كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

غير لذّة أو ريبة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) « لكم أوّل نظرة فلا تتبعوها بالثانية فتهلكوا ».

وأمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ لاختصاص التحريم بمن عدا الزّوجة وملك اليمين ، فلذلك لم يقل : من فروجهم ، ولمّا كان المستثنى من الفرج كالشاذّ النادر ، أطلقه ولم يقيّده بخلاف الغضّ.

وقيل : إنّ المراد هنا بحفظ الفرج ستره ، بحيث لا ينظر إليه أحد ، وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام « ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ » أي الغضّ والحفظ أطهر لهم من النجاسات النفسانيّة ، لأنّ النظر يدعو إلى الجماع وتوابعه وكلّها من الأجنبيّات محرّم ، قوله « إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ » فيه نوع من التهديد.

الثانية ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٢).

هنا فوائد :

١ ـ أنّ حكم النساء حكم الرّجال في وجوب غضّ الطّرف وحفظ الفرج

__________________

(١) لم نعثر على لفظ الحديث وانما وجدنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا على! لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الاولى وليست لك الآخرة كما في سنن ابى داود ج ١ ص ٤٩٦ ومثله في الوسائل ب ١٠٤ من أبواب مقدمات النكاح.

(٢) النور : ٣١.

٢٢١

وقد تقدّم تفسير ذلك وعلّة الإتيان بمن في الأوّل دون الثاني.

روي عن أمّ سلمة أنّها قالت كنت أنا وميمونة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل علينا ابن أمّ مكتوم بعد آية الحجاب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنا : احتجبا فقلنا : يا رسول الله إنّه أعمى؟ فقال : أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه (١) وإنّما قدّم غضّ الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدّما عليه داعيا إلى الجماع.

٢ ـ تحريم إبداء الزينة ، فقيل المراد مواقعها على حذف المضاف لأنفس الزينة ، لأنّ ذلك يحل النظر إليه كالحليّ والثياب والأصباغ ، وقيل : المراد نفسها ويظهر لي أنّ المراد نفس الزينة ، وإنّما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها ، وأمّا ما ظهر منها فليس بمحرّم ، للزوم الحرج المنفيّ في الدّين.

٣ ـ قيل المراد بالظاهرة الثّياب فقط وهو الأصحّ عندي لإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة كلّها عورة إلّا على الزّوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط ، وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.

وأمّا باقي الأقوال في ذلك ، فهي أنّه الوجه والكفّان ، أو الكحل والخضاب أو الخاتم ، وأنّه إنّما تسومح فيها للحاجة إلى كشفها ، فضعيفة لا تحقيق لها ، فإنّه إن حصل ضرورة ولزم حرج فذلك هو المبيح لا الآية ، وإلّا فلا وجه لذلك.

٤ ـ الخمر جمع خمار وهي المقنعة ، والمراد بضربها إسدالها على الصدر والعنق سترا لهما ، وتغييرا لعادة الجاهليّة في لبس المخانق ، مع كشف الصدر وما فوقه.

٥ ـ أنّه لمّا نهى عن إظهار الزينة مطلقا عدا الظاهرة ، أشار إلى تخصيص ذلك بإباحته للبعولة والمحارم المذكورين أمّا البعولة فلأنّ ذلك يدعو إلى المباشرة

__________________

(١) أخرجه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة كما في الدر المنثور ـ ج ٥ ص ٤٢.

٢٢٢

المقصودة وأمّا المحارم فوجه اختصاصهم احتياجهم إلى مداخلتهم ، وعدم خوف الفتنة من جهتهم ، لما في الطباع من النفرة عن مماستهم ، واحتياج المرأة إلى مصاحبتهم في الأسفار للركوب والنزول ، ويدخل أجداد البعولة وأحفادهم لأنّهم أيضا آباء وأبناء وإنّما لم يذكر الأعمام والأخوال؟ قيل لئلّا يصفها العمّ والخال لا بينهما فيكون الوصف كالنظر ، وقيل لأنّهم في معنى الاخوان.

٦ ـ إنّه أباح إظهار الزينة لنسائهنّ أي النساء المسلمات دون الكافرات لأنهنّ لا يتحرّجن من وصفهنّ للرجال.

٧ ـ اختلف في المراد بملك اليمين هنا ، فقيل بعمومه الذكر والأنثى ، وهو رأي عائشة ، وبه قال الشافعيّة ، وقال سعيد بن المسيّب أنّه الإماء خاصّة ، ولا يباح نظر المذكّر سواء كان فحلا أو خصيّا وبه قال أبو حنيفة حتّى قال إنّه لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم وينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء ، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم ، كبيع العنب ليعمل خمرا ، والفتوى على الثاني.

