كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١).

هنا فوائد :

١ ـ قد تقدّم معنى يمين اللّغو ونزيد هنا فنقول : الحقّ أنّه ما يسبق إلى اللسان من غير قصد ، وسئل الحسن عنه فقال الفرزدق وكان حاضرا دعني أجبه يا أبا سعيد فقال :

وليست بمأخوذ بلغو تقوله

إذا لم تعمّد عاقدات العزائم

وهو الّذي أردناه ، وذلك أنّ حكم الأيمان حكم الايمان ، فكما أنّ الايمان باللّسان ليس إيمانا في الحقيقة ما لم يعقده بقلبه كذلك الأيمان باللّسان ليس بأيمان يوجب كفّارة [ ولا ] إثما.

٢ ـ قرأ حمزة والكسائيّ « عَقَّدْتُمُ » بالتخفيف وقرء ابن عامر « عاقدتم » وهو من فاعل بمعنى فعل كعافاه الله ، والباقون بالتشديد ، ومعنى الجميع وثّقتم أيمانكم بالقصد والنيّة.

ومنع الطبري من قراءة التشديد لأنّه لا يكون إلّا مع تكرير اليمين ، والحال أنّ المؤاخذة تحصل باليمين الواحدة وأجيب بوجوه :

الأوّل : أنّ التعقيد أن يعقدها بقلبه ولسانه ، ولو عقد بأحدهما لا غير لم يكن تعقيدا ، الثاني قال أبو علي الفارسي أنه لتكثير الفعل ولمّا كان مخاطبا للكثرة يقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ » اقتضى كثرة اليمين والتعقيد كقوله « ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) (٢) » قال أو يكون « عقّد » مثل ضعّف فإنّه لا يراد به التكثير كما أنّ ضاعف لا يراد به فعل من اثنين ، الثالث قال الحسن بن علي المغربي : في التكثير فائدة وهو أنّه إذا كرّر اليمين على المحلوف الواحد ، ثمّ حنث لم يلزمه إلّا كفّارة واحدة ، على خلاف بين الفقهاء.

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

(٢) يوسف : ٢٣.

١٢١

قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » فيه حذف تقديره بنكث ما عقّدتم الإيمان أو يكون التقدير وحنثتم « فَكَفّارَتُهُ » أي كفّارة حنثه.

٣ ـ إذا حنث الحالف عمدا اختيارا ، وجبت عليه الكفّارة المذكورة في الآية وهي جامعة بين التخيير في الثلاثة الأول ، والترتيب بعد العجز بوجوب الصيام.

وهنا أحكام :

١ ـ الإطعام يصدق إمّا بالتسليم إليهم ، أو بإحضارهم ، وجعل الطعام بين أيديهم ليأكلوا.

٢ ـ اختلف في قدره ما يعطى المسكين ، فقال أبو حنيفة : نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، أو يغدّيه ويعشّيه ، وقال الشافعي لكل مسكين مدّ وهو قول أصحابنا.

٣ ـ المراد بالأوسط إمّا في النوع أو القدر والظاهر الأوّل.

٤ ـ لا يجزي إطعام مسكين عشرة أيّام ، لعدم صدق العشرة على الواحد ولاختصاص الكثرة بمزيد فائدة وكذا في الظهار خلافا لأبي حنيفة فيهما.

٥ ـ المسكين هو الّذي يجوز دفع الزكاة الواجبة إليه ، وقد تقدّم تحقيق معناه ولا يجوز إطعام أهل الذمّة خلافا لأبي حنيفة.

٦ ـ كسوة الفقير : قيل ثوبان ، والحق أنّه يكفي الواحد ولو غسيلا ولا يكفي النعل ولا القلنسوة ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك : إن أعطى رجلا كفى الواحد ، وإن أعطى امرأة لا يجزي إلّا ما يجوز فيه الصلاة وهو ثوبان قميص ومقنعة ، وقال أبو يوسف لا يجوز السراويل وقرأ سعيد بن المسيّب أو كاسوتهم (١) بمعنى أو مثلما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا.

٧ ـ يشترط في الرّقبة الإيمان أو حكمه حملا للمطلق على المقيّد في كفّارة القتل ، وبه قال الشافعي ، قياسا على القتل ، وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافر

__________________

(١) في بعض النسخ المخطوطة : « ككسوتهم » وهو تحريف.

١٢٢

وهو باطل لأنّه خبيث لا يتقرّب بمثله كما تقدّم.

٨ ـ يشترط في الصيام التتابع ، وبه قال أبو حنيفة ، وبذلك قرأ ابن مسعود « ثلاثة أيّام متتابعات » ولأنّه أحوط وتحصيل البراءة معه يقينا وقال مالك : هو مخيّر إن شاء تابع ، وإن شاء فرّق ، وللشافعيّ القولان ، واختيار أصحابنا وإجماعهم على الأوّل.

٤ ـ قوله « ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » أي إذا حلفتم وحنثتم :

وهنا أحكام :

١ ـ أنّ الكفّارة مختصّة بالحنث في المستقبل ، ولا يجب في الغموس (١) صادقا كان أو كاذبا ، عامدا كان أو ناسيا.

وبه قال مالك ، وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد ، وقال قوم : إن كان كاذبا عالما لزمته الكفّارة قولا واحدا وإن كان ناسيا فقولان ، وهو مذهب الشافعيّ.

دليلنا : أخبار أهل البيت عليهم‌السلام وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بما قلناه ٢ ـ لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث إذ لا يتقدّم المسبب على السبب وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعيّ : يجوز التقديم بالمال لا الصيام لأنّه بدل عنه.

