كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

أعظم لكونها أمورا حقيقية دائمة لا وهميّة زائلة ، فلذلك ساغ إيراد صيغة التفضيل.

٧ ـ الواو في « ولو » للحال ، و « لو » بمعنى « إن » وهو كثير ، والإعجاب في الحسن والمال والجاه وفيه إشارة إلى كراهة قصد الجمال والمال في النكاح بل السنّة والدّين كما قال عليه‌السلام « عليك بذات الدّين تربت يداك (١) » والمراد بدعائهم إلى النار أي إلى أسبابها فانّ بسبب المخالطة قد يكتسب الصاحب من صاحبه دينه ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » (٢) وهنا محرّمات أخر تذكر في كتب الفقه ، مستفادة من السنّة فلنقتصر على ما في الكتاب.

النوع الثالث

في لوازم النكاح من المهر والنفقة وغير ذلك

وفيه آيات :

الاولى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) (٣).

الصدقة اسم المهر ، والنحلة (٤) قيل من انتحل كذا إذا دان به أي آتوهنّ

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٣٢.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٤٢.

(٣) النساء : ٤.

(٤) قال السيد الرضى قدس‌سره في ص ٣١٣ من حقائق التأويل : وربما سألوا بعد ذلك فقالوا : كيف قال الله تعالى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ، والنحلة هبة والصداق واجب ، فالجواب أنه سبحانه فرض الصداق للنساء ، فكان هبة منه سبحانه لهن ، لا هبة من أزواجهن ، وقد كان الإباء يأخذون ذلك لنفوسهم ألا ترى الى قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) » فاستخدمه بمهر ابنته ، فجعل تعالى ذلك للنساء دون آبائهن ، وذلك واضح بمشيئة الله.

٢٠١

ديانة فيكون مفعولا له ، وقيل نحلة من الله وتفضّلا منه عليهنّ ، فيكون نصبا على الحال من الصدقات ، وقيل النحلة بكسر النون العطيّة الّتي تكون عن طيب النفس من غير طلب وقيل هو من غير عوض والفعل منه نحل ينحل نحلا ، فعلى هذا يكون نصبا على المصدر من غير لفظه ، و « نفسا » نصب على التميز من الجملة ، والهني‌ء والمري‌ء صفتان لمحذوف أي أكلا هنيئا مريئا يقال هنوء الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا نقص فيه ، وقيل الهني‌ء ما يلذه الآكل والمري‌ء ما تحمد عاقبة ، إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ ـ أنّ الخطاب هنا للأزواج وهو الأصحّ لذكره عقيب الأمر بالنّكاح وقيل للأولياء لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، فكان إذا ولد لأحدهم بنت يهنّئونه ويقولون هنيئا لك النافجة يعنون به أنّ أخذ مهرها ينفج به ماله أي يعظّمه.

٢ ـ في قوله « فَإِنْ طِبْنَ » دلالة على عدم جواز غصبها أو خديعتها أو إكراها على عطيّته وكان قوم يتحرّجون من قبول شي‌ء ممّا ساقه إلى زوجته فنزلت والضمير في « منه » راجع إلى المهر لسبق ذكر معناه.

٣ ـ روى العياشيّ أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين فشكى إليه وجع بطنه فقال عليه‌السلام ألك زوجة؟ قال : نعم ، قال استوهب منها شيئا طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلا ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ، ثمّ اشربه فإنّي سمعت الله تعالى يقول « وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً » وقال « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » وقال « فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً » فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهني‌ء والمري‌ء شفيت إن شاء الله تعالى قال ففعل ذلك فشفي (١).

الثانية ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى

__________________

(١) العياشي ج ١ ص ٢١٨ ، تحت الحديث المرقم ١٥ من هذه السورة.

٢٠٢

بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (١).

القنطار المال الكثير ، والبهتان هو أن ينسب الإنسان غيره إلى فعل أو قول يسوؤه إذا سمعه ، وهو بري‌ء منه ، وانتصابه وانتصاب « إِثْماً » على المفعول له إلّا أنّ « بُهْتاناً » سبب فاعليّ و « الإثم » سبب غائيّ بمعنى أنّ سبب أخذ المال بهتانه على زوجته ، ويؤول أخذه إلى الإثم ، فاللّام المقدّرة في « إثما » لام العاقبة لأنّ أخذ المال ليس لأجل الإثم ، لا أنّهما حالان بمعنى باهتين وآثمين كما قال الزمخشري لأنّ الأخذ ليس في حال البهتان بل مسبوق به والاستفهام على سبيل الإنكار و « مبينا » أي مظهرا لخساسة أنفسكم ثمّ أعاد الإنكار بقوله و « كَيْفَ » والحال أنّه « قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ » والإفضاء الوصول وهو هنا كناية عن الجماع ، والميثاق الغليظ العهد الوثيق ، وقيل هو عقد النكاح ، وقيل هو حق الصّحبة والممازجة ، وقد قيل صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف صحبة الزوجين ، وقيل الميثاق هو ما أوثق الله عليه في قوله « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ » وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله (٢) [ عن الباقر عليه‌السلام ] إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

١ ـ في الآية دلالة على عدم تقدير المهر بقدر بل بحسب ما يتراضيان عليه ولذلك لمّا منع عمر عن المغالاة في الصّداق على المنبر قالت له امرأة : أتمنعنا ما جعله الله لنا وتلت الآية ، فقال كل أفقه من عمر حتّى النساء ورجع عن رأيه (٣).

