كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

ما لم يكن في العروق ، أو بقي فيها وتخلّف في اللحم أن لا يكون محرّما وكأنّه تقييد للمطلق.

٣ ـ لحم الخنزير ، خصّ اللّحم وإن كان شحمه وكلّ أجزائه محرّما لأنّه المقصود بالأكل وغيره تابع له.

٤ ـ « ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ » أي ما ذبح على اسم الصّنم ولم يذكر عليه اسم الله ، والإهلال لغة رفع الصوت ، فيدخل في ذلك كلّ ذبيحة لم يذكر عليها اسم الحقّ تعالى سواء كان من كافر أو مسلم غير محقّ كالمجسّمة صريحا والمشبّهة.

٥ ـ « الْمُنْخَنِقَةُ » أي الّتي ماتت بالخنق ، سواء كان بخنق من غيرها أو اختنفت من نفسها لعارض.

٦ ـ « الْمَوْقُوذَةُ » وهي المضروبة بخشب أو حجر ونحو ذلك من المثقل حتّى يموت ، من قولك وقذته : إذا ضربته.

٧ ـ « الْمُتَرَدِّيَةُ » أي تردّت من علو إلى بئر فماتت.

٨ ـ « النَّطِيحَةُ » أي التي تنطحها اخرى فتموت ، ففعيل هنا بمعنى المفعول والتاء فيها للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة.

٩ ـ « ما أَكَلَ السَّبُعُ » أي ما أكل منه السبع وبقي منه بقيّة فيها حياة غير مستقرّة فإن كانت مستقرّة جاز أكله بعد التذكية ، وهو المراد بالاستثناء والتذكية هي قطع الأعضاء الأربعة ، وهي الحلقوم ، والمري والودجان ، بحديد أو ما في حكمه ، هذا في غير الإبل أمّا في الإبل فذكاتها النحر ، وهو الطعن في لبّة الثغرة وهي الوهدة المنخفضة ، وقيل الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدّم ممّا يقبل التّذكية وهي الستّة المتأخّرة ، وهو قول عليّ عليه‌السلام وابن عباس وإدراك الذّكاة على هذا قيل أن يدرك وذنبه يتحرّك أو رجله أو يطرف عينيه ، وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام وقيل هو أن يمكن أن يعيش اليوم أو الأيّام ، وقيل الاستثناء هنا منقطع ليس فيه إخراج والكل حسن.

قوله « وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » أي وحرّم عليكم ما ذبح على النصب قيل هو

٣٠١

مفرد مثل عنق وجمعه أنصاب كأعناق وهي حجارة منصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها ، يعظّمونها بذلك ويتقرّبون به إليها وقيل هي الأصنام و « على » إمّا بمعنى اللّام وإمّا على أصلها ، فتقديره وما ذبح مسمّى على الأصنام والاستقسام طلب معرفة ما قسّم له ممّا لم يقسّم « والأزلام » تقدّم معناها.

وهنا فوائد :

١ ـ أنّ الأشياء الّتي ذكرها من المنخنقة والموقوذة إلى آخرها إمّا أن يكون ميتة ، أولا؟ فإن كان الأوّل فذكر الميتة أغنى عن ذكرها ، وإن كان الثاني لزم وجود واسطة بين الميّت والحيّ وهو باطل ، والجواب : إنما ذكرها لأنّهم ما كانوا يعدّونها ميتة بل من قسم المذبوحات ، ويخصّون الميتة بما يموت حتف أنفه فعرّفهم أنّ حكم الجميع واحد.

٢ ـ لهذه الآية نظير وهي قوله في البقرة « إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ » (١) وهنا وفي الأنعام والنحل قال « لِغَيْرِ اللهِ بِهِ » فهل بينهما فرق أم لا؟ قيل الأصل هو الأوّل لأنّ الباء المعدّية للفعل بمنزلة جزء منه ، فيكون أحقّ بالتقديم ، بخلاف ما يتعدّى باللّام ، فإنّه ليس كالجزء ثمّ لمّا كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلّا إذا كان لغير الله ، فيكون ذلك المستنكر ممّا يتعلّق الاهتمام به قدّم في الموضعين الآخرين.

فالحاصل أنّ في البقرة قدّم الباء لأنّه الأصل ولأنّه كالجزء وفي الآخرين قدّم « لِغَيْرِ اللهِ » لشدّة الاهتمام كما يقدّم بعض المفعولات على فاعله.

٣ ـ لمّا كان الحكم اللّاحق بالجملة لمعنى يوجد في شي‌ء من أجزائها ألحق. بالميتة ما أبين من حيّ ، لوجود معنى التحريم ، وهو الموت وفقد الحياة.

الثانية ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ

__________________

(١) البقرة : ١٧٣ ، الانعام : ١٤٥ ، النحل : ١١٥.

