كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

أي جنيت لك ، أو على حذف المضاف أي كالوا مكيلهم أو موزونهم ، وإنّما لم يقل « أو اتّزنوا » في الأوّل لأن الاكتيال أمكن لهم بالسرقة بالملأ من الاتّزان وهنا فوائد :

١ ـ روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا ، وعن ابن عبّاس أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو ـ جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت الآية في حاله (١).

٢ ـ دلّت الآية على وجوب إيفاء الكيل والوزن ، وتحريم النقص منهما لأنّ « ويل » يستعمل للذمّ وقيل « ويل » واد في جهنّم.

٣ ـ حيث إنّ إيفاء الكيل والوزن واجب ، ندب إلى إعطاء الراجح حذرا من النقص المحرّم ، ومن ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا وزّان زن وأرجح » (٢).

٤ ـ في معنى الآية آيات كثيرة كقوله ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) (٣) وقوله ( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ) (٤) وغير ذلك والجميع مشترك في تحريم نقص الكيل والوزن ووجوب إيفائه.

السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (٥).

في الآية دلالتان إحداهما على أرجحيّة الإنفاق من كسب الحلال ، والنهي عن الإنفاق من كسب الحرام ، وثانيها على وجوب التفقّه قبل الاتّجار ليعلم الحلال

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٣٢٤ مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٥٢.

(٢) في هامش نص : قال لأبي ذر : زن وأرجح. خ ل.

(٣) في أربعة مواضع منها الانعام : ١٥٢.

(٤) هود : ٨٣.

(٥) البقرة : ٢٦٧.

٤١

والحرام ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا (١) » وقد تقدّم ، في هذه الآية فوائد :

السابعة : قيل ان قوله تعالى :

( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (٢).

يدل على أمرين أحدهما كراهية الربح على المؤمن إلّا مع الضرورة ، وأنّ ترك الربح من الإحسان ، فيكون من العرف ، وثانيهما كراهة معاملة الأدنين والسفلة الّذين لا يبالون ما قيل لهم وما قيل فيهم لأنّ الأمر بالاعراض عنهم يستلزم ترك معاملتهم بسائر أنواع المعاملة.

وفيهما نظر لأنّ العامّ لا دلالة له على الخاص بنفسه ، بل بدليل من خارج فيكون ذلك كافيا مع أنّ الاعراض عن الجاهلين يراد به التجاوز والعفو عن سيّئاتهم لا عدم معاملتهم ، ولذلك قيل : لمّا نزلت سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل عليه‌السلام عن معناها فقال لا أدري حتّى أسأل ربّك ، ثمّ رجع فقال : يا محمد إنّ ربّك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك (٣) » وقال الصادق عليه‌السلام : « أمر الله نبيّه فيها بمكارم الأخلاق ».

الثامنة ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ) (٤)

قيل إنّها تدل على كراهية الدخول في سوم المؤمن لأنّ الأكثر على أنّ داود عليه‌السلام خطب على خطبة أوريا فعوتب على ذلك ، والكلام فيها كما تقدّم في

__________________

(١) رواه في الكافي ج ٥ ص ١٥٤ من حديث على عليه‌السلام.

(٢) الأعراف : ١٩٨.

(٣) أخرجه ابن مردويه من حديث جابر كما في الدر المنثور ج ٣ ص ١٥٣.

(٤) ص : ٢٣.

٤٢

الاولى ، لكنّ الدلالة هنا قريبة ، وإن كان الاعتماد على نصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام أولى.

التاسعة : قال الراوندي ان قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (١).

تدل على النهي عن الاحتكار ، وفيه نظر لأنّ قولهم مسنا الضر أعمّ من الحاجة إلى القوت ، أو إلى ثمنه التامّ فلا دلالة حينئذ وكذا قال في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٢) أنها تدلّ على تحريم كتمان العيب ووجوب إعلام المشتري ، والكلام فيه أيضا كما تقدّم ولنذكر هنا حكمين :

١ ـ قيل : الاحتكار مكروه لقول الصادق عليه‌السلام « مكروه أن تحتكر الطعام وتذر الناس لا شي‌ء لهم (٣) » وقيل حرام وهو الأصح لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « الجالب مرحوم والمحتكر ملعون (٤) » وإنّما يكون حراما بشرطين أحدهما حبس القوت الّذي هو الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح طلبا للزيادة في الثمن وثانيهما أن لا يوجد باذل سواه ، فيجبر حينئذ على البيع وهل يسعّر عليه؟ قيل نعم ، وإلّا لا نتفت فائدة الجبر ، وقيل لا ، وهو الأصح لقوله عليه‌السلام « النّاس مسلّطون على أموالهم » (٥) وقوله أيضا « الأسعار إلى الله (٦) » اللهمّ إلّا أن يطلب شططا فيسعّر عليه.

٢ ـ العيب إمّا أن يخفى على المشتري أو لا؟ والثاني يجوز البيع مع عدم ذكره للمشتري ، نعم يكره ذلك وكذا يكره البيع في موضع يستتر فيه ، والأوّل

__________________

(١) يوسف : ٨٨.

(٢) الأنفال : ٢٧.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٦٥.

(٤) الكافي ج ٥ ص ١٦٥.

(٥) أخرجه في البحار ( الطبعة الحديثة ) ج ٢ ص ٢٧١ عن غوالي اللئالي.

(٦) الوسائل ب ٣٠ من أبواب آداب التجارة ح ١.

