كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

وبه قال أكثر أهل العلم ، وقال مالك إنّ الوطي في الحيض لا يحلّل وإن أوجب العدّة وكلّ المهر.

ب ـ النكاح المعقود بشرط التحليل أي بشرط أن ينكحها ثمّ يطلّقها لتحلّ على الزّوج الأوّل قال الأكثر إنّه فاسد ، وجوّزه أبو حنيفة مع الكراهية ، وعنه أيضا إن أضمرا التحليل ولم يصرّحا به فلا كراهية.

٣ ـ قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) أي الزّوج الثّاني ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) أي على الزوجة والزّوج الأوّل ( أَنْ يَتَراجَعا ) أي بعقد جديد ومهر لأنّه نسبة إليهما فكان مشترطا برضاهما فيكون عقدا إذ الرّجعة لا يشترط فيها رضاها.

قوله ( إِنْ ظَنّا ) أي إن ترجّح عندهما بقرائن الأحوال وما يظهر من أخلاقهما أنّهما يقيمان حدود الله في حقوق الزوجيّة ، وذلك ليس بشرط في صحّة العقد لجواز الغفلة عن الطّرفين ، والظنّ هنا على حقيقته وهو الاعتقاد الراجح لا أنّه بمعنى العلم إذ العواقب غير معلومة إلّا لله. واعلم أنّه يستفاد من قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) اشتراط كون عقد المحلّل دائما لا منقطعا ولا بشبهة ، لعدم دخول الطلاق فيهما.

تتمة : هذا الحكم وهو التحريم في الثّالثة إلّا مع التحليل يختصّ بالحرّة أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان ، فيفتقر إلى المحلّل سواء كان زوجها حرّا أو عبدا ، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت عليهم‌السلام.

التاسعة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (١).

بلوغ الشي‌ء هو الوصول إليه ، وقد يقال للدّنوّ منه وهو على الاتّساع ، وهو المراد هنا ، والأجل يقال للمدّة كلّها ، ولمنتهاها وغايتها ، والمعنى حينئذ في

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٢٨١

الآية إذا قاربن انتهاء العدّة لأنّ بعد انتهائها لا إمساك ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ) أي أرجعوهنّ إلى النّكاح ( أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ) أي أبقوهنّ على حكم العدّة ، ويكون الأمران بالمعروف : أي على وجه لا ضرر فيه ، ولا مخالفة لأوامر الله ، وهذا الحكم قد تقدّم لكنّه أعاده للاهتمام به.

قوله ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ) أي لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ كالتقصير في النفقة أو المسكن أو لتطويل المدّة في حبالكم ، ويكون ذلك مكروها لها. قوله ( لِتَعْتَدُوا ) أي لتظلموهنّ بالتطويل عندكم أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمهر ، واللّام متعلّقة بالضرار إذ المراد تقييده ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) أي الإمساك للضرار ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) بإيقاعها في الإثم واستحقاق العقاب.

العاشرة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١).

البلوغ هنا هو الوصول إلى الشي‌ء تامّا ، والأجل هو المدّة كلّها ، فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، والعضل بالضاد المعجمة الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضها فلم تخرج ، قيل نزلت هذه في الأولياء لما روي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه لها فنزلت ، وقال السدىّ نزلت في جابر بن عبد الله عضل بنت عمّة له ، واستدلّ الشافعيّة بذلك على ثبوت الولاية على المرأة ، وأنّها لا تزوّج نفسها إذ لو تمكّنت لم يكن لعضل الوليّ معنى وارتضاه المعاصر وقال الراوندي إنّ الخطاب للأزواج لقوله ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) ولأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة ، ولإسناد النكاح إليها في قوله ( أَنْ يَنْكِحْنَ ) فعلى هذا يكون المعنى ولا تعضلوهنّ بأن تراجعوهنّ عند قرب انقضاء

__________________

(١) البقرة : ٢٣٢.

٢٨٢

الأجل لا للرغبة فيهنّ بل للإضرار ومنعهنّ من التزويج هذا آخر كلامه.

وفيه نظر من وجوه الأوّل أنّ هذا المعنى على قوله قد تقدّم ، فيكون إعادته تأكيدا والتأسيس أولى ، الثّاني أنّ بلوغ الشي‌ء هو إدراكه بتمامه والأجل حقيقة في المدّة فحمل البلوغ على المقاربة عدول عن الظاهر من غير ضرورة ، ولا يرد حملنا البلوغ في السابقة على المقاربة لأنّ ذلك لدليل وهو الأمر بالإمساك ، الثالث أنّ النكاح في العدّة باطل والخطبة فيها حرام ، وعلى قوله يلزم وقوع النكاح أو الخطبة في العدّة ، فلا يجوز توجّه النهي إلى المنع من الحرام والباطل [ و] لأنّ العضل على ما ذكر يستلزم إضمار المراجعة [ في العدّة ] والأصل عدمه ، ولا ضرورة إليه.