٣٠٢

يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) (١)

تقدّم ما يغني عن تفسير هذه ، و « فِسْقاً » منصوب ، عطفا على « مَيْتَةً » وقوله « أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ » محلّه النصب صفة لفسقا.

وهنا سؤال : وهو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات ، وهو غير مذكور في الآية فكيف يقول لا أجد إلّا كذا الدالّ على الحصر ، وكذا في قوله « إِنَّما حَرَّمَ » وإنّما للحصر.

والجواب أنّ اوحي فعل ماض « وأجد » للحال فمنطوقها لا أجد فيما اوحي إلىّ في الماضي غير هذه الأربعة ، وليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها ، وكذا الكلام في « إنّما » فانّ الحصر فيها للحكم الحاليّ.

قوله « فَإِنَّهُ رِجْسٌ » الضّمير للحم الخنزير ، وهو نص في نجاسته وهي معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.

فائدة : روي أنّ ابن عبّاس وعائشة استدلا بهذه الآية على حلّ لحم الحمار وهو قريب وكذا تدلّ على حلّ لحم الخيل والبغال لأنّ منطوقها أنّ ما عدا المذكور حلال ، فمن ادّعى التحريم المتجدّد فعليه الدّلالة ، وقال بعض فقهاء العامّة يدلّ على تحريم الثلاثة قوله « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً » (٢) ووجه الدلالة أنّه علّل خلقها بالرّكوب والزينة ، فلا يكون لها فائدة غيرهما. وهو غلط فإنّه لا يلزم من تعليل الشي‌ء بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غير ذلك أصلا ، هذا وكونها زينة ومركوبة لا ينافي حلّها كما في الإبل فإنّ الأمرين حاصلان فيها مع حلّ لحمها.

__________________

(١) الانعام : ١٤٥.

(٢) النحل : ٨.

٣٠٣

الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (١).

الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمّي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتدّ لأنّه يخمر العقل أي يستره كما سمّي مسكرا لأنّه يسكره أي يحجزه وهو حرام إجماعا مطلقا وكذا كلّ ما أسكر في الجملة وإن لم يسكر قليله عندنا وقال أبو حنيفة نقيع الزّبيب والتمر إذا طبخ حتّى ذهب ثلثاه حلّ شربه إلّا ما ورث السكر والحقّ خلافه لما تقدّم.

ثمّ اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع وما أبيحت في شريعة قط وكذا كل مسكر ، وأوردوا في ذلك أخبارا عن أئمتهم عليهم‌السلام وأمّا المفسّرون فقالوا نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكّة « وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (٢) » وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثمّ إنّ عمرو معاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزلت « فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ » فشربها قوم ، وتركها آخرون ، ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ « قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى (٣) » فقلّ من يشربها ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص ، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيها هجاء الأنصار ، فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عمر : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ »

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) النحل : ٦٧.

(٣) النساء : ٤٣.

٣٠٤

إلى قوله « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (١) فقال عمر انتهينا يا ربّ.

وعن علي عليه‌السلام لو وقعت قطرة في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبتت فيه الكلا لم أرعه.

قال المحقّقون ويمكن الاستدلال على تحريمها جزما بكلّ واحدة من هذه الآيات أما الأولى فلأنّه قال « تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً » فوصف الرزق الّذي هو قسيم للسكر بالحسن من أدلّ الدّلائل على أنّ المسكر ليس بحلال ، وإلّا لم يختصّ الوصف بالرزق إن قلت إنّ الآية وردت في معرض الامتنان ، وهو سبحانه لا يمتن بالمحرّم قلت الامتنان بخلق أصولها من الثمرات ، وكونها صالحة للانتفاع بها على وجوه متعدّدة.

وأما الثانية فلأنّه أخبر أنّ فيها إثما كبيرا ، والإثم هو الكبيرة بدليل قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً » (٢).

وأمّا الثالثة فلأنّه بيّن منافاة السكر للصّلاة ، والصلاة واجبة ، ووجوب أحد المتنافيين يستلزم تحريم الآخر ، لأنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه كما قرّر في الأصول.

وأمّا الرابعة فلما تقدّم في المكاسب.

ثمّ إنّ السيّد المرتضى رضي‌الله‌عنه وجماعة استدلّوا على تحريم الخمر وكلّ مسكر بآية خامسة وهي قوله في الأعراف « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » (٣) والإثم هنا الخمر (٤) لقول الشاعر

__________________

(١) المائدة : ٩٠.

(٢) النساء : ١١٢.

(٣) الأعراف : ٣٣.