٤٣

يجب ذكره إلّا أن يبيع بالبراءة من العيب إجمالا أو تفصيلا ، وعلى الأوّل لو باع ولم يتبرّأ صحّ البيع ، ويكون المشتري بالخيار بين الردّ والأرش ، وفيه تمام بحث مذكور في كتب الفقه.

العاشرة ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (١).

الفقهاء يستدلّون بهذه الآية على مسائل :

١ ـ أنّ الكافر إذا أسلم عبده ، قهر على بيعه من مسلم ، فان امتنع باعه الحاكم وسلّم الثمن إليه.

٢ ـ أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم على الكافر.

٣ ـ لا يصح إيجار العبد المسلم من كافر ، وهل يصح إيجار الحرّ نفسه من كافر؟ إمّا للخدمة فلا يجوز ، وأمّا لا لها ، فامّا لعمل مطلق ، فيصحّ لأنّه كالدّين وإما أجيرا خاصّا فاحتمالان أحدهما المنع للآية ، والآخر الجواز لعدم استقرار السبيل وهو قوي

٤ ـ رهن العبد المسلم عنده أمّا مع قبضه له فلا يجوز ، وأمّا مع عدم قبضه فالأصح جوازه.

٥ ـ كون الكافر وكيلا على مسلم سواء كان الموكّل مسلما أو كافرا لا يجوز.

٦ ـ كذا لا يصح كونه وصيّا على صبيّ مسلم.

٧ ـ لا يصح إعارة العبد المسلم للكافر.

٨ ـ إذا أسلمت أمّ ولده يجوز بيعها على أقوى الوجهين.

٩ ـ لا تصحّ الوصيّة بالعبد المسلم للكافر وكذا لا يصحّ وقفه عليه ، ولا هبته له ، وبالجملة كلّما يستلزم إدخاله في ملكه أو السلطنة عليه فهو باطل للآية.

__________________

(١) النساء : ١٤٠.

٤٤

كتاب الدين

( وتوابعه )

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلّا تَرْتابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ) (١).

« تَدايَنْتُمْ » أي تفاعلتم بالدّين إمّا بالسلم أو بالنسيئة أو الإجارة ، وفي الجملة كلّ معاملة أحد العوضين فيها مؤجّل ، وقال الزمخشريّ معناه إذا داين بعضكم

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

٤٥

بعضا ، يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين ، وفيه نظر المفرق بين التفاعل والمفاعلة فإنّ الأوّل لازم والثاني متعدّ ، تقول تضارب زيد وعمرو ، وضارب زيد عمروا فلا يجوز تفسير أحدهما بالآخر.

إن قيل : قوله « بِدَيْنٍ » لم يكن محتاجا إليه لأنّ الدين معلوم من لفظ « تَدايَنْتُمْ » ولو لم يذكره لكان الضمير عائدا إلى مصدر « تَدايَنْتُمْ » أجاب الزمخشري بأنّه لو لم يذكره لوجب أن يقول « فاكتبوا الدين » ولا يجي‌ء بحسن ما ذكر من النظم وفيه نظر لأنّا نمنع وجوب ذكر الدين لما قلنا من عود الضمير إلى المصدر.

ويحتمل في الجواب أنّه لو لم يذكر الدّين وأعاد الضمير إلى المصدر ، لكان ينبغي أن يكتب المعاملة بالدين ، مع أنه لا حاجة إلى كتابتها ، بل يكتفي بكتابة الدين ، فلو باع نسيئة ليكتب المشتري للبائع الدين إلى أجل معلوم ، ولم يحتج إلى ذكر المبايعة وفيه أيضا نظر لأنّ كتبة المعاملة بالدّين أحرز وأضبط لدفع الدعوى بإنكار سبب الدين

وقيل : ذكره تأكيدا كقوله تعالى « ( طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (١) » وقيل ليرفع احتمال [ كون ] التداين من المجازاة كقولهم « كما تدين تدان » فيزول الاشتراك وهو حسن.

إذا عرفت هذا ففي الآية أحد وعشرون حكما بل ربّما يذكر فيها فوائد تزيد على ذلك :

١ ـ إباحة الاستدانة لأنّها ممّا قد يضطرّ الإنسان إليه في معاشه ، فتكون سائغة ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله استدان ، وكذا عليّ عليه‌السلام وجماعة من الأئمّة عليهم‌السلام نعم هو من غير ضرورة مكروه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إيّاكم والدين فإنّه مذلّة بالنهار ، ومهمّة باللّيل (٢) » وقد يحرم إذا لم يكن له ما يقضيه به ، فإنّه خديعة ، قاله

__________________

(١) الانعام : ٣٨.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٩٥.

٤٦

التقيّ (١) ويقوى عندي ذلك إذا لم يكن الدائن مطلعا على حاله ، وإلّا فالكراهية شديدة ، وقبول الصدقة له أولى من الاستدانة ، ولو كان له وليّ يقضيه خفّت الكراهية وحكم ابن إدريس ببقاء الكراهية مع الوليّ لعدم وجوبه عليه ممنوع لأنّ عدم الوجوب لا يرفع الجواز.

٢ ـ إباحة التأجيل بقوله « إِلى أَجَلٍ » لأنّ الدين حقّ يثبت في الذمّة ، فهو أعمّ من المؤجّل وغيره قال ابن عبّاس نزلت في السلم خاصّة ، وهو بيع مضمون إلى أجل معلوم ، والأكثر على أنّها أعمّ من ذلك.