٣ ـ إنّما تجب الكفّارة بالمخالفة ، عمدا اختيارا إجماعا ، ولا تجب بالمخالفة نسيانا عندنا ، وللشافعيّ قولان ، لنا عموم قوله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان (٢) » ولم يثبت المخصّص.

٥ ـ قوله « وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ » أي من الحنث ، وذلك إذا كان المحلوف عليه ، فعل واجب أو مندوب ، أو ترك محرّم أو مكروه أو مباح متساوي الطّرفين.

ويحتمل أن يكون المراد بحفظ اليمين عدم ابتذالها في كلّ أمر فإنّ كثرتها مكروهة ، ولذلك تقدّم « وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » وورد في بعض الأحاديث عن الصادق عليه‌السلام « لا تحلفوا بالله لا صادقين ولا كاذبين » (٣)

__________________

(١) يريد الحلف على الماضي بأن يقول : والله فعلت كذا وكذا ـ

(٢) السراج المنير ج ٢ ص ٣١٧.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٤٣٤ باب كراهية اليمين تحت الرقم ١.

١٢٣

قوله « كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ » أي ما تحتاجون إليه « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » نعمته على ذلك.

فائدة :

لو حلف لا يكلّمه حينا فهو ستّة أشهر لقوله تعالى « تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ) (١) » وعليه إجماع الإماميّة ، والزمان عندهم خمسة أشهر وقال أبو حنيفة : الحين والزّمان ستّة أشهر وقال الشافعيّ لا حدّ لهما. والحقب قال أصحابنا لا حدّ له ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك أربعون سنة ، وقال أبو حنيفة ثمانون لما روي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) (٢) » الحقب ثمانون عاما وروي أنّ الأحقاب الدّهور ، وقيل غير ذلك ، ولو نذر عتق كلّ عبد له قديم ، عنق من له في ملكة ستّة أشهر وهي رواية صحيحة عن الرّضا عليه‌السلام مستدلا بقوله تعالى : « ( حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (٣) ».

وهنا فرع :

وهو أنه هل يجري تفسير القديم في غير ذلك من الأحكام كالإقرار أم لا ، وسيجي‌ء توجيه الاحتمالين ، ولو نذر الصّدقة بمال كثير كان ثمانين ، وهي واقعة أمّ المتوكّل ، لمّا نذرت ذلك ، فجمع المتوكّل الفقهاء فكلّ قال قولا ثمّ إنّ المتوكل قال له بعض جلسائه وكان الرّجل إماميّا : هل عند الأسود في هذا علم؟ يعني الهادي عليه‌السلام ، وكان به ادمة.

فقال المتوكّل : ويحك من تعني؟ قال : ابن الرّضا عليه‌السلام ، فقال وهل يحسن من هذا شيئا فقال يا أمير المؤمنين إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا ، وإلّا فاضربني مائة مقرعة ، فقال رضيت ، ثمّ قال : يا جعفر بن محمّد (٤) امض إليه فاسأله

__________________

(١) إبراهيم : ٢٥.

(٢) النبإ : ٢٣.

(٣) يس : ٣٩.

(٤) في نسخة الكافي : يا جعفر بن محمود ،

١٢٤

فقال له في الجواب : الكثير ثمانون ، فقال يا مولاي إذا قال لي : من أين له ذلك؟ فما أقول؟ فقال قل له لقوله تعالى « ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) (١) » فعدّدنا تلك المواطن ، فكانت ثمانين.

وفي هذه فروع :

١ ـ قال الصدوق يتصدّق بثمانين ، ولم يعيّن درهما وقال الشيخان ثمانون درهما ، وفصّل ابن إدريس بأنّه إن كان في عرفهم المعاملة بالدراهم ، فثمانون درهما ، وإن كان بالدنانير فثمانون دينارا ، والتفصيل حسن ، لكن قول الشيخين أقوى لما تقرر في الأصول أنّه يحتمل المطلق على المقيّد وفي رواية الحضرميّ عن الصادق عليه‌السلام قيّد بالدّراهم (٢).

٢ ـ لو قال بكثير من الغنم أو البقر ، كان ثمانين أيضا ، وكذا لو قال صوم كثير ، أو غير ذلك من المقيّد بالكثرة.

٣ ـ هل يتعدى الكثير إلى الإقرار ، حتّى لو قال : « له عليّ مال كثير » كان ثمانين كما قلنا هنا أولا ، يحتمل ذلك للعلّة والاستعمال ، والأصل الحقيقة ويحتمل العدم لعدم التحديد لغة وعرفا ، ووروده في النذر لا يستلزم كونه حقيقة في المعيّن ، لأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، خصوصا مع وروده في صور كثيرة من غير تقدير بثمانين كقوله « و ( اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (٣) » و « ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (٤) » وبالأوّل قال الشيخان ، وبالثاني قال ابن إدريس والفاضلان.

__________________

(١) التوبة : ٢٥ ، والحديث في الكافي ج ٧ ص ٤٦٤ ، آخر كتاب الفروع.

(٢) ومثله رواية يوسف بن السخت كما في العياشي ج ٢ ص ٨٤.

(٣) الأحزاب : ٤١.

(٤) البقرة : ٢٤٩.

١٢٥

النوع الخامس عشر

العتق وتوابعه

وفيه آيات :

الاولى ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) (١).

