كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

مضمون بأقلّ الأمرين من قيمته وقدر الدين ، لنا أصالة البراءة من الضمان ، ولرواية سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال « لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الّذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه (١) » يعني بقوله « من صاحبه »

__________________

واليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل والأوزاعي وأبو عبيد أبو ثور ، وهو اختيار أبي بكر بن المنذر. وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري الى أن الرهن مضمون بأقل الأمرين من قيمته أو الدين وبه قال عمر بن الخطاب وذهب شريح والشعبي والنخعي والحسن البصري الى أن الرهن مضمون بجميع الدين انتهى.

ونقل ابن رشد في بداية المجتهد ج ٢ ص ٢٧٢ عن مالك : الفرق بين ما لا يغلب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى ، فالمرتهن فيه مؤتمن ، وما يغلب عليه من العروض فهو له ضامن. قال ابن حزم في المحلى ص ١١٣ ج ٨ :

قال أبو محمد : أما تفريق مالك بين ما يخفى وبين ما لا يخفى فقول لا برهان على صحته لا من قرآن ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ولا قياس ولا قول أحد نعلمه قبله فسقط ، وانما بنوه على التهمة والتهمة ظن كاذب يأثم صاحبه ولا يحل القول به والتهمة متوجهة الى كل أحد وفي كل شي‌ء انتهى.

(١) أخرجه في المنتفى على ما في نيل الأوطار ج ٥ ص ٢٤٩ نقلا عن الشافعي والدار قطني واللفظ فيه : « لا يغلق الرهن من صاحبه » إلخ ثم ذكر في نيل الأوطار أنه أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وأخرجه أيضا ابن ماجة.قلت وتراه في ص ٨١٦ الرقم ٢٤٤١ منه ونقل عنه أيضا في الجامع الصغير الرقم ٩٩٧٦ ص ٤٥١ ج ٦ من فيض القدير واللفظ : « لا يغلق الرهن » فقط وليس فيه بقية الحديث وعلى كل قال في نيل الأوطار : وصحح أبو داود والبزار والدار قطني وابن القطان إرساله عن سعيد بن المسيب بدون ذكر أبي هريرة.

قلت وكذا في الأم للشافعي ج ٣ ص ١٨٦ واللفظ فيه كما في الكتاب وكذا في كثير من كتبهم الفقهية على ما رأيته وأظن ما في المنتفي فيه سقط من الناسخ وعلى كل « فيغلق » على ما في مفتاح الكرامة بفتح الياء واللام ، وكذا نقله في فيض القدير عن الطيبي ، ومعنى غلق الرهن على ما في القاموس كفرح استحقه المرتهن ونظيره ما ذكره الشيخ في الخلاف قال : لا يغلق الرهن أى لا يملكه ، وقال الأزهري على ما

٦١

أي من ضمانه ومعنى لا يغلق أي لا يملكه المرتهن وإن شرط له ذلك عند الحلول.

٦ ـ نبه في الآية بأخذ الرهن على الدين على حفظ المال وعدم التهوين به لما في ذلك من الدخول في حيّز التبذير وإهمال المصلحة المنافي ذلك لأفعال العقلاء.

__________________

في نيل الأوطار الغلق في الرهن ضد الفك فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه.

وروى عبد الرزاق أيضا على ما في نيل الأوطار عن معمر أنه فسر غلق الرهن بما إذا قال الرجل : ان لم آتك بمالك فالرهن لك ، قال : ثم بلغني عنه أنه قال : ان هلك لم يذهب حق هذا ، انما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه ، ثم « لا » في « لا يغلق الرهن » نافية أو ناهية ، وقال الشافعي في الأم ص ١٨٦ ج ٣ و « غنمه » سلامته وزيادته و « غرمه » عطبه ونقصه.

وذكر السيد الرضى قدس‌سره في كتابه حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص ٢٩٥ عند شرح ما عابه المفسرون وأهل الأدب على الشافعي في معنى العول في الآية من سورة النساء ( ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُوا ) » :

والشافعي وان كان له موضع من العلم لا ينكر ، وحق لا يدفع ، فليس ينبغي أن يعجب من وهمه ، ثم سرد مواضع أخذ على الشافعي في كتبه ولا يقولها الا من لا حظ له في علم اللغة وذكر منها نقلا عن أبى عبد الله محمد بن يحيى بن مهدي الجرجاني الفقيه العراقي المتقدم في الفقه أن الشافعي فسر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرهن « له غنمه وعليه غرمه » بأن الغرم ههنا يريد هلاك الرهن وخطأ هذا القول غير خاف وذلك أنه لم يقل أحد من أهل اللغة أن الغرم بمعنى الهلاك وانما هو عندهم بمعنى اللزوم والالظاظ بالشي‌ء ثم صار في العرف عبارة عما يلزم الإنسان الخروج منه من حق أو غيره وفيه ثلم له ونقص من ماله.