٣ ـ وجوب كون الأجل مضبوطا لقوله « مُسَمًّى » كاليوم والشهر والسّنة لا ما يحتمل الزيادة والنقيصة ، كإدراك الثمرة وقدوم الحاجّ.

٤ ـ الأمر بكتابة الدين لئلّا يذهب مال المسلم بعوارض النّسيان ، والموت والجحود ، والأمر هنا عند مالك للوجوب والأصح أنّه إمّا للندب أو الإرشاد إلى المصلحة.

٥ ـ وجوب كون الكاتب أمينا لقوله « بِالْعَدْلِ » وهو صفة « الكاتب » أي موصوف بالعدل كيلا يزيد وينقص أو يفعل خلاف ما تراضى به المتعاملان ، ويعلم منه اشتراط كونه فقيها عالما بدقائق تلك المعاملة ، ليكمل المقصود منها.

٦ ـ « وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ » قيل النهي للتحريم ، فيكون الكتابة واجبة لكن على الكفاية ، قاله الشعبيّ وجماعة ، وقيل : فرض عين مع عدم غيره ممّن له علم بها ، أو مع ضرر صاحب الدين بترك الكتابة ، وقيل : كانت واجبة عينا فنسخ بقوله « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » والأجود أنّها مستحبّة على الأعيان العارفين بها ، لأنها من باب « ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (٢) » واجبة على الكفاية ليتمّ نظام النوع.

فرعان :

ألف : إذا وجد بيت المال اعطي الكاتب رزقه منه ، لأنّه من المصالح ، وإلّا

__________________

(١) هو أبو الصلاح تقى بن نجم الحلبي أحد أعيان الفقهاء ، له كتب جيدة.

(٢) المائدة : ٣.

٤٧

جاز له أخذ الأجرة من الآمر بالكتابة لأصالة عدم وجوب بذل المنفعة مجّانا.

ب : أخذ المداد من بيت المال ، وكذا الورق المكتوب فيه لأنّه من المصالح أيضا وإن لم يوجد فمع أخذ الكاتب الأجرة يجب عليه المداد ، ولا يجب عليه القرطاس بل هو على صاحب الدين لأنّه لمصلحته ، ولا يجب على المديون قطعا.

٧ ـ « كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ » قيل : هو متعلّق ب « يَأْبَ » أي لا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله ، فيكون « فَلْيَكْتُبْ » أمرا بعد النهي تأكيدا كقولك لعبدك لا تقعد هنا قم ، ويحتمل أن يكون متعلّقا بالأمر أي فليكتب كما علّمه الله وحينئذ يحتمل معنيين :

أحدهما كما علّمه الله تفضّلا منه فليتشبّه بأخلاق الله ، وليتفضّل بكتابة الدين كما تفضّل الله عليه كقوله تعالى ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) (١).

وثانيهما أمره بأن يكتب كما علّمه الله من الفقه في تلك المعاملة بحيث لا يكتب شيئا يخالف مقتضاها ممّا فيه ضرر أو بخس على المتعاملين ، فعلى الأوّل الأمر للندبيّة وعلى الثاني للوجوب وعلى الاحتمال الأوّل يكون النهي السابق مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا.

٨ ـ « وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ » الإملال والإملاء بمعنى واحد وقد ورد بهما القرآن كقوله ( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ) (٢) وإنّما وجب كون المملل : الّذي عليه الحقّ ، لأنّه المشهود عليه ، ثمّ إنّ هذا المملي يجب عليه تقوى الله فيما يملله ، ولا يبخس من الحقّ الّذي عليه شيئا ، والبخس النقص ، وإنّما أمره ونهاه لجواز أن يكون صاحب الحقّ أمّيا مغفّلا لا خبرة له بالأمور ، فلو لم يستعمل المديون الورع في إملائه لزم إضرار الدائن وهو حرام.

٩ ـ « فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ » السفيه المبذّر وهو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض

__________________

(١) القصص : ٧٧.

(٢) الفرقان : ٥.

٤٨

الصحيحة أو ينخدع في المعاملة « والضعيف » أي في العقل بأن كان صبيّا أو كبيرا لا عقل له ، والّذي لا يستطيع الإملاء فهو إمّا لبكم أو خرس فليملل أولياء هؤلاء وقيل الضمير في « وليّه » يرجع إلى الحقّ أي وليّ الحقّ أي صاحبه لأنّه أعلم بدينه ، والأوّل أولى ، لعود الضمير إلى الأقرب ، ولأنّه أنسب بالمقام.

وهنا فروع يتضمّن أحكاما مستخرجة من الآية :

ألف ـ شرعيّة الولاية على السفهاء والأصاغر ، وتدخل المجانين بطريق الأولى.

ب ـ عدم صحّة استقلالهم بعقود المعاملة إذ لا يصحّ إملالهم ، فلا يصحّ استقلالهم بالعقد بطريق الأولى.

ج ـ جواز استدانة الوليّ لمن له عليه ولاية ، مع الحاجة إلى ذلك.

د ـ صلاحية ذمّة الصبيّ والمجنون والسفيه لتعلّق الدّين بها ، لكن لا مطلقا بل مع مباشرة الوليّ سبب الدين ، فلا يرد أرش الجناية إذا لم يكن له مال.

هـ ـ أنّه يجب على الوليّ مراعاة المصلحة للمولّى عليه ، وعدم بخسة لقوله تعالى « بِالْعَدْلِ » أي في الإملاء ففي المعاملة بطريق الأولى.