إن قلت : على تفسيركم هذا يكون تكرارا لأنّ الإماء يدخلن في نسائهنّ قلت : قد بيّنّا أنّ المراد المسلمات دون الكافرات ، فعلى هذا يكون نظر الإماء مباحا وإن كنّ كافرات ، فإنهنّ لدخولهنّ تحت القهر لا يحكين ما يرين.

٨ ـ أنّه يباح النظر للتابعين (١) وهم الّذين يتبعون لأجل العافية والانتفاع والخدمة وقيل المراد الشيوخ الّذين سقطت شهوتهم ، وليس لهم حاجة إلى النساء وهو المروي عن الكاظم عليه‌السلام.

والإربة ، قيل هي الحاجة وقيل هم البله الّذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام وابن عباس ، وعن الشافعيّ هو الخصيّ المجبوب ، ولم يسبق إلى هذا القول ، وعن أبي حنيفة هم العبيد الصغار ، وقرئ

__________________

(١) الى التابعين ، خ ل.

٢٢٣

« غير » بالنصب على الحال ، وبالجرّ صفة للتابعين.

قوله « أَوِ الطِّفْلِ » ذلك يصدق على الواحد والجمع كقوله تعالى « ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً » قوله « لَمْ يَظْهَرُوا » أي لم يطّلعوا على العورة ، فيميّزون بينها وبين غيرها.

٩ ـ كانت الجاهليّات يضربن بأرجلهنّ على الأرض ليسمع صوت خلخالهنّ فنهى المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر فإنّه قد يورث ميلا في الرجال فهو أبلغ في النهي عن إظهار الزينة ، قوله « وَتُوبُوا » أي عن إبداء الزينة وغلّب التذكير في العبارة.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١).

هنا فوائد :

١ ـ أنّه خاطب المؤمنين أن يأمروا عبيدهم وأطفالهم المميّزين [ بين ] العورة وغيرها حيث أمرهم إليهم ، بأن يستأذنوا في دخولهم عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، فهو بالنسبة إلى البالغين تكليف ، وبالنسبة إلى الأطفال تمرين ، وكان قد تقدّم الأمر بالاستيذان العامّ وهذا استيذان خاصّ وهل الإماء أيضا مأمورات؟ قيل نعم وغلب المذكّرين بقوله « الّذين » وقيل : لا ، وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام.

٢ ـ إنّما اختصّت هذه الأوقات الثلاثة لأنّها مظنّة كشف العورة أمّا قبل الفجر ، فإنّه وقت القيام من المضجع ، وتبديل لبس اللّيل بلبس النهار ، وأمّا

__________________

(١) النور : ٥٨.

٢٢٤

وقت الظهيرة فإنّه وقت القيلولة ومظنّة ظهور العورة وأمّا وقت العشاء فإنّه وقت تبديل لبس النهار بلبس اللّيل.

٣ ـ قوله « لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ » جواب سؤال [ مقدّر ] محذوف تقديره : وما حكم الأوقات الأخر وراء هذه الأوقات؟ أجاب بأنّه ليس عليكم ولا عليهم جناح في ترك الاستيذان ، لزوال سبب الاستيذان وهو مظنّة كشف العورة والضمير في « بَعْدَهُنَّ » للأوقات الثلاث.

٤ ـ قوله « طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ » هو تعليل في المعنى لعدم الاستيذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، لاستلزام الاستئذان في ذلك الحرج ، لأنّه لا بدّ من المخالطة بين هؤلاء وهؤلاء للخدمة والاستخدام ، والاستيذان حينئذ مستلزم للحرج « وطوّافون » خبر مبتدأ محذوف أي هم : طوّافون ، وإنّما لم يكتف بهذا بل قال « بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ » لأنّه ليس أحد الفريقين أولى بالطواف دون الآخر بل هو شامل لهما معا هؤلاء لطلب الخدمة ، وهؤلاء لطلب الاستخدام ، فانّ الخادم إذا غاب عن عين مخدومه واحتاج المخدوم إليه ، لا بدّ أن يطوف ويطلبه وكذا حكم الأطفال للتربية فيكون « بعضكم » بدلا من « طوّافون » والمبدل منه ساقط لا أنّه مرفوع بالابتداء وخبره على بعض ، كما قيل ، وقرأ أهل الكوفة غير حفص « ثلاث » بالرفع خبرا للمبتدإ المحذوف أي هذه ، والباقون بالنصب بدلا « من ثلاث مرات » لاشتمال هذه الأوقات على ثلاث كشفات للعورة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الاعراب والجمع.

الرابعة ( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١).

« منكم » في موضع النصب على الحال أي كائنين منكم ، والخطاب للأحرار

__________________

(١) النور : ٥٩.

٢٢٥

لأن بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستيذان بالأوقات الثلاثة وأما بلوغ الأرقّاء ، فالحكم باق كما كان في التخصيص لأجل بقاء السبب المذكور.

