كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

واعلم أنّ الوصيّة كما تكون بمال كذا تكون بالولاية ، والولاية إمّا بإخراج حقّ على الميّت ، كدين أو أداء أمانة ، أو بالنظر في حال أولاده الأصاغر وحفظ أموالهم والسعي في تنميتها ، وهو البحث عن اليتامى فلنتبع هذا الفصل بذلك. والمراد باليتيم هو الصغير الّذي لا أب له من اليتم وهو الانفراد ومنه الدّرّة اليتيمة ، والاشتقاق يقتضي صدقه على الصغير والكبير لكنّ العرف خصصه بالصغير وهذا البحث فيه آيات.

الاولى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) (١).

الابتلاء الاختبار ، و « آنَسْتُمْ » أي أبصرتم وأدركتم و « حَتّى » حرف ابتداء لأنّ بعده جملة شرطيّة ، وهو « إِذا بَلَغُوا » والجزاء جملة أخرى شرطيّة وهي « فَإِنْ آنَسْتُمْ » فالفاء الاولى جواب الشرط الأوّل ، والثانية للثاني « و ( إِسْرافاً وَبِداراً ) » منصوبين على الحال أي مسرفين ومبادرين ، والأولى أنّهما مصدران لأنّهما نوعان للأكل ، لا أنّهما مفعول لهما كما قال الزمخشري لأنّ الشي‌ء لا يعلّل بنوعيه « و ( أَنْ يَكْبَرُوا ) » مفعول به ، لبدارا ، أي لا تبادروا كبرهم بالأكل بمعنى أن تأكلوها خوفا أن يكبروا فيأخذوها منكم « ويستعفف » بمعنى يعفّ مثل يستقر بمعنى يقرّ وقال الزمخشريّ أنّه أبلغ من يعفّ لأنّه يطلب بالسين زيادة العفّة وفيه نظر لأنّ السّين يطلب بها الفاعل أصل الفعل لا زيادته نحو استكتب.

إذا تقرر هذا فهنا أحكام :

__________________

(١) النساء : ٥.

١٠١

١ ـ دلّ الأمر بابتلائهم على وجوب الحجر عليهم في التصرفات وإلّا لانتفت فائدة الابتلاء الّذي يترتّب عليه وجوب دفع الأموال إليهم.

٢ ـ الآية ظاهرة في تقدم الابتلاء على البلوغ ، وفائدته عدم الاحتياج إلى اختبار آخر ، بل يسلّم إليه ماله إن علم رشده ، وقال بعض الجمهور إنّه بعد البلوغ وهو باطل وإلّا لزم الحجر على البالغ الرشيد ، وهو باطل إجماعا.

٣ ـ اختلف في معنى ابتلائهم فقال أبو حنيفة هو أن يدفع إليه ما يتصرّف فيه ، وقال أصحابنا والشافعيّ ومالك هو تتبع أحواله في ضبط أمواله وحسن تصرّفه بأن يكل إليه مقدّمات البيع لكن العقد لو وقع منه كان باطلا ويلزم على قول أبي حنيفة أن يكون العقد صحيحا.

٤ ـ أنه أشار إلى غاية الحجر بقوله « حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ » وهو حال البلوغ أي أوان يصلح له أن ينكح بأن يحتلم أو يبلغ خمسة عشر سنة عندنا ، وعند الشافعيّة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا استكمل المولود خمسة عشر سنة كتب ماله وعليه وأقيمت عليه الحدود (١) وعند أبي حنيفة ثمانية عشر سنة هذا في الذّكر والخنثى وأمّا الأنثى فعندنا تسع سنين ، وقال الشافعي كالذكر وقال أبو حنيفة سبعة عشر سنة ، وقال صاحباه كالذّكر وقال مالك كما حكي عنه : البلوغ أن يغلظ الصّوت أو ينشقّ الغضروف وهو رأس الأنف قال وأمّا السن فلا تعلّق له بالبلوغ.

وقال داود : الحكم بالبلوغ بالسنّ ورواية ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ردّه عن الجهاد عام بدر وله ثلاثة عشر سنة (٢) ثمّ ردّه في أحد وله أربع عشر سنة ، و

__________________

(١) أخرجه في نيل الأوطار ج ٥ ص ٢٦٣ قال : وفي الباب عن أنس عند البيهقي بلفظ إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود ، وهكذا أخرجه الشيخ في الخلاف ج ١ ص ٦٢٦.

(٢) هكذا نقله الشيخ في الخلاف كتاب الحجر المسئلة الثانية ج ١ ص ٦٢٦ والظاهر أن ذكر عام بدر اقتحم في الحديث بلا تفطن ، فان عام بدر انما خرج المسلمون

١٠٢

عرض عليه في الخندق وله خمسة عشر سنة تدل على قولنا.