فإذن الأولى أن يكون الخطاب للمطلّقين ، ويكون العضل للنساء لا بالمراجعة في العدّة بل تعدّيا وظلما ويكون ذلك بعد انقضاء العدّة وتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشي‌ء بما يؤل إليه على جهة المجاز.

ثمّ قال الراونديّ : ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهنّ وبين التزويج دون ما يتعلّق بالولاية لأنّ العضل هو الحبس والمنع والضيق وهذا الوجه حقّ.

قلت : ولا يكون الخطاب حينئذ للأولياء ولا للأزواج ، لإطلاق كلامه لكن ما قلناه لقوله ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) أولى.

قوله ( ذلِكَ ) أي الخطاب المذكور يوعظ به المؤمنون لأنّهم هم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) وقوله ( ذلِكُمْ ) أي عملكم بمقتضى ما ذكر ( أَزْكى لَكُمْ ) أي أنفع ( وَأَطْهَرُ ) لنفوسكم من دنس الآثام.

٢٨٣

القسم الثاني

( الخلع والمباراة )

وفيه آية واحدة :

وهي قوله ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (١).

الخطاب للأزواج جملة ثمّ ثنّاه بالنسبة إلى كلّ زوجين ، والمراد بما آتيتموهنّ المهور ، والضمير في ( فَإِنْ خِفْتُمْ ) للحكّام لأنّهم الآمرون بذلك ، روي أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبّها فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت يا رسول الله لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شي‌ء [ واحد ] والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكنّني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها فنزلت الآية ، وكان قد أصدقها حديقة فقال ثابت يا رسول الله مرها فلتردّ عليّ الحديقة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ما تقولين؟ قالت نعم وأزيده قال لا حديقته فقطّ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ، فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام.

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ دلّت الآية الكريمة على عدم جواز أخذ شي‌ء ممّا أمهر به النساء إلّا في

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٢٨٤

صورة الافتداء ، وهو أن تكره المرأة الرجل ، فتبذل له صداقها أو غيره أو الصداق مع غيره ليخلعها ويطلّقها بذلك فيجيب الزّوج على الفور إلى مطلوبها ويسمّى خلعا أيضا لأنّ المرأة كاللّباس لقوله ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) (١) فمفارقتها كخلع اللّباس.

٢ ـ إذا كانت الكراهة من الزوجة يسمّى خلعا وإن كانت منهما معا يسمّى مباراة ويختلف حكمهما بوجوه :

الأوّل : ما ذكر من اختصاص الكراهية بالزوجة في الخلع كما دلّ عليه حديث ثابت بن قيس والمبارأة الكراهة منهما كما دلّ عليه ظاهر الآية.

الثّاني : أنّ المبارأة لا بدّ فيها من الاتباع بلفظ الطلاق ، وأمّا الخلع ففيه خلاف أجود القولين الاتباع احتياطا.

الثالث : لا يجوز في المبارأة أخذ الزائد عمّا دفع ، بخلاف الخلع فإنّ أكثر الفقهاء على جواز الزائد فيه وكرّهه أبو حنيفة وابن المسيّب قال لا يجوز إلّا البعض لا الكلّ ولا الزائد وكأنّه نظر إلى قوله ( مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ ) ومن هنا يحتمل التبعيض وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث ثابت « لا حديقته فقط » لا يمنع الزائد لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.

٣ ـ الطلاق يقع بالفدية ويفيد فائدة الخلع والمبارأة وحكمه حكمهما في أخذ الزائد وعدمه.

٤ ـ يشترط فيهما شرائط الطلاق كلّها من غير فرق.

٥ ـ قيل يجب الخلع إذا قال لأدخلنّ عليك من تكرهه أو لأوطئنّ فراشك من تكرهه والحقّ عدمه ، بل يستحبّ ذلك استحبابا مؤكّدا لمكان الحميّة والنخوة وقبح الصّبر على المعاشرة مع ذلك الخطاب.

٦ ـ الفرقة في هذا الباب فرقة بينونة لا يصحّ للزّوج الرّجوع بعدها إلّا أن ترجع الزّوجة في البذل والعدّة باقية ، فللزوج حينئذ أن يرجع.

__________________

(١) النساء : ١٩.

٢٨٥

٧ ـ يرد على قوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) سؤال وهو أنّ المرأة تعطي ما هو لها فأيّ جناح عليها في ذلك حتّى ينفى ، وأجيب بوجوه :

الأوّل جواب الراونديّ وهو أنّه لو خصّ الرّجل بالذكر لأوهم أنّها عاصية وأن كانت الفدية له جائزة ، فبيّن الاذن لهما لئلّا يوهم أنه كالربا المحرّم على الآخذ والمعطي.

