كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

وهذا الحكم مخصوص بالسنّة والكتاب أمّا السنّة فبالزيادة تارة كما في حقّ البكر الذكر ، فإنّه يزداد التغريب سنة لقوله عليه‌السلام « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (١) » ومنعه أبو حنيفة والخبر يبطل قوله ، وكذا عمل الصّحابة ، وقوله إنّ الآية ناسخة للخبر ضعيف لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه ، لتكون ناسخة له وفعل الصحابة متأخّر عن الآية فكيف يكون التغريب منسوخا بها ، وبالإبدال تارة كما في حقّ المحصن والمحصنة ، فانّ حدّهما الرّجم هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرّجم ، وإلّا فهو أيضا زيادة ، نعم قيل الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة وقيل عامّ وهو الحق لأنّ عليا عليه‌السلام جلد سراجة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله (٢) وكانت سراجة شابّة وفعله عليه‌السلام حجّة.

والمراد بالمحصن من له فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين تغدو عليه وتروح ، وبالمحصنة من لها زوج بالعقد الدائم يغدو عليها ويروح والبكر قيل هو ما عدا المحصن ، وقيل من أملك ولم يدخل ، والطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة بخلاف البائن ، وإن بقيت ، وعندنا لا جزّ على المرأة ولا تغريب وأمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة لقوله « فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) (٣) واختلف في العبد فقيل كالحرّ وقيل كالأمة ، وهو الأقوى.

٢ ـ قوله « وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ » والرأفة الرحمة وفيها لغتان فعالة وفعلة نحو كأبة وكآبة وشأمة وشآمة والخطاب هنا وفي قوله « فَاجْلِدُوا » للأئمّة والحكّام ، قوله « فِي دِينِ اللهِ » أي في حفظه ، وقوله « إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ » معناه أنّ حفظ دين الله من لوازم الإيمان ، فمن أتى بالملزوم يلزمه الإتيان بلازمه ، وإلّا لم يكن مؤمنا فإنّ عدم اللّازم ملزوم لعدم ملزومه ، وهذا على سبيل المبالغة في الحكم

__________________

(١) سنن ابى داود ج ٢ ص ٤٥٥ من حديث عبادة بن الصامت.

(٢) المستدرك ج ٣ ص ٢٢٢.

(٣) النساء : ٢٥.

٣٤١

وتشديدا لأمر الزنا ، وحسما لمادته ليتحفّظ النسب ، ويجري الأحكام الشرعيّة المترتبة عليه على أصولها ، ولذلك « قال صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر الناس اتّقوا الزنا فإنّ فيه ستّ خصال ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة أمّا اللاتي في الدنيا فإنّه يذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا اللاتي في الآخرة فإنّه يوجب السخط ، وسوء الحساب ، والخلود في النار (١) وفي الآية دلالة على أنّه يضرب أشدّ الضرب وأنّه لا ينقص من الحدّ شي‌ء ، وأنّه لا يجوز الشفاعة في إسقاطه ، وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقول رحمة لعبادك فيقول له : أنت أرحم بهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول : لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار (٢).

٣ ـ « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » أي ليحضر لأجل التشهير ليرتدع الناس عن مثل فعلهما ، وقيّد الطائفة بالمؤمنين لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن الإسلام ، ولذلك كره إقامته في أرض العدوّ واختلف في الطائفة فعن الباقر عليه‌السلام أقلّها واحد ، وبه قال مجاهد وإبراهيم ، وقال عكرمة اثنان وقتادة والزهريّ ثلاثة وابن عباس أربعة لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحد وهو قريب لكن قول الباقر عليه‌السلام أقوى ويؤيّده أنّ الفرقة جمع وأقلّه ثلاثة ، والطائفة بعضها فيكون واحدا.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) (٣).

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٦٦ ، والكافي ج ٥ ص ٥٤١.

(٢) المستدرك ج ٣ ص ٢٢١.

(٣) المائدة : ٤١.

٣٤٢

أي لا يحزنك صنع الّذين يسارعون في الكفر أي يقعون فيه سريعا وقسمهم إلى المنافقين وهم الّذين قالوا آمنّا إلى آخره ، وإلى اليهود المتّبعين للكذب ، وهو ما حرّفوه من أحكام التوراة وهم أيضا مطيعون لقوم آخرين لم يحضروا مجلسك بغضا لك ، وقوله « يُحَرِّفُونَ » صفة أخرى لهم ، قيل نزلت هذه في يهود خيبر حيث أرسلوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يسألونه عن محصن زنى ، وقالوا لرسلهم : إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه ، وذلك لأنّهم حرّفوا حكم التوراة برجم المحصن إلى أنّه يجلد أربعين سوطا ويسوّد وجهه ويشهر على حمار.

وعن الباقر عليه‌السلام إنّ خيبريّة من أشرافهم زنت فكرهوا رجمها فأرسلوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يستفتونه طمعا في رخصة تكون في دينه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أترضون بحكمي؟ فقالوا : نعم ، فأفتاهم بالرّجم ، فأبوا أن يقبلوا فقال جبرئيل عليه‌السلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلهم عن ابن صوريا واجعله بينك وبينهم حكما فقال لهم : أتعرفون ابن صوريا؟ قالوا نعم ، وأثنوا عليه وعظّموه ، فأرسل إليه فأتى فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنشدك الله هل تجدون في كتابكم الّذي جاء به موسى عليه‌السلام الرّجم على المحصن فقال نعم ، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة إن كتمت لما اعترفت ، فنزلت « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (١) فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير الّذي أمر بالعفو عنه ، فأعرض عن ذلك ، واسم ابن صوريا عبد الله وكان شابّا أمرد أعور ، وكان أعلم يهوديّ في زمانه.