وهل يحصل البلوغ بالإنبات ، قال أصحابنا : نعم مطلقا وقال أبو حنيفة لا مطلقا وقال الشافعيّ هو دلالة في حقّ المشركين وأمّا المسلمين ففيه قولان ، وقضيّة سعد بن معاذ وأمره بأن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال « لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع أرقعة (١) » يصدّق ما قلناه وهو عام.

٥ ـ انه لا بدّ مع البلوغ من إيناس الرشد ، وهو عندنا عقله للمعاش ، بأن لا ينخدع في المعاملات والتصرفات اللّائقة به ، وهل يشترط صلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي : نعم ، فيحجر عنده على الفاسق وقال أبو حنيفة : لا حجر عليه ، وبه قال أكثر أصحابنا اللهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ما له فالحجر باق.

وقال الشيخ بمقالة الشافعيّ ومنشأ القولين خلو كلام المفسّرين من قيد العدالة ، قال ابن عباس : الرشد أن يكون ذا وقار وعقل وعلم ، ولم يذكر العدالة

__________________

لاغارة العير ، ولم يكن عزمهم على القتال ، حتى يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيرد الذرية ويجيز المقاتلة ، مع أن أسماء من خرج الى بدر مضبوطة في كتب السير ، وليس فيها ذكر لابن عمر.

فالصحيح من لفظ الحديث ما أخرجه في مشكاة المصابيح ص ٢٩٢ ، « عن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازنى » فقال عمر بن عبد العزيز : هذا فرق ما بين المقاتلة والذرية ، متفق عليه. أقول : ومثله في سنن ابى داود ج ٢ ص ٤٥٣ وذكره ابن هشام في السيرة ج ٢ ص ٦٦ أيضا على التفصيل ، فراجع.

(١) أخرجه في المستدرك ج ٢ ص ٢٦٨ عن دعائم الإسلام وأخرجه في ج ١ ص ٧ عن غوالي اللئالى وفيه بدل قوله « لقد حكمت بحكم الله » : « فصوبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ». ونقله الشيخ في الخلاف كتاب الحجر المسئلة الاولى ج ١ ص ٦٢٦ وهكذا نقله ابن هشام في السيرة ج ٢ ص ٢٤٠.

١٠٣

وقال قتادة العقل والدّين ، وهو غير دالّ على العدالة أيضا إذ يكفي في صلاح الدين حسن الاعتقاد.

احتجّ الشيخ بوجوه الأوّل أنّ الرشد والغيّ صفتان متباينتان والفاسق موصوف بالغيّ فلا يكون موصوفا بالرّشد ، الثاني أنّ الفاسق سفيه ، فلا يجوز أن يعطى ماله للآية. الثالث أنّ الحجر متحقّق فلا يزول إلّا بدليل ولا دليل.

ويمكن أن يجاب عن الأوّل بالمنع من أنّ وصفه بالغيّ يمنع من وصفه بالرّشد ، لأنّهما وإن تضادّا مفهوما ، لم يتضادّا متعلّقا ، لأنّهما يطلقان في أمور المعاش وأمور المعاد ، والمراد بالرشد في الآية في أمور المعاش فجاز أن يكون الفاسق غاويا في أمور معاده رشيدا في أمور معاشه نعم يلزم المنافاة ، لو كانا متناقضين لكنّه ليس كذا.

وعن الثاني بأنّ الفاسق سفيه في معاده لا في معاشه وعن الثالث أنّ الدّليل على زوال الحجر هو الآية مع ما ذكرناه من جواب الشبهة.

٦ ـ علّق دفع المال على الرشد فإذا لم يحصل الرشد بقي على الحجر عندنا وعند الشافعيّ وأصحاب أبي حنيفة ، ولو طعن في السنّ ، عملا بانتفاء المشروط لانتفاء شرطه ولأنّه سفيه فلا يعطى شيئا للآية.

وقال أبو حنيفة : يزاد على زمان بلوغه سبع سنين ثمّ يعطى ماله رشد أو لا محتجّا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « مروهم بالصوم والصلاة وهم أبناء سبع (١) » فانّ هذه المدّة هي مدّة تتغيّر أحواله فيها ، وهذا عليه لا له. لأنّه يقتضي أن يكون البلوغ في أربع عشر سنة أو في أحد وعشرين.

٧ ـ يجب دفع المال عند تحقّق البلوغ والرشد على الفور ولا يجوز التأخير لحصول سبب الدّفع وهو البلوغ والرّشد ، ولإتيانه بالفاء الدالة على التعقيب.

