرّب بالأبوين ، ومع عدمهم للمتقرّب بالأب كما قلناه.

وقد قلنا فيما مضى أنّه إذا لم يكن سوى المتقرّب بالأمّ أخذ ما سمّي له من الثلث أو السدس فرضا والباقي بالردّ عليه عند أصحابنا ، وعند الفقهاء للعصبة ، وكذا نحن نقول أيضا في الأخت الواحدة من الأبوين ، أو الأختين فصاعدا لها أو لهنّ النصف أو الثلثان والباقي يرد عليها أو عليهنّ ، وعندهم للعصبة.

وهنا فوائد :

١ ـ في قوله « وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » دلالة على بطلان قول العامّة بارث الأخ النصف مع البنت لأنّه شرط في إرثه انتفاء الولد ، والبنت ولد بدليل قوله « يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » فلا يكون الأخ وارثا مطلقا حينئذ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، فلو ورث النصف لزم مخالفة الكتاب.

٢ ـ في قوله « وَهُوَ يَرِثُها » دلالة على أنّ الأخ يرث بالفرض للنصّ على أنّه مع عدم الولد يكون إرثها كلّه له ، فيكون من أصحاب الفروض.

٣ ـ أولاد الاخوة والأخوات عندنا يقومون مقام آبائهم ، ويرث كلّ نصيب من يتقرّب به.

٤ ـ الأجداد عندنا في مرتبة الاخوة ، فإذا اجتمعوا معهم كان الجدّ للأب

__________________

(١) النساء : ١٧٦.

٣٣٤

كالأخ له ، والجدّة له كالأخت له ، والجد للأمّ كالأخ منها ، وكذا الجدّة.

٥ ـ المرتبة الثالثة من مراتب الإرث الإمام والأخوال عندنا وعند بعض فقهاء العامة ، ليس في الكتاب دلالة صريحة على إرثهم ، نعم يمكن الاستدلال على ذلك بآية اولي الأرحام فإنّها عامّة في كلّ ذي رحم ، وهؤلاء ذوو أرحام ، وكذا هذه الآية دليل على الردّ على أرباب الفروض ، ولإجماع الكلّ على أنّها إذا دلّت على الإرث وجب مراعاة الأقرب فالأقرب ، ولا أقرب من أرباب الفروض ، وإلّا لقدّمه الله عليهم هذا خلف وأمّا دلالتها على الإرث فقد تقدّم ، هذا مع إجماع الطائفة المحقّة الّذين دخل فيهم المعصوم على ذلك ودلالة المتواتر من الأحاديث عن الأئمّة عليهم‌السلام أيضا على ذلك ، وأمّا تفاصيل إرثهم فعلم من السنّة الشريفة ، ومن بيان الأئمة عليهم‌السلام.

الثامنة ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (١).

مساواة التركة للسهام ممّا لا بحث فيه كأبوين وابنتين ، وأمثالهما وإنّما البحث فيما إذا زادت التركة عن السهام أو نقصت.

والأول مسئلة التعصيب ، وهو الرد على العصبة دون أرباب الفرض ، كما قاله المخالفون ، واستدلّوا عليه بهذه الآية ، ووجه الدلالة أنّ زكريّا عليه‌السلام سأل وليّا ولو لا التعصيب لم يخصّ السؤال به ، بل قال وليا أو وليّه فلمّا خصّصه به دلّ على أنّ بني عمّه يرثونه مع الوليّه ، فلذلك لم يطلبها ، واستدلّوا أيضا بما رووه عن طاوس عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال « ألحقوا بالأموال الفرائض فما أبقت الفريضة فلأولى عصبة ذكر (٢) ».

__________________

(١) مريم : ٥.

(٢) راجع مشكاة المصابيح ص ٢٦٣ وقال : متفق عليه ، ولفظه فلأولى رجل ذكر كما في سنن أبى داود ج ٢ ص ١١٠ ، وبلفظه رواه الشيخ في الخلاف المسئلة ٨٠ من كتاب الفرائض.

٣٣٥

والجواب عن الآية أن تخصيص السؤال لفوائد الاولى أنّ الذّكر أحبّ إلى طباع البشر من الأنثى ، الثانية أنّه طلبه للإرث ، والقيام بأعباء النبوّة معا ، ولا شك أنّ ذلك غير متصوّر في النساء لأنّهنّ ناقصات عقل وحظّ ودين ، الثالثة : أنّه أراد الجنس الشامل للذّكر والأنثى ، وعن الخبر بأنّه مطعون على سنده ، وقد أنكره ابن عبّاس كما رواه قاربة بن مضرب ، قال قلت لابن عباس روى أهل العراق عنك وعن طاوس أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال من أهل العراق أنت؟ قلت : نعم؟ قال أبلغ أنّي أقول أنّ قول الله عزوجل « آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ » وقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ » وهل هما إلّا فريضتان وهل أبقتا شيئا؟ ما قلت بهذا ولا طاوس يرويه ، قال قاربة : فلقيت طاووسا فقال : لا والله ما رويت هذا وإنّما الشيطان إلقاء على ألسنتهم (١) وهذه الرواية لم ترو إلّا عن طاوس.