ونقل الزمخشري أنّهم أرسلوا الزانيين مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله عن أمرهم ، وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرّجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم فقال له : أنشدك الله الّذي لا إله إلّا هو الّذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والّذي أنزل عليكم كتابا وبيّن حلاله وحرامه

__________________

(١) المائدة : ١٥ ، راجع مجمع البيان ج ٣ ص ١٩٣.

٣٤٣

هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟ فقال : نعم ، فوثبوا عليه ، فقال : خفت إن كذّبته أن ينزل علينا العذاب فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزانيين فرجما عند باب المسجد ولنتبع هذا البحث بفوائد :

١ ـ قد نقلنا أنّ حدّ اللواط يدلّ عليه الآية الثانية على قول ، وحد المساحقة يدل عليه الاولى ، فيكونان أيضا ثابتين بالكتاب لكنّ المراد باللّواط الموجب للقتل هو الّذي فيه إيقاب لا غيره وفي المساحقة الجلد مائة (١) وروى محمّد بن حمزة عن الصادق عليه‌السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة عنهنّ عن السّحق ، فقال : حده حد الزنا فقالت المرأة ما ذكر الله ذلك في كتابه؟ فقال : بلى ، قالت : وأين؟ قال : هنّ أصحاب الرسّ (٢).

٢ ـ روي أنّ المتوكّل بعث إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ عليهما‌السلام من سأله عن نصراني فجر بامرءة مسلمة ، فلمّا أخذ ليقام عليه الحدّ أسلم؟ فأجاب عليه‌السلام إنّ الحكم فيه أن يضرب حتّى يموت لأنّ الله تعالى يقول « فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ » وفي هذه دلالة على أنّ الكافر إذا زنى بمسلمة فحده القتل (٣).

٣ ـ روي أنّ امرأة أتت عمر فقالت : إنّي فجرت فأقم عليّ حدّ الله ، فأمر برجمها وكان عليّ عليه‌السلام حاضرا فقال له : سلها كيف فجرت؟ فقالت كنت في فلاة من الأرض أصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلّا أن أمكّنه من نفسي ، فوليت منها هاربة ، فاشتدّ بي العطش

__________________

(١) كذا في نص وهكذا المطبوعة ، وفي بعض النسخ المخطوطة : « بل فيه الجلد مائة ».

(٢) الكافي ج ٧ ص ٢٠٢.

(٣) رواه ابن شهرآشوب في المناقب ج ٤ ص ٤٠٥ وأخرجه في المستدرك ج ٣ ص ٢٢٧ ، والآية في سورة المؤمن ٨٤ و ٨٥.

٣٤٤

حتّى غارت عيناي فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني ووقع عليّ فقال عليّ عليه‌السلام هذه الّتي قال الله تعالى « ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (١) » غير باغية ولا عادية فخلّ سبيلها ، وفيه دلالة على أنّ المكره لا حدّ عليه.

٤ ـ لو كان من يجب عليه الحد مريضا يخشى تلفه تخير الحاكم بين الصبر حتى يبرأ وبين الضرب بالضغث المشتمل على العدد ، لأنّه روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اتي بمستسق قد زنا بامرأة فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بعرجون فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ثمّ خلّى سبيله (٢) وهذا يمكن أن يكون مأخوذا من قوله « وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (٣) ».

القسم الثاني

حد القذف

وفيه آيتان :

الاولى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٤).

قال سعيد بن جبير : إنّها نزلت في قصّة عائشة وقال الضحّاك بل في سائر نساء المؤمنين وهو أولى لأنّه أعمّ فائدة ، ولو سلّمنا فهي أيضا عامّة لما عرفت أن خصوص السبب لا يخصّص وقد دلّت على أحكام :

١ ـ أنّ القذف هو الرمي بالزنا ، لما تقدم أنّه يثبت بأربعة شهداء فقال

__________________

(١) البقرة : ١٧٣ ، والحديث في تفسير العياشي ج ١ ص ٧٤.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٤٧٨ عن العياشي.

(٣) ص : ٤٤.

(٤) النور : ٤.

٣٤٥

هنا « ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ » فعلم أنّ المراد الرّمي بالزنا والإجماع على ذلك.

٢ ـ يشترط في الحدّ عفّة المقذوفة وإليه أشار بقوله « الْمُحْصَناتِ » ولم يرده بالمعنى السابق في الزناء للإجماع على ثبوت الحدّ بالقذف لغير الزوجة ، أمّا غير العفيفة فإنّه يجب التعزير إلّا أن يبلغ حالها إلى الاشتهار بالزّناء بحيث لا يستنكف من المخاطبة به فحينئذ لا حدّ ولا تعزير.