٨ ـ قوله « وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً » فيه إيماء إلى جواز الأكل بوجه وهو قوله

__________________

(١) راجع المستدرك ج ١ ص ١٧١.

١٠٤

( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قيل هو أن يأكل قدر كفايته وما لا بدّ له منه وقيل على قدر عمله وقيل أقلّ الأمرين ، وهو أجود لقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) ولا ريب أنّ هذا أحسن ، وفي الحديث أنّ رجلا قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : بالمعروف غير متأثّل مالا ولا واق مالك بماله ، فقال : أفأضربه؟ قال : ممّا كنت ضاربا منه ولدك (٢).

وعن ابن عبّاس أنّ وليّ يتيم قال له أفاشرب من لبن إبله؟ قال إن كنت تبغي ضالّتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضرّ بنسل ولا ناهك في الحلب (٣).

وروى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال إن كان يلوط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد نادتها فليشرب من ألبانها غير منهك للحلاب ولا مضرّ بالولد (٤).

٩ ـ الغنيّ : ذو الملاءة ، وظاهر الآية يقتضي عدم جواز أخذه شيئا من مال اليتيم على عمله لقوله « فَلْيَسْتَعْفِفْ » أي يعف كما قلناه والأمر للوجوب ، وهل يجب على الفقير إذا صار غنيّا رد ما أخذه حال فقره أم لا؟ قال بعض المفسّرين نعم ، والأولى عدم الوجوب ويحمل ما ورد من ذلك على الندب أو على أخذه زائدا عن مستحقّه فيجب رده حينئذ ، وأمّا ما أخذه بحقّ فقد ملكه والأصل البراءة من وجوب الردّ.

١٠ ـ إذا دفع الوليّ إلى اليتيم المال ، فليشهد عليه بقبضه ، وهو على الندب

__________________

(١) الانعام : ١٥٢ وأسرى : ٣٤.

(٢) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر كما في الدر المنثور ج ٢ ص ١٢٢.

(٣) رواه الطبرسي في مجمع البيان ج ٣ ص ١٠

(٤) أخرجه في الوسائل ب ٧٢ من أبواب ما يكتسب به ح ٦

١٠٥

أو الإرشاد إلى المصلحة ، فإنّ له فائدتين : أحدهما دفع التهمة عن الوليّ بأكل مال اليتيم وثانيهما سقوط الضمان لو أنكر القبض أو سقوط اليمين لو ادّعى الولي التلف بغير تفريط ، وظاهر الآية يقتضي عدم تصديق الوليّ في قوله إلّا بالبيّنة ، وبه قال الشافعيّ ومالك والحقّ فيه التفصيل كما قلناه ، وهو قبول قوله في التلف بغير تفريط ، وفي النفقة على الطفل بما جرت العادة به ، أمّا تسليم المال فلا يقبل قوله فيه إلّا بالبينة ، وهذا الأمر بالإشهاد من حسن نظر الله للأولياء وكمال لطفه في حقّهم.

قوله ( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) أي كافيا في الشهادة عليهم بالدّفع ، كذا قيل والأولى أنّ معناه كفى بالله محاسبا فانّ الاشهاد في الظّاهر وأمّا براءة الذمة في الباطن فا [ نّ ا ] لله متولّيه يوم القيامة.

الثانية ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) (١).

المأمور بتسليم أموالهم إليهم إمّا البالغون لما تقدّم في الآية الاولى وسمّاهم هنا يتامى تسمية للشي‌ء باسم ما كان عليه لقرب عهدهم بالصّغر حثّا على أن يدفع إليهم أموالهم أوّل زمان بلوغهم ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو غير البالغين فيكون الحكم مقيّدا ببلوغهم وإيناس الرشد منهم قوله « وَلا تَتَبَدَّلُوا » أي لا تستبدلوا مثل لا تتعجلوا بمعنى لا تستعجلوا « والخبيث » المال الحرام و « الطيّب » المال الحلال وقيل المراد بالطيّب هنا ما أعدّ في الجنّة لمن عفّ عن مال الأيتام ، وقيل المراد بالخبيث الرّدي وبالطيّب الجيّد قال السدّي كانوا يجعلون الشاة المهزولة مكان السمينة قيل هذا تبديل لا استبدال اللهمّ إلّا أن يكون مكرمة مع الأصدقاء فيأخذ من الصّديق عجفاء ويعطيه من مال اليتيم سمينة.

__________________

(١) النساء : ٢.

١٠٦

قوله ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) أي ضامّين إلى أموالكم وقيل « إلى » هنا بمعنى « مع » والمنهي عنه هنا هو ما ليس على وجه الأجرة بالمعروف كما تقدّم وعبّر بالأكل لأنّه أعظم وجوه الانتفاع والتصرف ، حيث يصير بدل ما يتحلّل.