ومن ذلك سمى الغريم غريما لثباته مع المطالب وحصولهما جميعا في حكم الثابتين وان اختلفت حالا ثبوتهما ، فصاحب الدين مانع مطالب. والذي عليه الدين ممنوع مطالب ، ولذلك قيل تلازما وان كان لم يعطيا المفاعلة حقها ، فان من حقها أن يفعل كل واحد من الاثنين بصاحبه مثل الذي يفعله به صاحبه ، وقد علمنا أن من عليه الدين الا يلازم ولا يثابت بل مراده أن يفلت من الربقة ويخلص من الضغطة وانما قيل تلازما على

٦٢

ويؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّ الله يكره القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (١) ».

وقوله « فرهن » أو « فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ » على القراءتين تقديره فالّذي يستوثق به رهن أو ينبغي أخذ رهن ، ووصفها بالقبض إذ لولاه لم يحصل كمال التوثّق لجواز إنكار الراهن أو النسيان أو الزيادة أو النقصان.

وفيه أيضا إشارة إلى كون الرهن عينا يمكن قبضها فلا يصح رهن الدين لعدم إمكان قبضه حالته (٢) ويصحّ بيعها وإلّا لم يحصل الاستيثاق لو تعذّر الأداء.

٧ ـ قوله « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » أي فان أمن بعض الدائنين بعض المدينين وحسن ظنّه به ، ولم يأخذ منه رهنا فليؤدّ ذلك [ المؤتمن ] المرتهن أمانته وسمّى الدين أمانة باعتبار عدم أخذ الرهن عليه ، وائتمان المديون عليه ، كذا قيل.

ولو قيل بأنّ المراد فإن أمن بعض الراهنين بعض المرتهنين ولم يأخذ منه الرهن بيده بل جعله في قبضه فليؤدّ ذلك أمانته لكان حسنا. وبالجملة في الكلام دلالة على وجوب أداء الأمانة والتزام التقوى في أدائها بعدم الخيانة وعدم التعدّي والتفريط.

٨ ـ يحرم كتمان الشهادة ويجب أداؤها وهذا العموم مخصوص بما لم يشتمل

__________________

المعنى الذي ذكرناه ، ألا ترى الى قول العرجى وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان :

فتلازما عند الفراق صبابة

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فبين أن صاحب الدين هو المانع الحابس ، والمعسر هو الممنوع المحتبس وقول الله تعالى ( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) معناه دائما لازما. وقد يحتج أصحاب الوعيد بذلك على خلود الفساق في النار نعوذ بالله منها انتهى كلام الرضى قدس‌سره.

وذكر ابن التركمانى أيضا في الجوهر النقي ج ٢ ص ٢٤ الإنكار على الشافعي في هذا التأويل قال : فحكى عن أبى عمرو غلام ثعلب أنه قال أخطأ من قال : الغرم الهلاك ، بل الغرم اللزوم ومنه الغريم لانه لزمه الدين وقال تعالى ( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) اى لازما ، وفي الصحاح : الغرامة ما يلزم أداؤه وكذا المغرم والغرم وفي كتاب الافعال « غرمت غرما لزمني مالا يجب على » قلت : والضبط في كتاب الافعال لابن القطاع ج ٢ ص ٤١٩ وغرمت غرما لزمك مالا يجب عليك.

(١) راجع المستدرك ج ١ ص ٥٤١ أخرجه من تفسير أبى الفتوح.

(٢) نص : خالية.

٦٣

على ضرر غير مستحقّ يصل إلى الشاهد أمّا مع حصوله فلا يجب الأداء حينئذ ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على النهي عن كتمانها المستلزم للإثم بل أكّد ذلك مبالغة بالنصّ على الوصف بالإثم بقوله « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » وفائدة ذكر « قلبه » أنّ كتمان الشهادة من أفعال النفس الأمّارة الّتي هي النفس الحيوانيّة والقلب محلّها فإسناد الإثم إلى القلب من باب إسناد فعل الشي‌ء إلى محلّه كقولهم جرى الميزاب أي ماء الميزاب وقال الزمخشريّ : إنّه من باب إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها كقولهم هذا ممّا أبصرته عيني وفعلته يدي. وفيه نظر لانّه لو كان كذلك قال آثم لسانه لأنّ إقامة الشهادة آلتها اللّسان وكذا كتمانها.

وفي النظر نظر لأنّه حينئذ لا يكون في الكلام مبالغة ، والأحسن أن يقال إنّما ذكر القلب لئلّا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلّقة باللّسان فقطّ بل القلب أصل متعلّقه ومعدن اقترافه واللّسان ترجمان عنه وهنا مسائل :

١ ـ حيث تقدّم جواز ثبوت الدين على الصبيّ والسفيه وأمثالهما جاز أخذ الرهن من أموالهم وجاز للوليّ فعل ذلك للمصلحة لأنّه من توابع الدّين.