إنعام الله هو توفيقه للإسلام ، وإنعام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو العتق له ، وتخليصه من ذلّ الرّقيّة ، والمشار إليه بذلك هو زيد بن حارثة ، وكان من قصّته أنّه أسر في بعض الغزوات في جملة أسارى فجاء قومه يستفكّون أسراهم من جملتهم أبو حارثة فطلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله افتكاكه بثمن ، وكان قد وقع في سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اذهب إليه فإن أرادك فهو لك بغير شي‌ء.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) أقول : هو زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى ، وأمه سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت من بنى معن من طيئ ، أصابه سبي في الجاهلية ، لأن أمه خرجت به تزور قومها بنى معن فأغارت عليهم خيل بنى القين ابن جسر ، فأخذوا زيدا فقدموا به سوق عكاظ وقيل سوق حباشة ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين.

وكان أبوه شراحيل قد وجد لفقده وجدا شديدا فقال فيه :

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل

أحي يرجى أم أتى دونه الأجل

إلى آخر أبيات ذكرها في أسد الغابة ج ٢ ص ٢٢٥ ، والإصابة ج ١ ص ٥٤٥ والاستيعاب بذيله ج ١ ص ٥٢٥.

ثم ان أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه ، فقال لهم أبلغوا عنى أهلي فانى اعلم أنهم جزعوا على ، فانطلقوا فأعلموا أباه ووصفوا موضعه ، وعند من هو ، فخرج حارثة وأخوه كعب ابنا شراحيل لفدائه ، فقدما مكة فدخلا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالا : يا ابن عبد المطلب يا ابن هشام يا بن سيد قومه : جئناك في ابننا عندك ، فامنن

١٢٦

فلمّا أتاه أبى متابعته ، وكره مفارقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعظم ذلك على أبيه فتبرأ منه ، فخبّر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوهبه وأعتقه وجعله ولدا له ، فكان يدعى زيد بن محمّد ، وسيأتي تمام الآية والبحث عنها ، والغرض هنا بيان مشروعيّة العتق ، وسمّاه الله أنعاما إذ العتق سبب لإيجاد العتيق لنفسه ففيه شبه إيجاد بعد العدم وذلك نعمة لا توازى.

واعلم أنّ العتق يحصل بأمور :

١ ـ مباشرة منجّزة بغير عوض ، وهو العتق بقول مطلق ، وله عبارتان التحرير بلا خلاف ، كقوله « أنت حرّ لوجه الله » والإعتاق على خلاف كقوله « أنت عتيق أو معتق لوجه الله » ولا بدّ فيه من اللّفظ والنيّة وقصد القربة ، لكونه عبادة عظيمة قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « من أعتق نسمة مؤمنة عتق الله العزيز الجبّار بكلّ عضو منها عضوا منه من النار (١) ».

٢ ـ مباشرة معلّقة على الموت بغير عوض ، وهو المسمّى في اصطلاح الفقهاء تدبيرا ، وليس في الكتاب ما فيه دلالة عليه بل هو مستفاد من السنّة الشريفة.

٣ ـ مباشرة بعوض منجّم وهذا هو المسمّى كتابة وسيأتي بحثها.

__________________

علينا وأحسن إلينا في فدائه ، فقال : من هو؟ قالوا : زيد بن حارثة ، فقال رسول الله : فهلا غير ذلك ، قالوا : ما هو؟. قال : ادعوه وخيروه فان اختاركم فهو لكم ، وان اختارني فو الله ما أنا بالذي اختار على من اختارني أحدا ، قالا : قد زدتنا في النصف وأحسنت فدعاه رسول الله فقال : هل تعرف هؤلاء؟. قال : نعم هذا ابى وهذا عمى قال فأنا من قد عرفت ورأيت صحبتي لك فاخترنى أو اخترهما.

فلما اختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحزن لذلك أبوه وعمه ، أخرجه رسول الله الى الحجر فقال : يا من حضر ، اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وإرثه ، فطابت نفس أبيه وعمه فانصرفا ، فدعى زيد بن محمد ، حتى جاء الله بالإسلام.

(١) الكافي ج ٦ ص ١٨٠ باب ثواب العتق الرقم ٢ و ٣ وأخرجه في مشكاة المصابيح ص ٢٩٢ وقال : متفق عليه.

١٢٧

٤ ـ ملك الرّجل أحد العمودين ، أو أحد المحرّمات عليه نسبا بغير خلاف ورضاعا على خلاف ، والحقّ فيه العتق ، وملك المرأة أحد العمودين خاصّة.

واستدلّ بعضهم على هذا الحكم من الكتاب بقوله تعالى ( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (١).

ووجه الاستدلال به أنّه جعل بين البنوّة والعبوديّة منافاة لأنه نفى البنوّة وأثبت العبوديّة فلا يجتمعان وإلّا لكان المثبت عين المنفيّ ، وفيه نظر لأنّ المنافاة بينهما من خواصّه تعالى ، وذلك لأنّ الابن من نوع الأب ، فلو كان له ولد لكان من نوعه ولا شكّ أنّ الحقيقة الواجبة تنافي صفة الاحتياج الّتي هي لازمة للعبوديّة فالتنافي بين العبوديّة وبين البنوّة لتنافي لازميهما ، وذلك غير متحقّق إلّا في الواجب سبحانه ، فلا يكون الاستدلال تامّا في المطلوب.

وأمّا المحرّمات فاستدلّ بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (٢) ووجه الاستدلال أنّها تضمنت إباحة وطي ملك اليمين فلو ملكن لأبيح وطئهنّ ، واللّازم كالملزوم في البطلان ، وبيان الملازمة بأنّ « ما » من أدوات العموم وفيه أيضا نظر لأنّا نمنع أنّ كلّ مملوكة يصحّ وطيها فإنّه لو وطئ إحدى الأختين حرمت الثانية ، وكذا لو لاط بأخ مملوكته أو ابنها أو أبيها حرم وطؤها مع كونها مملوكة ، وكذا لو ملك موطوءة أبيه أو ابنه ولو استدلّ على ذلك بالسنّة الشريفة كان أليق.