قوله ( إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) أي ذنبا كبيرا.

وروي أنّ الآية نزلت في رجل كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا بلغ اليتيم طلب المال فمنعه منه فترافعا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت فلمّا سمعها العم قال أطعنا الله وأطعنا الرسول ، ونعوذ بالله من الحوب الكبير ، ودفع إليه ماله فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنّه يحل داره أي الجنّة ولمّا أخذ الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقيل له كيف يا رسول الله فقال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على الوالد (١).

قال بعض الفضلاء هذا الخبر يحمل على أنّ والده لم يكن يحترز في تحصيل المال من الشبهات أو لم يخرج الحقوق المالية وعندي في هذا الحمل نظر إذ مقتضاه أنّ في المال حقوقا يجب إيصالها إلى أربابها فكان يجب على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمر بتسليمها إلى مستحقّها ولا يدع الغلام يتصرّف فيها إذا لا يجوز له صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقرر على الباطل.

فالأولى أن يقال : الوزر قد يراد به الثقل كما ورد التعبير عن مثل ذلك بالعب كما جاء في حديث آخر « إلهنا لغيره والعب‌ء على ظهره » وحينئذ يكفي في الثقل ندم الميّت وأسفه على فوات ثوابه بصرفه في وجوه القرب ، وعدم انتفاعه به في آخرته أو أنّه إذا شاهد ما حصل لوارثه ممّا كدّ حينئذ في تحصيله تألّم بذلك.

وأمّا السؤال المشهور هنا وهو أنّ أكل مال اليتيم حرام قطعا منفردا أو منضما فلم خصّ النهي بأكله منضما؟ فأجاب عنه الزمخشريّ بأنهم لمّا كانوا أغنياء فأكل مال اليتيم منهم أقبح ، وأيضا كانوا يفعلون كذلك فنهوا عنه نغيا عليهم وتسميعا (٢).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١١٧.

(٢) في بعض النسخ : تعييبا عليهم وتشنيعا ، ومعناهما متشابه.

١٠٧

وقيل : لا وجه للسؤال لأنّ قوله ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) نهي عن أكل مال اليتيم وحده لما تقدّم في التفسير الأوّل ، أي لا تتبدلوا أموالهم مكان أموالكم ولا تأكلوها منضمّة إلى أموالكم فقد استوفى النهي القسمين معا.

الثالثة ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (١).

قيل : المراد بالآية الأولى الّذين يجلسون عند المريض ويقولون إنّ أولادك لا يغنون عنك من الله شيئا فقدّم مالك في سبيل الله فيفعل المريض بقولهم فيبقى أولاده ضائعين كلّا على الناس : فأمر [ الله تعالى ] هؤلاء بأن يخافوا الله في هذا القول ويقدّرون أنّ أولادهم هم المخلّفون ويفعلون بهم ما أشاروا به.

ويقوّي هذا القول قوله ( فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) أي موافقا بأن لا يشيروا بزائد على الثلث بل بأقلّ ، وقصّة سعد بن أبي وقّاص المتقدّمة تدلّ على هذا المعنى ، فيكون الأمر هنا على الندب.

وقيل : هو للأوصياء بأن يخشوا الله في القيام بأمر اليتامى ، وليقدّروا أنّهم لو كانوا هم الموتى وذرّيتهم للضعفاء تحت ولاية أوصيائهم ، كيف كانوا يخافون عليهم من الضياع ، ويريدون من الأوصياء أن يفعلوا بأبنائهم؟ فليكونوا هم في ولاية اليتامى كذلك.

ثمّ إنّه تعالى أكّد النهي عن تناول مال اليتامى زيادة عن تناول مال غيرهم لمكان ضعفهم وعجزهم وغفلتهم فقال ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) أي سببا للنار والتنوين فيه للنوعيّة أي نوعا من النار ، لا أيّ نار كانت ، وفي ذلك غاية التهديد قوله ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) إعادة ليعلم أنّ أكل مال اليتيم سبب تامّ لدخول النار

__________________

(١) النساء : ٩

١٠٨

لا أنّه سبب ناقص صغير ، بل هو كبيرة من الكبائر.

وسئل الرضا عليه‌السلام كم أدنى ما يدخل به النار آكل مال اليتيم؟ فقال : قليله وكثيرة واحد إذا كان من نيّته أن لا يردّه إليهم (١).