٢ ـ فيها دلالة على استقرار المهر بالدخول لتعليل الإنكار بالإفضاء.

٣ ـ روي أنّ الرّجل منهم كان إذا أراد أن يتزوّج جديدة بهت الّتي تحته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليجعله مهرا للجديدة ، فنهوا عن

__________________

(١) النساء : ٢٠.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد كما في الدر المنثور ج ٢ ص ١٣٤. وتراه في المعاني للصدوق ص ٢١٢.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ١٣٣.

٢٠٣

ذلك فالتقييد للنهي بحال الاستبدال لأجل السّبب وقد تقرّر في الأصول أنّ خصوص السبب لا يخصص.

٤ ـ قيل الآية منسوخة بقوله « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (١) » وقيل : بل هي محكمة غير منسوخة ، وهو قول الأكثر وهو الأصحّ لأنّ النهي فيها مقيّد بالبهتان ، وهو نوع من الإكراه ولا كلام أنّ مع إكراه الزوجة على الافتداء ، لا يقع الملك ولا يتم الخلع.

الثالثة ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (٢).

المراد بالمسّ الجماع والفرض التقدير ، والمراد بالفريضة المهر المقدّر ، ففعيل هنا بمعنى مفعول ، والتاء لنقل اللّفظ إلى الاسميّة ، والمتعة والإمتاع بمعنى النفع والفائدة وأوسع الرّجل إذا صار ذا سعة من المال ، وأقتر إذا صار ذا إقتار ، بمعنى الضيق ضدّ السّعة أو صار ذا قترة ، وهي الغبار ومنه قوله تعالى ( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) (٣) كأنه لفقره يتغيّر حليته فكأنّ عليه غبارا و « ما » هنا بمعنى المدّة أي مدّة لم تمسّوهنّ و « مَتاعاً » اسم للمصدر بمعنى التمتيع كالسلام بمعنى التسليم وهو منصوب على المصدرية و « حَقًّا » صفة له إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

١ ـ أنّ « أو » في « أَوْ تَفْرِضُوا » يحتمل أن يكون بمعنى الواو ، وأن يكون للترديد ، وأن يكون بمعنى « إلّا أن » فعلى الأوّل يكون منطوق الآية أنّكم إن طلّقتم النّساء قبل مسّهنّ وقبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم ، قدّم جواب الشرط عليه.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) البقرة : ٢٣٦.

(٣) عبس : ٤١.

٢٠٤

وإنّما نفى الجناح لأنّ في الطلاق مظنّة الجناح لكون النكاح مطلوبا لله فيكون تركه مظنّة الكراهة ، خصوصا قبل الدّخول ، وأمّا بعد الدّخول فقد حصل الامتثال فضعّفت الكراهية للترك ، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ ، أو لأنّ الطلاق بعد الدّخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا وقيل : المعنى لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهرا إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل ، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّي لها مهرا كان لها نصفه ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الاولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.

وفيه نظر لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا ، لأنّه وإن لم يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة فكان ينبغي فيه التقييد لكنّه لم يقيّد فلم يكن ذلك هو المراد.

وعلى الثاني يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا أي مع الفرض وعدمه وقبل الفرض مطلقا أي مع المسّ وعدمه ، فيثبت المتعة على الأحوال الأربعة فتكون واجبة مع الطّلاق منضمّة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا لكنّه قول الشافعيّ كما يجي‌ء.

وعلى الثالث يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض فيكون الحكم كالأوّل وهو الّذي عليه الفتوى.

٢ ـ « وَمَتِّعُوهُنَّ » أي حيث لا جناح عليكم في ذلك فمتّعوهنّ جبرا لا يحاش الطّلاق بشي‌ء من أموالكم ، وذلك الشي‌ء يختلف باعتبار حال الزّوج فالغنيّ يجب عليه دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذّهب ، والمتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط ، والفقير دينار أو خاتم ، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.

٣ ـ لا متعة عندنا لغير هذه ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه و

٢٠٥

في القول الآخر ألحق بها الممسوسة المفروضة وغيرها قياسا ، وهو مقدّم على المفهوم عنده.

٤ ـ لو تراضيا على تقدير مهر بعد العقد ، لزم ، ولو طلّقها بعد ذلك لزم نصف المقدّر.

٥ ـ في الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا ويسمّى ذلك تفويض البضع ، وقد يقال تفويض المهر ، وهو أن يتزوّجها بمهر مجمل كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ ، فيلزم ما يقدّره ، لكن إن كان هو الزّوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك ، وإن كانت الزّوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة ، وهو خمسمائة درهم أو خمسون دينارا ، والأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله ، فإذا طلّق مفوّضة البضع لزمته المتعة كما قلناه ، ولو طلّق مفوّضة المهر لزم نصف ما يحكم به من إليه الحكم ، ولو لم يكن حكم الزم الحكم ، فيلزم نصفه.