و ـ الوليّ للصبيّ والمجنون أمّا الأب أو الجدّ له ، ومع عدمهما الوصي عن أحدهما ، ومع عدمه الحاكم ، وأمّا السفيه ، فان كان سفهه مستمرّا عقيب الصبا فوليّه الأب والجد كما تقدّم ، وإن كان طارئا فوليّه الحاكم.

ز ـ تجوز الترجمة عن الأخرس والأبكم والأعجمي لاشتراكهم في عدم [ إمكان ] استقلالهم باملال الحقّ.

ح ـ وجوب كون المترجم عدلا لاشتراط إملاله بالعدل المستلزم ذلك لعدالته.

ط ـ صحّة الشهادة على الأخرس (١) والأعجميّ مع الترجمة عنهما ، ويكون الشاهد أصلا لا فرعا لتعقيب الإملال بالاستشهاد.

ى ـ الوليّ في الآية يراد به القدر المشترك ، بين كلّ من قام مقام غيره في حق على ذلك الغير ، فيشمل الوكيل أيضا ، فيجوز الشهادة على الوكيل باستدانته

__________________

(١) نص : عن الأخرس.

٤٩

لموكّله ، فيجوز للشاهد أن يشهد على الموكّل مع ثبوت الوكالة حالة الشهادة ، وقد يمكن استخراج فروع أخر غير هذه ، وبذلك يظهر سرّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « أوتيت جوامع الكلم ».

١٠ ـ « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » السين للطلب أي اطلبوا شهيدين ، والفرق بين الشاهد والشهيد أنّ الأوّل بمعنى الحدوث والثاني بمعنى الثبوت ، فإنّه إذا تحمّل الشهادة فهو شاهد باعتبار حدوث تحمّله ، وإذا ثبت تحمّله لها زمانين أو أكثر فهو شهيد.

ثم يطلق الشاهد عليه بعد تحمّله مجازا تسمية الشي‌ء بما كان عليه ، كما يطلق الشهيد قبل تحمّله لها مجازا كما في الآية ، فإنّ الطلب إنّما يكون قبل حصول المطلوب ، وهذا حكم باشتراط الاثنينيّة في الشهادة بالدين فيدلّ على عدم قبول الواحد أمّا مع انضمام اليمين من المدّعي فيقبل عندنا ، وعند الشافعيّ (١)

__________________

(١) قد بسط الشافعي الكلام في الأم ج ٧ من ص ٧ ـ ١٢ وذكر فيه مكالماته مع من رده ، وكذا في مواضع أخر من الام ، وممن قال بالقضاء بالشاهد واليمين : مالك وفقهاء المدينة وأبو ثور وربيعة وشريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي وأبو سلمة وعبد الله بن عتبة وإياس والحسن ويحيى بن يعمر وابن ابى ليلى وأبو الزناد وهو رأي الحنبلية أيضا وحكاه الشوكانى في نيل الأوطار عن الهادويه والناصر. وحكى عن زيد بن على والزهري وحكم وعطاء والنخعي وابن شبرمة والامام يحيى والثوري.

وأبو حنيفة وأصحابه والكوفيون وجمهور أهل العراق والليث من أصحاب مالك على ما في بداية المجتهد أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين ، وحكاه في سبيل السّلام عن الهادويه أيضا.

وقد ورد النص بالقضاء بالشاهد واليمين ، ترى اثنين وعشرين حديثا في الباب ١٤ من أبواب كيفية الحكم من الوسائل ، وفيها أنه نزل به جبرئيل كما في ح ١٧ و ٢١ و ٢٢.

وذكر في المنتقى كما في ص ٢٩٢ و ٢٩٣ من نيل الأوطار ج ٨ روايات أهل

٥٠

لقضاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام بذلك :

١١ ـ « مِنْ رِجالِكُمْ » أي من المؤمنين ويفهم من ذلك حكمان :

١ ـ اشتراط البلوغ في الشاهد لقوله « مِنْ رِجالِكُمْ ».

٢ ـ اشتراط الايمان فلا تقبل شهادة الصبيّ ويدخل المجنون بطريق الأولى لعدم تعقله ، ولا الكافر إلّا على تفصيل يأتي في الوصيّة ، وجوّز أبو حنيفة شهادة الكفّار بعضهم على بعض ، على اختلاف الملل.

١٢ ـ « فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ » فيه دلالة على جواز شهادة النساء منضمّات إلى الرجال ، لكن في الديون والمعاملات ، وكلّ ما يقصد فيه المال وفي قوله فيما بعد « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما » إشارة إلى جواب سؤال مقدّر ، تقريره

__________________

السنة عن جعفر بن محمد وعن جابر وعن ابن عباس وعن أبي هريرة قضاء رسول الله بالشاهد واليمين ، وسرد في نيل الأوطار أحد وعشرين صحابيا روى عنهم قضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشاهد واليمين مضافا الى ما روى من قضاء على عليه‌السلام بذلك كما في ح ٣ من المنتقى.

واحتج أبو حنيفة ومتابعوه بهذه الآية ، « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ » وقالوا : الحكم بشاهد ويمين بمقتضى الروايات زيادة على القرآن بالسنة ، والزيادة على القرآن نسخ وأخبار الآحاد لا تنسخ القرآن.