الثاني : جواب الفرّاء أنّه كقوله تعالى ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (١) والإخراج إنّما هو من الملح دون العذب فجاز للاتّساع.

الثالث ما قاله الراونديّ أيضا الّذي يليق بمذهبنا أنّ المبيح للخلع هو ما لولاه ، لكانت المرأة به عاصية ، فهما مشتركان في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما نفى عن الزّوج فيه الإثم فاشتركت فيه لأنّها إذا أعطت ما يطرح الإثم احتاجت هي إلى مثل ذلك أي أنّها نفت عن نفسها الإثم بأن افتدت لأنّها لو أقامت على النشوز والإضرار لأثمت ، وكان عليها جناح في النشوز فخرجت عنه بالافتداء.

الرّابع ما خطر لهذا الضعيف وهو أنّه لمّا كان النكاح مرغّبا فيه ومندوبا إليه ، بل ربّما آل إلى الوجوب فالساعي في رفعه على حدّ الخطيئة والجناح فالمرأة لمّا بذلت الفدية ورغّبته في فراقها فقد شاركته في إزالة ذلك الفعل المرغّب فيه المندوب إليه ، بل ربّما ألجأته إلى ذلك بإظهار كراهيتها له فنفى عنها الجناح لموضع الافتداء.

٨ ـ لا يحلّ للزّوج أخذ الفدية لو كان هو سببا لكراهتها له ، بأن يكرهها بالتقصير في حقوقها ليحملها على كراهيتها له فتبذل الفدية ، واستفيد من قوله ( فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) أنّه لا يقع ذلك من المتبرّع وأنّه لا بدّ فيه من المعلوميّة لاقتضاء عقود المعاوضات العلم بالعوضين وأنّه يكون مملوكا لها أيضا لعدم جواز التصرّف في ملك الغير.

__________________

(١) الرحمن : ٢٢.

٢٨٦

ولنتبع هذا الباب بهذه الآية وهي

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (١).

اشتملت هذه الآية على أحكام ثلاثة :

١ ـ النهي عن إمساك الزّوجة مع عدم القيام بحقوقها على وجه المضارّة بها حتّى تموت فيرثها فعلى هذا يكون ( كَرْهاً ) منصوبا على الحال أي وهنّ كارهات لذلك ، والمصدر بمعنى الحال وقيل : كان الرّجل إذا مات وله قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة ألقى ثوبه عليها ، وقال أنا أحقّ بها من كلّ أحد فقيل ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) أي تأخذوهنّ على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهنّ كارهات لذلك ، على قراءة كرها بالفتح ، أو مكرهات على قراءة كرها بالضمّ فعلى الأوّل الموروث نفسها وعلى الثاني مالها (٢) وقيل الخطاب للأولياء والأقرباء ، لأنّهم كانوا يمنعون المرأة القريبة من التزويج ليكون مالها لهم من غير مشارك.

٢ ـ قوله ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) أي تحبسوهنّ عندكم لا لرغبة فيهنّ بل مضارّة لتفتدي نفسها منه بالمهر كلّه أو بعضه وظاهرها يدلّ على قول ابن المسيّب.

٣ ـ أنّها مع الإتيان بالفاحشة ، يجوز عضلها ، فقيل الفاحشة الزنا وقيل سوء العشرة ، وشكاسة الخلق ، وإيذاء الزّوج والأصحّ الأوّل فإذا ثبت ذلك فيها شرعا جاز حبسها ومضارّتها لتفتدي نفسها وقيل نسخ ذلك بوجوب الحدّ ، وبه قال قتادة.

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) بل بالعكس.

٢٨٧

القسم الثالث

( الظهار )

وهو تشبيه الرّجل زوجته المنكوحة دائما أو منقطعا على قول بظهر امّه أو إحدى المحرّمات نسبا أو رضاعا. واشتقاقه من الظهر ، وكان ذلك طلاقا في الجاهليّة فجاء الإسلام بتحريمه ، لكن مع ترتّب الأحكام عليه كما يجي‌ء ونزل فيه آيات أربع هي قوله في أوّل سورة المجادلة بكسر الدّال وفتحها :

( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (١)

روي أنّ خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوبة فلمّا علا سنّي ونثرت بطني أي كثر ولدي ، جعلني [ إليه ] كأمّه وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا

__________________

(١) المجادلة : ١ ـ ٤.