٥ ـ مباشرة عتق نصيبه من المشترك يوجب عتق الباقي عليه ، ويلزمه القيمة مع يساره بها فاضلا عن قوت يومه ، ودست ثوبه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « من أعتق شركا له من عبد وله مال قوّم عليه (٣) » وكذا لو أعتق بعض عبده سرى عليه بطريق الأولى ولأنّ رجلا أعتق بعض غلامه فقال عليّ عليه‌السلام « هو حرّ ليس لله شريك (٤) ».

__________________

(١) مريم : ٩١ ـ ٩٣.

(٢) المؤمنون : ٦.

(٣) راجع سنن ابن داود ج ٢ ص ٣٤٨ ، مستدرك الوسائل ج ٣ ص ٤٠.

(٤) راجع سنن ابن داود ج ٢ ص ٣٤٨ ، مستدرك الوسائل ج ٣ ص ٤٠.

١٢٨

٦ ـ لو نكّل بعبده عتق عليه.

٧ ـ إذا عمي العبد أو أقعد أو أجذم عتق عليه.

٨ ـ إذا أسلم العبد وخرج إلى دار الإسلام عتق على سيّده.

٩ ـ إذا استولد أمة كان ذلك موجبا لعتقها بعد موته على ولدها من نصيبه وقال العامّة أنّه لا يجوز بيعها ولا التصرف في رقبتها بوجه ، وتعتق عليه عتقا مشروطا بوفاته والحق مذهب أصحابنا لأصالة بقاء الملك على حاله ولأنّه يجوز عنقها ، فلو لم تكن ملكا لم يصحّ ، نعم على مذهبنا لا يجوز نقلها (١) ما دام ولدها حيّا إلّا في مواضع :

الأوّل : ثمن رقبتها مع الإعسار به ، الثّاني أن يفلس مولاها قبل علوقها الثّالث أن تكون مرهونة ولحق الاستيلاد ، الرّابع أن تجني جناية تستغرق قيمتها الخامس أن تسلم في يد سيّدها الكافر ، السّادس أن يموت قريبها ولا وارث سواها السّابع أن يعجز المولى عن نفقتها ، الثّامن موت سيّدها مع استغراق الدّين لتركته التاسع بيعها على من تنعتق عليه ، العاشر بيعها بشرط العتق على الأقرب.

الثانية ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ) (٢).

نقل أنّ حويطب بن عبد العزّى كان له عبد يسمّى صبيحا سأله أن يكاتبه فأبى فنزلت (٣).

قوله « يبتغون » أي يطلبون و « الكتاب » بمعنى المكاتبة ، وهي مشتقّة من الكتب ، وهو الجمع كأنه قد جمع عليه نجوما وفي الآية أحكام :

١ ـ الأمر بها وفيه بيان لمشروعيّتها ، وهي مستحبّة مع الأمانة والكسب

__________________

(١) بيعها ، خ.

(٢) النور : ٣٣.

(٣) راجع الدر المنثور ج ٥ ص ٤٥.

١٢٩

فإن سألها العبد تأكّد الاستحباب ، ولو لم يكن العبد أمينا ولا كسوبا فهي مباحة ، وقال أحمد تكون مكروهة حينئذ وليس بشي‌ء.

٢ ـ الأمر في الآية للندب لأصالة عدم الوجوب ، سواء سأل الكتابة بقيمته أو بأزيد أو بأنقص ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ ، وقال بعض أهل الظاهر : إن سألها بقيمته أو أكثر وجب إجابته ، وليس بشي‌ء لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الناس مسلّطون على أموالهم (١) ».

٣ ـ الكتابة معاملة مستقلّة ليست بيعا للعبد من نفسه ، لانتفاء لوازم البيع المتقدّمة والمتأخّرة ، ولا عتقا بصفة إذا العتق غير قابل للتعليق حال الحياة.

٤ ـ عبارة الكتابة أن يقول السيد « كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا في وقت كذا فإذا أدّيت فأنت حرّ » فيقبل العبد ، فان اقتصر في العقد على ذلك ، فهي مطلقة ، وإن قال « فان عجزت فأنت رقّ » فهي مشروطة ، وحكم الاولى أنه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي ، وحكم الثانية أنه رق ما بقي عليه شي‌ء ، وهي بنوعيها لازمة وبه قال مالك وأبو حنيفة ، لكن مالك لا يجبر العاجز على التكسّب وأبو حنيفة يجبره ، وقيل المشروطة جائزة من الطرفين وقيل بل جائزة من طرف العبد خاصّة وبه قال الشافعيّ ، والأصح الأوّل « لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) ».

٥ ـ قد بيّنا في العبارة أنّه يقول « فإذا أدّيت فأنت حرّ » قال أبو حنيفة ذلك ليس بشرط لا نية ولا لفظا ، وقال أصحابنا : لا بدّ مع ذلك من نيّة ، وبه قال الشافعيّ وأما اللّفظ ، فقال بعض أصحابنا والشافعيّ باشتراطه أيضا ، فلو عدما أو أحدهما ، لم ينعتق ، ولا شكّ أنّ ذلك أحوط.

٦ ـ في قوله « وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ » إشارة إلى اشتراط بلوغ العبد وعقله ، إذ الصبي والمجنون لا قصد لهما معتبر ، وكذا يشترط جواز تصرّفه.