قوله « مِنْ قَبْلِهِمْ » معناه كالّذين بلغوا من قبلهم وهم الأحرار البالغون لا الّذين ذكروا من قبلهم في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) (١) » كما قال الزمخشريّ والطبرسيّ لعدم القرينة في هذه الإضمار ، وأمّا قرينة البلوغ فموجودة وهي قوله « وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ».

وظنّ قوم أنّ الآية منسوخة ، وليست كذلك قال ابن جبير : يقولون : هي منسوخة ، لا والله ما هي منسوخة لكنّ النّاس تهاونوا بها ، وقيل للشعبيّ : إنّ الناس لا يعملون بها ، فقال : الله المستعان.

الخامسة ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢).

المراد به اللّاتي يئسن من المحيض والولد ، ولا يطمعن في نكاح لكبر سنّهنّ فقد قعدن عن التزويج لعدم الرغبة فيهنّ ، والمراد بالثياب ما يلبس فوق الخمار من الملاحف وغيرها ، فإنّه رخّص لهنّ وضع هذه الثياب للأجانب لعدم رغبتهم فيهنّ وزوال التهمة والتبرّج : التبرّز ، وهو من الأفعال اللّازمة.

قوله « غير » هو نصب على الحال من « أن يضعن » والمعنى أنّهنّ إذا خرجن

__________________

(١) النور : ٢٧.

(٢) النور : ٦٠.

٢٢٦

من بيوتهنّ بالزينة الّتي يجب سترها من الحليّ وثياب التجمل ، لا يترخّص لهنّ وضع ثيابهنّ « وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ » أي العفاف بالستر خير لهنّ لأنّ وضع ثيابهنّ رخصة لهنّ فتركها خير ، وفي ضمنه أنهنّ لو تبرّجن بغير زينة لا جناح عليهنّ إذا لم يضعن ثيابهنّ ، والباء في « بزينة » ليس للتعدية ، بل للمصاحبة وذلك لأنّ خروجهنّ بالزينة يدل على أنهنّ متبرّجات وداعيات للشوابّ إلى التبرّج لا طالبات لحاجاتهنّ.

السادسة ( يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (١).

قال المعاصر : في هذه دلالة على أنه إذا خطب المؤمن القادر على النفقة يجب إجابته وإن كان أخفض نسبا وكذا يجب على الوليّ إلّا مع العدول إلى الأفضل من الخاطبين ، وعندي في دلالتها على ذلك نصّا أو ظاهرا نظر ، أمّا النصّ فظاهر وأمّا الظاهر فلأنّ دلالتها ظاهرا ليس إلّا على تساوي الأشخاص من حيث المادّة والصورة النسبيّة ، وأنّه لا فضل لأخذ على غيره إلّا بالتقوى ، وذلك ليس بنفسه دالّا على وجوب الإجابة عند الخطبة بل مع انضمام دليل آخر إليه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته لمّا قال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل يخبرني أنّ البنات كالثمر وأنّ الثمر إذا أدرك ولم يقطف فسد ، كذلك البنات إذا بلغن ولم يزوّجن فسدن. فقالوا لمن نزوّج يا رسول الله؟ قال الأكفاء قالوا : وما الأكفاء؟ قال : إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه ، (٢) فدلّ على أرجحية الأتقى على غيره في المنزلة وأنه إذا تعارض خاطبان متساويان في الدّين استحبّ إجابة الأتقى منهما لقوله « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ».

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٣٧.

٢٢٧

السابعة : قوله ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (١).

قال المعاصر قيل : أريد بالثياب الزّوجات لقوله « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » فينبغي أن يتخيّر لنفسه من النساء العفيفة الكريمة الأصل ، ويؤيّده قوله ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً ) (٢).

قلت وعندي فيه نظر لمنع دلالتها على ذلك ، فانّ الثياب حقيقة في الساتر للجسد ، واستعمال اللّباس في النساء مجازا في موضع لا يستلزم استعماله في غيره لأنّ المجاز لا يطّرد كما تقرّر في الأصول وأيضا الطهارة حقيقة في استعمال الماء فاستعمالها في غير ذلك مجاز ، والأصل عدمه ، نعم يدلّ على المطلوب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « تخيّروا لنطفكم » (٣) وكذا قوله ( الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) (٤) أي لا يرغب إلّا في نكاح الزانية ، وفي ذلك دلالة على استحباب اختيار العفيفة ، وكراهة اختيار غيرها ، وكذلك قوله ( الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (٥) وهو خبر في معنى الأمر.

الثامنة ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٦).

قالوا : فيها دلالة على جواز الوطي في الدّبر ، وتحرير القول هنا أن نقول :أكثر المخالفين منعوا منه ، وأجازه مالك قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّ وطي المرأة في دبرها حلال ثمّ قرأ الآية المذكورة.