وعنه أيضا عليه‌السلام أنّه قال إنّ في مال اليتيم عقوبتين اثنتين إمّا إحداهما فعقوبة الدنيا وهو قوله « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ » الآية وأمّا ثانيتهما فعقوبة الآخرة وهو « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً » الآية (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام قال في كتاب عليّ عليه‌السلام أنّ آكل مال اليتيم سيدركه وبال ذلك في عقبه ويلحقه وبال ذلك في الآخرة وذكر الآيتين (٣).

ولنتبع هذا البحث بآيتين :

إحداهما ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (٤).

قال الضحّاك المراد « بالسّفهاء » النساء فإنّهنّ من أسفه السفهاء إذ السفه خفّة العقل ، وهنّ نواقص العقول كما جاء في الحديث ، وسواء كنّ أزواجا أو بنات أو أخوات أو جواري أو غير ذلك : وفيه نظر ، لأنّه عدول عن الظاهر ، وخروج عن الحقيقة ، وتخصيص للعموم.

وقيل : هو نهي لكلّ ذي مال أن يسلّم ماله إلى السّفهاء الّذين لا يقومون بحفظ المال ، وحسن رعايته ، بل يفسدونه بتصرفاتهم الفاسدة لقوله ( أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) أي تقومون بها قياما لأنّكم لو ضيّعتموها بإعطاء السّفهاء ، لضعفتم

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ج ١ ص ٣٤٧ ، تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢٤.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢٣.

(٣) عقاب الاعمال : ٢٠ تفسير العياشي ج ١ ص ٢٢٣.

(٤) النساء : ٥.

١٠٩

واحتجم. وقرئ قيّما بمعنى قياما وفي الشواذّ قواما وقوام الشي‌ء ما يقام به كما يقال هو ملاك الأمر لما يملك به.

وقال الفقهاء ومحقّقوا المفسّرين : إنّ الخطاب للأولياء أمروا بأن يمسكوا أموال اليتامى إلى وقت بلوغهم ورشدهم ، وينفقوا عليهم ويؤيّده قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » وإنّما أضاف الأموال إليهم لأنّها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال الله تعالى « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » وهذا أقرب وأولى ، لأنّه ملائم للآيات المتقدمة والمتأخّرة ، وأيضا هو حمل اللّفظ على حقيقته العرفيّة فإنّ السفيه في عرف الفقهاء هو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصّحيحة وذلك مناسب للحجر عليه ، وإنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرفهم وتحت ولايتهم فالإضافة لمطلق الاختصاص.

وقوله « وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » هو الوعد بالتسليم إليهم عند رشدهم وحضّهم على سولك طريق الصّواب في تصرفاتهم وهنا فوائد :

١ ـ إنّما ذكر الحجر على السّفيه منفردا بآية مع أنّ ذلك معلوم من قوله « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً » للدلالة على أنّ السّفه علية برأسه في الحجر ، سواء كان للصبيّ أو البالغ ، وسواء كان تابعا للصبي أو طارئا بعد البلوغ والرشد ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه لا يحجر على البالغ العاقل للسّفه والتبذير وخالفه صاحباه ، وتصرّفه عنده جائز وإن لم يوافق مصلحته.

٢ ـ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة عند الأكثر ، فهل بمجرّد ظهور السفه يقع الحجر به أو لا بدّ من حكم الحاكم؟ قيل بالأوّل لحصول العلّة ، وقيل بالثاني لأنّها مسئلة اجتهاديّة فتفتقر إلى نظر وضبط فيتوقّف على الحاكم ، وكذا الخلاف في أنّه هل يزول الحجر بزواله ، أو لا بدّ من الحكم ، والحقّ الأوّل في المسئلتين مع التحقّق.

٣ ـ الحجر على السفيه مختصّ بالتصرف الماليّ عملا بالعلّة ، فيقع تصرفه في غير المال كاستيفاء القصاص والطلاق وغيرهما بخلاف الصّبيّ والبالغ غير الرشد

١١٠

فإنّه ممنوع من التصرّف مطلقا.

٤ ـ تصرف السّفيه في المال مع نظر الوليّ أو إذنه فيه مع موافقته للمصلحة جائز ماض بخلاف الصبيّ والمجنون ، فانّ تصرّفهما باطل ولو أذن الولي ووافق المصلحة.

٥ ـ في قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » دون « منها » فائدة وهي أن يرزقوهم من ربحها لا من أصلها (١) لئلّا يأكلها الاتفاق أو أن الرزق من الله فيها بمعنى أنّ الله جعل رزقكم ورزقهم فيها فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ بالآية على وجوب التكسّب بمال المولّى عليه ، لظاهر الأمر ، ولئلا يأكلها النفقة ، ويحتمل عدم الوجوب للأصل ، ولأنّه اكتساب ولا يجب ، والحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة ، فأمّا الزيادة على ذلك فندب.