٢٨٨

وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « ما عندي في أمرك شي‌ء » وروي أنه قال لها « حرمت عليه » فقالت يا رسول الله ما ذكر طلاقا وإنّما هو أبو أولادي وأحبّ الناس إليّ فقال عليه‌السلام حرمت عليه فقالت فأشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، وكلّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « حرمت عليه » هتفت وشكت إلى الله فنزلت الآيات فطلبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخيّره بين الطلاق والإمساك فاختار إمساكها (١).

إذا عرفت هذا فهنا فوائد تتبعها أحكام :

١ ـ لمّا أتت المرأة في خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمقدّمات المشهورة [ المسلّمة ] الّتي ليست حجّة في نفس الأمر على الأحكام الشرعيّة سمّى كلامها مجادلة إذ القياس الجدليّ مركّب من المقدّمات المشهورة أو المسلّمة والتحاور التراجع في الكلام سؤالا وجوابا والإتيان بالجملة المضارعيّة أي ( وَاللهُ يَسْمَعُ ) بعد أن قال ( قَدْ سَمِعَ اللهُ ) كأنّه جواب لتوقّع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو المرأة سماع الله ذلك الخطاب ثمّ أكّد ذلك وعلّله بقوله ( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ) أي للأقوال ( بَصِيرٌ ) أي بالأحوال.

٢ ـ المظاهرة كما قلنا عبارة عن قول الرّجل لزوجته : « أنت عليّ كظهر أمّي » ويشترط فيه شروط الطلاق كلّها من الطهارة من الحيض ، وسماع العدلين وغير ذلك ، وهل يقع لو شبّهها بغير الظهر كالبطن والفخذ وغير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع وكذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه الأقرب عدم وقوعه أيضا اقتصارا على منطوق النصّ وجمودا في التحريم على ما اجمع عليه وقال الفقهاء إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ وقع.

٣ ـ في قوله ( ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ) إشارة إلى أنّه مع التشبيه المذكور لا تصير الزوجة امّا حقيقة وعلّله بقوله ( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ ) وقد يستفاد من هذا التعليل عدم الوقوع لو شبّهها بالأمّ من الرضاع ، لعدم التوليد والأصحّ عدمه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (٢) » نعم لو شبّهها بغير الامّ

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٩ ص ٣٤٦ ، الدر المنثور ج ٦ ص ١٨٠.

(٢) راجع ص ١٨٢ فيما سبق.

٢٨٩

من المحرّمات النسبيّة كالأخت وقع على الأصحّ ، وفاقا من أبي حنيفة والنخعيّ والحسن والأوزاعيّ لكن عندنا إن أتى بصيغة الظهر وقع وإلّا فلا ، خلافا للشافعيّ فإنّه قصّره على الامّ ، وبه قال قتادة والشعبيّ ولو شبّهها بمحرّمات المصاهرة مؤبّدا أو غيره لم يقع عندنا خلافا للحنفيّة.

٤ ـ الظهار المذكور حرام لوصفه بالمنكر ، نعم لا عقاب فيه لتعقّبه بذكر المغفرة والرّحمة ، فهو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة ، والزّور المحرّف من القول.

٥ ـ إذا حصل الظهار بشرائطه فإن صبرت المرأة فلا كلام ، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم طلبه وخيّره بين الطلاق والإمساك ، فإن اختار الطّلاق وطلّق وقع رجعيّا وإن اختار الإمساك أمره بالتكفير قبل العود ، فإذا كفّر ساغ له العود إليها وإن امتنع من الأمرين معا أنظره ثلاثة أشهر ثمّ طلبه وأمره بما أمر به أوّلا فإن أصرّ ضيّق عليه في المطعم والمشرب وحبسه حتّى يختار أحدهما ، ويجب كون الكفّارة قبل المسيس إجماعا ، وصريح الآية يدلّ عليه ، وأنّه يحرم الوطء قبلها فلو فعل وجب كفّارة أخرى عليه عندنا ، وعند القوم يستغفر الله لا غير ، وليس عليه سوى كفّارة الظهار.

٦ ـ الآية صريحة في كون الكفّارة مرتّبة ومن حقّ المرتّبة أن لا ينتقل إلى الثانية إلّا بعد العجز عن الاولى ، وقد تقدّم وصف الرّقبة والإطعام ، ويشترط في الصيام المتابعة بين الشهرين ، لوصفهما في الآية بذلك نعم لو صام يوما من الشهر الثاني ثمّ أفطر كفى في صدق المتابعة ، لكن لا يباح حينئذ الوطء حتّى يتمّ الصّوم وكذا في أثناء الإطعام.

٧ ـ قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) إلخ فيه وجوه :

الأوّل أنّ الّذين كانت عادتهم هذا القول في الجاهليّة ثمّ قطعوه بالإسلام ثمّ قالوه بعد الإسلام فكفّارته كذا.