__________________

(١) راجع ص ٤٣ من هذا المجلد.

(٢) المائدة : ١.

١٣٠

وهل يشترط في المال التأجيل؟ قيل : لا ، فيجوز حالا ، وفيه نظر لجهالة وقت الحصول ، ولعدم ملك العبد حالة العقد ، إذ ما بيده لمولاه ، وتجويز حصول الزكاة والهبة تعليق للواجب بالجائز ، وقيل نعم ، وبالأوّل قال أبو حنيفة ومالك وبعض أصحابنا ، وبالثاني قال الشافعيّ وأكثر الأصحاب ، وهو أولى ، نعم شرط الشافعيّ تعدّد الأجل ، وليس بشي‌ء بل يكفي واحد لحصول الغرض به.

٧ ـ الخير ورد بمعنيين الأوّل ما يرجع إلى الأمور الدينيّة كقوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ) (١) وأمثاله والثاني ما يرجع إلى الأمور الدّنيويّة كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (٢) وقوله ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (٣) واختلف في المراد هنا ، فقال الشيخ : هما معا ، بناء على حمل المشترك على كلا معنييه ، وبه قال الشافعي ومالك ، وقال ابن عبّاس هو الأوّل فقط أعني الأمانة ، وقال الحسن البصريّ والثوريّ هو الثاني أعني الاكتساب فقط.

ويتفرّع عليه صحّة كتابة العبد الكافر ، فعلى الأوّلين لا يصح ، وعلى الثّاني يصح ، والأوّل أقوى ، إذ الكافر لا خير فيه ، ولأنّ فيه تسليطا للكافر على المسلمين ، ولأنّه يعطى من الزكاة ، والكافر لا يعطى منها ، ولا يرد المؤلّف قلبه إذ إعطاؤه لغرض التقوي به على الجهاد.

فرع : المراد بالعلم ههنا الظنّ المتاخم للعلم.

٨ ـ قال المفسّرون في قوله « وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ » إنّ المراد ضعوا عنهم شيئا من نجومهم ، فقيل الربع وقيل ليس بمقدّر ، وقال الفقهاء : السيّد إن وجب عليه الزكاة ، وجب عليه إعانة مكاتبه منها ، لقوله « مِنْ مالِ اللهِ » أي من الزكاة كما تقدّم في قوله « وَفِي الرِّقابِ » وإن لم يجب عليه استحبّ إعانته من مال نفسه ، وهذا قول أكثر أصحابنا.

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) القارعة : ٨.

(٣) البقرة : ١٨٠.

١٣١

وقال بعضهم يجب الإيتاء مطلقا ، وبه قال الشافعيّ وقيل يستحب مطلقا ، وبه قال أبو حنيفة ، ولبعض متأخّري الأصحاب تفصيل لا وجه له وهو : وجوب إيتاء من يموت مكاتبا مطلقا عاجزا وكون المؤتي يجب عليه الزكاة ، وإن كان غير سيّده ، وبه قال بعض المفسّرين ومثار (١) هذه الأقوال من أصلين هنا :

الأوّل : هل الأمر للوجوب أو الاستحباب ، قيل بالأوّل لأنّه حقيقة فيه كما تقرّر في الأصول وبه قال الأكثر ، وقيل بالثّاني لأصالة البراءة ، ولأنّ أصل الكتابة ليس بواجب ، فلا يجب تابعه.

الثاني : هل المراد بمال الله هو الزكاة لأنّه المتبادر إلى الفهم؟ أو المال مطلقا لأنّ الله هو المالك لجميع الأشياء ، ونحن المنتفعون خاصّة ، قيل بالأوّل وقيل بالثاني.

إذا عرفت هذا فنقول : من قال بوجوب الإعانة مطلقا ، قال إنّ الأمر هنا للوجوب ، وإنّ المال ليس هو الزكاة ، ومن قال بالاستصحاب مطلقا ، قال إنّ الأمر للندب ، والمال ليس هو الزكاة ، ومن قال بأنّ المال هو الزكاة والأمر للوجوب ، فذلك ظاهر ، ومن قال إنّ المال هو الزكاة والأمر للندب جعل تخصيص مكاتبه أولى ، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته

والحق ما ذكرناه أوّلا لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فيكون مشروطا بوجوب حصول مال ، وهو الزكاة ، لأنّ شرط الواجب واجب ، وأمّا إذا لم يجب الزكاة بوجه استحبّ الإيتاء ، لأنّه تعاون على البرّ والتقوى ، فيدخل تحت قوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (٢) » ولأنّه فكّ رقبة ، فيدخل تحت قوله « ( فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) (٣) ».

فروع

١ ـ لا يتقدر ما يعطيه السيّد قلّة وكثرة لإطلاق اللّفظ.

__________________

(١) في بعض النسخ : منشأ.

(٢) المائدة : ٢.

(٣) البلد : ١٤.

١٣٢

٢ ـ لا يتعيّن زمانه ، نعم يتضيّق إذا بقي على العبد ما يسمّى مالا.

٣ ـ لو أخلّ بالإيتاء حتّى انعتق بالأداء ، هل يجب القضاء ، الحقّ نعم ، لأنّه واجب أخلّ به في وقته ، فيجب قضاؤه ، ولو انعتق بغير الأداء لم يجب.

٤ ـ يجب على المكاتب القبول إذا كان من عين مال الكتابة أو مثله ، وإن كان من غير جنسه فخلاف ، والحقّ أنّه كذلك.