وثانيتهما ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ ) (٢).

أي عبدا لله و « مَمْلُوكاً » أي للناس « لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ » أي على شي‌ء من التصرّفات ، والجملة صفة « للمملوك » صفة تخصيص ليخرج المكاتب والمأذون في التصرف ، فإنّهما يقدران على التصرف في المال ، ويحتجّ بها على حكمين :

١ ـ الحجر على المملوك في تصرّفاته بمعنى عدم صحّة شي‌ء منها إلّا بإذن سيّده ، لكن هذا العموم مخصوص بصحّة تصرّفه في طلاق زوجته وبنفوذ إقراره بالمال ، ويتبع به بعد عتقه ، وكذا يقبل قول المأذون فيما هو من ضروريّات التجارة أمّا لو أقرّ المملوك بقصاص أو حدّ فعندنا لا ينفذ في الحال خلافا لأبي حنيفة اللهمّ إلّا أن يوافقه السيد فينفذ.

٢ ـ أنّه لا يملك شيئا سواء ملّكه مولاه أو لا ، وبه قال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأكثر أهل العلم ، وقال في القديم يملك إذا ملّكه مولاه وقال مالك يملك

__________________

(١) في بعض النسخ : من صلبها.

(٢) النخل : ٧٥.

١١١

وإن لم يملّكه مولاه ووجه ما قلناه أنه ليس المراد من الآية نفي القدرة على الفعل لأنّه معلوم البطلان ضرورة ، فيكون المراد أنّه لا يملك وهو المطلوب وأيضا نفى عنه القدرة عموما لأنّ النكرة في النّفي يعم ، خرج من ذلك ما أخرجه الدليل فيبقى الباقي على النفي.

إن قلت : إنّ النفي وإن كان عاما لكنّه متعلّق بعبد منكّر ، وهو لا يدل على العموم فلا يلزم عدم تملّك العبيد كلّهم.

قلت : تعليق الحكم على المشتقّ يدل على كون المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك أكرم العلماء فإنّه يدل على أنّ علّة إكرامهم علمهم ، فيعمّ أينما وجد المشتقّ منه ، وصورة النزاع كذلك ، فيعم أينما وجد الملك.

وأيضا يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (١) شبّه حاله مع عباده في نفي المشاركة في الملك بحال السادات مع مماليكهم ، ومعلوم أنّ عبادة لا يشاركون الله في الملك ، فكذا المماليك.

احتجّ من قال بملكه بقوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (٢) وجه الدّلالة أنّه لو لم يصحّ تملّكهم لم يصحّ إغناؤهم ، لكن صحّ فصحّ ، وبما روي أنّ سلمان كان عبدا فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشي‌ء فقال : هو صدقة فردّه فأتاه ثانيا وقال : هذه هديّة فقبله فلو كان لا يملك لما قبله منه.

وأجاب الشيخ عن الأوّل بجواز أن يريد الله أن يغنيهم بالعتق ، وعن الثاني بالمنع من كون سلمان مملوكا حقيقة بل كان محكوما عليه من غير التملّك الشرعيّ وإن سلّم جاز أن يكون الهديّة بإذن سيّده ، وعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك فقبلها.

وفي الجواب الأوّل نظر لأنّه إن توجّه فإنّما يتوجّه على تقدير تزويج

__________________

(١) الروم : ٢٨.

(٢) النور : ٣٢.

١١٢

العبيد والإماء بالأحرار ، لأنّه ربما يؤدّي إلى عتقهم بسبب أولادهم ، وأمّا إذا زوّجوا بأمثالهم فلا ، وأيضا لو كان العتق غنى كان الرّق فقرا وحينئذ كان فقر العبد متحقّقا فيكون حجّة لنا وكلمة « إن » وإن كان محلّها المحتمل لكن جاز استعمالها في المتحقّق مثل قوله تعالى ( وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) (١).

النوع الثالث عشر

في العطايا المنجزة كالوقف والسّكنى والصّدقة والهبة وغير ذلك وليس في الكتاب آيات مختصّة بذلك بل آيات تدلّ بعمومها وظواهرها على الحضّ على فعل الخيرات ، فيدخل في ذلك ما ذكرناه وقد ذكر الراونديّ والمعاصر من ذلك آيات :

الاولى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (٢).

الثانية ( وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (٣).

الثالثة ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ـ الى قوله وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) (٤).

وقد مضى البحث في ذلك فلا وجه لإعادته ، وتمام البحث في الأمور الأربعة مستوفى في كتب الفقه.

__________________

(١) المؤمن : ٢٨.

(٢) آل عمران : ٩٢.