(٤) ففي الكافي : أبو على الأشعري عن بعض أصحابنا وعلى بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن على بن أبي حمزة عن أبيه عن على بن يقطين قال : سئل المهدي أبا الحسن عليه‌السلام عن الخمر ، هل هي محرمة في كتاب الله ، فان الناس انما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون

٣٠٥

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يفعل بالعقول (١)

والمراد بما ظهر زنا وذوات الأعلام ، وما بطن زنا المستترات واللّواط ، هذا وقوله « وَالْمَيْسِرِ » هو مصدر كالموعد سمّي به القمار لأنّه أخذ من مال الغير بيسر

__________________

التحريم لها ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : بل هي محرمة في كتاب الله ، فقال : في أي موضع محرمة في كتاب الله جل اسمه يا أبا الحسن؟ فقال : قول الله عزوجل ( إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ).

فأما قوله « ما ظَهَرَ مِنْها » يعنى الزناء المعلن ونصب الرايات التي كانت تعرف بها الفواحش في الجاهلية ، وأما قوله « وَما بَطَنَ » يعنى ما نكح آباؤكم لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان للرجل زوجة وماتت منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمة ، فحرم الله عزوجل ذلك.

واما الإثم فإنها الخمر بعينها ، وقد قال الله عزوجل في موضع آخر « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ » فأما الإثم في كتاب الله هي الخمر والميسر « وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » كما قال الله تعالى. قال فقال المهدي يا على بن يقطين هذه فتوى هاشمية ، قال : قلت له : صدقت والله يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ، قال فو الله ما صبر المهدي الى أن قال لي صدقت يا رافضي.

قال العلامة المجلسي قدس‌سره في مرآت العقول ج ٤ ص ٩٣ : المراد بالإثم ما يوجبه ، وحاصل الاستدلال أنه تعالى حكم في تلك الآية بكون ما يوجب الإثم محرما وحكم في الآية الأخرى بكون الخمر والميسر مما يوجب الإثم ، فثبت بمقتضاهما تحريمهما فنقول : الخمر مما يوجب الإثم. وكلما يوجب الإثم فهو محرم : فالخمر محرم.

وبمضمونها في الكافي حديث آخر عن بعض أصحابنا ، والحديث مبسوط ، وفيه : ثم قال في الآية الرابعة « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » فخبر عزوجل أن الإثم في الخمر وغيرها وأنه حرام.

(١) أنشده في مقاييس اللغة ج ١ ص ٦١ والضبط كما في الكتاب الا أن في المقابيس تفعل بصيغة التأنيث ، وأنشده في التبيان ج ١ ص ٧٠٣ ـ ط تهران ـ وتفسير أبى الفتوح

٣٠٦

أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما قل فيهما إثم كبير وقرئ « كثير » ضد القليل ، وعلى القراءتين هي محرّمة جدّا ، والمنافع قيل ما هي يربحون فيهما من التجارة في الخمر وكسب المال في القمار ، وقيل هي المال والطرب والاستلذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان ، وتوفير المروّة وتقوية الطبيعة.

قوله « وَإِثْمُهُما » أي الخطاء والقبح والمفاسد الّتي ينشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة ، منهما ولذلك قلنا إنّ هذه الآية محرّمة لهما فإنّ المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضيت تحريم الفعل.

وأمّا ما ذكره المفسرون والفقهاء من كونها كانت قبل حلالا فباطل بإجماعنا والنقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم‌السلام وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « كلّ مسكر حرام » وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « شارب الخمر كعابد الوثن » وغير ذلك من الأخبار.

__________________

ج ٥ ص ١٤٩ والضبط فيهما « كذلك الإثم يصنع بالرجال » وأنشده في المجمع ج ٤ ص ٤١٤ والخازن ج ٢ ص ٨٤ وأحكام القرآن لابن العربي ص ٧٧٤ والضبط « يذهب بالعقول » وكذا في الصحاح واللسان ـ ا ث م ـ الا أن الضبط فيهما « تذهب » بصيغة التأنيث ، وكذا في الفتح القريب للشوكانى ج ٢ ص ١٩١.

وفي تفسير الخازن : وأما الإثم فقد قيل انه اسم من أسماء الخمر ، وهو قول الحسن وعطاء ، قال الجوهري : وقد تسمى الخمر اثما واستدل عليه بقول الشاعر شربت إلخ ، وقال ابن سيده صاحب المحكم : وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لان شربها اثم ، وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين ، وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم ، قال لان العرب ما سمته اثما في جاهلية ولا في الإسلام ولكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم لقوله تعالى « قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ». لكن الشيخ قدس‌سره نقل في التبيان إنشاد ابن الأنباري للبيت في ان الإثم هو الخمر.

٣٠٧

القسم الثالث

في أشياء من المباحات

وفيه آيات :

الاولى ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (١).