٢ ـ عقد الرهن لازم من طرف الراهن ، وإلّا لانتفت فائدته ، وجائز من طرف المرتهن لأنّه لمصلحته.

٣ ـ لا يصحّ الارتهان على ما ليس ثابتا في الذمّة كالأمانات وكذا لا يصحّ على الإجارة المتعلّقة بالعين ويصح على العمل المطلق ، وهل يصحّ على الأعيان المضمونة الأقوى ذلك.

٤ ـ لا يشترط ملكيّة الراهن للرهن ، بل جواز تصرّفه فيه فيجوز الاستعارة للرهن ، ويدخل في ضمان الراهن بقبضه من المعير ، وإن لم يقع العقد بعد على الأصحّ ، ولا يضمنه المرتهن وإن قبضه.

٥ ـ المرتهن إن كان وكيلا للمالك باع مع حلول دينه واستوفى ، وكذا لو كان وصيّة وإن لم يكن أحدهما فله إلزام المالك أو وارثه بالبيع أو أداء الحقّ بل وله ذلك أيضا وإن كان وكيلا أو وصيّا ومع تعذر الكلّ يستأذن الحاكم في البيع.

٦٤

النوع الثاني

( الضمان )

وفيه آيتان :

الاولى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (١).

الثانية ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (٢).

الزعامة والكفالة والضمان مترادفة وهنا فوائد :

١ ـ الضمان عندنا بنقل المال من ذمّة إلى ذمّة ، وقيل ضم ذمّة إلى ذمّة ، وهو قول الفقهاء الأربعة ، فعلى هذا يكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّهما شاء ، والحقّ الأوّل لما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه حضرته جنازة فقال « على صاحبكم دين؟قالوا نعم درهمان ، فقال صلّوا على صاحبكم فقال عليّ عليه‌السلام هما عليّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن فصلّى عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أقبل على عليّ عليه‌السلام فقال جزاك الله عن الإسلام خيرا ، وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك (٣) » وهذا الحكم كان في صدر الإسلام أنّه لم يصلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على من لم يخلف وفاء دينه ثمّ نسخ بقوله تعالى « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (٤) » دلّت هذه الرواية على أنّ الميّت قد انتقل الحقّ من ذمّته.

__________________

(١) يوسف : ٧٢ وصدره « قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ؟ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ » الآية.

(٢) القلم : ٤٠.

(٣) أخرجه النوري في المستدرك ج ٢ ص ٤٩١ عن غوالي اللئالى ورواه الشيخ في الخلاف عن ابى سعيد الخدري كما في الوسائل ب ٣ ح ٢ من كتاب الضمان.

(٤) الأحزاب : ٦.

٦٥

٢ ـ مورد الضمان هو كل ما صحّ أخذ الرهن عليه فلا يصحّ ضمان الأمانات ولا العمل المتعلّق بالعين.

٣ ـ لا يشترط العلم بقدر المضمون حالة الضمان فاللازم حينئذ ما تقوم به البيّنة بتاريخ سابق عليه ، لا [ على ] ما تأخّر تاريخه أو يقرّ به الغريم وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعيّ وأحمد لا يصح ضمان المجهول ، وبه قال بعض الأصحاب لئلّا يلزم الغرر ، والحق الأوّل لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الزعيم غارم (١) » والغرر يندفع بما تقوم به البيّنة.

٤ ـ الضمان عقد يشترط فيه رضى الضامن قطعا ولا يشترط رضى المضمون عنه وأمّا المضمون له فالأصحّ اشتراط رضاه وللشافعيّ [ فيه ] قولان لنا أنه إثبات حقّ له في ذمّة غير من هو عليه ، فلا بدّ من رضاه وقال الشيخ : لا يشترط محتجا بقضيّة علي عليه‌السلام ويمكن أن يجاب بإمكان أنّه كان حاضرا فرضي أو اختصاص ذلك بالميّت أو رضى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قام مقامه لأنّه وليّ المؤمنين.

٥ ـ حيث لا اعتبار برضى المضمون عنه فلو أدّى الضامن وكان ضمانه بغير إذنه فلا رجوع له به ، ولو كان الأداء بإذن المضمون عنه ، ولو أذن في الضمان رجع الضامن بما أدّاه ولو كان الأداء بغير إذنه [ ولو كان بسؤاله رجع عليه بالأقلّ ممّا أدّى وممّا ضمن به ] (٢).

٦ ـ في صدر الآية الأولى حكمان :

١ ـ مشروعيّة الجعالة وهي تقع على كلّ عمل محلّل مقصود وإن كان مجهولا.

٢ ـ شرعيّة ضمان مالها لأنّه وإن لم يكن لازما لكنّه آئل إليه واستدلّ بعضهم بجواز ضمان مالها على لزومها إذ غير اللّازم لا يصحّ ضمان ماله وفيه نظر إذ جواز الضمان مشروط بتمام العمل وحينئذ يصير لازما فصحّ ضمانه لذلك.