٣ ـ أنّه إنّما يجب الحد إذا ثبت عند الحاكم وثبوته إمّا بالإقرار أربعا أو بأربعة شهود في مجلس واحد غير متفرّقين بل متّفقين على الفعل الواحد بالوصف الواحد مع اتّحاد الزّمان وإمكان ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يشترط اتّحاد مجلس الشهود وقال أصحابنا يثبت أيضا بثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة على تفصيل يذكر في كتب الفقه.

٤ ـ أنّ القاذف يجلد ثمانين جلدة ، حرّا كان أو عبدا ، رجلا كان أو امرأة لعموم اللّفظ والتصنيف في العبد إنّما جاء في الزنا.

٥ ـ أنّه لا تقبل شهادته ، والمراد به ما دام فاسقا.

٦ ـ أنّه محكوم بفسقه وهو دليل على كونه كبيرة.

٧ ـ أنّه إذا تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعيّ بناء على أنّ الاستثناء من قوله « وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً » والواو للعطف على جزاء الشرط ، فيكون من جملة الجزاء ، وهو قول أكثر التابعين وروي عن عمر أنّه قال لأبي بكرة في شهادته على المغيرة أن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يكذّب نفسه وقال أبو حنيفة لا يقبل شهادته أبدا إلّا أن يشهد قبل إقامة الحدّ عليه أو قبل تمامه ، بناء على أنّ الواو في قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » للاستيناف ، والاستثناء عن « الفاسقين » وهو قول ابن جريج وابن المسيّب والحسن والمراد بالإصلاح المعطوف على التوبة هو الاستمرار عليها ، وقيل لا بدّ من عمل وإن قلّ ثمّ هنا فوائد :

١ ـ لا فرق في كون المقذوف ذكرا أو أنثى ، ولفظ التأنيث في الآية لخصوص الواقعة ، وقد عرفت أنّه غير مخصّص.

٣٤٦

٢ ـ القذف باللّواط كالقذف بالزنا ، من غير فرق ، وكذا السحق أمّا القذف بالكفر أو الشرب وغير ذلك من المعاصي فيوجب تعزيرا.

٣ ـ أنّه يجلد بثيابه بخلاف حدّ الزنا فإنّه يجلد عريانا وقيل في الزنا يجلد كما وجد ، والضرب في القذف متوسّط ، وقال الباقر عليه‌السلام « يجلد الرّجل قائما والمرأة قاعدة (١) ».

٤ ـ يشترط في المقذوف الحرّيّة والبلوغ والإسلام ، ولو كان بخلاف ذلك عزّر قاذفه.

٥ ـ حد القذف حق الآدميّ يتوقف إقامته على المطالبة ، ولا يسقطه التوبة مطلقا إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده ، ورضاه جزء من التوبة وحدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا والتخطئة إن كان صادقا فلا يقبل شهادته بدون ذلك.

٦ ـ قال بعضهم أشدّ الضرب يكون في التعزير ، ثمّ بعده في الزنا ، ثمّ بعده في الشرب ، ثمّ بعده في القذف ، لأنّ القاذف قد يكون صادقا فيما قاله ، وإنّما عوقب صيانة للأعراض ، وقد حافظ الشارع على صيانتها بقوله « وَلا تَجَسَّسُوا » وبقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (٢).

الثانية ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (٣).

« الْمُحْصَناتِ » العفائف « الْغافِلاتِ » السّليمات القلوب من الخبائث النفسانيّة وإنّما جمع وإن كان السّبب واحدا وهي عائشة ليعلم عموم الحكم في كلّ محصنة قذفت بالزّنا وقد شدّد الله أمر القذف ما لم يشدّد في غيره حيث جعل القاذفين ملعونين

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٨٣.

(٢) الحجرات ١٢ ، والنور : ١٩.

(٣) النور : ٢٣.

٣٤٧

في الدّنيا والآخرة ، وتوعّدهم بالعذاب الأليم وأوجب عليهم الحدّ في الدّنيا.

فائدة قد تقدّم حديث قدامة لمّا شرب الخمر وقول عليّ عليه‌السلام لعمر : إن تاب أقم عليه الحدّ فلمّا أظهر لتوبة لم يدر عمر كيف يحدّه ، فقال لأمير المؤمنين عليه‌السلام أشر عليّ في حدّه فقال : حدّه ثمانين لأنّ شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذي ، وإذا هذي افترى قال الله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) إلى آخرها فدلّ ذلك على أنّ حدّ المسكر ثمانون ، وهذا ليس قياسا منه عليه‌السلام لأنّ مذهبه تحريم القياس ، بل بيانا للعلّة كما سمعه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك لمّا سكر الوليد فأراد عثمان بن عفان حدّه وكان رأيه في الحدّ أربعين فأشار إلى علىّ عليه‌السلام بضربه فضربه بدرّة لها رأسان أربعين جلدة فكانت ثمانين.

القسم الثالث

( حد السرقة )

وفيه آيتان :

الاولى ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١).

إعراب السارق والسارقة كما تقدّم في الزاني والزانية من المذهبين « وجزاء » و « نكالا » منصوبان على المفعول له والنكال العذاب ولا شكّ أن الآية مشتملة على أحكام كلّها مجملة تفتقر إلى بيان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله تعالى ( لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٢) وعندنا أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كذلك لما ثبت من كونهم حفظة للشرع بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١ ـ « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » سواء قلنا إنّ اسم الجنس المعرّف باللّام للعموم

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

(٢) النحل : ٤٤.