٦ ـ لو مات الزّوج قبل الدخول ، ففي مفوّضة البضع لا شي‌ء ، وفي مفوّضة المهر ، قيل لها المتعة للرواية عن الباقر عليه‌السلام رواها محمد بن مسلم (١) وقيل لا شي‌ء لعدم الموجب.

٧ ـ في الآية دلالة على تملّك المهر المقدّر بالعقد لوصفه بالفريضة أي المفروضة فلو لم يجب كلّه لم يكن مفروضا مطلقا.

٨ ـ قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العقل والمروءة ، من حال الزّوج كما قلنا ، ووصف التمتّع بالحقّ دلالة على وجوبه ، وسمّى الأزواج ب « الْمُحْسِنِينَ » أي إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى جبر وحشة الطلاق للمسارعة ترغيبا وتحريصا.

الرابعة ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا

__________________

(١) الكافي باب نوادر المهر الرقم ٢ ، راجع ج ٥ ص ٢٧٩.

٢٠٦

أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (١).

قوله « فَنِصْفُ » أي فالواجب نصف واللّام في النكاح للعهد الذهنيّ « و ( يَعْفُونَ ) » جمع معتل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث لفظا وهو هنا للمؤنّث وهو مبني غير معرب إذا عرفت هذا فنقول دلّت هذه الآية على أحكام :

١ ـ تنصيف المهر بالطّلاق.

٢ ـ أنّ النّساء إذا عفون لم يكن لهنّ على الزّوج شي‌ء والمراد بالعفو هنا إمّا الهبة إن كان المهر عينا أو الإبراء إن كان دينا ، وهل يقعان بلفظ العفو؟ التحقيق هنا أن نقول : المهر إن كان دينا في ذمّة الزّوج صحّ بلفظ العفو ، ولفظ الهبة ولفظ الإبراء ، ولفظ الاسقاط ، وهل يشترط القبول؟ فيه خلاف الأصح عدمه وإن كان عينا فيصحّ بلفظ الهبة إجماعا ولا يصحّ بلفظ الإبراء إجماعا ، وهل يصحّ بلفظ العفو؟ قيل نعم ، لعموم اللّفظ في الآية ، وقيل لا ، لأنّه لا مجال له في الأعيان كلفظ الإبراء ، فإنّه لا يقع على العين ، وهو الأصح ، ولا بدّ من القبول هنا قطعا وبالجملة حكمه في العين حكم الهبة ، وتمام البحث في كتب الفقه.

٣ ـ أنّه كما يجوز للمرأة العفو عن حقّها ، كذا يجوز لوليّها وهو المشار إليه بقوله « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » واختلف في الوليّ فقال أصحابنا هو الولي الإجباري أعني الأب والجد له ، بالنسبة إلى الصّغيرة ، وهو قول الشافعيّ في القديم ، وألحق به بعض أصحابنا الوكيل الّذي تولّيه أمرها ، وفيه نظر لأنّ الوكيل ليس بيده عقدة النكاح أصالة ، بل بيدها ، والإطلاق ينصرف إلى الأصالة نعم لو أذنت للوكيل في العفو جاز قطعا.

وقال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأصحاب الرأي أنّ الّذي بيده عقدة النكاح هو الزّوج ، لأنه مالك لعقده وحلّه ، فعلى هذا القول يكون الطلاق قبل المسّ مخيّرا للزوج ، بين دفعه كملا وبين تشطيره ، فلا يكون الطّلاق مشطّرا بنفسه

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

٢٠٧

والأوّل أصح لأنّه لمّا ذكر عفو النّساء عن نصيبهنّ اقتضى أن يكون « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » وليّا لهنّ ليكون العفو في الجهتين واحدا ولأنّه بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » ثمّ قال « يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي » وهما خطاب لغير حاضر ، فيتغايران.

ويتفرّع على قولنا فروع :

١ ـ أنّ الزوجة لها العفو عن كلّ حقّها ، وأمّا وليّها فليس له العفو إلّا عن بعضه لا غير.

٢ ـ حيث جاز للوليّ العفو عن بعض حقّها ، فهل له إنكاحها ابتداء بدون مهر مثلها قيل لا ، فلو زوّجها بدون مهر المثل صحّ النّكاح وفسد المسمّى ، ويكون بمنزلة من لم يسمّ لها ، لأنّ معاوضات المولّى عليه يشترط في فعلها مساواة العوض وإذا فسد المسمى ثبت لها مهر المثل بنفس العقد.

وقيل : له ذلك ، لأنّه كما جاز له أن يعفو عن بعض ما وجب لها ، جاز له في الابتداء قبل الوجوب ، ولأنّه منصوب لنظر المصلحة ، فجاز أن يرى في ذلك مصلحة ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله زوّج بنته بخمسمائة درهم (١) ومعلوم أنّ مهر بنته لا يكون هذا القدر.