قال ابن قدامة في المغني ص ١٥٢ ج ٩ : وقولهم ان الزيادة في النص نسخ ، غير صحيح ، لان النسخ : الرفع والإزالة ، والزيادة في الشي‌ء تقرير له لا رفع ، والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه ، لم ترفعه ، ولم تكن نسخا وكذلك إذا انفصلت ، ولان الآية وردت في التحمل دون الأداء ، ولهذا قال « أَنْ تَضِلَّ » الآية ، والنزاع في الأداء. انتهى ما في المغني.

وقال ابن العربي في ص ٢٥٣ من أحكام القرآن : وسلك علماؤنا في الرد عليهم مسلكين : أحدهما أن هذا ليس من قسم الشهادة وانما الحكم هنالك باليمين ، وحظ الشاهد ترجيح جنبة المدعى ، وهو الذي اختاره أهل خراسان وقال آخرون وهو الذي عول عليه مالك ان القوم قد قال يقضى بالنكول وهو قسم ثالث ليس له في القرآن ذكر

٥١

لم جعل امرأتان مقام رجل؟ فأجاب [ بأن ] جعل ذلك مخافة أن تضلّ إحداهما أي تنسى فإنهنّ لضعف عقولهنّ وبرد مزاجهنّ أميل إلى النسيان ، بخلاف الرجال ، فإنّهم أبعد عن النسيان لزيادة عقولهم وحرارة مزاجهم وقرأ حمزة « إن تضلّ » على أنّها حرف الشرط وجوابه ، فتذكّر ، والباقون بفتح الهمزة بأنّها منصوبة المحلّ على أنّها مفعول له والعامل محذوف.

قال الزمخشريّ : ومن بدع التفاسير « فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا » أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا بمعنى أنّهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر والقائل به سفيان بن عيينة.

قيل : والضمير في إحداهما الاولى ، يرجع إلى الشهادة أي أن تضيع إحدى الشهادتين من قوله تعالى « ضَلُّوا عَنّا » أي ضاعوا فتذكّر إحدى المرأتين الأخرى فيكون الضمير في الثانية للمرأتين لئلّا يلزم التكرار من غير فائدة وفيه تعسّف.

__________________

كذلك يحكم بالشاهد واليمين وان لم يجر له ذكر ، لقيام الدليل.

ثم قال : والمسلك الأول مسلك الشرع ، والمسلك الثاني يتعلق بمناقصة الخصم والمسلك الأول أقوى وأدل. انتهى.

وقال الشوكانى في نيل الأوطار ج ٨ : وأقول : جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من انصاف ، والحق أن احاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » الآية وعلى ما دل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « شاهداك ويمينه » غير منافية لأصل ، فقبولها متحتم ، وغاية ما يقال على فرض التعارض وان كان فرضا فاسدا أن الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين ، والحكم بمجردهما ، وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين.

على أنه يقال : العمل بشهادة المرأتين مع الرجل مخالف لمفهوم حديث شاهداك أو يمينه ، فان قالوا : قدمنا على هذا المفهوم منطوق الآية الكريمة قلنا ونحن قدمنا على ذلك المفهوم منطوق احاديث الباب ، هذا على فرض أن الخصم يعمل بمفهوم العدد

٥٢

١٣ ـ « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ » أي من الرجال المرضيّين ، والنساء المرضيّات في الدين ، وفي ذلك إشارة إلى اشتراط العدالة ، فإنّ الفاسق غير مرضيّ ويدلّ على بطلان قول أبي حنيفة في قبول شهادة الكفّار ، ويلزم من اشتراط الرضا بهم أن يكون الشاهد ممّن يحسن الظنّ به في صدقه في شهادته ، فلا تقبل شهادة المتّهم ، فإنّه يدفع ضررا أو يجلب نفعا ولم يقل من المرضيّين من الشهداء إشارة إلى الاكتفاء بظاهر العدالة ، وعدم اشتراطها في نفس الأمر وإلّا لتعذّر الاستشهاد. فهنا إذن ثلاثة أحكام فشرائط الشهادة حينئذ خمسة : البلوغ ، والعقل ، والايمان والعدالة ، وارتفاع التهمة.

واختلف في شهادة العبد فمنعه الفقهاء الأربعة : ورووه عن عليّ عليه‌السلام وقبلها ابن سيرين وشريح وعثمان البستيّ وعن أهل البيت روايات أشهرها وأقواها القبول إلّا على سيّده خاصّة فتقبل لسيّده ولغيره وعلى غيره.

__________________

فان كان لا يعمل به أصلا فالحجة عليه أوضح وأتم ، انتهى.

أقول : ونظيره ما بينه الشافعي في ص ٨٦ ج ٧ من الام فراجع. هذا وقد أخذ من رد الحكم بشاهد ويمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زائدة على القرآن كالوضوء من النبيذ ، والوضوء من القهقهة ومن القي‌ء وترك قطع من سرق ما يسرع اليه الفساد ، ولا قود الا بالسيف ، ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا يرث الكافر المسلم ، ولا يقتل الوالد بالولد ، ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب ، وقد بسط الكلام ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين من ص ٢٨٨ ـ ٢٩٤ آخر المجلد الثاني وفي المجلد الثالث الى ص ١٤ وشنع على من رد أحكاما استنادا إلى أنها زيادة على القرآن.