الثّاني : يعودون إلى ما قالوه بالاستدراك لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه

٢٩٠

ومنه المثل عاد غيث على ما أفسده أي تداركه بالإصلاح ، أي ينقض ما اقتضاه قوله « وذلك » عند الشافعيّ أن يمسكها زمانا يمكنه مفارقتها فيه وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظره بشهوة وعند مالك بالعزم على الجماع ، والمعنى أنّ تدارك هذا القول وتلافيه بالتكفير.

الثّالث أن يراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، نحو قوله تعالى ( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) (١) والمعنى؟؟؟؟ يريدون العود للتماسّ ، والمماسّة كناية عن الجماع ، وهذا القول أجود لأنّه الموافق لقول أصحابنا من تفسير العود بإرادة الوطي ، وإضمار الإرادة هنا كاضمارها في قوله ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) (٢).

الرابع قول الظاهريّة وهو تكرار الظّهار وليس ببعيد لأنّ عندنا يتكرّر الكفّارة بتكرّر الصيغة ، لكن يلزمه بدليل الخطاب أن لا تجب الكفّارة إلّا مع تكرار الصّيغة ، ولا تجب بدونه ، وليس كذلك.

الخامس قول أبي مسلم يعني أن يحلف على ما قال.

السّادس أن يعود إلى المقول فيها ، بإمساكها أو استباحة استمتاعها.

٨ ـ إنّما ذكر كون العتق والصّيام قبل المسيس ، ولم يقيّده في الإطعام لكونه بدلا عنهما فالقيد فيهما قيد فيه.

٩ ـ روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا طلب الأوس واختار الإمساك فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله « كفّر بعتق رقبة » فقال ما لي غيرها ، وأشار إلى رقبته ، فقال « صم شهرين متتابعين » فقال لا طاقة لي بذلك ، فقال « أطعم ستّين مسكينا » فقال ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي فأمر له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشي‌ء من مال الصدقة وأمره أن يطعمه عن كفّارته فشكى خصاصة حاله وأنه أشدّ فاقة وضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم فضحك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بالاستغفار ، وأباح له العود إليها (٣) وفيها دلالة على أنّه مع العجز عن

__________________

(١) مريم : ٨٠.

(٢) النحل : ٩٨.

(٣) رواه على ابن إبراهيم في تفسير السورة ونقله في الكافي ج ٦ ص ١٥٥.

٢٩١

الكفّارة يستغفر الله ويعود ويؤيّده رواية عمّار موثّقا عن الصادق عليه‌السلام أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فليستغفر ربّه ولينو أن لا يعود ، فحسبه بذلك كفّارة.

وبعض أصحابنا قال إذا لم يطق إطعام ستّين مسكينا صام ثمانية عشر يوما. ومنهم من قدّم الصوم الثمانية عشر على الإطعام ، واجتزأ بها عن الإطعام والأولى أنّه مع العجز عن الخصال المنصوصة في الكتاب ينتقل إلى الاستغفار.

القسم الرابع

الإيلاء

وهو الحلف بالله على ترك الوطء للزوجة المنكوحة بالعقد مضارّة لها إمّا مطلقا أو مؤبّدا أو مقيّدا بمدّة يزيد على أربعة أشهر أو مضافا إلى فعل لا يقع إلّا بعد انقضاء مدّة التربّص قطعا أو ظنّا وفيه آيتان هما :

قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١).

هنا مسائل :

١ ـ إذا وقع الإيلاء على الوجه المذكور إن صبرت المرأة فلا كلام وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أمره بالكفّارة والعود ، فان أبى أنظره أربعة أشهر ثمّ ألزمه إمّا الطّلاق أو الفئة والتكفير ، فان امتنع منهما معا حبسه وضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يختار أحدهما ولا يأمره الحاكم بذلك إلّا مع مرافعتها (٢) وكذا في الظّهار ، والجارّ والمجرور في قوله « للّذين » خبر والمبتدأ « التربّص » وهو الانتظار و « من » متعلّق بتربّص لأنّه يتضمّن معنى التعدّي فعدّي « بمن »

__________________

(١) البقرة : ٢٢٦.

(٢) في المطبوعة : مواقعتها

٢٩٢

وإن كان في الأصل يعدّى بعلى ، ويجوز أن يراد : لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر كقولك : لي منك نصر ومعونة.

٢ ـ المراد بالفئة هو الجماع إن كان قادرا عليه ولا مانع منه شرعا ولا عرفا فلو عجز أو حصل المانع الشرعيّ أو العرفيّ ففئته إظهار العزم على ذلك ، وتعقيب ذلك بالغفران والرحمة ، لما في ذلك من الإثم بقصد إضرار الزّوجة.

٣ ـ استفيد من تقدير المدّة بأربعة أشهر أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر ، وإلّا لما جاز لها المرافعة والمطالبة.