لمّا حرّم عليهم الأشياء المتقدّمة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والمنخنقة وغير ذلك ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي شي‌ء أحلّ. لهم ولم يقل أحلّ لنا على سبيل الحكاية لأنّ يسألونك للغيبة فوافق بينهما مع أنّ كلا الوجهين سائغ وفي الآية فوائد :

١ ـ قوله « أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » أي المستلذّات وقد تقدّم أقسام الطيّب ويمكن حمل الطيّبات على كلّ واحدة منها لكنّ هذا العامّ مخصوص عندنا بتحريم أشياء وردت به السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة ، واستدلّ الشافعيّ بهذه المفهوم على تحريم ما استخبثته العرب والمفهوم عندنا غير حجّة.

٢ ـ « وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » والمراد بها المكاسب والكواسب من سباع الطير والبهائم ، و « ما » هنا يحتمل كونها موصولة والواو عاطفة فتقدير الكلام حينئذ « وصيد ما علّمتم » أي أحلّ لكم صيد ما علّمتم ويحتمل كونها شرطيّة فيكون الواو ابتدائيّة وجواب الشرط قوله « فَكُلُوا » ويستفاد هذا أحكام :

١ ـ أنّه لا يباح أكل صيد غير المعلّم.

٢ ـ إباحة تعليم الجوارح كلّها والصيد بها.

__________________

(١) المائدة : ٤.

٣٠٨

٣ ـ أنّه لا بدّ في إباحة الصيد من العقر والجرح لمدلول « الجوارح » هذا ومعنى مكلّبين قيل مؤدّبين ، وفيه نظر لأنّه لا يصحّ « وما علّمتم مؤدّبين » لأنّ التعليم سر التأديب والأولى أنّ معناه حاذقين في التعليم وهو نصب على الحال ، وفيه إيماء إلى أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب ، لأنّ المكلّب صاحب الكلب ، والكلب وإن أطلق على كلّ سبع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « سلّط عليه كلبا من كلابك » (١) لكنّه حقيقة في هذا المعهود ، فيكون الاشتقاق منه فيكون مقيّدا مخصّصا لما سبق ولذلك قسم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين ما أدرك ذكاته فلا يحل إلّا بالتذكية مطلقا وما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال وإلّا فهو حرام ، صيد أيّ الجوارح كان وهو المنقول عن الصادق والباقر عليهم‌السلام.

فائدة : قيل نزل جبرئيل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فوقف بالباب فاستأذن فأذن له فلم يدخل فخرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال قد أذنّا لك فقال عليه‌السلام إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فلمّا نزلت الآية قالوا : يا رسول الله كيف نصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها فاستثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن في اتّخاذها (٢)

٤ ـ « تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ » فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم‌السلام أنّ التعليم يحصل بأمور الأوّل : الاسترسال إذا أخرى. الثاني : الانزجار إذا زجر الثالث : أن لا يعتاد أكل

__________________

(١) قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عتبة بن أبى لهب : بعد ما نزل والنجم إذا هوى جاء الى رسول الله وطلق ابنته وقال : كفرت بالنجم وبرب النجم فدعا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة الى الشام فافترسه أسد في بعض الطريق ليلا راجع مناقب آل أبى طالب ج ١ ص ٧١ ، مجمع البيان ج ٩ ص ١٧٢.

(٢) راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٩ ، مجمع البيان ج ٣ ص ١٦٠.

٣٠٩

صيده الرابع : الاستمرار على ذلك غالبا ولا اعتبار بالندرة نفيا أو إثباتا.

٤ ـ « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » فيه دلالة على أنّه لا يباح ما أكل منه الكلب ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعديّ بن حاتم « وإن أكل منه فلا تأكله لأنّه أمسك على نفسه » (١) وهو قول أصحابنا وأكثر الفقهاء وقال بعضهم يعتبر ذلك في سباع البهائم لا الطير لتعذّر تأديبها إلى هذا الحدّ ، وقال قوم منهم مالك وسعد بن أبي وقّاص لا يعتبر ذلك مطلقا وإن أكل ثلثه ، والحقّ ما ذكرناه وفيها دلالة على أنّه لا يباح أكل ما غاب عن النظر لأنّه إذا غاب لم يكن قد أمسكه على صاحبه بل على نفسه ، وهو الإنماء قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « كل ما أصميت ودع ما أنميت » (٢) سواء وجد به أثر الكلب من جرح أو غض أو لا.

و « من » في قوله « ممّا » الأصحّ أنّها للتبعيض إذ لا يباح كلّما يمسكه الكلب بل بعضه.

[ وهو ] أمّا من نفس الحيوان المباح فإنّه يحرم الدم والفرث والغدد والطحال والمشيمة والعلباء وذات الأشاجع والفرج والقضيب والأنثيان والمرارة والنخاع والحدقة وخرزة الدّماغ.