ثم القضاء بالشاهد واليمين يختص بالأموال وما في حكمها وعليه إجماع المسلمين ممن يقول بالقضاء بالشاهد واليمين مع اختلاف يسير في موارده ، لا يهمنا التعرض له. وهل يقضى باليمين مع المرأتين؟ نقل الشيخ في الخلاف المسئلة السابعة من مسائل كتاب الشهادات ج ٢ ص ٦٠٧ الحكم به عن الإمامية وإجماعهم فيه وبه قال مالك كما في بداية المجتهد ج ٢ ص ٤٥٧ قال لان المرأتين اقيمتنا مقام الواحد وقال الشافعي : لا يجوز

٥٣

١٤ ـ « وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا » قيل : ذلك في التحمّل وقيل في الإقامة وقيل فيهما معا والأوّل أنسب لأنّ الكلام في التحمّل لا في الإقامة ، ولو حمل عليهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا وهو ممنوع ، والنهي عن الإباء يستلزم الأمر بالتحمّل لكنّه فرض على الكفاية ، فان لم يوجد غير ذينك الشاهدين. صار فرض عين.

١٥ ـ « وَلا تَسْئَمُوا » أي لا تملّوا « أَنْ تَكْتُبُوهُ » الضمير للدين « صَغِيراً » أي

__________________

لأنه إنما أقيمتا مقام الواحد مع الشاهد الواحد لا مفردة ولا مع غيره.

واختار العلامة قدس‌سره أيضا في المختلف ج ٢ ص ١٦٤ ما قواه الشيخ في الخلاف والنهاية والمبسوط من جواز القضاء واختاره أيضا ابن إدريس في باب القضاء الا انه رجع عنه في باب الشهادات وقال قدس‌سره على ما نقل عنه في المختلف : الذي يقتضيه الأدلة ويحكم بصحته النظر الصحيح أنه لا يقبل شهادة امرئتين مع يمين المدعى ، وجعلهما بمنزلة الرجل في هذا الموضوع يحتاج الى دليل شرعي والأصل ان لا يشرع ، وحملهما على الرجال قياس وهو عندنا باطل ، والإجماع غير منعقد والاخبار غير متواترة فإن وجدت فهي نوادر وشواذ ، والأصل براءة الذمم ، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا فإنه يحتاج إلى أدلة قاهرة أما إجماع أو تواتر أخبار أو قرآن ، وجميع ذلك خال منه فيبقى دليل العقل ومقتضاه ما اخترناه ، انتهى كلامه.

قال العلامة : لنا ان شهادة المرأتين كشهادة رجل واحد ، وقد أثبت الحق بشهادة الواحد مع اليمين فكذا مساويه.

قلت وهل هذا الا القياس الذي لا نقول به ، فالامتن الاستدلال على الجواز بالروايات كما تراه في ح ١ و ٣ و ٤ من الباب ١٥ من أبواب كيفية الحكم وح ٣٤ من الباب ٢٤ من كتاب الشهادات من الوسائل ، بل وكذا ح ٤ من الباب ٢٤ من كتاب الشهادات وقد حكم بصحة بعضها وحسن آخر منها في الجواهر ولذلك قال قدس‌سره في ص ٤٥ من ج ٦ ( ط ـ الحاج محمد حسين الكاشاني ) وتنقح من جميع ما ذكرنا اتحاد موضوع الثلاثة أي الشاهد واليمين ، والشاهد والمرأتين ، والمرأتين مع اليمين وهو كل حق آدمي أو المالى منه خاصة على البحث الذي قدمناه في الشاهد واليمين انتهى كلامه رفع مقامه ، ومع ذلك كله فالمسئلة عندي محل تأمل.

٥٤

سواء كان الدين قليلا أو كثيرا وقيل المراد الكاتب فانّ البلوغ ليس بشرط في الكاتب وقيل الكتاب أي مختصرا كان أو مطوّلا وكل ذلك تعسّف والأوّل أولى ، وفي ذلك دلالة على استحباب كتابة الدين والاشهاد به.

ثمّ ذكر سبحانه لرجحانه ثلاثة أسباب الأوّل أنّه « أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ » أي أعدل الثاني أنّه « أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ » أي أعون لها لأنّ المكتوب أبعد زوالا من الحفظ الثالث أنه « أَدْنى أَلّا تَرْتابُوا » أي أقرب في انتفاء الريب أي الشكّ لأنّ عدم الكتابة سبب لريب أحد الغريمين في أنّه صادق أو كاذب.

١٦ ـ « إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً » هذا استثناء من الأمر بالكتابة أي إن كانت المعاملة بينكم في تجارة حاضرة يدا بيد من غير غيبة لأحد العوضين ، فليس عليكم جناح أن لا تكتبوا تلك المعاملة ، فإنّه لا يتوقّع فيها شكّ استقبالي.

١٧ ـ « وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ » أي إذا لم يكن المبايعة بالدّين وإلّا لزم التكرار وإنّما أمر بالإشهاد عند المبايعة إرشادا إلى رعاية مصلحتها لأنّه لولاه لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع أو يقع نزاع في كميّة أحد العوضين ، أو شرط أو خيار أو غير ذلك فالأمر هنا للإرشاد ، وقال داود : إنّه للوجوب ، وليس بشي‌ء لما قلناه من ترتّب المصلحة الدنيويّة.