وفي هذا نظر لأنّ نظر النّبوّة يقيني ولأنّه « أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » ولأنّه جاز أن يكون باذنها ، وأيضا فإنّه إذا فسد المسمّى ثبت مهر المثل ، وهو لا يتجاوز مهر السنّة وهذا مهر السنّة ، والأصحّ أنه إن تعلّق بذلك مصلحة عائدة إليها جاز وإلّا فلا.

٣ ـ في الآية دلالة على ثبوت الولاية في النكاح على المرأة أصالة لقوله « بِيَدِهِ » أي في ملكه لأنّ اليد تدل على الملك عرفا ، وهذا من المجملات الّتي بينها السنّة الشريفة فعند أصحابنا ناقلين عن أئمتهم عليهم‌السلام أنّ الولاية أربعة أقسام :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٦ باب السنة في المهور الرقم ٦ ، والمراد سائر بناته لا فاطمة الزهراء ، فإنها زوجت على درع حطمية يسوى ثلاثين درهما.

٢٠٨

الأوّل القرابة وهي منحصرة في الأب والجدّ للأب خاصّة ، دون باقي الأقارب من العصبات ، وغيرهم لكن ذلك على الصّغيرين ، ومن عرض له الجنون حال الصّغر مستمرّا إلى البلوغ دون من تجدّد جنونه سواء كانت المرأة بكرا أو ثيّبا ، واختلف في البكر البالغة الرشيدة فالأقوى والأقرب سقوط الولاية عنها لسقوط الولاية في المال ، فتسقط في النكاح ولعموم « حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ » وللروايات المتضافرة عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ثمّ إنّ ولاية الأب والجدّ كلّ منهما مستبدّة وولاية إجباريّة ليس للمولّى عليه الاختيار (١).

الثّاني ولاية الحاكم وهي تختص بمن بلغ فاسد العقل ، وليس له وليّ أو فسد عقله ورأيه بعد بلوغه ورشده ، ويراعي في كلّ ذلك مصلحة المولّى عليه في النكاح.

الثالث ولاية الوصيّ عن الأب أو الجدّ له ، لكنّها مختصّة بمن بلغ فاسد العقل دون غيره ، ويراعي المصلحة أيضا.

الرابع ولاية الملك وهي ثابتة على الرقيقين ذكرا كان المالك أو أنثى وكذا المملوك بالغا كان أو غيره ، عاقلا كان أو غيره ، وهي أقوى الولايات فإنّها مقدّمة على ولاية القرابة والحكم ، وقالت العامّة بما قلناه وزادوا ولاية العصوبة وهي باطلة عندنا ، لإطباق علماء أهل البيت عليهم‌السلام على ذلك وكفى به حجّة.

٤ ـ قوله « وَأَنْ تَعْفُوا » خطاب للأزواج إجماعا لكن عند من فسّر « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » بالزوج قال إنّه أعاد خطابهم تأكيدا وعندنا لمّا ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرّجل وجمعه مطابقة لجمع النّساء ولأنّه خطاب لكلّ زوج.

ونقل الطبرسيّ أنّه خطاب للزّوج والمرأة معا عن ابن عبّاس قال : وهو أقوى لعمومه وفيه نظر أما أوّلا فلأنّ اجتماع العفوين غير ممكن لو أراده لأنّه وصف العفو بكونه أقرب للتقوى ، فيكون ترغيبا لهما ، وأمّا ثانيا فلأنّ تعفو هنا خطاب للمذكّر حقيقة بحذف نونه ، وجعله معربا بالناصب فلا يتناول المؤنّث.

__________________

(١) الخيار ، خ.

٢٠٩

إن قلت : التغليب جائز. قلت : هو خلاف الأصل.

إذا عرفت هذا فعفو الزّوج أنواع :

الأوّل أن يكون قد سلّم المهر إليها جملة ، وهو موجود بيدها فيهبها الزائد عن النصف لو طلّقها ، ويشترط قبولها.

الثاني أن يكون قد سلّمه وتصرّفت فيه ولم يبق عينه ، فعفوه إبراء ولا يشترط القبول.

الثالث : أن يكون موجودا بيده فيدفعه إليها جملة بعد الطلاق ، فيكون واهبا للزائد عن النصف فيشترط قبولها.

الرابع أن يكون في ذمّته دينا فعفوه إحضاره وتعيينه ، وتمليكها الزائد فيشترط أيضا قبولها.

ففي النوع الثاني يصح بأيّ لفظ شاء من الأربعة المتقدّمة وفي البواقي لا يقع إلّا بألفاظ الهبة ، وأمّا لفظ العفو فقد تقدّم الخلاف فيه ، نعم لفظ العفو لو حصل لم يفد ملكا بل إباحة وروي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة وطلّقها قبل الدّخول فأكمل لها الصداق فقال : أنا أحقّ بالعفو (١).

وقوله « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي اتّقاء الظلم ، فانّ الباذل لغيره حقّه فقد استبرأ لذمته واحتاط ، أو لاتّقاء الكلام في عرضه ، بأن يقال إنّه طلّقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر.