(٣) المزمل : ٢٠.

(٤) البقرة : ١٧٧.

١١٣

النوع الرابع عشر

في النذر والعهد واليمين

وفيه أبحاث :

البحث الأول

النذر

وفيه آيتان :

الاولى ( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) (١).

« ما » موصولة وهي مبتدأ ولتضمنها معنى الشرط دخل الفاء في خبره ، ومعناه وما أنفقتم من نفقة في الطّاعات أو في المعاصي فإنّ الله يعلم ذلك فيجازي على عمله من الثواب والعقاب بقدر علمه ، فإنه لا يفوته شي‌ء من خفيّات الأمور وكذلك حكم ما نذرتم من نذر في طاعة أو معصية.

والضمير في « يَعْلَمُهُ » عائد إلى لفظة ما ، ولذلك ذكّره ، « وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » أي ليس للّذين يمنعون الصّدقات أو ينفقون في المعاصي أو لا يوفون بالنذر أنصار يوم القيامة وهنا فوائد :

١ ـ في ذكر العلم بعد الإنفاق والنذر ، وإردافه بالظلم بسبب المخالفة دلالة على وجوب الوفاء بالنذر وذلك هو المطلوب.

٢ ـ النذر قد يكون مطلقا كقوله « لله عليّ أن أفعل كذا من الطاعات » وقد يكون مشروطا بحصول أمر واجب أو مندوب أو مباح أو انزجار عن محرّم أو مكروه فيقول : إن كان كذا فعليّ كذا من الطاعة الواجبة أو المندوبة ، ولا خلاف في انعقاد

__________________

(١) البقرة : ٢٧٠.

١١٤

الثاني وفي الأوّل خلاف والأصح انعقاده لعموم « ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (١) » وعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « من نذر أن يطع الله فليطعه (٢) ».

وقال المرتضى بعدم انعقاده مدّعيا الإجماع ولأنّ غلام ثعلب نقل أنّ النذر لغة وعد بشرط ، فيكون كذلك شرعا لأنّه جاء بلغتهم والأصل عدم النقل ، وأجاب القائل بانعقاده بمنع الإجماع لعدم تحقّقه ، ومنع النقل فإنّه نقل أنّه وعد بغير شرط وقد وجد في أشعارهم كقول جميل :

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي

وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني (٣)

٣ ـ النذر عبادة لفظيّة ، وكذا العهد واليمين ولا تكفي النيّة القلبيّة ، وإن كانت شرطا من غير تلفّظ ، وقال بعض الفقهاء بالاكتفاء وليس بشي‌ء.

الثانية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (٤).

نزلت هذه الآية الكريمة في عليّ وفاطمة عليهما‌السلام وقصّتهما مشهورة والاستدلال بها من وجهين :

١ ـ أنّها خرجت مخرج المدح لهم عليهم‌السلام ، وذلك دليل رجحان الوفاء بالنذر.

٢ ـ إرداف الوفاء بخوف شر يوم القيامة ، وفيه دلالة على وجوب الوفاء إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب ، و « المستطير » المنتشر.

__________________

(١) آل عمران : ٣٥.

(٢) وبعده : ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه. رواه البخاري ج ٤ ص ١٥٩.

(٣) البيت في قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، أحد عشاق العرب المشهورين ، وترى ترجمته في الخزانة للبغدادى ص ٢٦٨ ـ ٢٧٠ ج ١ عند شرح الشاهد الثاني والستين ، وفيه أن ترجمة جميل في الأغاني طويلة جدا ، وأنشد القصيدة القالي في الأمالي ج ١ ص ٢٠١ وضبط البيت فيه :

ونبت قوما فيك قد نذروا دمي

فليت الرجال الموعدين لقوني

وقوله « يا بثين » منادي مرخم ، أصله. « يا بثينة » وقد صحفت الكلمة في النسخ بأنحاء شتى.

(٤) الدهر : ٧.

١١٥

البحث الثاني

العهد

وفيه آيات.

الاولى ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) (١).

دلّت على وجوب الوفاء بالعهد من وجهين :

١ ـ صيغة الأمر في قوله « وَأَوْفُوا » والأمر للوجوب.

٢ ـ كون العهد مسئولا ولا يسئل عن غير الواجب ، فيكون الوفاء به واجبا.

الثانية ( وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (٢).

وهذه أيضا فيها أمر صريح بالوفاء فيكون واجبا ، وأكّد ذلك الوجوب بأنّه وصاهم به وفيه حضّ عظيم على الوفاء وعلّله بقوله « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي لتتّعظوا به لتنالوا به مرتب التّقوى.

الثالثة ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ ) (٣).