وأمّا أصحابنا فلهم في ذلك روايتان إحداهما التحريم ، وهو قول الصّادق

__________________

(١) المدثر : ٤.

(٢) الأعراف : ٥٨.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٣٢ باب اختيار الزوجة الرقم ٢.

(٤) النور : ٣.

(٥) النور : ٢٦.

(٦) البقرة : ٢٢٣.

٢٢٨

عليه‌السلام قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « محاشّ النساء على أمّتي حرام » (١) وثانيتها الحلّ وهو رواية عبد الله بن أبي يعفور في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام قال سألته عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها قال لا بأس (٢) وأفتى به أكثر علمائنا.

واحتجّوا لتأييد ذلك بآيات :

١ ـ هذه الآية ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) ولفظ « أنّى » للمكان كائن يقال اجلس أنّى شئت أي أيّ موضع شئت.

إن قيل : يحمل على القبل لكونه موضع الحرث ، قلنا إنّما يصح ذلك أن لو كان الحرث اسما للقبل ، وأمّا إذا كان اسما للنساء فلا ، كيف ولو حمل على القبل فقطّ لزم تحريم التفخيذ أيضا ولا قائل به.

٢ ـ قوله ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) (٣) وجه الاستدلال أنّه علم رغبتهم في الدّبر فيكون الاذن مصروفا إلى تلك الرغبة.

٣ ـ قوله ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) (٤) وفي هذين نظر لجواز أن يكون أمرهم بالاستغناء بالنساء لأنّ قضاء الوطر يحصل بهنّ وإن لم يكن مماثلا كما يقال : استغن بالحلال عن الحرام ، وأيضا فإنّه غير شرعنا فلا يكون حجّة في شرعنا.

٤ ـ قوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (٥) وجه الاستدلال أنّه أمر بحفظ الفروج مطلقا ثمّ

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ١٥٢ ، التهذيب ج ٢ ص ٢٣٠.

(٢) التهذيب ج ٢ ص ٢٣٠.

(٣) هود : ٧٨.

(٤) الشعراء : ١٦٥.

(٥) المؤمنون : ٦.

٢٢٩

استثنى الأزواج فيسقط التحفّظ في الطرفين مطلقا ولأنّه منفعة تتوق النفس إليها عارية عن مانع عقلي أو شرعي ، فتكون مباحة ، أمّا الأولى فلأنّه الفرض ، وأمّا الثانية فظاهر إذ لا مانع عقليّ وأمّا الشرعيّ فلما يأتي في جواب المانع.

احتجّوا بقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ) (١) والمأمور به هو القبل ، برواية أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها » (٢) وبرواية خزيمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّ الله لا يستحيي من الحقّ » قالها ثلاثا « لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ » (٣).

والجواب عن الآية المنع من دلالتها على موضع النزاع ، فانّ المراد بالأمر الإباحة ، والمكروه مباح ، فيكون التقدير من حيث أباحكم ، إن قيل إنّ الأمر حقيقة في الوجوب قلنا فحينئذ يكون المأمور به القبل ولا يدلّ على المنع من إباحة الآخر على أنّا نقول إنّ ذلك متروك الظاهر بالإجماع ، فإنّه لا يجب أن يطأ عقيب الطهارة ، بل ولا يستحبّ بل يباح وأبو هريرة كذّاب ويروى أنّ عمر أدّبه على كذبه بالدّرّة ، مع أنّه لا يلزم منه التحريم ، لجواز عدم النظر ، لكراهته وخبر خزيمة خبر واحد ، مع أنّه معارض بأخبار كثيرة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام (٤).

قوله : و « قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ » قيل : المراد التسمية عند الجماع ، وقيل :

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) رواه في شرح السنة على ما في مشكاة المصابيح ص ٢٧٦ وقد روى مثله عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق راجع الدر المنثور ج ١ ص ٢٦٤.

(٤) راجع الوسائل ب ٧٣ من أبواب مقدمات النكاح ، وقد روى من طرق أهل السنة روايات كثيرة في الجواز كما في الدر المنثور ج ١ ص ٢٦٥ ـ ٢٦٧.

٢٣٠

الدّعاء عند الجماع ، وقيل طلب الولد ، فانّ اقتناء الولد الصالح تقديم لثواب عظيم « قال صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث : ولد صالح يدعو له وصدقة جارية بعده ، وعلم ينتفع به » (١) وباقي الآية ظاهر.

التاسعة ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢).