٣٤٨

أو لم نقل ، فإنّه مجمل يحتمل عموم كلّ سارق وبعضه ، لكنّ البيان النبويّ والإماميّ عليهم‌السلام أخرج الأب إذا سرق مال ولده ، والعبد [ إذا سرق ] مال سيّده والغانم من الغنيمة ، والشريك من المشترك ما يظنّه حقّه ، وكلّ ذي شبهة محتملة.

٢ ـ قوله « فَاقْطَعُوا » القطع قد يراد به الشق من غير إبانة نحو برئت القلم فقطعت السكّين يدي ، وقد يراد مع الإبانة فهو حينئذ محتمل للقسمين لكنّ البيان الشرعيّ حكم بإرادة الثاني.

٣ ـ وقع الإجماع على أنّه لا يقطع إلّا يد واحدة ، وهي محتملة لإرادة اليمين واليسار ، لصدق اليد على كلّ واحد منهما ، لكنّ البيان المذكور خصّ اليمين وإنّما قال « أَيْدِيَهُما » ولم يقل يديهما لعدم الاشتباه ، نحو قوله تعالى « فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (١) ».

٤ ـ اليد أطلقت لغة وعرفا على الجارحة المخصوصة من الكتف إلى رؤس الأصابع ، وشرعا من المرفق إلى الرؤس كما في آية الوضوء ، ومن الزّند إلى الرؤس كما في التيمّم عندنا وعلى الأصابع لا غير كما في قوله « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (٢) » ولم يبيّن في الآية المراد وحينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر فيكون اللفظ مجملا وقيل إنّه غير مجمل لأنّ اليد حقيقة في الأوّل ، مجاز في الباقي ، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد فيكون اللّفظ ظاهرا في جملة اليد ، ولذلك قال به الخوارج فلا يكون مجملا.

والحق الأوّل لأنّ القطع من المنكب غير مراد إجماعا ، لأنّ قول الخوارج باطل لكفرهم بانكارهم ما علم من الدين ضرورة فلا يكون الحقيقة حينئذ مرادة فيحمل على بعض اليد من الأقسام المذكورة ، وليس بعضها أولى من بعض بالنسبة إلى اللّفظ فيثبت الاجمال وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فالمشهور عند الفقهاء القطع من مفصل الكفّ عن الساعد ، و

__________________

(١) التحريم : ٤.

(٢) البقرة : ٧٩.

٣٤٩

عند أصحابنا هو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى ، ويترك له الراحة والإبهام فإن عاد ثانيا مع الشرائط والقطع أوّلا قطعت رجله اليسرى ، ويترك له العقب فان عاد ثالثا بعد قطع الرّجل خلّد في السجن حتى يموت فان سرق في السجن قتل. واعتمدوا في ذلك على نقلهم المتواتر عن أئمّتهم عليهم‌السلام وعلى أنه يصدق على ذلك اسم اليد كما قلناه وعلى أصالة عدم التهجّم على أكثر من ذلك إلّا بدليل ولم يثبت.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

١ ـ النصاب الّذي يجب القطع بأخذه عندنا ربع دينار ذهبا خالصا مسكوكا أو ما قيمته ذلك وبه قال مالك والشافعيّ وبه حكم الخلفاء الأربعة ، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم وقال الحسن البصريّ درهم ، وقال الطبري لا حدّ له بل أيّ شي‌ء كان من قليل أو كثير.

٢ ـ يشترط مع ما تقدّم الأخذ خفية لا مشاهدة ، والإخراج بنفسه لا بغيره ولا مع غيره إلّا أن يبلغ حصّته نصابا.

٣ ـ يشترط أيضا الإخراج من حرز ، وحدّه أصحابنا بأنّه ما ليس لغير المالك الدخول إليه وقال الجبائي هو أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه وله من يراعيه والأولى أن يرجع فيه إلى العرف فلكلّ شي‌ء حرز يخصّه.

٤ ـ يثبت هذا الحدّ بالإقرار مرّتين أو شهادة عدلين فلو أقرّ مرّة لا غير ثبت المال لا غير ، وكذا لو شهد واحد وحلف المدّعي.

الثانية ( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١).

المراد هنا بظلمه سرقته و « الإصلاح » الاستمرار على التوبة ، ولا كلام في سقوط العقاب الأخرويّ بذلك وأمّا الحد فهل يسقط بها أو لا؟ قال أبو حنيفة لا يسقط وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أصحابنا بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط ، وبالإقرار قيل يتحتّم الحد كما في البيّنة

__________________

(١) المائدة : ٣٩.

٣٥٠

وقيل يتخيّر الامام لفعل علىّ عليه‌السلام لمّا وهب يد السارق المقرّ بسرقته ثمّ تاب فقال عليه‌السلام له : هل تحفظ شيئا من القرآن فقال نعم سورة البقرة قال : وهبت يدك بسورة البقرة فقال له الأشعث أتعطّل حدّا من حدود الله؟ فقال له وما يدريك إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو ، قال الله تعالى « الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ » وإذا أقرّ الرجل على نفسه بسرقة فذاك إلى الامام ، إن شاء عفى ، وإن شاء عاقب (١) هذا وأمّا حقّ المالك فلا يسقط بالتوبة مطلقا إلّا مع تصريحه بالإبراء ، وكذا لا يسقط المال بالقطع بل يجب ردّه بعينه أو قيمته وقال أبو حنيفة لا يجب عليه القطع والغرامة معا بل إن قطعت سقطت عنه وإن غرم سقط القطع وهو فرق ضعيف ومع ثبوت التوبة الحقيقية تقبل شهادته لقوله تعالى « إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »

القسم الرابع

حد المحارب

وفيه آيتان :

الأولى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (٢).