والثاني مسئلة العول كأبوين وبنتين وزوج أو زوجة وأمثاله فإنّ أصل الفريضة من ستّة فأصحابنا يعطون الأبوين السدسين والزوج الرّبع ، ولا ربع صحيح هنا فيصير من أربعة وعشرين للأبوين ثمانية ، وللزّوج ستّة إن كان وللزوجة ثلاثة إن كانت والباقي وهو عشرة أو ثلاثة عشر للبنتين فيدخل النقص عليهما وأمّا المخالف فيعيل الفريضة على تقدير الزوج إلى ثلاثين فيعطي البنتين ستّة عشر والأبوين ثمانية ، والزّوج ستّة ، وعلى تقدير الزّوجة إلى سبعة وعشرين للأبوين ما تقدّم ، وللزّوجة ثلاثة ، فيصير ثمنها تسعا

ويستدلّون على ذلك بالقياس على تركة لا تفي بالدّيون ، فإنّه يدخل النقص على الجميع ، وبما رواه سماك ابن حرب عن عبيدة السّلمانيّ قال كان عليّ عليه‌السلام على المنبر فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين رجل مات عن ابنتيه وأبويه وزوجة فقال علىّ عليه‌السلام « صار ثمن المرأة تسعا » وبأنّ عمر حكم بالعول ولم ينكر عليه أحد فصار إجماعا.

__________________

(١) نقله الشيخ في الخلاف في المسألة ٨٠ من كتاب الفرائض عن أبى طالب الأنباري.

٣٣٦

واستدلّ أصحابنا بوجوه الأوّل أنّه لا بد من مخالفة ظاهر آيات الإرث وكلّما كانت المخالفة أقلّ كان أولى ، وهو قولنا. الثاني : إجماع الطائفة المحقّة وهو حجة عندنا الثالث : تواتر الأحاديث عن الباقر والصّادق عليهما‌السلام وأنّ ذلك في كتاب الفرائض بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطّ علي عليه‌السلام وأنّ فيه أنّ السهام لا تعول. الرابع : أنّ كل واحد من الأبوين والزّوجين له سهمان أعلى وأدنى ، وليس للبنت والبنتين والأختين كما قلنا إلّا سهم واحد ، فإذا دخل النقص عليهما استوى ذوو السهام في ذلك.

وأجابوا عن حجّة الخصم أمّا عن القياس فببطلانه عندنا وعلى تقدير تسليمه نقول إنّما دخل النقص في الديون لأمر غير حاصل هنا وهو الترجيح من غير مرجّح وأمّا هنا فالمرجّح موجود ، وهو ما ذكرناه من أنّ البنتين ليس لهما النصيب الأدنى بخلاف الزّوجين والأبوين ، وأمّا عن الخبر فانّ عليا عليه‌السلام أجاب على جهة الإنكار على القائلين بالعول ، لإجماع أهل بيته عليهم‌السلام على أنّه لم يكن قائلا بالعول بل منكرا له ، وأمّا حكاية عمر فبمنع الإجماع ، وبأنّ السكوت لا يدل على الموافقة ولا ظهار ابن عبّاس المخالفة بعد عمر ، وقال هبته وكان رجلا مهيبا.

التاسعة ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (١).

قيل : هذه الآية منسوخة بآية الإرث بالنسب وقيل بل هي محكمة وإنّه يستحب للورثة حين اقتسامهم الرّضخ لمن لا سهم له من الأقارب والجيران والمساكين واليتامى وعن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت ، والله ما نسخت ولكنّه ممّا يتهاون به الناس ، وقيل : إنّ ذلك مختصّ بالعين أمّا الأرضون والرقيق فلا ، بل يقولون حينئذ القول المعروف هو الاعتذار ، وقيل العذر عن مال الطفل لو كان فيهم صغير يعتذر وليه بأنّه لو كان لي لأعطيتكم ، وقيل الخطاب للمريض إذا حضرته أمارات

__________________

(١) النساء : ٨.

٣٣٧

الموت وأراد قسمة أمواله والإيصاء بها أن يفعل ذلك ، والأوّل أشهر وقرينة الخطاب تدلّ عليه.

واعلم أنه وقع الإجماع ، ودلّت السنّة الشريفة ، وبيان الأئمّة الصادقين على شرائط الإرث وعلى موانع له كالكفر والرقّ والقتل ، فيكون فوات الشرط ووجود المانع كالمخصّص لعموم الآيات المذكورة ، فتكون من العمومات المخصّصة وهو المطلوب.