في هذه الآية أحكام :

١ ـ أنّ الوالدات ينبغي لهنّ أن يرضعن أولادهنّ لأنّ هذه الجملة خبر في معنى الأمر تقديره ليرضعن أولادهنّ إذ لا جائز أن يكون على الخبريّة ، وإلا لزم الكذب ، فإنّه قد يرضعن أزيد وأنقص ، وليس الأمر للوجوب لأصالة البراءة بل لمطلق الرجحان ، الشامل له وللندب ، فقد يكون واجبا كما إذا لم يرتضع الصبيّ إلّا من امّه ، أو لم يوجد ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستيجار أو إرضاع اللّباء وهو أوّل لبن يجي‌ء بعد الولادة فإنّه يجب عليها إرضاعه إيّاه ، قيل لأنّه لا يعيش بدونه ، وقد يكون مندوبا كما إذا لم يحصل أحد الأسباب الموجبة فإنّه أفضل ما يرضع لبن امّه ، ويستحب لها أن تفعل ذلك.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٢١.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

٢٣١

٢ ـ أنّ مدّة الرّضاع حولان ، وإنّما قيدهما بالكمال؟ قيل : للتأكيد لجواز إطلاق الحول على بعضه ، وقيل : لأنّ الحول قسمان تام وهو الشمسي وناقص وهو القمري لنقصان بعض أشهره ، لأنّ التأسيس لا يعدل عنه إلى التأكيد إلّا مع تعذّره ، ولم يتعذّر هيهنا.

ويظهر لي أنّ الحول قد استعمل شرعا في أحد عشر شهرا ويوم من الثاني عشر كما في الزكاة ، وقد استعمل مع تمام الثاني عشر كما في الدّين المؤجّل حولا فأزال الاحتمال الأوّل بقوله « كاملين ».

٣ ـ قوله « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » اللّام متعلّقة بيرضعن كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، فانّ إرضاعهنّ لأجل أزواجهنّ ، لأنّ نفقة الولد على والده ، وكذلك يجب أن يتّخذ للولد ظئرا ترضعه إذا امتنعت الامّ من الرضاعة ويجوز فتح راء الرّضاعة وكسرها وقرئ بهما.

وفي ذلك دلالة على أنّ أقصى مدّة الرّضاع حولان وأنّه لا حكم له بعدهما في تحريم النكاح ولا استحقاق الأجرة لو أرضعت بعد استيجاره للرضاع الشرعيّ وأنّه يجوز أن ينقص عن ذلك.

ثمّ اختلف هل هذا التحديد لكلّ مولود أم لا؟ قال ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه : ليس لكلّ مولود ، ولكن لمن ولد لستّة أشهر وإن ولد لسبعة فثلاثة وعشرون شهرا ، وإن ولد لتسعة فأحد وعشرون شهرا ، وروى أصحابنا أنّ ما نقص عن أحد وعشرين فهو جور على الصبيّ ، وقال الثوريّ وجماعة : هو لازم لكلّ مولود وأنّه إذا اختلف والداه ، رجع إلى ذلك ، وتفصيل ابن عبّاس حسن ، لما فيه من الجمع بين الآيات في قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وبين [ مدد ] الوقوع فإنّ مدّة الحمل تكون ستّة ، وتكون سبعة ، وتكون تسعة ، وهو الغالب في الوقوع والولد يعيش في هذه المدد ، وأمّا في الثمانية فقالوا إنّه لا يعيش.

وعلّل [ ذلك بأنّ الحمل إذا كان له سبعة أشهر ، طلب الخروج فيضطرب

٢٣٢

اضطرابا شديدا ، فإذا أفضت حركته إلى الخروج فذاك ، وإلّا ضعف بدنه لذلك فان خرج في الثامن خرج ضعيفا فلا يعيش غالبا وإذا استمرّت تلك المدّة يعيش من ضعفه وقوي على البروز في التاسع فيخرج صحيحا (١) ].

٤ ـ أنّه يجب على الوالد اجرة الرضاع لقوله تعالى « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ » و « على » تستعمل للوجوب كما يقال على فلان دين ، وإنّما لم يقل على الزوج لأنّه قد يكون على غير الزّوج كالمطلّق ، وفي قوله « الْمَوْلُودِ لَهُ » إشارة إلى أنّ الولد في الحقيقة للأب ، ولهذا ينسب إليه ، ويجب عليه نفقته ابتداء. قوله « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » أي كمال المؤنة لهنّ والرزق المأكول وقوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العرف من حقّها ، وفيه إشارة إلى وجوب اجرة مثلها ، وأنّه ليس لها إلّا قدرها ، ولا ينقص أيضا عن قدرها ولذلك قال « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ » فيكون الباء حينئذ للسببيّة ، وقيل فيه وجهان آخران :

الأوّل : أي لا توقع به الضرر ، بأن تترك إرضاعه تعنّتا أو غيظا على أبيه فإنّها أشفق عليه من الأجنبيّة ، ولا يوقع الأب أيضا الضرر بولده بأن ينزعه من امّه ويمنعها من إرضاعه ، فتكون المضارّة على هذا بمعنى الإضرار ، واتي بفعل المفاعلة الواقعة بين الاثنين مبالغة.