__________________

(١) أخرجه في المستدرك ج ٢ ص ٤٨٩ و ٤٩٧ عن غوالي اللئالي.

(٢) كذا في هامش نص مع رمز خ.

٦٦

النوع الثالث

( الصلح )

وفيه آيات ستّ :

الاولى ( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (١).

الثانية ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (٢).

الثالثة ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (٣).

الرابعة ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) (٤).

الخامسة ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) (٥).

السادسة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (٦).

إذا عرفت هذا ففي هذه الآيات فوائد :

١ ـ مشروعيّة الصلح ويؤكّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الصلح جائز بين المسلمين إلّا ما

__________________

(١) الأنفال : ١.

(٢) النساء : ١١٣.

(٣) الحجرات : ١٠.

(٤) النساء : ٣٤.

(٥) الحجرات : ٩.

(٦) النساء : ١٢٧.

٦٧

حرّم حلالا أو حلّل حراما (١).

٢ ـ في الآيات دلالة على أنّه شرّع لقطع التنازع. فهو المقصود [ منه ] بالذات وإن أفاد أمرا زائدا على ذلك فبحسب ما ينضم إليه من القرائن.

٣ ـ أنّه يصحّ مع الإقرار والإنكار ، وعلى المعلوم والمجهول ، وعلى الدين والعين ، والمنفعة ، وعلى إطفاء النائرة ، وحقن الدماء ، وإصلاح ذات البين ، وإصلاح حال الزّوجين ، فموضوعه أعمّ من موضوع باقي العقود ، فلذلك اشتهر بين الأنام أنّه سيّد الأحكام.

٤ ـ حيث ظهر لك أنّه أعمّ موضوعا فاعلم أنه عقد قائم بنفسه ليس فرعا على غيره وإن أفاد فائدته.

٥ ـ يشترط فيه مراعاة الأمور الشرعيّة المعتبرة في العقود وسيأتي تفصيل شي‌ء من مجملات كلّيّاتها.

٦ ـ في الصلح نفع عظيم إذ مع قطع النزاع يحصل تمام نظام النوع ، وفوائد المعاش ، فلذلك وصفه سبحانه بأنه « خير » أي خير عظيم والسعي فيه لإصلاح ذات البين فيه أجر جزيل قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام (٢) » وقال الباقر عليه‌السلام « إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما عن ذنبه فإذا فعلا ذلك استلقى على قفاه ومدّ يده وقال فزت. فرحم الله امرءا ألّف بين وليين لنا ، يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا (٣) ».

__________________

(١) رواه الصدوق في الفقيه ج ٢ ص ١٢. وأخرجه في الوسائل كتاب الصلح ب ٣ ح ٢.

(٢) رواه الشيخ في التهذيب كما في المستدرك ج ١ ص ٤٩٨.

(٣) تراه في أصول الكافي ج ٢ ص ٣٤٥ باب الهجرة ح ٦ وفيه : ما لم يرجع أحدهم عن دينه [ ذنبه ] فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدد إلخ ».

٦٨

النوع الرابع

الوكالة

وهي لغة مشتقّة من وكل إليه الأمر أي فوّضه إليه ، وشرعا استنابة في التصرّف ، واستدلّ الراونديّ والمعاصر على مشروعيّتها بثلاث آيات :

الأولى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (١).

قال : وهو شامل للوليّ ، والوصيّ في موضع ، والوكيل.

الثانية ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (٢).

أي أعطوه دراهمكم وأقيموه مقام أنفسكم في الابتياع.

الثالثة ( فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ) (٣).

والعرب تسمّي الوكيل والخادم فتى ، والمراد في الآية هو يوشع عليه‌السلام وليس خادما فتعيّن كونه وكيلا فدلّ [ ت الآيات ] على مشروعيّة الوكالة وعندي في الاستدلال بهذه الآيات نظر.

أمّا الاولى فلأنّ المراد بالّذي بيده عقدة النكاح الوليّ الإجباريّ أو الزّوج وسيأتي تحقيقه.

وأمّا الثانية فإنّها حكاية حال غير مشرّع ولا معصوم فلا يكون حجّة.

وأمّا الثالثة فلأنّ المراد بالفتى العبد والخادم ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليقل

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

(٢) الكهف : ١٩.

(٣) الكهف : ٦٣.

٦٩

أحدكم فتاي وفتأتي ولا يقل عبدي ولا أمتي (١) » وبالجملة ليس في الآيات المذكورة نصوصيّة على مشروعيّة الوكالة في هذه الشريعة فلا يكون حجّة اللهمّ إلّا الآية الثانية فإنّها حكاية فعل قوم صالحين في سياق مدحهم ، فلو لم يكن سائغا لما حسن ذكره ، وفي آية بعث الحكمين (٢) إشارة إلى مشروعيّتها ، ولذلك قيل : إنّ البعث توكيل.