٥ ـ نقل عن سعيد بن المسيب أنّ هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية السابقة وليس بشي‌ء لأنّ النسخ إنّما يتصوّر مع المنافاة بين الحكمين ، ولا منافاة هنا لأنّ محلّ المتعة الطلاق قبل الدخول مع عدم الفرض ، وهنا ثبوت النصف مع الفرض ، فلا منافاة نعم أقول : لو قلنا بثبوت المتعة لكلّ مطلّقة على الاحتمال الثاني في « أو » كما تقدّم يكون هذه الآية مخصّصة لذلك العموم ، والتخصيص

__________________

(١) أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه كما في الدر المنثور ج ١ ص ٢٩٣.

٢١٠

خير من النسخ مع معارضتهما.

قوله « وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » أي لا تتركوا الأخذ بالفضل بينكم والإحسان ، ويمكن أن يستفاد من هذا استحباب الأخذ ناقصا والإعطاء راجحا في سائر المعاوضات.

الخامسة ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) (١).

القنوت لزوم الطاعة والمداومة عليها ، والنشوز الارتفاع ، والمراد هنا الارتفاع عن مطاوعة الأزواج فيما يجب لهم ، وسبب نزول هذه الآية أنّ سعد بن الرّبيع وكان من الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت لتقتصّ منه فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارجعوا هذا جبرئيل أتاني وأنزل هذه الآية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أردنا أمرا وأراد الله أمرا والّذي أراد الله خير ورفع القصاص. ثمّ إنّ الآية فيها أحكام :

١ ـ أنّ « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » أي لهم عليهنّ قيام الولاية والسّياسة وعلّل ذلك بأمرين أحدهما موهبيّ من الله وهو أنّ الله فضّل الرّجال عليهنّ بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التّدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية ، وإقامة الشعائر والجهاد ، وقبول شهادتهم في كلّ الأمور ، ومزيد النصيب في الإرث وغير ذلك. وثانيهما كسبيّ وهو أنّهم ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور ، مع أنّ فائدة النكاح مشتركة بينهما.

__________________

(١) النساء : ٣٤.

٢١١

والباء في قوله « بِما فَضَّلَ اللهُ » وفي قوله « وَبِما أَنْفَقُوا » للسببيّة ، وما مصدريّة أي بسبب تفضيل الله وبسبب إنفاقهم ، وإنّما لم يقل بما فضّلهم عليهنّ؟ قال بعض الفضلاء لأنّه لم يفضّل كلّ واحد من الرّجال على كلّ واحدة من النساء لأنّه كم من امرأة أفضل من كثير من الرجال وإنّما جاء بضمير المذكّر تغليبا فيدخل الرّجل المفضّل والمرأة المفضّلة قال : ولا يلزم من تفضيل الصّنف على الصنف تفضيل الشخص على الشخص.

قلت : فحينئذ لا يكون في الآية دليل على تفضيل الصّنف الّذي هو عين المدّعى ، لأنّه إذا كان بعض اشخاص الرجال أفضل من بعض أشخاص النساء وبالعكس فأيّ دليل على تفضيل الصنف على الصنف الآخر الّذي هو المراد فالسؤال باق على حاله.

٢ ـ أنّه لمّا فضّل الرّجال ، أراد جبر قلوب النساء فقال « فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ » أي مطيعات قائمات بما عليهنّ لأزواجهنّ « حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ » أي حافظات لما يكون بينهنّ وبين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار ، وقيل : حافظات لفروجهنّ ولأموال أزواجهنّ ولأولادهنّ كما جاء في الحديث.

وفيه نظر وإلّا لقال حافظات في الغيب لا للغيب على تقدير حذف المفعول به.

قوله « بِما حَفِظَ اللهُ » أي بما حفظهنّ الله حين أوصى بهنّ الأزواج ، وأوجب لهنّ عليهم المهر والنفقة ، فالباء حينئذ للمقابلة والجزاء والمراد بسبب حفظ الله لهنّ وتوفقه لهنّ أو بحفظه لهنّ بتعويضه للثواب على فعلهنّ.

٣ ـ بيان حكم النشوز ، وأصله الارتفاع كما قلنا ثمّ نقل شرعا إلى العصيان للزّوج ، وأتى بالفاء في الخبر ، لتضمّن المبتدأ معنى الشرط والجزاء ، لكونه موصولا والوعظ التخويف بالله وبالعواقب ، والهجر في المضاجع ، قيل هو أن لا يجامعها ، وقيل أن يولّيها ظهره في الفراش ، وقيل أن لا يبيت معها في الفراش بل في فراش آخر « وَاضْرِبُوهُنَّ » أي ضربا غير جارح لحما ولا كاسر عظما ، وهل تترتّب الثلاثة لترتّبهما في الذكر؟ الوجه نعم ، لا من حيث اللّفظ فانّ الواو

٢١٢

لا يفيد الترتيب ، بل من حيث المعنى لأنّه يترتّب الأخفّ فالثقيل فالأثقل ، كما يجب في النهي عن المنكر.