الثاني : أنّ المراد لا يضارّ الوالدة بأن يترك جماعها خوفا من الحمل ، ولا هي تمتنع من الجماع خوفا من الحمل أيضا فتضر بالأب ، عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (٢).

وفي قوله « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » إلى آخره إشارة إلى جواز المعاوضة على الرّضاع من الزّوج وهل يجوز استيجارها للرضاع أم لا؟ قال

__________________

(١) ما بين العلامتين يوجد في هامش النسخة المطبوعة ، وهكذا في متن نسخة مخطوطة عتيقة أوعزنا إليها في مقدمة هذه الطبعة تحت الرقم ١ ، وأرينا صفحة منها بالفتوغرافية ص ١٩ من المقدمة فراجع وأما سائر النسخ فخالية عن هذه الزيادة.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٠ تحت الرقم ٣٨١ و ٣٨٢ من سورة البقرة.

٢٣٣

أصحابنا والشافعي بجوازه ، ومنع أبو حنيفة ذلك ما دامت زوجته أو معتدّة عن نكاح ، قال : لأنّ الزّوج يملك منافعها كالأجير الخاصّ. فلا يجوز أن يوقع عليها عقد إجارة ، ونحن نمنع تملّكه لمنافعها ، ولا يلزم من استحقاقه لمنفعة البضع ملكه لجميع منافعها.

وقيل : في قوله « لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها » إشارة إلى أنّ النّفقة تعتبر بحال الزّوج وقد تقدّم كلامنا فيه.

٥ ـ أنّ اجرة المرضعة واجبة أيضا على الطفل إذا كان له مال وإليه الإشارة بقوله « وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ » أي وارث الأب وهو الصبي بأن يقوم الوصي أو الحاكم بمؤنتها عوضا عن إرضاعها عند موت الأب من مال يرثه من أبيه.

إن قلت : إن كان للولد مال حياة أبيه كانت المؤنة ثابتة في ماله ، فأي فائدة في تقييده بالوارث؟ قلت : الأغلبيّة.

وقيل : الوارث هو الباقي من الأبوين يجب عليه مؤنة إرضاعه ، فإنّ الوارث يعبّر به عن الباقي كما في قوله عليه‌السلام « اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منّا (١) » وهو صحيح عندنا لأنّ مع عدم الأب وآبائه يجب النفقة على الامّ ، وهو موافق لمذهب الشافعيّ فإنّ عنده لا نفقة على غير الأبوين.

وقيل : إنّ المراد الوارث للصبيّ أو الوارث للأب يجب عليهما ما كان يجب على الأب ، وهو بناء على وجوب النفقة على كلّ وارث وهو مذهب ابن أبي ليلي.

وعند أبي حنيفة يجب الإنفاق على الوارث المحرم ، وقيل على العصبات وما ذكرناه اولى.

٦ ـ وأنّه لمّا قرّر أنّ مدة الرضاع حولان ، أشار إلى أنّه يجوز أيضا الاقتصار على أقلّ من ذلك بقوله « فَإِنْ أَرادا فِصالاً » وإنّما قيّده بالتراضي

__________________

(١) راجع سراج المنير ج ١ ص ٣١٦.

٢٣٤

والتشاور منهما مراعاة لمصلحة الطفل ، إذ لو اقتصر على رأي أحدهما جاز أن يقدم على ما يضربه الطفل لغرض مّا وحينئذ يكون للآخر منعه. والتشاور : المشاورة والمشورة والشورى ، وهو استخراج الرأي من شرت العسل أي استخرجته.

٧ ـ أنّه لمّا قرّر أنّ « الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ » أوهم وجوب كونهنّ كذلك وأنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا ، فأزال ذلك بقوله : وإن أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه تعدّى إلى مفعولين : حذف الأوّل للاستغناء عنه ، وإطلاقه يدل على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع ، لكن ذلك مناف لقوله « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها » فيكون هنا مقيّدا بقيد ، وهو تعذّر استرضاع الامّ كانقطاع اللّبن أو غير ذلك.

قوله « إِذا سَلَّمْتُمْ » أي أعطيتم المراضع ما أردتم إيتاءه للوالدات ، وليس التسليم للأجرة شرطا في جواز الاسترضاع ، بل الغرض التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن يكون طيّبة النفس ، لتقبل على الطفل بقلبها ، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.

قوله « وَاتَّقُوا اللهَ » مبالغة في المحافظة على ما شرّع في أمر الأطفال والمراضع وقوله « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » حثّ وتهديد.