واعلم أنّ متعلّق الوكالة هو كلّ ما لم يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر بعينه وهو سائر العقود والفسوخ والإيقاعات ، إلّا الظهار والإيلاء واللّعان والنذر والعهد واليمين ولا تصح فيما تعلّق حكم الشارع بوقوعه من مباشر بعينه ، كالقسم بين الزوجات ومباشرة المعاصي وأمّا العبادات فقد تقدّم لنا فيها تفصيل واف وفي صحّة التوكيل بإثبات اليد على المباحات خلاف أقربه الجواز وللوكالة أحكام تفاصيلها معلومة في كتب الفقه.

__________________

(١) سنن ابى داود ج ٢ ص ٥٩١ ولفظه : لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ، ولا يقولن المملوك ربي وربتى ، وليقل المالك فتاي وفتاتي ، وليقل المملوك سيدي وسيدتي ، فإنكم المملوكون ، والرب : الله جل جلاله.

(٢) يريد قوله تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) النساء : ٣٤.

٧٠

كتاب فيه جملة من العقود

وفيه مقدّمة وأبحاث :

أمّا المقدّمة ففيها آية واحدة تشتمل على أحكام كلّية وهي :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١).

قيل : كلّ آية صدّرت ب « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فهي مدنيّة وب « يا أَيُّهَا النّاسُ » فهي مكية والأصحّ أنّ هذا على الأغلب يقال : وفي بعهده وأوفى بمعنى واحد والمراد بالعقود كلّ ما يعقده الناس في معاملاتهم ، وقيل المراد بالعقود العهود الّتي عقدها الله على عباده والأولى حمله على الجميع لعموم اللفظ وعدم ثبوت المخصّص فهنا فوائد :

١ ـ الوفاء بالعقد : القيام بمقتضاه ، فان كان لازما وجب الوفاء بلزومه ، وإن كان جائزا وجب الوفاء بجوازه ، وحينئذ يكون في العقد إجمال يعلم حاله من البيان النبويّ أو الإماميّ.

٢ ـ العقد شرعا اسم للإيجاب والقبول :

وهو قد يكون لازما من طرفيه كالإجارة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والصلح والوقف ، والنكاح ، والهبة في بعض صورها ، والكتابة بنوعيها ، على الأقوى وعقد السبق على قول ، والضمان.

وقد يكون جائزا من طرفيه كالوديعة ، والعارية ، والقراض ، والشركة والوكالة ، والوصيّة ، والقرض ، والجعالة ، والهبة ، في بعض صورها.

وقد يكون لازما من طرف وجائزا من آخر كالرهن وكفالة البدن (٢) وعقد الذمّة ، والأمان ، وقيل : والهبة من ذي الرحمن أو مع القربة أو مع التعويض أو التصرّف

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) في نص : وكفاية الدين.

٧١

والأولى اللّزوم من الطرفين إذ لا يجب على الواهب القبول بفسخ المتّهب ولأنّه ملك جديد.

وقد يكون جائزا في مبدئه ثمّ يؤول إلى اللزوم كالهبة بعد القبض ، وقبل أحد الثلاثة السابقة ، والوصيّة قبل الموت والقبول وتلزم بعدهما.

وقد يكون لازما في مبدئه ثمّ يصير جائزا كالبيع إذا طرء عليه فسخ بخيار أو فوات شرط معيّن أو وصف كذلك أو انفساخ كلف مبيع قبل قبضه أو ثمن كذلك أو غير ذلك.

٣ ـ كلّ عقد لازم يجب فيه أمور الأوّل : أن يكون إيجابه وقبوله لفظيين الثاني : أن يوقعا بالعربيّة اختيارا. الثالث : أن يوقعا بصيغة الماضي ، الرابع : فوريّة القبول ومطابقته بما يعدّ كذلك عرفا وكذا يجب في الرهن على الأولى الخامس تنجيزه فلا يصحّ معلّقا ولا يجب في الجائز شي‌ء من ذلك بل اللّفظ الدال على المقصود منها مع القرينة.

٤ ـ يجب في كلّ عقد صدوره عن مالك أو [ من في ] حكمه كالأب أو الجدّ له أو الوكيل أو الوصيّ أو الحاكم أو الأمين أو القاضي أو ناظر الوقف أو الملتقط إذا خاف هلاك اللّفظة وتعذّر الحاكم وكذا الودعيّ في الوديعة أو بعض المؤمنين في مال الطفل عند تعذّر الوليّ.

٥ ـ يجب في كلّ عقد اشتماله على مقتضاه فلو شرط فيه غير مقتضاه كان باطلا فيما يكون ركنا فيه وما لم يكن ركنا فيه ويشتمل على غرر أو محرّم فكذلك وإلّا فجائز.