وأمّا من غيره فإنّه يحرم عندنا الأرنب والثعلب والضبّ واليربوع وغيرها من المصيدات ممّا ورد النصّ بتحريمه وقيل هي زائدة وهو باطل لشذوذ زيادتها في الإثبات وإنما قال : « عليكم » وعدّاه بعلى لأنّ فيه معنى التفضيل أي ممّا تفضّلن عليكم بإمساكه وفيه دلالة على تحريم ما اصطاده للكافر (٣) لقوله « عليكم » بالخطاب للمسلمين.

٥ ـ قوله « وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ » الضمير راجع إلى « ما عَلَّمْتُمْ » والمعنى سموا عليه عند إرساله أو إلى ما أمسكن بمعنى سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته و

__________________

(١) سنن أبي داود ج ٢ ص ٩٧ و ٩٨.

(٢) السراج المنير ج ٣ ص ٩٩.

(٣) ما صاده الكافر خ.

٣١٠

الكلّ محتمل لكنّ الأوّل أوفق للمذهب ، ثمّ يستفاد من ظاهرها أحكام :

١ ـ وجوب التسمية لأنّ الأمر للوجوب.

٢ ـ أنّه لو تركها نسيانا فلا جناح.

٣ ـ لا يباح صيد الكافر لأنّه لا يعرف الله حتّى يذكر اسمه ، سواء كان معلّم الكلب مسلما أو كافرا كما أنه مع تسمية المسلم لا اعتبار بمعلّم الكلب وإن كان كافرا ، نعم يكره الصيد بما علّمه مجوسيّ ثمّ اعلم أنّه يجوز أكل ما صاده الصبيّ المميز من الأولاد المسلمين إلحاقا بالأبوين.

قوله « وَاتَّقُوا اللهَ » أي اجتنبوا أكل ما نهيتم عن أكله فإنّ الله يحاسبكم عليه.

الثانية ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (١).

حمل فقهاء الجمهور قوله و « طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » على عمومه بحيث يدخل فيه الذبائح وغيرها ممّا يصيدونه (٢) قالوا واستثنى عليّ عليه‌السلام منهم نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانيّة ولم يأخذوا منها إلّا شرب الخمر ، وكذا قالوا لا يلحق بهم المجوس وإن الحقوا في تقرير الجزية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غيرنا كحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم » (٣) وأمّا أصحابنا فحملوا الطعام هيهنا على الحبوب وشبهها من الجامدات أمّا أو لا فلحكمهم بنجاستهم المانعة من أكل ما يباشرونه وأما ثانيا فلقوله « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ (٤) » وذبائحهم لم يذكر اسم الله عليها لكونهم غير عارفين به لوصفهم بالشرك في قوله :

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) نص : يصنعونه.

(٣) أخرجه في المستدرك ج ٢ ص ٢٦٢ عن العياشي.

(٤) الانعام : ١٢١.

٣١١

« وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ » إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (١) ولأنّهم إذا ذكروا اسم الله اعتقدوا أنّه أبّد شرع موسى عليه‌السلام وأنّه والد عيسى عليه‌السلام وأنّه لم يرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إن قلت قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ » إلى آخره عامّ وقوله « وَلا تَأْكُلُوا » عام أيضا فليس تخصيص عامّنا بعامّكم أولى من العكس ، قلت : تخصيص عامّكم لا محذور فيه وأمّا تخصيص عامّنا ففيه محذور ، وهو أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، وأيضا قد دللنا على وجوب التّسمية عند إرسال آلة الصيد (٢) وعند الذبيحة وأنّ من تركها عمدا لا يحل ذبيحته ، وكلّ من قال بذلك قال بتحريم ذبائح أهل الكتاب وأنّ قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » مخصوص ، فلو قلنا بالأوّل ولم نقل بالثاني كان خرقا للإجماع.

هذا تقرير ما ذكره الفريقان ، غير أنّ عندي في كلام الأصحاب إشكالا تقريره أنّ الحبوب وغيرها من الجامدات داخلة في الطيّبات في قوله « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » وعطف الخاصّ على العامّ نصّ أهل البلاغة أنّه لا يجوز إلّا لنكتة أو فضيلة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة ، فأيّ نكتة هنا اقتضت الإخراج والعطف على قولكم ، نعم النكتة متوجّهة على قول الخصم. وذلك أنّه لمّا ذكر أنه حرّم ما لم يذكر اسم الله عليه ، وأنّ أهل الكتاب مشركون وأنّهم يكفّرون أهل السلام وأنّهم من أهل الخبائث أمكن أن يقال إنّ طعامهم مطلقا ليس من الطيّبات فناسب ذلك إخراجه وعطفه بيانا للرّخصة ، وأمّا على قولكم فانّ ذلك عزيمة وللرخصة مزية في بيان الأحكام ، خصوصا فيما ورد في معرض الامتنان ، وهو هذه الآية ، وأرجو من الله أن يفتح عليّ الجواب عن هذا الاشكال بكرمه ومنه.