١٨ ـ « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » فيه قراءتان (١) : إحداهما « لا يضارر » بالإظهار والكسر والبناء للفاعل قرأ به أبو عمرو ، فعلى هذا يكون المعنى لا يجوز

__________________

(١) قال الطبرسي في المجمع : وقرأ أبو جعفر « ولا يضار » بتشديد الراء وتسكينها والباقون « لا يضار » بالنصب والتشديد. ثم قال في وجهه : واما قوله « لا يُضَارَّ » ففيه قولان : أحدهما أن أصله لا يضارر ـ بالكسر ـ فأدغمت الراء في الراء وفتحت لالتقاء الساكنين فيكون معناه : لا يكتب الكاتب الا بالحق ولا يشهد الشاهد الا بالحق ، الثاني : ان أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى فأدغمت فيكون المعنى لا يدع الكاتب على وجه يضر به وكذلك الشاهد ، والأول أبين واما قراءة أبي جعفر بتسكين الراء مع التشديد ففيه نظر ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف اه فتدبر.

٥٥

وقوع المضارّة من الكاتب بأن يمتنع من الإجابة أو يحرّف بالزيادة والنقصان ، وكذا الشهيد لا يمتنع إذا دعي للتحمّل أو الإقامة ، ولا يكتم شيئا ممّا شهد به ، أو يزيد أو ينقص بما فيه ضرر على المشهود عليه.

وثانيهما قراءة الباقين « لا يضارّ » بالإدغام والفتح ، والبناء للمفعول ، فعلى هذا يكون المعنى لا يفعل بالكاتب ولا الشهيد ضرر بأن يكلّفا قطع مسافة مشقّة من غير تكلّف مؤنتهما أو لا يعطى الكاتب أجرته وافية أو غير ذلك من أسباب المضارّة.

١٩ ـ « وَإِنْ تَفْعَلُوا » أي تلك المضارّة على أحد التقديرين « فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ » أي خروج عن أوامر الله سبحانه.

٢٠ ـ « وَاتَّقُوا اللهَ » أي اعتمدوا التقوى في كلّ ما أمركم الله به في أمور دينكم ودنياكم.

٢١ ـ « وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ » أي هذه الأحكام المذكورة كلها من تعليم الله لكم ما فيه مصالحكم فلا ترتابوا في شي‌ء من ذلك لأنّه بكلّ شي‌ء عليم وفي ذلك دلالة على أنّ الأحكام كلّها بتعليم الله سبحانه لا بالقياس والاستحسان.

وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أنّ في البقرة خمس مائة حكم وفي هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما وأنت فقد ظهر لك أكثر من ذلك.

الثانية ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١).

كان هنا تامّة لا تفتقر إلى خبر كقول الربيع ابن ضبع الفزاريّ (٢)

إذا كان الشتاء فأدفئوني

فانّ الشيخ يهدمه الشتاء

أي إن وجد ذو عسرة والفاء جواب الشرط ، والنظرة بمعنى الانظار وهو

__________________

(١) البقرة : ٢٨٠.

(٢) هو كما في سمط اللآلي ص ٨٠٢ والإصابة الرقم ٢٧٢٨ والمعمرين ص ٨ الربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدا بن فزارة قال أبو حاتم :

٥٦

التأخير ، والمراد بالمعسر عندنا من يعجز عن أداء ما عليه من الدّين ، ولا يحسب عليه قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه وخادمه المعتاد ، فانّ ذلك لا يجب صرفه في الدّين ، فإذا تحقّق العجز عمّا عدا ذلك وجب الانظار. وحرم المطالبة والحبس ومع القدرة تحلّ المطالبة ويجوز الحبس قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « لي الواجد يحلّ عقوبته وعرضه (١) » واللّي المطل ، والعقوبة الحبس ، والعرض المطالبة.

قوله « وَأَنْ تَصَدَّقُوا » أي تسقطوا عن المعسرالدّين « فهو خَيْرٌ لَكُمْ » وفيه فوائد :

١ ـ أنّ الإبراء صدقة فيستلزم قصد القربة.

٢ ـ أنّ الإبراء لا رجوع فيه كالصدقة.

٣ ـ عدم اشتراط القبول فيه فيقع وإن لم يقبل المديون فلا يشترط حضوره ولا مشافهته.

٤ ـ فهم بعضهم من هذا أنّ المندوب أفضل من الواجب لأنّ الانظار واجب والإبراء ندب ، وقد جعله خيرا فيكون أفضل ، وهو غلط فإنّ الإبراء جامع للنظرة والصدقة ، فالخيريّة باعتبارهما معا.

قوله « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » أي إن علمتم حقيقة الصدقة ، علمتم خيريّتها فانّ

__________________

عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة ولم يسلم ، وقال حين بلغ مائتي سنة أبياتا منها إذا كان إلخ.

وترى الأبيات في نوادر أبى على ج ٣ ص ٢١٧ وبعده :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب المسرة والفتاء

والمشهور في ضبط الربيع مصغرا وروى كأمير وروى بعضهم ربيع بن ضبيع بتصغيرهما.

وذكر في أيام العرب في الجاهلية ص ١٢٢ قصة مصاحبته مع امرئ القيس.

(١) رواه الطوسي في المجالس ص ٣٣١ وبعده ما لم يكن دينه فيما يكره الله عزوجل.

٥٧

العلم التصديقي مسبوق بالعلم التصوّريّ وموقوف عليه لأنّ المراد إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم ، كما قاله الزمخشريّ.

الثالثة ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) (١).

وفي معناها ثلاث آيات أخرى :

ألف ـ ( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) (٢).

ب ـ ( وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) (٣).

ج ـ ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) (٤).