٥ ـ لو دفع إلى مكاتبه المشروط شيئا من الزكاة الواجبة عليه ، ثمّ عجز فردّه رقّا ، وجب على السيد ردّ المال ، وصرفه إلى المستحقّين ، ولو كان من زكاة غيره ردّه على مالكه ليصرفه في مستحقّيه ، ولو كان من المندوبة من السيّد ، فله وكذا إن كان من غيره.

فائدة إعرابيّة هنا ، قوله « الَّذِي آتاكُمْ » يحتمل أن يكون صفة للمضاف أعني « مال الله » وأن يكون صفة للمضاف إليه فعلى الأوّل يكون المفعول الثاني لآتاكم ضمير محذوفا أي آتاكموه ، ويجوز حذف ضمير جملة الصلة إذا كان مفعولا وهذا الوجه أظهر في الاعراب ، وعلى الثاني يكون مفعوله نكرة عامّة أي آتاكم كلّ شي‌ء.

كتاب النكاح

وفيه مقدّمة وأبحاث.

أما المقدمة : فقال المعاصر : النكاح لغة الالتقاء ، وهو سهو إذ لم يذكر ذلك أحد من أهل اللّغة ، بل الالتقاء التناوح لا التناكح ، والحق أنّ النكاح لغة هو الوطي ويقال على العقد فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الوطي ، مجاز في العقد ، وهو أولى إذ المجاز خير من الاشتراك عند الأكثر.

وشرعا عقد لفظيّ مملّك للوطي ابتداء ، وهو من المجاز تسمية للسبب باسم المسبّب ، وفيه فضل كثير قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنّي أباهي بكم

١٣٣

الأمم يوم القيامة ولو بالسقط (١) » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « شرار موتاكم العزّاب (٢) » وغير ذلك من الأحاديث وهل هو أفضل من التخلّي للعبادة أم العكس ، ولا قائل بالمساواة والحقّ الأوّل لقول الصادق عليه‌السلام « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما استفاد امرء فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (٣) » وغير ذلك ولأنّه أصل للعبادة ، وسبب لها مع كونه عبادة ولاشتماله على بقاء النوع مع العبادة ، بخلاف باقي المندوبات.

وأمّا الأبحاث فتتنوّع أنواعا.

النوع الأول

في شرعيته وأقسامه وغير ذلك

وفيه آيات :

الاولى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (٤).

« الأيامى » مثل اليتامى في كونهما من المقلوبات جمع أيّم ويتيم وأصلهما أيايم ويتايم والأيّم الّتي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيّبا وكذلك الرّجل قال الشّاعر :

__________________

(١) أخرجه في الجامع الصغير تحت الرقم ٢٣٦٦ كما في ص ٢٦٩ ج ٣ من فيض القدير نقلا عن عبد الرزاق في الجامع عن سعيد بن ابى هلال مرسلا.

(٢) راجع الكافي ج ٥ ص ٣٢٩.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٧ ٣٢٧.

(٤) النور : ٣٢.

١٣٤

فان تنكحي أنكح وإن تتأيّمي

وإن كنت أفتى منكم أتأيّم (١)

وقال جميل :

أحب الأيامى إذ بثينة أيّم

وأحببت لمّا أن غنيت الغوانيا (٢)

والخطاب للأولياء والسّادات بأن يزوّجوا من لا زوج له من الحرائر والإماء ، والأحرار والعبيد ، وأتى بجمع المذكّر في الصالحين تغليبا فانّ المراد الذكور والإناث وقيّد الصلاح لأنه يحصن دينهم وقيل لأنّه حينئذ يشفق عليهم ساداتهم ، وقيل : المراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح.

وفي الكلّ نظر فإنّ الأوّلين لا يوجبان التخصيص ، والثالث خلاف الظاهر والأولى أنّه ترغيب في الصّلاح ، لأنّهم إذا علموا ذلك ، رغبوا في الصلاح ، أو من باب تسمية الشي‌ء باسم ما يؤول إليه ، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.

( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ) قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة ، أي قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم الله من فضله لا كلّما كانوا فقراء يغنهم الله ، فلا يرد ما يقال : فلان كان غنيّا أفقره النكاح. ويؤيّده قوله ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (٣) إلخ

__________________

(١) أنشده الطبري في ج ١٨ ص ١٢٥ ومجاز القرآن لأبي عبيدة ج ٢ ص ٦٥ وتفسير الرازي الطبعة الأخيرة ج ٢٣ ص ٢١٠ والكشاف ج ٢ ص ٣٨٦.

وقال المحب الأفندي في شرح شواهده : قوله : وان كنت أفتى منكم ، اعتراض يخاطب محبوبته ، ويقول لها : أوافقك على حالتي التزويج والتأيم وضبط الشعر الثاني في اللسان لغة « ا ى م » ومجمع البيان ج ٧ ص ١٣٩ هكذا : يد الدهر ما لم تنحكى أتأيم.

(٢) البيت لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، وقد مر الإشارة إلى ترجمته ص ١١٥ فيما سبق ، وأنشده الطبري في ج ١٨ ص ١٢٥ ، ومجمع البيان ج ٧ ص ١٣٩ واللسان والصحاح في « غ ن ى » وقال في الصحاح الغانية : الجارية التي غنيت بالزوج.

(٣) النور : ٣٣.