الثالثة ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) (٣)

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

(٢) عند إرسال الكلب الى الصيد خ.

(٣) النحل : ١٤.

٣١٢

وفي آية أخرى :

( وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ) (١).

دلّت الآيتان الكريمتان على إباحة أكل ما يصاد من السّمك ، وتقييده بالطريّ ليس مخصّصا له بالتحليل ، للإجماع على إباحة غيره ، وإنّما قيّده بالطراوة لأنّ طيبته في طراوته ، فإذا لبث تغير طراوته ، وذهب طيبه. والآية الكريمة خرجت مخرج الامتنان ، فلا يليق إلّا بما هو لذيذ ، ثمّ اللام في الآية الأولى يجوز أن يكون للتعليل بمعنى أنّ السبب الغائيّ بخلق البحر انتفاع الإنسان به ، ويجوز أن يكون للعاقبة ، بأن يكون خلقه لسبب آخر لكن آل الأمر إلى انتفاعنا به.

واعلم أنّه استدلّ بعض الفقهاء بالآية على أنّ السمك لحم ، وأنه إذا حلف أحد لا يأكل لحما يحنث بالسمك وليس بشي‌ء لأنّه لحم لغة لا عرفا ، والأيمان مبنيّة على الحقيقة العرفيّة لا اللّغويّة لما تقرّر في الأصول من تقديم العرف على اللّغة لكونه طارئا ناسخا لحكمها.

الرابعة ( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‌ءٍ حَيٍّ ) (٢).

وأمثالها من الآيات الدالة على الامتنان بخلق الماء ، وإنزاله من السماء فإنّ الجميع دالّ على إباحته وحلّه ، إذ لا امتنان بالممنوع من الانتفاع به شرعا.

الخامسة ( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً

__________________

(١) فاطر : ١٣.

(٢) الأنبياء : ٣٠.

٣١٣

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (١).

دلّت الآيتان على أمور :

١ ـ إباحة العسل وهو المعني بالشراب.

٢ ـ كونه شفاء من الأمراض لأنّه يقال في مقابلة المرض كقوله « وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » (٢) ويؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « شفاء أمّتي في ثلاثة : آية من كتاب الله ، ومشراط حجّام ، ولعقة من عسل (٣) » وفي توجيه الحديث فائدة وهو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر أنّ شفاء أمّته في هذه الثلاثة أمّا الآية فعلى وجه الخاصية فإنّ لكلامه تعالى خواصّ لا ينكرها من له بصيرة ، فإنّ كلامه تعالى فعل من أفعاله فلا ينكر اشتماله على خاصيّة ليست لغيره كما في باقي أفعاله فإنّ جذب المغناطيس للحديد لا ينكره عاقل ، وأمّا المشراط فعند هيجان الدّم ، وأمّا العسل فإنّه مع الأدوية الحارّة شفاء من البلغم ، وقد يكفي فيه وحده ، ومع الحموضات شفاء من الصفراء ومع الأدهان شفاء من السوداء.

قال بعضهم قلّ معجون يركّبه الأطبّاء يخلو من العسل ، وروي أنّ رجلا قال لرسول الله إنّ أخي يشتكي بطنه قال اسقه العسل فذهب ثمّ جاء فقال سقيته فما نفع فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ (٤).

واعلم أن العسل وإن لم يكن شفاء من كلّ داء لكنّه شفاء من كثير منها ، والحديث المذكور في البطن لا يدلّ على أنّه شفاء من كلّ داء ، لجواز أن يكون قد

__________________

(١) النحل : ٦٨ و ٦٩.

(٢) الشعراء : ٨٠.

(٣) راجع الدر المنثور ج ٤ ص ١٢٢.

(٤) المصدر نفسه.

٣١٤

عرف صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة الوحي أنّ داء أخيه ممّا ينفعه العسل ، فالتنكير في « شفاء » إمّا للتبعيض أو للتكثير مبالغة فيدل على الأكثريّة الكليّة.

٣ ـ في الآية إيماء إلى جواز العلاج من الأمراض فإنّ إباحة الخاصّ لعلّة تستلزم إباحة خاصّ آخر توجد فيه تلك العلّة إلّا ما ورد فيه النهي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا شفاء في محرّم. وهنا فوائد :

١ ـ الوحي هنا بمعنى الإلهام وقد يقال بمعنى الإشارة كقوله « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً (١) » وبمعنى الاسرار كقوله « يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » (٢) والوحي الحقيقيّ وحي النبوّة ، والجامع لهذه المعاني كلّها إلقاء شي‌ء إلى الغير على وجه السرّ.