وحكم العقد الصحيح ترتّب أثره وتوابعه ، وحكم غير الصحيح عدم ترتّب أثره وتوابعه ، والشرط اللّازم الوفاء هو ما يقع بين الإيجاب والقبول فلو تقدّم على العقد أو تأخّر فلا أثر له.

٧ ـ حيث أخذنا العقود بالمعنى الأعمّ ، تصلح الآية للاستدلال بها على

٧٢

وجوب إيفاء النذر والعهد واليمين ، بما عقده مع ربّه أو مع غيره ، ممّا لم يخالف المشروع كالمزارعة والمساقاة والسكنى والإجارة وغير ذلك من الأحكام والإيقاعات فلنذكر ما ورد من الآيات في مشروعيّة شي‌ء منها نصا أو ظاهرا وذلك أنواع :

النوع الأول

الإجارة

وفيها آيتان :

قوله تعالى ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) (١).

وقوله تعالى ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (٢).

دلّتا على مشروعيّة الإجارة. وإن كانت في شرع غيرنا لأصالة عدم النسخ مع اشتمال عقدها على كونه من متممات (٣) نظام النوع ، لأنه ممّا يضطرّ إليه لما تقرّر في العلوم الحقيقيّة أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش وحده ، فيفتقر إلى التعاضد وذلك غير واجب على الغير القيام به ، فيجوز أخذ العوض عليه ، فتشرّع المعاوضة على المنفعة وذلك هو المطلوب ، وفي الآية الثانية إشارة إلى وجوب ضبط العمل بالمدّة إن قدّر بها وإلّا فبغيرها من الضوابط.

النوع الثاني

الشركة

وذكر المعاصر وغيره ثلاث آيات :

الاولى ( فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) (٤).

__________________

(١) القصص : ٢٦.

(٢) القصص : ٢٧.

(٣) في نص : مهمات.

(٤) الأنفال : ٦٩.

٧٣

دلّت على اشتراك الغانمين في الغنيمة لجمعهم في الخطاب.

الثانية قوله في المواريث ( فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) (١).

وكذا باقيها لاقتضائها الشركة التزاما.

الثالثة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ). الآية (٢).

على قول من يقول بوجوب البسط على الأصناف والأصحّ أنّها لبيان المصرف فلا تدلّ على الشركة وهذه الآيات تدلّ على حصول معنى الشركة ، فيجوز تعاطيها بإيجاد أسبابها ، وهي يتحقّق بأمور :

١ ـ مزج المتساويين بحيث لا تمايز لأحدهما عن الآخر.

٢ ـ تملّك الشخصين سلعة واحدة بالبيع أو بما يشبهه من العقود.

٣ ـ حيازتهما معا سلعة واحدة دفعة وفي معناها قبضهما سلعة واحدة من دينهما ولا حكم للشركة بغير ذلك من الوجوه والمفاوضة والأبدان.

النوع الثالث

المضاربة

وهي أن يدفع الشخص إلى غيره مالا من أحد النقدين المسكوكين لتصرّف في ذلك بالبيع والشراء على أنّ له حصّة معيّنة من ربحه وفيه ثلاث آيات :

الاولى ( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (٣).

الثانية ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) (٤).

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) براءة : ٦١.

(٣) الجمعة : ١٠.

(٤) النساء : ١٠٠.

٧٤

الثالثة ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (١).

قال المعاصر : يمكن أن يستدلّ بها على جواز المضاربة لأنّها دلّت على رجحان التكسّب ولم يفرّق بين كونه بمال المكتسب أو بمال غيره وعندي في الاستدلال بها نظر يعلم ممّا تقدّم في باب القرض ، ولأنّ الضرب في الأرض هو التصرّف فيها وهو أعم من المتنازع والعام لا دلالة له على الخاصّ وأيضا المضاربة يكون حضرا وسفرا فالاستدلال بهذه يخصّص موضوعها.

النوع الرابع

الإبضاع

وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليبتاع له به متاعا ولا حصّة له في ربحه وفي مشروعيّتها ثلاث آيات :

الاولى ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ) (٢).

الثانية ( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (٣).

الثالثة ( وَلَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) (٤).

والبضاعة في هذه الآيات هي ثمن طعام اشتروه من يوسف ، وفي العرف لا يطلق إلّا على ما وقع فيه التجارة ، وفي اصطلاح الفقهاء يقال على ما ذكرناه.

ثمّ اعلم أنّ عامل البضاعة حيث لا حصّة له في الربح فان تبرّع بالعمل فلا اجرة له أيضا وإلّا كان له اجرة مثل عمله في تلك البضاعة.

__________________

(١) المزمل : ٢٠.

(٢) يوسف : ٦٢.

(٣) يوسف : ٨٨.

(٤) يوسف : ٦٥.

٧٥

النوع الخامس

الإيداع

وفيه آيات :

الاولى ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (١).

الثانية ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ) (٢).

الثالثة ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (٣).