قيل قوله « تَخافُونَ » بمعنى تعلمون وليس بشي‌ء ، وقيل : معناه إن ظهرت أمارة النشوز « فَعِظُوهُنَّ » وإن أظهرن النشوز « وَاهْجُرُوهُنَّ » وإن استمرّ نشوزهنّ « وَاضْرِبُوهُنَّ ». قوله « فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ » أي إن رجعن عن نشوزهنّ إلى الطاعة ، فلا تتعرّضوا لهنّ بشي‌ء من الأذى لزوال سببه ، فانّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

قوله « إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً » أي إنّه مع علوّ شأنه في ذاته وصفاته تعصونه ويعفو عنكم إذا تبتم ، فكذلك يجب عليكم أن تقبلوا توبتهنّ إذا تبن أو معناه أنّه يتعالى أن يظلم أحدا أو يبطل حقّه.

السادسة ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) (١).

يريد إن خفتم استمرار الشقاق ، لأنّ الشقاق الماضي لا يخاف منه ، والمستقبل لا يعلم ، وكذا تقول في قوله « وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ » فانّ الاستمرار هو المخوف ، وأمّا إذا لم يستمرّ فلا يتعلّق به حكم لزواله ، وحاصل الشقاق الاختلاف وعدم الاجتماع على رأي واحد ، كأنّهما باختلافهما كلّ واحد في شقّ أي في جانب.

قوله « فَابْعَثُوا » هنا مسائل :

١ ـ قيل : الخطاب في قوله « فَابْعَثُوا » للزّوجين ، وقيل أهل الزّوجين وقيل للحكّام المتداعي عندهم ، وهو المنقول عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ، وهو الأصح لأنّ أوّل الكلام في « خِفْتُمْ » يدل عليه.

__________________

(١) النساء : ٣٥.

٢١٣

٢ ـ هل يشترط رضي الزّوجين بهما بحيث يكون إلزاما لهما بما يحكمان به أم لا؟ قيل نعم ، ومنهم من لا يشترط ذلك وهو مذهب مالك.

٣ ـ هل بعثهما تحكيم أو توكيل ، قال بعض أصحابنا بالثاني لأنّ البضع حقّ للزوج ، والمال حقّ للمرأة ، فليس لأحدهما التصرف فيهما إلّا بإذنهما وفيه نظر لأنّه استبعاد في ثبوت الولاية على الرّشيد حين امتناعه من أداء حقّ عليه كما يقضى دين المماطل بغير اختياره.

وقال أكثر أصحابنا بالأوّل محتجّين بأنه قد ورد أنّ لهما الإصلاح من غير استيذان ، وليس لهما التفريق إلّا بإذنهما ، ولو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة ويدل عليه قوله « فَابْعَثُوا » فإنّه خاطب الحكّام ، وسمّاهما حكمين ، ولو كان توكيلا لخاطب الزّوجين ، وقال « فابعثا » وأصل الخلاف مبنيّ على أنّه هل يشترط رضي الزّوجين أم لا؟ فمن شرط رضاهما ، قال : هو توكيل ، ومن لا يشترط قال هو تحكيم.

٤ ـ هل يجوز البعث لحكمين من غير أهل الزّوجين؟ قيل لا ، لأنّ الأهل أعرف بحال الزّوجين وكيفيّة صلاحهما ومحبّتهما وكراهتهما ، ولأنّ الأهل يسكن إليه ويطمئنّ إلى حكمه ، بخلاف الأجنبيّ ، وللآية ، وقيل يجوز لأنّ الغرض حصول الصّلاح وتقييد الآية للأغلبية ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب.

٥ ـ هل للحكمين الجمع والتفريق بغير إذن الزوجين أم لا؟ قيل نعم بناء على اشتراط رضاهما وأنّهما وكيلان ، وقيل لهما الجمع وليس لهما التفريق إلّا بعد استيذان المرأة في البذل ، والرّجل في الطلاق إن كان خلعا وهذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى.

وقال بعض أصحابنا : إن جعل الحاكم الإصلاح والطلاق إليهما أنفذا ما رأياه صلاحا ، وإن أطلق القول لم يجز التفريق إلّا بعد مراجعتهما وهو كلام حسن بناء على أنّ بعث الحاكم الحكمين بإذنهما واختيارهما ، فإنّ الإذن أوّلا كالاذن أخيرا.

٢١٤

٦ ـ لو اختلف الحكمان : بأن اختيار أحدهما الإصلاح ، والآخر التفريق لم يمض حكمهما قطعا ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح أو الجمع بين النقيضين.

٧ ـ يشترط في الحكمين : العقل والبلوغ والعدالة والحرّية والذكورة ويلزم كل ما شرطاه من أمر سائغ وإلّا نقض ويلزم الحكم بالصلح ، وإن كان أحد الزّوجين غائبا ، وقيل لا يلزم ، وهو ضعيف فانّ الحكم على الغائب جائز عندنا.

٨ ـ اختلف في ضمير « إِنْ يُرِيدا » وفي « بَيْنِهِما » قيل هما معا للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفّق الله بينهما ليتّفق كلمتهما ، ويحصل المقصود وقيل للزّوجين فيهما أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق بينهما أوقع الله الألفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه أصلح الله مبتغاه.