كتاب الحدود

الحدّ يقال لغة الحاجز بين الشيئين ، ويقال أيضا للمنع ومنه قيل للبوّاب حدّاد ، ويقال لمنتهى الشي‌ء ، ومنه يقال حددت الدار أحدّها حدّا أي بيّنت منتهاها ، وشرعا هو إيقاع عقوبة قدّرها الشارع للمكلّف على ارتكاب معصية ، ويمكن أخذه من المعنى الأوّل لكونه حاجزا بين أكثر العقلاء وبين ارتكاب المعصية ومن الثاني لأنّ فيه معنى المنع ، وعن الثالث لأنّه عقوبة لها قدر وغاية لا يجوز التجاوز عنه وهو أقسام :

القسم الأول

حد الزناء

وفيه آيات :

الاولى ( وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) (١).

__________________

(١) النساء : ١٥.

٣٣٨

هنا فوائد تتبعها أحكام :

١ ـ قيل المراد بالفاحشة المساحقة ، والأكثر أنّ المراد الزنا ، فعلى هذا قيل المراد المحصنة وهي المراد بالثّيب (١) لأنّه أضافهنّ إضافة زوجيّة إذ لو أراد غير الزوجات لقال من النساء.

٢ ـ ( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) فيه دلالة على نصاب الشهادة ، واشتراط الإسلام والذكورة على تفصيل يأتي.

٣ ـ « فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ » قيل المراد صيانتهنّ عن مثل فعلهنّ والإمساك كناية عنه ، والأكثر أنّه على وجه الحدّ على الزنا ، وكان ذلك في أوّل الإسلام ثمّ نسخ بآية الجلد ، وقوله « حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ » أي ملك الموت ، حذف المضاف (٢) للعلم به ، بقرينة استحالة استناد التوفّي إلى الموت لكونهما بمعنى واحد.

٤ ـ « أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » قيل السبيل النكاح المغني من السّفاح ، وهذا لا يتم على تقدير إرادة المحصنات وقيل السبيل الحكم الناسخ ، ولهذا لما نزلت آية الجلد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « قد جعل الله لهنَّ سبيلا » واحتمال كونه التوبة لا دليل عليه لكنّه محتمل والجعل حينئذ كناية عن التوفيق.

الثانية ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً ) (٣).

هنا فوائد :

١ ـ قال أبو مسلم : المراد اللّواط ، لإتيانه بلفظ التذكير ، وأكثر المفسّرين على إرادة إتيان الزّنا والتثنية للفاعل والمرأة وغلب التذكير في العبارة.

__________________

(١) كذا في جميع النسخ المخطوطة ، وفي المطبوعة « وهي المراد بالنساء ».

(٢) في المطبوعة « والمضاف محذوف ».

(٣) النساء : ١٦.

٣٣٩

٢ ـ قيل المراد بالأذى التوبيخ والاستخفاف فعلى هذا لا يكون منسوخا لأنّه حكم ثابت مطلقا بل المنسوخ الاقتصار عليه ، وعلى قول أبي مسلم يمكن حمله على القتل لأنّه حدّ اللواط ، وإطلاق الأذى ينصرف إلى أبلغ مراتبه ، وهو القتل وقال الفرّاء إن هذه ناسخة للآية السّابقة ، وقيل بل بالعكس ، وأمر بوضعها في التلاوة بعدها وإن كانت قبلها نزولا ، وقيل : المراد به حد البكر ، وهو الجلد والتغريب ، كما أنّ حدّ الثيّب الجلد والرّجم.

٣ ـ « فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما » فيه دلالة على أنّ الزاني إذا تاب قبل الرّفع إلى الحاكم لا يحدّ وأمّا بعد الرفع والحضور ، فان ثبت بالإقرار تخيّر الامام ، وإن ثبت بالبينة تحتّم الحد ، والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة قوله « إِنَّ اللهَ كانَ تَوّاباً » أي كثير القبول للتوبة وهو تعليل للإعراض ، وإردافه بالرّحمة ، فيه إشارة إلى أنّ قبول التوبة تفضّل ، وقيل المراد باللّذان الشاهدان بالزنا قبل كمال نصاب الشهادة ، والمراد بالأذى حدهما حدّ الفرية وهو ضعيف.

الثالثة ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١).

الاسمان مرفوعان بالابتداء ، وخبرهما محذوف عند الخليل وسيبويه ، أي مما فرض الله حكم الزانية والزاني ، وقوله « فَاجْلِدُوا » جملة أخرى معطوفة على الاولى وعند المبرّد أنّهما جملة واحدة ، إلّا أنّ المبتدأ لمّا تضمّن معنى الشرط والمبتدأ موصول بفعل أتى بالفاء أي الّتي زنت والّذي زنى فاجلدوا.

وإذا تقرّر هذا فقد اشتملت على أحكام ثلاثة :

١ ـ الأمر بالجلد مائة ، والجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللّحم

__________________

(١) النور : ٢.

٣٤٠