محاربة الله ورسوله محاربة المسلمين ، جعل محاربتهم محاربة الله ورسوله تعظيما للفعل ، وأصل الحرب السلب ، ومنه حرب الرّجل ماله أي سلبه فهو محروب وحريب وعند الفقهاء كلّ من جرّد السلاح لإخافة الناس في برّ أو بحر ، ليلا أو نهارا ، ضعيفا كان أو قويّا ، من أهل الريبة كان أو لم يكن ، ذكرا كان أو أنثى فهو محارب ، ويدخل

__________________

(١) راجع تفسير العياشي ج ٢ ص ١١٤ ، والآية في براءة ١١٢.

(٢) المائدة : ٣٣.

٣٥١

في ذلك قاطع الطريق والمكابر على المال أو البضع و « فسادا » منصوب صفة لمصدر محذوف أي سعيا فسادا أو على الحال أي مفسدين أو على أنّه مفعول له.

واختلف في حدّه فقيل على التخيير لظاهر الآية إذ المجاز والإضمار على خلاف الأصل فيتخيّر الامام بين الأقسام الأربعة على أيّ فعل صدر منه من قتل أو أخذ مال أو جرح أو إخافة فعلى هذا يصلب حيّا قطعا ، وقيل بالترتيب والتفصيل وهو أقسام الأوّل : يقتل إن قتل خاصّة ، فلو عفى الولي قتل حدّا ولا معه قصاصا الثاني إن أخذ المال وقتل ، استرجع المال ، وقطع مخالفا ثمّ قتل وصلب ، الثالث إن أخذ المال خاصّة قطع مخالفا ونفي ، الرابع : إن جرح ولم يأخذ شيئا اقتصّ منه ونفي ، الخامس : إن أشهر السلاح وأخاف خاصّة نفي لا غير.

ومن العجيب قول الراوندي إنّ هذا التفصيل يدلّ عليه الآية وليت شعري من أيّ طريق ندل الآية و « أو » صريحة في التخيير بين الأقسام الأربعة اللهمّ إلا مع إضمار ، وقد قلنا إنّ الأصل عدمه ، فان دلّ دليل على تقديره فيكون الدّلالة مستفادة من ذلك الدليل ، لا من الآية فإذا ألحق القول بالتخيير وهنا فوائد :

١ ـ الصّلب على القول الأوّل يكون وهو حيّ قطعا وعلى الثاني قيل يقتل ثمّ يصلب ، وقيل بل يصلب حيّا ويترك حتّى يموت ، وقيل يصلب وينجع حتى يموت.

٢ ـ القطع مخالفا وهو أن يقطع يمناه أوّلا حيّا ثمّ يقطع رجله اليسرى وقد تقدّم كيفيّة القطع.

٣ ـ فسّر أبو حنيفة النفي بالحبس وقال الشافعيّ وأصحابنا هو النفي من بلده وأيّ بلد يستقر فيه أو يقصده يكتب إليهم أنّه محارب فلا يبايع ولا يعامل ولا يعاشر ، وقيل بل يقتصر على نفيه من بلده لا غير.

الثانية ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١)

__________________

(١) المائدة : ٣٤.

٣٥٢

عندنا وعند الشافعيّ أنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى ، أمّا حق الآدميّ من القتل والجرح والمال ، فلا يسقطه إلّا القصاص والأداء ، سواء كان المال موجودا بعينه أو تلف فيلزمه حينئذ قيمته ، وقال بعضهم الاستثناء من كلّ حقّ ، إلّا أن يوجد عين المال فيؤخذ منه ، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحد وإن سقط العقاب الأخرويّ.

كتاب الجنايات

وفيه آيات :

الاولى ( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (١).

يقال من أجل ذلك فعلت ، بفتح الهمزة وكسرها أي بسببه ، سواء كان السبب فاعليّا أو غائيا و « من » لابتداء الغاية فإنّ الشي‌ء يبتدئ من سببه وقد يبدل « من » باللّام فيقال لأجل ذلك وهو إشارة إلى ما تقدّم من قتل قابيل وهابيل ، وقوله « بِغَيْرِ نَفْسٍ » إلى آخره أي لا على وجه القصاص ، ولا على فساد يصدر منها موجب لقتلها.

واختلف في التشبيه الأوّل على أقوال الأوّل أنّ التشبيه معناه أنّه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنّهم خصومة في قتل ذلك الإنسان الثاني : أنّ معناه في تعظيم الوزر والإثم ، والثالث أنّه كأنّما قتل الناس جميعا عند المقتول الرابع أنّه يجب عليه من القتل والقود ، مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا.

وكذا في التشبيه الثاني أقوال الأوّل أنّه كمن أحيا الناس جميعا عند المستنقذ

__________________

(١) المائدة : ٣٢.