وقيل : الأوّل للحكمين والثاني للزّوجين ، ومعناه إن اتّفق الحكمان على الإصلاح يوقع الله الوفاق بين الزّوجين ، لأنّ الأمور بأسبابها ، وأما إذا أرادا الفساد أو اختلفا ، فلا يوفّق اللهب بينهما لعدم سبب الوفاق ولا يستبعد أن يكون إرادتهما للإصلاح سببا للاتّفاق ، لأنّ الأعمال بالنيّات.

قوله « عَلِيماً » أي بالكلّيات « خَبِيراً » أي بالجزئيّات.

السابعة ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (١).

أي لن تستطيعوا أن تعدلوا بين أزواجكم عدلا حقيقيّا بحيث يتساوين في المحبّة والتعهّد والنظر والميل القلبيّ « وَلَوْ حَرَصْتُمْ » أي بذلتم جهدكم في حصوله ، ولذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم بين نسائه ويقول « اللهم هذه قسمتي

__________________

(١) النساء : ١٢٩.

٢١٥

فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك (١).

قوله « فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » أي حيث لا يمكن العدل الحقيقيّ ، فلا يترك جملة ، بحيث تميلوا كلّ الميل ، فانّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

« فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » أي ليست ذات بعل ولا مطلّقة ، دلّت هذه على وجوب القسمة بين النساء والتسوية بينهنّ فيها لكن على سبيل الاجمال ، والسنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : صاحب النكاح الدائم إمّا أن يكون له زوجة واحدة فلها ليلة واحدة من الأربع والثلاث له يضعها حيث يشاء ، وإن كان له زوجتان فلهما ليلتان وله ليلتان ، وإن كان له ثلاث فله واحدة وإن كان له أربع فلا يفضل له شي‌ء ويجوز القسمة أكثر من ليلة أمّا أقلّ فلا ، لما فيه من التنغيص.

قوله « وَإِنْ تُصْلِحُوا » يعني بين الأزواج وتسوّوا بينهنّ ( وَتَتَّقُوا ) الجور في ذلك « فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً » لكم ما مضى « رَحِيماً » بكم.

روي عن الصّادق عليه‌السلام أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به عليهنّ وروي أنّ عليّا عليه‌السلام كان له امرأتان فإذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى (٢)

الثامنة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (٣).

كانت بنت محمّد بن مسلمة عند رافع بن خديج وقد دخلت في السنّ وكانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال لها : إن شئت

__________________

(١) سنن ابى داود ج ١ ص ٤٩٢ ، ورواه الطبرسي في المجمع ج ٣ ص ١٢١.

(٢) رواه الطبرسي في المجمع ج ٣ ص ١٢١.

(٣) النساء : ١٢٨.

٢١٦

راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك ، فقالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة ، فراجعها بذلك الصلح روي ذلك عن الباقر عليه‌السلام.

وقيل إنّ سودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خشيت أن يطلّقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة ، فنزلت الآية عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه (١) وقد تقدّم معنى خوف النشوز والاعراض وفي الآية دلالة على جواز الصّلح عن ترك القسمة ، وجعل عوض الصلح منفعة.

ثمّ قال « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » و « خير » يحتمل أن يكون هنا أفعل التفضيل ، أي خير من الفرقة. ويحتمل أن تكون جملة معترضة أي خير عظيم أو خير من الخيرات كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور.

قوله « وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ » جملة معترضة أيضا ، ولذلك لم يجانس ما قبلها ، والجملة الأولى مرغّبة في الصّلح ، والثانية لتمهيد العذر في المماكسة ومعنى إحضار الأنفس الشحّ كونها مطبوعة عليه ، فلا يكاد تسمح المرأة بالاعراض عنها والتقصير في حقّها ، ولا الرّجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهية لها وتمام الآية ظاهر.

التاسعة ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) (٢).

أي أسكنوهنّ مكانا من سكناكم قوله « مِنْ وُجْدِكُمْ » أي من وسعكم ممّا تطيقون ولا تضاروهنّ في السّكنى لتضيّقوا عليهنّ فتلجئوهنّ إلى الخروج ، و

__________________

(١) راجع الدر المنثور ج ٢ ص ٢٣٢ ، مجمع البيان ج ٣ ص ١٢٠.

(٢) الطلاق : ٦.

٢١٧

التعاسر التضايق ، وهنا أحكام :

١ ـ وجوب [ كون ] السكنى للمطلّقات إجمالا من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا لكنّ السنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : المطلقة الحائل إمّا رجعيّة وسيأتي بيان الرّجعي إن شاء الله ، فهذه يستحقّ الإنفاق والإسكان كما كانت ، مدّة العدّة ، ويدل عليه إطلاق الآية ، وإمّا بائنة فقال أبو حنيفة لها أيضا النفقة والسكنى ، وهو مرويّ عن عمرو ابن مسعود وقال الشافعي إنّ لها السّكنى لا غير ، وقال الحسن وأبو ثور إنّه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم‌السلام وأيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبيّ والزّهري في قضيّة فاطمة بنت قيس ، فيكون إطلاق الآية مخصوصة بالمطلّقة الرجعيّة.