فائدة : دلّ قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وقوله « حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر لأنّا إذا أسقطنا حولين ، وهما أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين شهرا بقي ستّة أشهر ، وما أظن أحدا خالف في ذلك وأمّا أكثر الحمل فعندنا عشرة أشهر وعند أبي حنيفة ثلاثون شهرا ، ويتأوّل الآية بأنّ كلّ واحد من حمله وفصاله ثلاثون شهرا وعند الشافعيّ أربع سنين ، وعند أحمد ومالك ستّة سنين ، والكلّ من أقوالهم مناف للوقوع.

٢٣٥

العاشرة ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (١).

قال أهل البلاغة : التعريض هو إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ويرادفه التلويح ، كقول السائل : جئتك لا سلّم عليك ، والكناية هي الدّلالة على الشي‌ء بذكر لوازمه ، كقولك فلان طويل النجاد ، كثير الرّماد ، إذا عرفت هذا فالآية تشتمل على جمل تتضمّن أحكاما :

١ ـ أنّه لا حرج في التعريض للمعتدّات بالخطبة ، والمراد به هنا كلام يفهم منه الرّغبة في النساء من غير تصريح كقوله ربّ راغب فيك وإنّك لجميلة ، وإنّ الله لسائق إليك خيرا وأمثاله ، ونفي الحرج في التعريض يستلزم ثبوته في التصريح لهنّ بالخطبة ، وهذا فيه إجمال علم تفصيله وبيانه من السنّة الشريفة فنقول :

المعتدّة رجعيّة يحرم التعريض والتصريح لها من الأجنبيّ ، وكذا يحرمان لكلّ محرّمة أبدا كالملاعنة والمطلقة تسعا للعدّة من الزوج أمّا من غيره فيجوز التعريض لا التصريح والمعتدّة بائنا يحرم التصريح لها في العدّة من غير الزّوج ويجوز التعريض ، وأمّا منه فيجوز له التعريض مطلقا ، وأمّا التصريح فيجوز للمختلعة والمفسوخة بعيب أو تدليس ولا يجوز للمطلّقة ثلاثا لا في العدّة ولا بعدها إلّا بعد أن تنكح ، وحكم التعريض حكم الاكنان في النفس أي الستر والإضمار ، يقال : كنفته أي سترته.

٢ ـ قوله « عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » أي في القلب فاذكروهنّ لأنّ تركه غير مقدور ، ثمّ إنّه نهى عن المواعدة سرّا أي جماعا ووطيا ، لأنّه يسر أي يفعل

__________________

(١) البقرة : ٢٣٥.

٢٣٦

سرّا ، لكونه كلاما فحشا ولا يجوز الخطبة به مطلقا ، ثمّ استثنى من قوله « لا تُواعِدُوهُنَّ » القول المعروف أي ما فيه تعريض أي لا تواعدوهنّ إلّا مواعدة معروفة أو بقول معروف ، وقيل الاستثناء منقطع من قوله « سِرًّا » وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض وهو غير موعود.

٣ ـ « وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ » هو نهي عن عقدة نكاح المعتدات بالنهي عن لازمه لأنّ الفعل الاختياريّ من لوازمه العزم عليه ، والنهي عن اللّازم يستلزم النّهي عن ملزومه ، وأصل العزم القطع فانّ العازم قاطع لا يجوّز نقيض مراده والكتاب المكتوب من العدّة ، وأجله منتهاه وهنا مسائل :

١ ـ لا تحرم المخطوبة بتحريم الخطبة.

٢ ـ لو عقد على المعتدّة عالما بالتحريم والعدّة حرمت أبدا مطلقا وإن كان جاهلا ودخل ، فكذلك وإلّا فلا.

٣ ـ خصّ الشافعيّة الآية بعدّة الوفاة واختلفوا في عدّة الفراق ، وعندنا لا خلاف فيها.

النوع الخامس

( في أشياء تتعلق بنكاح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه )

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (١).

__________________

(١) الأحزاب : ٢٨.

٢٣٧

ذكر لنزولها وجهان : أحدهما في تفسير ينسب إلى الصادق عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حصل له الغنائم من خيبر قالت له نساؤه أعطنا من هذه الغنيمة قال قسمتها بين المسلمين بأمر الله فغضبن وقلن لعلّك تظن إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك ، فأمر الله تعالى باعتزاله لهنّ والجلوس في مشربة أمّ إبراهيم حتّى حضن فطهرن ثمّ أنزل الله هذه الآية (١).

وثانيهما ، قال المفسّرون (٢) أنّ أزواجه سألنه شيئا من عرض الدّنيا وطلبن زيادة في النفقة ، وآذينه لغيرة بعضهنّ من بعض فآلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير. وهي هذه ، وكنّ يومئذ تسعا : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة فهؤلاء من قريش ، وصفيّة بنت حيّ الخيبريّة ، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، وزينب بنت جحش الأسديّة ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة.