٤ ـ دلّ قوله « وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ » على عدم وقوعه بالمستمتع بها إذ لا طلاق في نكاحها ومنهم من يقول بوقوعه بها ويقدّر في الكلام إضمارا أي وإن عزموا الطّلاق فيمن يقع بها فانّ الله سميع عليم ، وهو ضعيف لأصالة عدم التقدير وانتفاء الضرورة ، ولفظ « نسائهم » وإن كان جمعا مضافا وهو من صيغ العموم فقد خصّ بأخبار أهل البيت عليهم‌السلام وفي قوله « فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » تهديد ، والعزم تصميم الإرادة على أن يفعل الشي‌ء.

القسم الخامس

اللعان

وهو لغة الطرد والإبعاد وشرعا مباهلة بين الزّوجين سببها قذف الرّجل امرأته بالزنا مع دعوى المشاهدة وعدم البينة أو نفي ولد ولد على فراشه مع شرائط إلحاقه به ، وفيه آيات أربع هي قوله :

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ

٢٩٣

لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ ) (١).

روى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه قال لمّا نزلت ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الآية قال سعد بن عبادة يا رسول الله إنّي لأعلم أنّها حقّ من عند الله تعالى لكن تعجّبت أن لو وجدت لكاع يفخذها لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتّى آتي بأربعة شهداء ، فو الله إنّي لا آتي بهم حتّى يقضي حاجته؟ فما لبثوا حتّى جاء هلال بن أميّة فقال يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت عليها رجلا يقال له شريك بن السّحماء فرأيت بعينيّ وسمعت باذنيّ فكره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك فقال سعد : الآن يضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هلال بن أميّة ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال لرسول الله : والله إنّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا فبينا هم كذلك إذ نزلت « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ » الآيات فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا.

وروي أنّ المعترض هو عاصم ابن عدي الأنصاري فقال جعلني الله فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين جلدة وردّت شهادته أبدا وإن ضربه بالسّيف قتل به ، وإن سكت سكت على غيظ وإلى أن يجي‌ء بأربعة شهداء فقد قضى حاجته ومضى ، اللهم افتح وخرج ، فاستقبله هلال بن أميّة فأتيا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبر عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّم خولة زوجة هلال فقالت لا أدري الغيرة أدركته أم بخلا بالطعام ، وكان الرّجل نزيلهم ، فقال هلال لقد رأيته على بطنها فنزلت الآية فلاعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهما وقال لها إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به فالرّجم عليك أهون من غضب الله فانّ غضبه هو النار ثمّ قال إن جاءت به اصيهب اثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليّا خدلّج السّاقين فهو لغير الّذي رميت به قال ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه جاءت بأشبه خلق الله بشريك فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن وروي أيضا أنّ عويمر العجلانيّ

__________________

(١) النور : ٦.

٢٩٤

رمى زوجته فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البيّنة وإلّا حد في ظهرك ، فنزلت (١)

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ الكلام المذكور ليس على ظاهره ، وذلك لأنّ فيه مشاكلة وحذفا أمّا المشاكلة فلأنّ المراد بالشهادة هنا القسم سمّي بها لقيامها مقام شهادة الشهداء كما هو في باقي القضايا الشرعيّة ، ولتطابق قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ » وأمّا الحذف فلأنّ تقديره وإن لم يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أي يمينه يقوم مقام الشهداء وقرئ « أربع » بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أي هنّ أربع وقرئ بالنّصب على أنّ فعله محذوف أي يشهد أربع ، ومن عرف عادة القرآن في الحذف والاكتفاء بسياق الكلام لا ينكر ذلك وقيل الرفع على أنّه خبر « شهادة » أي فواجب شهادة أحدهم والنصب على المصدر وهو ضعيف أمّا الأوّل فلا قرينة تدل عليه والثاني لا نظير له في كلامهم فانّ المصدر لا ينصب بالمصدر.

٢ ـ صورة اللّعان أن يبدء الرّجل فيقول أشهد بالله إنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به ، ويكرّر ذلك أربع مرات مع الاولى ثمّ يقول إنّ لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به ، ثمّ تقول المرأة أربع مرّات : أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة إنّ غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به. عملا بصورة النصّ ، ويجب إيقاعه بهذه الألفاظ من غير تغيير ولا تبديل مراعيا للاعراب والترتيب والموالاة ، فلو غيّر كلمة أو حرفا بدلا عن المذكور لم يكن لعانا صحيحا ويجب كونه بالعربيّة ، وعند الحاكم ، وتعيين المرأة بالإشارة أو التسمية الصريحة.