٢ ـ « من » في « مِنَ الْجِبالِ » للتبعيض أي بعض الجبال ، وبعض الشجر ، وبعض ما يعرشون : أي يسقّفون وسمّى ما تبنيه بيتا تشبيها له ببيت الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وصحّة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين ، والثمرات :الأزهار والأنوار ، فإنّ الثمرة اسم لكلّ فائدة يحصل من الشجرة للإنسان أو غيره وقد يستدلّ بذلك على جواز المساقاة شرعا على ما لا فائدة له إلّا الورق والزهر والنّور ، لصدق الثمرة عليه ، وقوله « فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً » أي طرقا موصلة لمأكولك إلى صورة العسل وفيه دلالة على كونه تعالى يفعل بالسبب أو طرقا توصلك إلى الأزهار و « ذُلُلاً » جمع ذلول أي الموطّأة للسلوك ، وقال قتادة إنّها صفة للنحل أو حال عن الضمير في « اسلكي » أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.

٣ ـ « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها » فيه التفات عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه في محلّ الانعام عليهم ، قوله « شَرابٌ » احتجّ به من قال أنّ النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة ، فيستحيل في باطنها عسلا ثمّ تقيئه ادّخارا للشتاء ومنهم من زعم أنّها تلتقط بأفواهها أجزاء طيّبة حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق

__________________

(١) مريم : ١١.

(٢) الانعام : ١١٢.

٣١٥

والأزهار وتضعها في بيوتها ادّخارا للشتاء فإذا اجتمع في بيوتها شي‌ء كثير منها كان العسل ، وكأنّ هذا القائل فسّر البطون بالأفواه ، وجعل في الكلام إضمارا أي أفواه بطونها أو فسّر البطون بالأفواه مجازا قوله « إِنَّ فِي ذلِكَ » أي في ذلك التدبير من أقدارها على بناء البيوت المحكمة ، وتصيير غذائها المختلف في المرارة والحموضة عسلا حلوا مختلفا ألوانه متّحدا في صورته وطبعه « لَآيَةً » ودلالات على صانع مختار حكيم عالم بالجزئيات والكلّيّات « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » في أنّه لو كان صادرا عن موجب لما اختلف آثاره ، بل كانت كلّها على نهج واحد.

السادسة ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١).

أي ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المباحات إذا ما اتّقوا المحرّم ، وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة ثمّ هنا فوائد :

١ ـ قيل سبب نزولها أنّه لمّا نزلت آيات تحريم الخمر قالت الصحابة يا رسول الله كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من الميسر فنزلت والأصح أنّها نزلت في القوم الّذين تعاهدوا على ترك الطيّبات كعثمان بن مظعون وأصحابه بمعنى أنّه ليس عليهم جناح في تناول الطيّبات والمستلذّات إذا ما داوموا على الإيمان وعمل الصّالحات واتّقاء المحرّمات.

٢ ـ في التكرار المذكور وجوه :

الأوّل : على قول من يقول بقبول الإيمان للزيادة والنقص ، والمراد بالتكرار تزيد الإيمان ، وتفاوت مراتبه.

الثاني : أنّه كرّره ثلاثا باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال.

__________________

(١) المائدة : ٩٣.

٣١٦

الثالث : أنّه باعتبار الأحوال الثلاث : الاولى باعتبار حاله مع نفسه ، والثانية : باعتبار حاله مع الناس ، والثالثة : باعتبار حاله مع الله ، ولذلك بدّل الايمان بالإحسان ، إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير الإحسان « أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ».

الرابع : باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والمنتهى والوسط.

الخامس : أنّه باعتبار ما يتّقى فإنّه يتّقى ترك المحرّمات حذرا من العقاب وترك الشبهات تحرّزا من الوقوع في الحرام وهي مرتبة الورع وترك بعض المباحات وهي ما يفيد تحفّظا للنفس عن الخسّة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة.

السادس : أنّ المراد تجديد الإيمان والعزم على التقوى ، لتقوى الداعية للمكلّف ويصير الايمان والتقوى ملكتين راسختين في النفس ليس للشبهات عليه فيهما مجال ، بخلاف ما إذا لم يكونا ملكتين ، فإنّ للشبهة والجناح عليه مجالا.

٣ ـ في الآية دلالة على أنّ الأشياء على الإباحة ما لم يعلم فيها وجه من وجوه القبح ، قوله « وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » فيه دلالة على أنّ من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار محبوبا لله.

٤ ـ روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر على عهد عمر ، فأراد أن يحدّه فقال له قدامة : إنّه لا يجب عليّ الحدّ وتلا الآية ، فدرأ عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له : لم تركت إقامة الحدّ على قدامة فقال تلا عليّ آية وذكرها عمر ، فقال عليه‌السلام ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم الله ، إنّ الّذين آمنوا لا يستحلّون حراما فاردد قدامة فاستتبه ممّا قال : فإن تاب فأقم عليه الحدّ وإن لم يتب فاقتله فإنّه قد خرج عن الملّة ، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (١).