١٣٥

إذا تقرر هذا فهنا أحكام :

١ ـ قيل : الأمر هنا للوجوب ، ولذلك قال داود بوجوب النكاح للقادر على طول حرّة ، ومن لم يقدر فلينكح أمة ، وكذلك المرأة يجب عليها أن تتزوّج عنده وقيل على الكفاية ، وهما ضعيفان لأصالة البراءة ، ولإجماع أكثر الفقهاء على خلافه ولأنّه لو وجب لما خيّر بينه وبين ملك اليمين في قوله ( فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (١) واللازم باطل فكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بأنّه لا تخيير بين الواجب والمباح ولا شكّ في إباحة ملك اليمين ، وأنه ليس بواجب عند داود ، ولا يقوم مقام النكاح الواجب عنده ، نعم النكاح قد يجب إذا خشي الوقوع في الزنا كما سيجي‌ء.

٢ ـ النّكاح مستحبّ لمن تاقت نفسه إجماعا ، ومن لم يتق ، قال أكثر الفقهاء باستحبابه أيضا لعموم الآية ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « تناكحوا تكثروا » وقال الشيخ تركه لهذا مستحبّ لقوله تعالى ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (٢) مدحه على الترك فيكون راجحا وفيه نظر لاحتمال اختصاصه بشرع غيرنا (٣) وقال بعض فقهائنا كلّما اجتمعت

__________________

(١) النساء : ٣

(٢) آل عمران : ٣٩.

(٣) قلت : وفيما أفاده نظر ، وقد أسلفنا لك في مبحث القرعة أن أحكام الشرائع السابقة تتبع ما لم يعلم نسخها ، واستشكل العلامة النائيني قدس‌سره في استصحاب أحكام الشرائع السابقة بما حاصله :

ان تبدل الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة ، ان كان بمعنى نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة بحيث لو كان حكم موافقا لما في الشريعة السابقة كان المجعول في اللاحقة مماثلا للمجعول في السابقة ، لا بقاء له ، فعدم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ واضح ، وان كان بمعنى تبدل بعضها فبقاء الحكم الذي كان في الشريعة السابقة وان كان محتملا الا انه يحتاج إلى الإمضاء في الشريعة اللاحقة ، ولا يمكن إثبات الإمضاء بالاستصحاب الا على القول بالأصل المثبت.

قلت : نفس أدلة الاستصحاب كافية في إثبات الإمضاء ، وليس من الأصل المثبت فإن الأصل المثبت انما هو فيما إذا وقع التعبد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب ، وفي

١٣٦

القدرة على النّكاح والشهوة له استحبّ للرّجل والمرأة ، وكلّما فقدا معا كره وإن افترقا بأن كان قادرا غير تائق أو تائقا غير قادر ، لا يكره ولا يستحب ، وفيه نظر لعموم الأمر في الآية والحديث ، ولما صحّ عنه « من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي ومن سنّتي النكاح (١) ».

٣ ـ أنّ استحباب النكاح والإنكاح شامل للرّجل والمرأة ، الغنيّ والفقير التائق وغيره ، وقيل : بل المراد إن كانوا فقراء إلى النكاح والظاهر يدفعه.

٤ ـ في الآية دلالة على أنّ المهر والنفقة ، ليس بشرط في النكاح ، وهو ظاهر ولذلك لا يجوز لها الفسخ مع عجزه ، نعم القدرة المذكورة شرط في وجوب الإجابة للكفو.

__________________

المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الإمضاء ولو تنزلنا فنقول يستدل بانسحاب أحكام الشرائع السابقة بخصوص ما ورد من الأئمة من الاستدلال لحكم بما ورد في القرآن من ثبوته في الشرائع السابقة انظر البرهان ح ٢ و ٣ تفسير الآية ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ ) وح ٤ و ٥ و ٦ من تفسير الآية ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) وح ١٠ تفسير الآية ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ) وغيرها من الأحاديث التي استدل الامام بحكم ثبت في القرآن في الشريعة السابقة.

واستدل الجزائري أيضا في « قلائد الدرر » ج ٢ ص ٢٩١ بقوله تعالى ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) فالأدلة المذكورة إمضاء لبقاء حكم ما لم نعلم نسخه ، فإن أبيت عن تسمية ذلك استصحابا وقلت ان الأدلة المذكورة تجعلها ممضاة من الشارع ، فلا يكون هناك شك حتى يكون مورد الاستصحاب ، قلنا سمه ما شئت والمقصود انسحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة في هذه الشريعة ما لم يعلم نسخه.

فالأقوى في جواب الشيخ ان يقال : ما يستفاد من الآية حسن ذلك ، لا على ارجحيته من المباشرة لمصالح أخر فإن مدح زيد مثلا بكونه صائم النهار قائم الليل ، لا يدل رجحانهما على الإفطار وترك التهجد للاشتغال بما هو أهم.

(١) رواه في المستدرك ج ٢ ص ٥٣٠ ، بهذا اللفظ ، وفي الكافي ج ٥ ص ٣٢٩ : من أحب ان يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج.

١٣٧

٥ ـ فيه إشارة إلى أنّ العبد والأمة لا يستبدّان بالنكاح ، وإلّا لما أمر الوليّ بانكاحهما وأنّ للمولى ولاية الإجبار.

٦ ـ فيه إشعار بأنّ الفقر ليس مانعا من الرّغبة في النكاح خوف العيلة ، فإنّ خزائن فضله تعالى لا تنقص ولا تغيض ، ولذلك عقّبه بقوله ( وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) تعليلا للأغنياء بسعة قدرته عليه وعلمه بما يصلح عباده.

الثانية ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (١).

أي إن كان الفقير يخاف زيادة الفقر بالنكاح ، فليجتهد في قمع الشهوة ، وطلب العفّة بالرياضة لتسكين شهوته ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « يا معشر الشبّان من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء (٢) ».