٣ ـ إذا تمّ اللّعان وقعت الفرقة بينهما تحريما مؤبّدا ولا يفتقر إلى طلاق الحاكم ولا حكمه بالفرقة عندنا وبه قال الشافعيّ ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله المتلاعنان لا يجتمعان

__________________

(١) الروايات في شأن نزول الآية مروية في تفسير الدر المنثور ج ٥ ص ٢١ مجمع البيان ج ٧ ص ١٣٨ وهكذا في سنن ابى داود ج ١ ص ٥٢٠ ـ ٥٢٥.

٢٩٥

أبدا (١) وقال أبو حنيفة تقع الفرقة بحكم الحاكم فرقة طلاق بائن ولا يتأبّد التحريم فلو أكذب نفسه جاز له أن يتزوّجها عنده.

٤ ـ اشترط أكثر الأصحاب كونها مدخولا بها وعقدها دائم ، فلو لم يدخل. أو كان النكاح منقطعا فعليه الحد للقذف ولا لعان ، واستدلّوا بالأحاديث ، وقال جماعة بعدم ذلك عملا بعموم اللّفظ فإنّ « أزواجهم » جمع مضاف وهو للعموم ، والتحقيق أن نقول إن صحّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فالقول هو الأوّل وإن لم يصحّ فالقول هو الثاني هذا في القذف بالزنا ، أما نفي الولد فلا بدّ من الدّخول. ليحصل شرط الإلحاق.

٥ ـ يشترط كونها زوجة أو في حكمها حال القذف ، فلو قذف أجنبيّة أو مطلّقة بائنة فالحدّ ولا لعان أما المرمي به (٢) فهل يشترط كونه حال الزوجيّة أم يكفي ولو كان سابقا على النكاح قولان منشؤهما من عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ » وهو أعم من السابق وغيره ، ولأنّه يصدق أنه قذف زوجته فيدخل في الآية ، ومن. عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » (٣) والأقوى الأوّل فلو قذف زوجته ثمّ أبانها كان له اللّعان.

٦ ـ دلّ قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ » على اشتراط عدم حصول الشهداء إذ الجملة حاليّة أي والحال أنّه لم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم ، فلا لعان مع. وجود الشهداء ، فلو عدل عن الشّهادة هل له أن يلاعن؟ قيل نعم والحقّ عدمه أمّا. أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذ المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذا المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا. ثانيا فلأنّ اللّعان على خلاف الأصل فإنّ شهادة الإنسان لنفسه أو يمينه لنفسه غير مقبولين فاقتصر على مورد النصّ.

٧ ـ لمّا قذف وجب عليه حدّ القذف فلمّا لاعن سقط عنه ووجب عليها حد

__________________

(١) أخرجه الشيخ الطوسي في الخلاف ج ٢ ص ٢٨٧ عن ابن عباس.

(٢) أما المزني بها ، خ.

(٣) النور : ٥.

٢٩٦

الزنا لأنّ أيمانه شهادات فلمّا لاعنت سقط عنها لقوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » وهو الحد هنا فلو أكذب نفسه لم يزل حكم اللّعان ، نعم هل يحدّ للقذف؟ قيل لا لسقوطه بلعانه ، وقيل : نعم ، لزيادة الهتك وتكرار القذف ، وهو قويّ ولو أكذبت نفسها فإشكال : من قوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » ولا موجب للعود ، ومن عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (١) » فإذا أقرّت أربعا وجب الحد.

٨ ـ لمّا ثبت في الأصول أنّ خصوص السّبب لا يخصّص وثبت قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (٢) كان حكم آية اللّعان عامّا باقيا وكذا الكلام في الظّهار.

القسم السادس

من روافع النكاح الارتداد

وهو قطع الإسلام بقول كإنكار ما علم من الدّين ضرورة أو عمل كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك ممّا علم من الدّين ضرورة وجوب تعظيمه ويستدلّ على قطعه النكاح بآيات تحريم المشركين والمشركات ، وبقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (٣) » وقد تقدّم بيان ذلك ثمّ الارتداد له أحكام مذكورة في كتب الفقه فلتطلب هناك ولنقتصر من كتاب النّكاح على هذا.

__________________

(١) أخرجه في المستدرك ج ٣ ص ٤٨ عن غوالي اللئالى من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) أخرجه في البحار ( الطبعة الحديثة ) ج ٢ ص ٢٧١ ، عن غوالي اللئالي.

(٣) الممتحنة : ١٠

٢٩٧

كتاب المطاعم والمشارب

والآيات هنا أقسام.

القسم الأول

ما يدل على أصالة إباحة كل ما ينتفع به خاليا عن مفسدة

وهو آيات :

الاولى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (١).

امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم ، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان ثمّ إنّ ذلك المنتفع به ، لو لم يكن محلّلا لما حسن أيضا الامتنان إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشي‌ء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل ، فيكون الأشياء كلّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب ، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل ، وقد تبين ذلك في الأصول.

الثانية ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (٢).

قيل : نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس والأمر هنا للإباحة وأمّا « حَلالاً » فيحتمل نصبه على مفعوليّة « كُلُوا » والأجود أنّه صفة مصدر محذوف والأجود منه أنّه حال « مِمّا فِي الْأَرْضِ » والطيّب يقال لمعان الأوّل : ما هو مستلذ الثاني : ما حلّله الشارع ، الثّالث : ما كان طاهرا ، الرّابع : ما خلا عن الأذى في النفس والبدن ، وهو حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الذهن وهو المراد هنا

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) البقرة : ١٦٨.

٢٩٨

لئلّا يلزم التكرار لو أريد الثاني أي كلوا ما جمع وصفي الحلّ واللّذّة ثمّ الخبيث يقال في مقابلة الطيّب في معانيه وهنا فوائد :

١ ـ ظاهر الآية إباحة الانتفاع بالأشياء المحلّلة المستلذّة لكنّه على الاجمال فبيانه إمّا بالكتاب أو السنة.

٢ ـ يحتمل أن يراد بالطيب هنا المعنى الرابع ، فيدلّ على تحريم ما فيه أذى في البدن إمّا مرض أو هلاك أو في النفس إما إذهاب عقل أو شي‌ء من الإدراكات فعلى هذا لو كان قليله لا يؤذي في البدن بل كثيره حرم القدر المؤذي لا غير أمّا ما يذهب العقل كثيره دون قليله فيحرم كلّه لاقتضاء الحكمة المحافظة على العقل ولأنّه لو أبيح القليل لأدّى إلى الاشتمال ، وعدم المبالاة لغلبة الشهوة على النفس بخلاف الأذى البدني فانّ الحيوان بطبعه يحاذر على بدنه ، ويمتنع من المؤذي له ، فلم يحتج إلى تأكيد تحريم ما يؤذيه.

٣ ـ « مِمّا فِي الْأَرْضِ » « من » للتبعيض و « ما » للعموم ، فيشمل النبات والحيوان والمعدن وقد خصّ ذلك العموم الكتاب والسنّة بتحريم أشياء يأتي بعضها هنا.

٤ ـ قيل إنّ الله تعالى حافظ كلّ شريعة بحفظ خمسة أشياء الأوّل النفوس بشرع القصاص ، الثّاني : الدين بعقاب المرتدّ ، الثّالث : النسب بتحريم الزّنا ووجوب الحدّ عليه ، الرّابع الأموال بتضمين الغاصب والسّارق وتعزير الأوّل وقطع الثّاني الخامس : العقول بتحريم المسكرات وإيجاب الحدّ في تناولها.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (١).

__________________

(١) البقرة : ١٧٢.

٢٩٩

المعنى هنا قريب ممّا تقدّم ، وذكر الأمر بالشكر دليل على كون الطيّب هنا منتفعا به حسنا وإلّا لما وجب الشكر في مقابله ، لأنّ الشكر إنّما يجب في مقابلة النعمة ، وفيه إشارة إلى كون العبادة قد يقع شكرا.

القسم الثاني

ما فيه إشارة إلى تحريم أشياء على التعيين

وفيه آيات :

الاولى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) (١).

قد تقدّم البحث في صدر هذه الآية في كتاب الصّلاة فلا وجه لإعادته فلنذكر المهمّ منها فنقول أشار في هذه الآية إلى تحريم أشياء كانت الجاهليّة لا تحرّمها :

١ ـ الميتة وهي ما فاتت حياته لا على وجه التذكية الشرعيّة ، واستثنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك السّمك والجراد بقوله « أحلّ لكم ميتتان ودمان » (٢).

٢ ـ الدّم وكانوا يأكلونه أنواعا من الأكل منها العلهز ، كما قال عليّ عليه‌السلام في بعض كلامه تقريعا للعرب ، وبيانا لنعمة الله عليهم بتحريم الخبائث بقوله « تأكلون العلهز » وهو أن يجعل الدّم في المصارين والمباعر ويشوونها ويأكلونها ثمّ إنّ الدّم استثنى منه الطحال على قول ، والأولى تحريمه نعم الدّم المستخلف في تضاعيف اللّحم حلال طاهر لإجماع الفقهاء عليه ، وقيل التحريم في موضع آخر بكونه مسفوحا أي سائلا وذلك إنّما يكون ممّا في العروق ، ويلزم من ذلك أنّ

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) أخرجه في مشكاة المصابيح ص ٣٦١ والدمان : الكبد والطحال ، والميتتان : الجراد والحوت.

٣٠٠