وهنا فوائد :

١ ـ الأمانة مشتقّة من الأمن الحاصل من حسن الظنّ بالمستأمن ، فيجب عليه أن يكون كذلك ، فيحرم عليه الخيانة ، والتعدّي والتفريط بإهمال أسباب حفظها من المؤذيات ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمانة في كيفية حفظها عرفا.

٢ ـ الأمانة نسبة إلى يد غير المالك تقتضي عدم الضمان ، وهي قد تكون من المالك كالوديعة والعارية والرهن والإجارة وغيرها ، وقد تكون من الشرع ، وهي المسمّاة بالأمانة الشرعيّة فالآية الأولى شاملة للقسمين والأخيرتان تختصّان بالقسم الأوّل.

٣ ـ يجب في الأمانة الشرعيّة المبادرة إلى إعلام المالك مع المكنة فإن تمكّن وأهمل ضمن ، وإلّا فالظاهر عدم الضمان ولها صور :

__________________

(١) النساء : ٥٧.

(٢) البقرة : ٢٨٣.

(٣) آل عمران : ٧٥.

٧٦

الاولى : إطارة الريح الثوب إلى داره ، فيجب الإعلام أو أخذه وردّه إلى مالكه.

الثانية : انتزاع الصيد من المحرم أو من محلّ أخذه من المحرم.

الثالثة : انتزاع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

الرابعة : أخذ الوديعة من صبي أو مجنون خوف إتلافها.

الخامسة : تخليص الصيد من جارح ليداويه أو من شبكة في الحرم.

السادسة : لو تلاعب الصبيان بالجوز أو البيض وصار في يد أحدهما جوز الآخر أو بيضه وعلم به الوليّ فإنّه يجب ردّه على وليّ الآخر ، ولو تلف في يد الصبيّ قبل علم الوليّ ضمنه في ماله ، ولا عبرة بعلم غير الوليّ كأمّ أو أخ لأنّه ليس قيّما عليه ، فلو أخذه أحدهما بنية الرد على المالك أمكن إلحاقه بالأمانة ، ولو كان أحد المتلاعبين بالغا ضمن ما أخذه من الصبيّ ، وهل يضمن الصبيّ ، المأخوذ من البالغ؟ فيه نظر أقر به عدم الضمان لتسليطه إيّاه على إتلافه.

السابعة : لو ظفر المقاصّ بغير جنس حقّه ، فهل هو أمانة شرعيّة حتّى يباع؟ الأقوى [ عدم ] (١) الضمان عند بعض الأصحاب ، وهو جيّد ، لكن في قدر حقّه أمّا الزائد على قدر حقّه إذا لم يمكن التوصّل إلى حقّه إلّا به ، فالأجود عدم الضمان كمن كان له مائة فلم يجد إلّا دابّة تساوي مائتين.

الثامنة : لو مات المودع ولم يعلم الوارث بالأمان ، وكذا لو أودع الوكيل مالا ليوصل إلى المالك. فوصل الودعيّ إلى بلده ولم يعلم المالك بها ، وكذا الولي لو بلغ الطفل ورشد ولم يعلم بماله. وأمثال ذلك كثيرة ، أمّا الكتب المرسلة فيقوى فيها ذلك ، ويحتمل العدم لأنّها ملك المرسل. والأمر بإيصالها لا يقتضي الفوريّة شرعا ويضعّف بأنّ العرف يقتضيه ، والشرع وإن لم يقتضيه ، فلم يقتض عدمه ومن هنا هل يجب رد الرقاع على ورثة المرسل؟ يحتمل ذلك لملكه لها فتنتقل إلى ورثته ، ويحتمل العدم للعادة ، هذا مع بقاء عينها وإلّا فلا ضمان قطعا.

٤ ـ تشترك الأمانتان في عدم الضمان بغير التعدّي والتفريط ، وفي وجوب

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٧٧

الردّ مضيّقا إلى المالك أو وكيله أو وليه مع الطلب ، وتفترقان في وجوب الاعلام فورا في الشرعيّة وعدم قبول قوله في ردّها بخلاف غير الشرعيّة في الحكمين.

قوله في الثانية « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ » الأمر هنا للوجوب بشرط الطلب من المالك أو من بحكمه وفي الآيتين حثّ على وجوب ردّ الأمانة ، وتهديد صريح ، ووعظ على عدم ذلك لقوله في آخر الآية الاولى ( إِنَّ اللهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) والوعظ هو التحذير من عقاب الله ، والترغيب في ثوابه ، وقوله في الثانية « وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ».

٥ ـ الممدوح بأداء الأمانة في الآية الثالثة هم النصارى ، والمذموم هم اليهود لأنّ النصارى لا يستحلّون أموال من يخالفهم في الاعتقاد بخلاف اليهود فإنّهم يستحلّون أموال من يخالفهم بدليل قوله تعالى حكاية عنهم « لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (١) والمراد بالاميّين من ليس على دينهم فكذّبهم الله في مقالتهم هذه بقوله « وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » بأنّه كذب وقوله « إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً » أي إلّا مدّة إقامتك على رأسه مبالغا بالتقاضي والمطالبة.