هذه أربع آيات استدلّ المعاصر بها على أرجحيّة القرض للمؤمن ، وأنّ فيه أجرا عظيما وأنّ الله هو المكافى‌ء عليه إذ الحقيقة ممنوعة لاستحالة الحاجة عليه تعالى ، فيحمل على إقراض عبيده.

وعندي في ذلك نظر فإنّ إطلاق القرض الّذي هو إعطاء شي‌ء ليستعيد عوضه وقتا آخر استعارة للأعمال الصالحة فإنّ الأعمال الصالحة يفعلها العبد ويحصل له العوض في الدار الآخرة وحينئذ لا دلالة في الآية على مشروعيّة القرض ، وقوله « إنّ الحقيقة ليست مرادة » مسلّم ، لكن حمله على إقراض المؤمنين من غير دلالة حمل من غير دليل ، ولا ضرورة إليه مع إمكان المجاز الّذي ذكرناه.

فان قال : حيث صدق لفظ القرض ومعناه بين الله وبين عبادة ، دلّ ذلك على مشروعيّته. قلنا فحينئذ كان ينبغي له أن يتعرّض لذلك في دليله ولم يفعل.

__________________

(١) البقرة : ٢٤٥ الحديد : ١١

(٢) التغابن : ١٧.

(٣) المزمل : ٢٠.

(٤) الحديد : ١٨.

٥٨

هذا مع أنّه لا وجه للملازمة خصوصا مع الفرق بين القرضين ، فانّ قرض العبد للربّ ليستعيض أضعافه ، والقرض بين العبيد يحرم فيه الزيادة على المثل.

ولو استدلّ عليه بغير ذلك من العمومات القرآنيّة كقوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (١) وقوله ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٢) وقوله ( إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ) (٣) » وعن الصادق عليه‌السلام أنّ المعروف القرض (٤) لكان أولى والله أعلم.

توابع الدين أنواع

النوع الأول

الرهن :

وهو لغة الثبات والدوام ومنه نعمة راهنة واللّغة الغالبة الكثيرة « رهن » وأما « أرهن » فلغة قليلة ، وشرعا وثيقة للمدين يستوفي منه دينه وفيه آية واحدة وهي :

( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ، فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (٥).

في الآية فوائد :

١ ـ الارتهان جائز مطلقا وتقييده في الآية بالسّفر وعدم وجدان الكاتب خرج مخرج الأغلب ، فإنّ السفر مظنّة إعواز الكاتب ، ولأنّ التقييد بالسّفر لا

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) النساء : ١١٣.

(٤) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٧٥.

(٥) البقرة : ٢٨٣.

٥٩

يدل على شرعيّته في الحضر ولا عدم شرعيّته إلّا بدليل خارجيّ ، وقد وجد وهو فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه رهن درعه وهو حاضر عند يهوديّ (١) والإجماع فإنّه لا خلاف في جوازه مطلقا.

وقال مجاهد والضحّاك بعدم جوازه إلّا في السفر وقد أبطل قولهما الإجماع.

٢ ـ الجمهور على أنّه يشترط القبض في الرهن إلّا مالكا فإنّه اكتفى بالإيجاب والقبول ، وبالأوّل قال أكثر أصحابنا مستدلّين بالآية ، وبقول الباقر عليه‌السلام فيما رواه محمّد بن قيس « لا رهن إلّا مقبوضا » (٢).

وقال المحقّقون منهم بالثاني لأصالة عدم الاشتراط ولعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » والآية إنّما تدل بدليل الخطاب ، وهو باطل ، ولأنّها لو دلّت على شرطيّة القبض لزم التكرار ، ولا فائدة فيه ، وبيان الملازمة أنّه سمّاها رهنا قبل ذكر القبض فلو كان شرطا لما حسنت التسمية بدونه ، كما لا يقال : رهن مقبولة ، والمجاز وإن أمكن لكنّه خلاف الأصل ، والرواية ضعيفة ، لأنّ في طريقها محمّد بن قيس وهو مشترك بين الضعيف وغيره وفي الكلّ نظر وقد بيّنّاه في التنقيح.

٣ ـ أكثر من يشترط القبض لا يشترط دوامه ، بل يكفي مسمّاه ، ولو أعاده جاز وحصل الرهن ، وقال أبو حنيفة : استدامته شرط.

٤ ـ يجوز أخذ الرهن على كلّ حقّ ثابت في الذمّة سلما كان أو غيره وهو إجماع ولأنّ آية الدين عامّة.

٥ ـ الرهن أمانة لا تضمن (٣) إلّا مع تعد أو تفريط ، وقال أبو حنيفة : إنّه

__________________

(١) أخرجه في مشكاة المصابيح ص ٢٥٠ من حديث عائشة وقال متفق عليه.

(٢) رواه في التهذيب ج ٢ ص ١٦٦.

(٣) وعليه الإجماع من الإمامية نقلا وتحصيلا كما شرحه في مفتاح الكرامة ج ٧ ص ١٧٩ والعجب من صاحب الدروس حيث قال : لا يضمن على الأشهر مع أنا لم نقف على مخالف له من الإمامية والاخبار به مستفيضة ، وفيها الصحاح انظر الوسائل الباب ٦ من أبواب كتاب الرهن. وعلى أى قال في الخلاف المسئلة ٦٦ من مسائل الرهن ج ٢ ص ٦١٦ : « وهو مذهب على عليه‌السلام » : ، ثم قال : وهو مذهب عطاء بن ابى رباح

٦٠