٣٥٣

الثاني أنّه من نجّاها من غرق أو حرق فأجره كأجر من أحيا الناس جميعا الثالث أنّه من عفى قتلها وقد وجب عليها القود (١) الرّابع أنّه من زجر عن قتلها ونهى عنه ، بما فيه حياتها ، أو حال بين من يريد قتلها وبينها (٢).

وإنّما قال « أَحْياها » على جهة المجاز من إطلاق السبب على المسبّب والتحقيق هنا في الموضعين أنّه تشبيه على سبيل المبالغة تعظيما لشأن القتل ، وتهويلا لأمره ، وكذلك في طرف الاحياء ، وإلّا فالتشبيه الحقيقي هنا لا وجه له ، لمنافاته الحسّ والعقل والعدل.

الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٣).

هنا فوائد :

١ ـ أنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما على الآخر طول فأقسموا ليقتلنّ الحرّ بالعبد ، والذكر بالأنثى ، والرّجلين بالرّجل ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت فأمرهم أن يتساووا أي يتكافؤا ، والقصاص من قصّ الأثر وهو الاتّباع ، فإنّ الوليّ في القصاص يتبع أثر الجاني ، ويفعل كفعله ، وحينئذ لا يرد سؤال أنّ الوليّ له الخيار في العفو وأخذ الدية والقصاص ، فلم قال كتب ومعناه وجب كما تقدم لأنّ المراد بيان ما هو

__________________

(١) اى كان كمن عفى عن جميع الناس.

(٢) اى كان كمن فعل ذلك بالجميع.

(٣) البقرة : ١٧٨.

٣٥٤

واجب في الأصل ونفس الأمر ، وأمّا العفو وأخذ الدّية ففرعان على الاستحقاق ولذلك لا يجب على الجاني قبول أداء الدّية عندنا وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال الشافعيّ للوليّ الخيار بين الدية والقصاص ، وإن لم يرض الجاني إذ المراد بالوجوب عدم جواز التعدي إلى غير المكافي كما حكيناه من حكاية الحيين.

٢ ـ قوله تعالى « الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى » قيل هذا منسوخ بقوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » وليس بشي‌ء أمّا أوّلا فلأنّه حكاية ما في التورية فلا ينسخ القرآن وأمّا ثانيا فلأصالة عدم النسخ إذ لا منافاة بينهما وأمّا ثالثا فلأنّ قوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » عام وهذا خاص ، وقد تقرّر في الأصول بناء العامّ على الخاصّ مع التنافي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعا ، ولعدم دلالة الآية على منعه ، ولأنّه إذا جاز قتل القاتل بمثله فبالأشرف أولى ، وهل يجوز قتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى أم لا؟ جوّزه أبو حنيفة عملا بعموم « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » ومنعه مالك والشافعي لا لمفهوم « الْحُرُّ بِالْحُرِّ » إلى آخره لأنّ المفهوم إنّما يكون حجّة حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ، وقد بيّنا الغرض وهو دفع حكم الحيّين بل منعناه لما رواه عليّ عليه‌السلام أنّ رجلا قتل عبده فجلده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونفاه سنة ولم يقد منه (١) ولما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال « لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حرّ بعبد (٢) » ولفعل الصحابة من غير نكير وهو مذهب أصحابنا لعدم العمل بالمفهوم مطلقا ولدلالة الأحاديث من أئمتهم عليهم‌السلام.

بقي هنا كلام وهو أنّه إنّما يقتل الحر بالحرّ مع التكافي وهو التساوي في الإسلام والعقل وأن لا يكون القاتل أبا للمقتول خلافا لمالك في الأخير ، وهل حكم الامّ حكم الأب؟ عندنا ليس كذلك ، بل تقتل بالولد وعند الفقهاء حكمها حكم الأب ، أمّا قتل الولد بأبيه فجائز إجماعا وكذا الإجماع على قتل الجماعة بالواحد

__________________

(١) سنن ابى داود ج ٢ ص ٤٨٨ ، المستدرك ج ٣ ص ٢٥٧.

(٢) أخرجه العلامة النوري عن غوالي اللئالى في مستدركة راجع ج ٣ ص ٢٥٨.

٣٥٥

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل مسلم قيدوا به (١) » نعم عندنا يرد عليهم فاضل الدية.

٣ ـ قوله تعالى « فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‌ءٌ » إلى آخره ، قيل عفي بمعنى ترك وشي‌ء مفعول به ، وهو ضعيف إذ لم ينقل عفى الشي‌ء بمعنى تركه ، بل أعفاه وقال الزمخشريّ تقديره فمن عفي له من أخيه شي‌ء أي شي‌ء من العفو لأنّ عفي لازم لا يتعدّى بنفسه ، وفائدته الإشعار بأنّ بعض العفو كالعفو التامّ في إسقاط القصاص فعلى الأوّل يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذّنب ، قال الله تعالى « عَفَا اللهُ عَنْكَ » و « عَفَا اللهُ عَنْها » (٢) فإذا عدّي إليهما عدّي باللّام إلى الجاني وعليه الآية كأنّه قال فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدّم وذكره بلفظ الاخوّة الثابتة بينهما من الجنسيّة والإسلام ليرقّ له ويعطف عليه.