النوع السادس

العارية

وهي إذن في الانتفاع بالعين تبرّعا وموضوعها كلّ عين ينتفع بها مع بقائها.

واشتقاقها إمّا من العري لعرائها من العوض أو من « عار » إذا ذهب ورجع ومنه قول الشاعر :

أعيروا خيلكم ثمّ اركضوها

أحقّ الخيل بالركض المعار (٢)

__________________

(١) آل عمران : ٧٥.

(٢) هكذا ضبطه في المحكم لابن سيده ج ٢ ص ١٧٠ وقال فيه : المعار : المسمن ثم أنشد البيت ونقله في ذيله عن المفضليات واللسان والتاج وكتاب سيبويه قال هو لبشر

٧٨

وذكر المعاصر لمشروعيّتها آيتين :

الاولى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (١).

الثانية ( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (٢).

ومدلول الأولى الأمر بالتعاون على البرّ ، وهو صريح في العارية ، لما قلناه من الاذن فيها تبرّعا ، ومدلول الثانية أنّه عطفه على أمور مذمومة ، وهي السهو عن الصلاة والرياء بها ، فيكون المنع من الماعون وهو ما يتعاون به عادة مذموما أيضا قضيّة للعطف ، فيكون عدم المنع في معرض المدح ، وذلك هو المطلوب وهنا فوائد :

__________________

ابن ابى حازم ونسبه في اللسان الى طرماح بن حكيم.

قلت وكذا نسبه في الصحاح الى طرماح والضبط فيه :

وجدنا في كتاب بنى تميم

أحق الخيل بالركض المعار

وكذا ضبطه في الكتاب ص ٦٥ ج ٢ باب الحكاية وقال الشنتمرى في شرحه على أشعار الكتاب : والمعار السمين كذا فسر ، وهو غير معروف والأشبه عندي أن يكون بمعنى المستعار ، ويكون المعنى أنهم جائرون في وصيتهم لأنهم يرون العارية أحق بالابتذال والاستعمال مما في أيديهم ، ويحتمل أن يريد أن العارية أحق بالاستعجال فيها ليرد سريعا من معيرها كما قال :

كأن خفيف منخره إذا ما

كتمن الربو كير مستعار

ويروى المغار بالغين المعجمة وهو الشديد الخلق ، من قولك : أغرت الحبل : إذا أحكمت فتله ، انتهى.

ونقل في الصحاح عن أبى عبيدة أن الناس يرونه المعار من العارية وهو خطأ وذكر في الصحاح في معناه ما يقارب ما ذكره المصنف ، قال : وعار الفرس أى انفلت وذهب ههنا وههنا من مرحه ، وأعاره صاحبه فهو معار ، ومنه قول الطرماح ، ثم أنشد البيت.

(١) آل عمران : ٣.

(٢) الماعون : ٧.

٧٩

١ ـ العارية أمانة وليست مضمونة خلافا للشافعيّ محتجّا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا استعار من صفوان بن أميّة أدرعا فقال أغصبا يا رسول الله! فقال « لا بل عارية مضمونة (١) » وليس بحجّة بل هو اشتراط لضمانها ، ونحن نقول به وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه.

٢ ـ العارية تضمن بأمور الأوّل : اشتراط الضمان ، الثاني : التعدّي والتفريط الثالث : الاستعارة من غاصب الرابع : استعارة المحرم للصيد ، الخامس : كون العين [ المعارة ] ذهبا أو فضّة ، السادس : الاستعارة للرهن.

٣ ـ ينتفع بالعين في كلّ ما جرت العادة به عرفا ولو عيّن المالك نوعا اقتصر عليه ولو خالف المستعير ذلك ضمن ، ولو تلفت بالاستعمال لا مع المخالفة ، لم يضمن.

النوع السابع

السبق والرماية

وفي مشروعيّتهما مصلحة جليلة وهي الارتياض لممارسة القتال مع الكفّار لإعزاز كلمة الإسلام ، وإلّا فهي في الأصل رهان وقمار وفي الحديث « إنّ الملائكة لتنفر من الرهان وتلعن صاحبه ، إلّا في النصل والريش والخفّ والحافر (٢) » ويدخل في النصل الرّمح والسيف والسهم ، وفي الخفّ الإبل والفيلة ، وفي الحافر الفرس والبغل والحمار ، وهنا آيات :

الاولى ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) (٣).

__________________

(١) ذكره ابن هشام في السيرة ج ٢ ص ٤٤٠ وفيه : بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك ».

(٢) رواه الصدوق في الفقيه ج ٢ ص ٢١٦ وأخرجه في المستدرك ج ٢ ص ٥١٦ عن أصل زيد النرسي.

(٣) الأنفال : ٦١.

٨٠