__________________

(١) راجع مجمع البيان ج ٣ ص ٢٤٢ ، وذكرت القصة في ترجمته كما في أسد الغابة ج ٤ ص ١٩٩.

٣١٧

السابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (١).

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جلس للناس ووصف لهم يوم القيامة ، ولم يزدهم على التخويف ، فرقّ الناس وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا اللّيل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء ولا الطيب ، ويلبسوا المسوح ويرفضّوا الدّنيا ويسبحوا في الأرض ويترهّبوا ويحبّوا المذاكير.

فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتى منزل عثمان فلم يجده فقال لامرأته : أحقّ ما بلغني؟ فكرهت أن تكذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن تبدي على زوجها فقالت يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرت عثمان بذلك فأتى هو وأصحابه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم ألم أنبّأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا؟فقالوا : ما أردنا إلّا الخير فقال إنّي لم أومر بذلك ثمّ قال إنّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا فانّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرّموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا إنّه ليس في ديني ترك اللّحم والنساء ولا اتّخاذ الصوامع إن سياحة أمّتي الصوم ، ورهبانيّتها الجهاد اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديرات والصوامع ، فأنزل الله الآية (٢) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في الآية والقصّة دلالة على أمور :

__________________

(١) المائدة : ٧٧.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٣٠٨ مجمع البيان ج ٣ ص ٢٣٦.

٣١٨

١ ـ أنّه لا يجوز تحريم ما أحلّه الله من الطيّبات ، ولا تحليل ما حرّم الله من الخبائث.

٢ ـ أنّ الترهّب والتقشّف ليس من سنن هذه الشريعة الشريفة ، بل من سننها تناول الطيّبات والمستلذّات المحلّلة.

٣ ـ أنّه لا ينعقد العهد واليمين على ترك المندوب ، ولا على ترك مباح الاولى فعله

الثامنة ( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (١).

قيل لنزولها أسباب :

١ ـ أنّه لمّا منع اليهود مشروعيّة النسخ نزلت تكذيبا لهم وبيانا لوقوعه.

٢ ـ لمّا نزل قوله تعالى « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » وقوله و « عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » (٢) قالوا لسنا بأوّل من حرّمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلّا تحريم قديم كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده ، وهلم جرّا إلى أن انتهى التحريم إلينا ، وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالظلم والبغي وأكل الرّبا فقال تعالى « فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».

٣ ـ أنّهم طعنوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تحليل لحوم (٣) الإبل وألبانها ودعواه موافقة إبراهيم عليه‌السلام فنزلت إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ الحل مصدر حلّ الشي‌ء يحلّ حلّا ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والمثنّى والمجموع قال الله تعالى « لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ » (٤)

__________________

(١) آل عمران : ٩٣.

(٢) النساء ، ١٦٠ ، الانعام : ١٤٦.

(٣) شحوم خ ، وهكذا فيما يأتي.

(٤) الممتحنة : ١٠.

٣١٩

والمراد كلّ المطاعم لم تزل حلالا لهم قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم الله عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، ولم يحرّم منها إلّا ما حرمه إسرائيل وهو يعقوب عليه‌السلام.

٢ ـ المراد بما حرّمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريمه قيل كان به عرق النساء فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه وكان ذلك أحبّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء.

٣ ـ احتج من جوّز الاجتهاد على الأنبياء بقوله « إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ » حيث أسند التحريم إليه ، ولمانع أن يقول : ذلك بإذن من الله سبحانه فهو كتحريمه ابتداء.

التاسعة ( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ ) (١).

هنا فوائد :

المراد بذي الظفر هو كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبطّ والإوز ، وقيل كلّ ذي مخلب وحافر ، وسمّى الحافر ظفرا مجازا ، أخبر سبحانه أنّه حرّم عليهم كلّ ذي ظفر بجميع أجزائه وأمّا البقر والغنم فحرّم منهما الشحوم واستثنى من الشحوم ثلاثة أنواع الأوّل ما على الظهر ، الثاني ما على الحوايا وهي الأمعاء ، الثالث : ما اختلط بعظم ، وهو شحم الجنب والألية ، لأنّها مركّبة (٢) على العصعص وقيل في « الحوايا » أنّها عطف على الشحوم ، و « أو » بمعنى الواو ، فتكون محرّمة والأجود ما قلناه ، وهو عطفها على الظهور فتكون مرفوعة وتكون داخلة في المستثنى لقربه.

__________________

(١) النساء : ١٦٠.

(٢) مرتبة خ.

٣٢٠