٢ ـ أنّه يجب أن يكون المسكن ممّا يليق بها كافيا لينتفي المضارّة المنهيّ عنها بقوله « وَلا تُضآرُّوهُنَّ ».

٣ ـ المطلقة الحامل تستحقّ السكنى والنفقة إجماعا ، بائنا كانت أو رجعيّة لإطلاق الآية من غير تقييد.

ثمّ اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن ، هل النفقة لها أو للحمل؟ فقيل :

النفقة للحمل إذ لولاه لما كان لها شي‌ء ، فقد دار الوجوب مع الحمل وجودا وعدما وهو الأقوى ، وقيل : للحامل بشرط الحمل ، ويظهر الفائدة في مسائل كثيرة منها عدم وجوب قضائها على الأوّل ، ومنها وجوبها على الجدّ وغير ذلك.

٤ ـ أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد وسقطت نفقتها بخروج العدّة ، فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه لقوله تعالى ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وفيه دلالة على جواز الاستيجار على الرضاع قوله « وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ » أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد بأن لا يقع بخس على الوالد : بأن يؤخذ منه أزيد من الأجر ، ولا الوالدة بأن ينقص من أجرها ، ولا الولد بأن يرضع أقلّ من المقدّر الشرعيّ.

٢١٨

٥ ـ قوله « وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى » فيه دلالة على جواز أخذ الولد من الام واستيجار مرضعة أخرى ، وذلك ليس على إطلاقه بل إن تبرّعت فهي أحق ، وكذا إن رضيت بما يرضى به الغير ، وأمّا إذا لم يرض وهو المراد بالتعاسر ، فيقدّم حق الزّوج ، لأصالة البراءة ويسلمه إلى أخرى ترضعه ، وهل يسقط ذلك حضانة الأمّ؟ فيه خلاف ، قيل نعم ، لحصول الحرج ، وقيل لا ، لتغاير الموضوعين.

العاشرة ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (١).

هنا فوائد :

١ ـ رجحان التوسعة على العيال لقوله « مِنْ سَعَتِهِ ».

٢ ـ الأمر بالاقتصاد للمعسرين لقوله « وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ » أي ضيق عليه رزقه « فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ ».

٣ ـ الإخبار بأنّ الله « لا يكلّف نفسا ( إِلّا ما آتاها » وفيه دلالة على سقوط النّفقة في الحال عن المعسر.

٤ ـ الوعد باليسر بعد العسر ، وفيه تطيب لنفس المنفق والمنفق عليه.

٥ ـ قال المعاصر : في هذه والّتي قبلها دلالة على أنّ المعتبر في النفقة حال الزوج لا حال الزوجة ، ولذلك أكّده بقوله « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » إذ لو كان المعتبر حال الزوجة ، لأدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تكليف ما لا يطاق ، بأن تكون ذات شرف والزّوج معسر.

وعندي فيه نظر : أما أوّلا فلفتوى الأصحاب أنّه يجب القيام بما يحتاج إليه المرأة من إطعام أو كسوة وإدام وإسكان تبعا لعادة أمثالها. وأمّا ثانيا فللمنع من دلالة الآيتين على المدّعى أمّا الأولى فلأنّه نهى فيها عن المضارة لهنّ فلو

__________________

(١) الطلاق : ٧.

٢١٩

اعتبرنا حال الزوج لزم مضارّتها في بعض الأحوال كما قال في الزّوج بأن يكون معسرا وهي شريفة وهو خلاف مدلول الآية وأمّا الثانية فلأنّ قوله « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » قابل للتقييد أي في الحال الّتي قدر فيها الرزق ، وحينئذ جاز أن يكون الواجب عليه ما هو عادة أمثالها فيؤدّي ما قدر عليه الآن ، ويبقى الباقي دينا عليه ، ولذلك اتّبع الكلام بقوله « سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ».

النوع الرابع

في أشياء من توابع النكاح

وفيه آيات :

الاولى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (١).

غضّ البصر هو ترك النظر ، والمراد هنا ترك النظر إلى الأجنبيّات ومقول القول محذوف أي قل لهم غضّوا يغضّوا ، فيكون يغضّوا في الآية جوابا للأمر المحذوف وكذلك « يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » تقديره قل لهم احفظوا فروجهم يحفظوا.

و « من » عند الأخفش زائدة ، وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات إلّا شاذا وعند سيبويه هي للتبعيض وهو الحقّ فإنه لا يجب الغض عن جميع المحرّمات فإنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة المحارم وإلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيّات وأكفّهنّ حال الضّرورة ، وكذا إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع وكذا الطبيب للعلاج ، والشاهد لتحمّل الشهادة وإقامتها ، والنظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا وعرفا ، ويقتصر على نظر الوجه ، وكذا النظرة الاولى من

__________________

(١) النور : ٣٠.

٢٢٠