ثمّ العفو تارة يكون مطلقا بأن يعفو ولا يشترط شيئا وحينئذ لا يلزم الجاني شي‌ء ، وتارة يكون مع اشتراط الدية وإلى الأخير أشار بقوله « فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ » أي فالأمر اتّباع أو فليكن اتّباع ، وهو وصيّة للعافي بأن يطلب الدية بالمعروف ولا يطلبه بالزيادة ولا يعنّفه ووصيّة للجاني بأن يؤدّيها بإحسان ، وهو أن لا يماطل ولا يبخس بل يشكره على عفوه وأكثر العلماء من الصّحابة والتابعين على أنّ أخذ الدية مشروط برضا القاتل وقيل غير مشروط به ، وقيل الوصيّة للجاني لا غير ، أي فعليه اتّباع إلى آخره وعلى الأوّل يمكن أن يكون فيه دلالة على تأجيل الدية سنة ، وقيل في الآية دليل على أنّ الدية أحد مقتضي العمد وإلّا لما رتّب الأمر بأدائها على مطلق العفو ، بل كان ينبغي أن يقيّده بالعفو عن الخطاء وليس بشي‌ء.

٤ ـ قوله « ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ » أي ذلك الحكم بترك القصاص وأخذ الدية تخفيف من الله لهذه الأمّة وذلك لأنّ حكم التوراة القصاص لا غير وحكم الإنجيل العفو مطلقا من غير دية وخيّر هذه الأمّة بين الثلاثة تيسيرا عليهم.

__________________

(١) راجع المستدرك ج ٣ ص ٢٥٠.

(٢) براءة : ٤٣ ، المائدة : ١٠١.

٣٥٦

٥ ـ قوله « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » أي بعد العفو أو الدية ، بأن يقتل الجاني « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » في الآخرة وقيل في الدّنيا بأن يقتل بجنايته لسقوط حقّه بالعفو أو الصلح على الدية.

الثالثة ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١).

ظاهر هذا الكلام أنّه كالمتناقض لأنّ القصاص هو القتل فكيف يكون القتل حياة؟ وفي التحقيق تحته من الحكمة البالغة ما يعجز عن مثله كلام الآدميين ، فإنّه أوجز الكلام وأفصحه.

أما أنّه أوجز فإنّه نتيجة مقدّمات ، فانّ القصاص ردع عن القتل ، وفي الرّدع ارتفاع عنه ، وفي الارتفاع عنه عدم القتل ، وعدم القتل حياة ، ينتج : القصاص حياة.

وأمّا أنّه أفصح فلأنّ من كلام العرب القتل أنفى للقتل ، وقد رجح أهل البلاغة كلامه تعالى على كلامهم بوجوه متعدّدة لكونه أقلّ حروفا ودلالته على الحياة بالمطابقة وتنكيرها الدالّ على التعظيم ، وعدم التكرار ، وغير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا المسمّى بتجويد البراعة.

وكانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فلمّا جاء شرع القصاص وقرّرت قواعده ارتفعت تلك الفتن.

وقيل : المراد بالحياة هي الأخرويّة فإنّ القاتل إذا اقتصّ منه في الدّنيا لم يؤاخذ به في الآخرة وليس بشي‌ء أمّا أوّلا فلأنّه خلاف المتبادر إلى الفهم ، وثانيا فلأنّ القصاص حقّ للوارث للحيلولة بينه وبين مورثه ، وحقّ للميّت بإدخال الألم عليه [ فان ] لم يؤخذ ما يقابله فكيف يكون ساقطا بالقصاص وليس كذلك المال وإنّما القتل من الآلام الداخلة على الإنسان الّتي أعواضها مختصّة به غير منتقلة عنه ، نعم يمكن أن يكون مع التوبة النصوح والإتيان بالكفّارة يتفضّل الله على

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

٣٥٧

الجاني بأعواض مكافئة لفعله ، ثمّ ينقلها إلى المقتول.

قوله « يا أُولِي الْأَلْبابِ » أي أولى العقول الكاملة ، ناداهم بصفة العقل للتأمّل في حكم القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » في المخافة على القصاص فيكفّوا عن القتل.

الرابعة ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) (١).

هنا فوائد :

١ ـ المفعول في قوله « حَرَّمَ اللهُ » محذوف أي قتلها ، قوله « إِلّا بِالْحَقِّ » أي بإحدى ثلاث إمّا زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل المؤمن عمدا كلما ، والمظلوم من قتل بغير استحقاق.

٢ ـ « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » إلى آخر ، المراد بالوليّ من يلي أمره وهو الوارث ومن قام مقامه والسلطان يراد به هنا الحكم والتسلّط على الجاني أو العاقلة أمّا بالعفو أو أخذ الدّية أو القصاص في موضعه.

٣ ـ « فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » قيل : الضّمير للقاتل بأن يقتل من لا يجوز قتله فانّ العاقل لا يفعل ما فيه هلاكه وقيل الضمير للوليّ أي فلا يسرف الولي بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل الجماعة بالواحد ، أو الرّجل بالمرأة من غير ردّ للزائد عن حقّه ، فإنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل (٢) فإذا قتلها الرّجل فللوليّ قتله

__________________

(١) الاسراء : ٣٣.