فلمّا نزلت طلبهنّ وخيّرهنّ في المفارقة والبقاء ، فاخترنه عليه‌السلام وأصل « تعال » أن يكون الآمر في مكان مرتفع والمأمور في مكان مستقل ثمّ كثروا ستعير للآمر بإقبال القلب وهو المراد هنا.

والسراح كالسّلام والكلام ، بمعنى التسريح والتكليم (٣) وهو كناية عن الطلاق ووصفه بالجميل أي يكون لا عن مشاجرة ومخاصمة بين الزّوجين ، أو أن يكون من غير إضرار وبدعة ، وهنا فوائد :

١ ـ أنّ التخيير لنسائه بين المقام والمفارقة على التقديرين المذكورين واجب عليه لقوله « قل » والأمر للوجوب ، والتخيير هنا كناية عن الطلاق ، فمن اختارت الدنيا انفسخ نكاحها وهو من خواصّه.

٢ ـ قيل إنّ المتعة لا يكون إلّا للمطلّقة قبل الدّخول وقبل فرض المهر

__________________

(١) تفسير القمي ص ٥٢٩.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٣.

(٣) كذا في جميع النسخ : والسياق يقتضي زيادة « والتسليم ».

٢٣٨

كما تقدّم ، وأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكنّ كذلك فما وجه هذه المتعة؟ قلنا يحتمل هنا وجوها

الأوّل : أن لا يكون المراد تلك المتعة المعهودة ، بل مطلق النّفع ، بأن يزيدهنّ على المهور أو يعطيهنّ ما كان عندهنّ من أثاث وغيره.

الثاني : أنّه قد تقدّم أنّ المتعة لكلّ مطلقة عند قوم [ وعند قوم ] إلّا المختلعة والمباراة فعلى هذا يكون المراد المتعة المعهودة.

الثالث : جاز أن يكون من خواصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وجوب التمتّع كما وجب عليه التخيير. وهذا أولى في الجواب.

٣ ـ اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال :

الأوّل : أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زوجها فلا شي‌ء وإن اختارت نفسها فهي تطليقة واحدة وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وأصحابه.

الثاني : أنّه إذا اختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات وإن اختارت زوجها وقعت واحدة ، وهو قول زيد ومذهب مالك.

الثالث : أنّه إن نوى بالتخيير الطلاق كان طلاقا وإلّا فلا ، وهو مذهب الشافعيّ.

الرّابع : أنّه لا يقع بذلك طلاق وإنما كان ذلك من خواصّه عليه‌السلام ولو اخترن أنفسهنّ لمّا خيّرهنّ لبنّ منه فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك وهو المروي عن الصّادق عليه‌السلام حيث قال « ما للناس والخيار؟ وإنّما هذا شي‌ء خصّ الله تعالى به رسوله » (١).

قال ابن الجنيد وابن أبي عقيل منّا بوقوعه طلاقا مع نيّته واختيارها نفسها على الفور ، فلو تأخّر اختيارها لحظة لم يكن شيئا

والأكثر منّا على خلاف قولهما لقول الصادق عليه‌السلام إنّما الطلاق أن يقول لها : « أنت طالق » (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٢٣٧.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٩.

٢٣٩

الثانية ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) (١).

هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أضعاف العذاب لنسائه على السيّئات ، وإيتاء الأجر مرّتين على الطاعات.

أمّا الأوّل فلأنّ العذاب على قدر قبح المعصية ، وقبح المعصية على قدر العلم به ونساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أشد صحبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشاهدن الوحي كأنّ علمهنّ بالأحكام كالضروريّ ، فأضعف لهنّ العذاب لذلك.

وأمّا الثاني فظاهر لأنّه لمّا كان عقابهنّ مضاعفا اقتضى العدل كون ثوابهنّ كذلك ، وعلم من ذلك كون الضعف مثلا واحدا والمراد بالفاحشة الخطيئة الكبيرة والمبيّنة الظاهرة الفحش ، والقنوت هنا المداومة على الطاعة ، وإن استعمل في غير ذلك كالدعاء في الصّلاة وطول العبادة.

الثالثة ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً ) (٢).

هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عدم جواز نكاح نسائه بعد وفاته إجماعا فقيل لكونهنّ أمّهات لقوله « وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ » وهو باطل وإلّا لحرم بناتهنّ لأنّهنّ أخوات بل تسميتهنّ أمّهات لأجل تحريم نكاحهنّ ، فالأولى كونه من خواصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وحذرا من غيرته لذلك ، فيكون إيذاء له وسبب نزولها أنّه لمّا نزلت آية الحجاب قال طلحة بن عبد الله أينهانا أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء

__________________

(١) الأحزاب : ٣٠.

(٢) الأحزاب : ٥٣.

٢٤٠