قوله « لا يَجِدُونَ نِكاحاً » أي أسبابه إذ المراد بالنكاح ما ينكح به ، أو المراد بالوجدان التمكّن منه ، فعلى الأوّل « نكاحا » منصوب على المفعوليّة ، وعلى الثاني بنزع الخافض ، أي من النكاح حتّى يغنيهم الله من فضله فإنّ الأمور مرتهنة بأوقاتها.

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) أخرجه بهذا اللفظ في المستدرك ج ١ ص ٥٩١ عن لب اللباب لقطب الراوندي ورواه في مشكاة المصابيح ص ٢٦٧ ولفظه : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ثم قال : متفق عليه.

أقول : تراه في صحيح البخاري ج ١ ص ٣٢٦ كتاب الصوم وهكذا ج ٣ ص ٢٣٨ كتاب النكاح ، وفي سنن ابى داود ج ١ ص ٤٧٢ تحت الرقم ٢٠٤٦ ورواه أحمد في المسند مطولا ومختصرا تحت الرقم ٣٥٩٢ و ٤٠٢٣ و ٤١١٢ وأخرجه في اللؤلؤ والمرجان تحت الرقم ٨٨٦.

والشباب والشبان كلاهما جمع شاب ، والباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان وكنى به عن النكاح وما يستتبعه ، و « وجاء » اى قاطع لشهوته ، وأصله رض الأنثيين لتذهب شهوة الجماع

١٣٨

ولا يرد لزوم التناقض بين الكلامين ، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر وفي الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر لأنّا نقول إنّ الاولى وردت للنّهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره ، وترك تزويج المرأة لأجل فقرها ، والثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح ، حذرا من تعبه به حالة الزواج ، فلا تناقض حينئذ على أنا نقول إنّهما مهملتان فلا يتناقضان.

الثالثة ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُوا ) (١)

قسط يقسط قسوطا إذا جار وأقسط إذا عدل فهو مقسط ومنه « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » فكان الهمزة في أقسط للإزالة نحو أشكيته أي أزلت شكايته ، والمراد بما طاب لكم قيل ما وافق طباعكم من الحلال منهنّ ، وقيل : المراد ما حلّ. ولا شكّ أنّ الطيّب حقيقة فيما وافق الطبيعة ، ومجاز في الحلال.

فعلى الأوّل يلزم الإضمار ، وعلى الثّاني المجاز ، فقيل هما سواء ، وقيل الإضمار أولى وتحقيقه في الأصول ، وإنّما قال « ما » ولم يقل « من » لأنّ لفظة « ما » موضوعة لمعنى شي‌ء أعمّ من « من » فيصدق على ذوي العقل وغيرهم والأعداد المذكورة معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاث ثلاث ، وأربع أربع « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا » بين الأعداد المذكورة فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ولم يقل « من » لما تقدّم « ذلك » أي التخيير بين الواحدة وما ملكت أيمانكم أقرب أن لا تمونوا ولا تنفقوا ، يقال عال الرّجل عياله ، إذا مانهم وأنفق عليهم والمعنى

__________________

(١) النساء : ٣ ، وللسيد الرضى قدس‌سره في تفسير هذه الآية بيان متين دقيق في كتابه حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص ٢٩١ ـ ٣١٣ ، يحق لطالبي الحق المراجعة إليها.

١٣٩

أنّ اقتصاركم على الواحدة أو ملك اليمين مظنّة لقلّة إنفاقكم بسبب قلّة عيالكم ، وقيل : أن لا تجوروا ، من قولهم : عال الحاكم في حكمه ، إذا جار ، وهو مأخوذ من قولهم عال الميزان إذا مال ، فإنّ الجائر مائل عن الحقّ.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد يتبعها أحكام :

١ ـ قيل في سبب نزولها أقوال الأوّل أنّهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا فقيل لهم : إن تحرّجتم من ذنب فينبغي أن تحرّجوا من مثله ، لاشتراكهما في وجه القبح ، الثاني : أنّه لمّا نزل أنّ في أكل أموال اليتامى حوبا تحرّجوا من ولايتهم ، ولم يتحرّجوا من تكثير النّساء وإضاعة حقوقهنّ فقيل لهم ذلك ، تقليلا للنساء المستلزم لسهولة العدل بينهنّ ، الثالث : أنّ الرجل كان يجد يتيمة ذات جمال ومال ، فيتزوّجها ضنّا بها ، فيجتمع عنده منهنّ عدّة ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ ، فنزلت (١) أي إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فتزوّجوا غيرهنّ والكلّ محتمل.

٢ ـ الأمر هنا كالأمر في الآية المتقدّمة ، والبحث فيه كما تقدّم.

٣ ـ إذا فسّرنا الطيّب بما وافق الطبيعة ، فعموم الآية مخصوص بآية المحرّمات كما يجي‌ء.

٤ ـ قال الزّمخشري : إنّما أتى بصيغة المعدول دون الأصل لأنّ الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ، ليصيب الاذن لكلّ ناكح يريد الجمع ، لما شاء من العدد الّذي أطلق له ، كما تقول لجماعة أقسموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت كما تقول اثنين وثلاثة وأربعة ، فهم منه أن يجمع بين اثنين وثلاثة وأربعة ، لأنّ الواو للجمع ، ولم يفد التوزيع ، أي وجود كلّ عدد بدلا عن صاحبه.

والأولى أن نقول : لو قال كذلك لفهم منه ، أنّه إذا اختلّ العدد المقدور

__________________

(١) راجع الدر المنثور ج ٢ ص ١١٨ و ١١٩.

١٤٠