(٢) هذا الحكم ـ حكم انتصاف دية المرأة من الرجل ـ متفق عليه في النفس ، وأما في الشجاج والأطراف فمذهب الإمامية على انها تعاقل الرجل الى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجع الى النصف ، ونقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه.

ونقل عن الشيخ في النهاية والعلامة في الإرشاد وابن إدريس في السرائر ، اشتراط

٣٥٨

__________________

التجاوز عن الثلث للتنصيف وانى راجعت عبائرهم في تلك الكتب فلم أتحقق النقل فإنها وان كانت توهم ذلك ، الا انها غير واضحة الدلالة في ذلك كالروايات التي يستشم منها اشتراط التجاوز عن الثلث.

ففي صحيح الحلبي : الرجال والنساء في القصاص سواء : السن بالسن والشجة بالشجة والإصبع بالإصبع سواء حتى تبلغ الجراحات ثلث الدية ، فإذا جازت الثلث صيرت دية الرجال في الجراحات ثلثي الدية ، ودية النساء ثلث الدية ( ح ٦ ب ١ من أبواب قصاص الطرف من الوسائل ، الوافي الجزء التاسع ب ٩١ ص ٨٩ عن الكافي والتهذيب ).

والخبر عن رجل قطع إصبع امرءته؟ قال : تقطع إصبعه حتى ينتهي إلى ثلث المرأة فإذا جاز الثلث أضعف الرجل. ( ح ٤ ب ١ من أبواب قصاص الطرف من الوسائل ، والوافي الجزء التاسع ب ٩١ ص ٨٩ عن الكافي والتهذيب ).

إذ ليست دلالتها الا من حيث مفهوم اشتراط الجواز في الذيل ، وهو معارض بمفهوم الغاية في الصدر ، والجمع بينهما كما يمكن بصرف مفهوم الغاية إلى الشرط ، كذا يمكن العكس فتصير الرواية مجملة الدلالة ، ولا يمكن الاستدلال بها ، فتصير الأخبار الدالة على كفاية بلوغ الثلث بلا معارض. ففي الصحيحين عن المرأة بينها وبين الرجل قصاص؟ قال :نعم في الجراحات حتى تبلغ الثلث سواء ، فإذا بلغت الثلث سواء ، ارتفع الرجل وسفلت المرأة ( الوسائل ح ٣ ب ١ من أبواب قصاص الطرف والوافي الجزء التاسع ب ٩١ ص ٨٩ عن التهذيب والكافي والفقيه عن جميل ومحمد بن حمران ).

وفي الصحيح عن أبان بن تغلب قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال عشر من الإبل ، قلت : قطع اثنين؟ قال : عشرون قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون ، قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون ، قلت سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول : « ان الذي جاء به شيطان؟ » فقال : مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله ، ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف يا أبان! إنك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين. ( الوسائل ح ١ ب ٤٥

٣٥٩

__________________

من أبواب ديات الأعضاء ، والوافي الجزء التاسع ب ٩١ ص ٨٩ عن الكافي والتهذيب والفقيه ).

وأورد هذا الحديث الأستاذ أبو زهرة في كتابه الامام الصادق نقلا عن الصدوق ص ٥١٦ واستغربه وادعى انه مكذوب على الامام عليه‌السلام زعما منه أنه مخالف مخالفة مطلقة لحكم العقل ، ونحن ننقله بعين عبارته ، قال :

« واننا نرى ان هذا الخبر غريب في نسبته الى الصادق رضى الله عنه بلا نسبته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك لانه مخالف مخالفة مطلقة للعقل ، ولا يمكن أن يكون التكليف فيه تعبديا وقد قصد به الجريمة ، لأن الدية في حقيقتها قصاص في المعنى والله تعالى يقول « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ».

وقد نقلنا من قبل من مصادرهم المعتبرة أن كل الشريعة متفقة مع العقل وأنه إذا كان الحكم تعبديا قصد به الاختبار ، فان العقل يقر هذا الاختبار. وفي الجملة كل ما جاء به الشارع فهو مصلحة في ذات الأمر موضع التكليف أو في التكليف ، وذلك الأخير يكون في الأمور التعبدية ، ولا يمكن أن يكون التعبد في أمور العباد ، لأن أمور العباد تقوم على الإصلاح ، انما التعبدات تكون في العبادات ولا تكون العبادات إلا أمورا تعبدية لاختبار أصل الطاعة لله تعالى والقيام بحق شكره.

لذلك نرى نسبة هذا الحكم الى الصادق أمرا غريبا ، وان الأوضح في هذا أن يكون قطع الأصابع الأربع يزيد إلى أربعين بدل أن ينزل الى عشرين » انتهى.

أقول : هذا الاستغراب من الأستاذ أبي زهرة مستغرب ، والذي يسهل الخطب ويهون الأمر أن نظن أن الأستاذ المذكور لم يتفحص اخبار أهل السنة ولم يستقرء أقوال علمائهم ، ولم يستقص ما في المسئلة فزعم ان الحكم من متفردات الإمامية ، والرواية به من متفردات مروياتهم ، وليس كذلك فان هذا الحكم مما اتفق عليه الصحابة كما ستعرف من نقل ابن قدامة في المغني وعليه مالك ، ونقله أيضا عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد في أظهر روايتيه ، ولذلك اختار

٣٦٠