عهد الله هنا أعم من أن يكون بنذر أو عهد أو يمين ولذلك قال « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها » وفي الآية حكمان :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهد.

__________________

(١) اسرى : ٣٤.

(٢) الانعام : ١٥٢.

(٣) النحل : ٩١.

١١٦

٢ ـ وجوب الوفاء بمقتضى اليمين ، وأكّد ذلك بعدّة تواكيد :

الأوّل « جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » أي رقيبا فانّ الكفيل يراعي حال المكفول فهو حفيظ عليه.

الثاني « إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ » من الوفاء وعدمه ، وفيه تهديد عظيم على النكث وحضّ على الوفاء.

الثالث : شبّههم في نقضهم وعدم وفائهم بحال « الّتي ( نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) » جمع نكث بكسر النون ، في خرقها وقلّة عقلها وهي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد بن تميم وكانت خرقاء اتّخذت مغزلا قدر ذراع ، وصنارة مثل إصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.

الرابع : وبّخهم في نقضهم بقوله « تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ » بفتح العين قال الجوهريّ : هو المكر والخديعة ، وهو منقول من قولهم فلان دخل في بني فلان إذا انتسب إليهم ، ولم يكن منهم ، وانتصابه على أنّه مفعول ثان « وتتّخذون » حال من « لا تنقضوا » أي لا تتّخذوا أيمانكم متّخذين لها دخلا بينكم « أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ » أي لأجل أنّ امّة هي أكثر من امّة نفسا أو مالا أو عزّا أو جاها أي إنّكم إذا حلفتم على أمر لقلّتكم وضعفكم ، ثمّ كثّر الله عددكم أو مالكم لا تنقضوا الأيمان واثبتوا عليها و « أربى » منصوب المحلّ لكونه خبرا « وهي » ضمير فصل ، وقال الزجّاج إنّه مرفوع المحلّ على أنّه خبر المبتدأ و « هي » مبتدأ ولا يجوز الفصل بين نكرتين.

الخامس « إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ » أي يختبركم الله بالأمر بالوفاء بالعهد ليجازيكم في القيامة على الوفاء والنكث وهنا أحكام :

١ ـ في الآية إشارة إلى أنّ حكم اليمين والعهد واحد ولهذا عبّر عن العهد باليمين بقوله « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ » عقيب قوله « وَأَوْفُوا ».

١١٧

٢ ـ أنّ النذر والعهد واليمين تشترك في كونها تكون مطلقة ومشروطة. وفي كون الشرط طاعة أو مباحا أو زجرا عن محرم أو مكروه ويخالف الأخيران الأوّل في كون الجزاء في الأوّل لا يكون إلّا طاعة ، وجزاء الأخيرين أعمّ فإنّه قد يكون مباحا مع تساوي طرفيه دينا ودنيا فيأتي بمقتضى عهده أو يمينه ، أمّا لو ترجّح أحد طرفيه فيهما ، فان كان ذلك هو المتعلّق وجب الوفاء به ، وإن كان غيره جازت المخالفة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير » (١) ولا كفّارة عندنا خلافا للقوم.

٣ ـ يتبع في متعلّق الثلاثة مدلول لفظه شرعا ، فان لم يكن فمدلوله عرفا فان لم يكن فمدلوله لغة.

٤ ـ النقض هو مخالفة ما وقع العهد واليمين عليه ، فانّ الفعل أو الترك يصير واجبا باليمين والعهد ، وترك الواجب حرام.

٥ ـ قوله « بَعْدَ تَوْكِيدِها » أي توثيقها بذكر الله ، وفيه دلالة على أنّ الحالف والناذر إذا لم يذكر الله لم يصر المحلوف عليه والمعاهد واجبا ، ويجوز مخالفته على كراهية أمّا لو حلف أو عاهد على فعل محرّم ، فيجب مخالفته.

البحث الثالث

اليمين

وفيه آيات :

الاولى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢).

العرضة فعلة من العرض ، والفعلة للمقدار كالخطوة ، أي مقدار ما يعرض من

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ٥٢ ، سنن ابى داود ج ٢ ص ٢٠٤ وهكذا ص ٢٠٥.

(٢) البقرة : ٢٢٤.

١١٨

أيّ شي‌ء كان ، سواء كان العارض حاجزا بين الشيئين كما يقال فلان عرضة دوننا أو لم يكن بل يكون معرضا للشي‌ء كما يقال فلان عرضة للناس ، أي نصب للوقوع فيه.

فعلى هذا يحتمل أن يكون الآية من المعنى الأوّل أي لا تجعلوا الله حاجزا لأيمانكم أي حاجزا لما حلفتم عليه ، وسمّي المحلوف عليه يمينا لتلبّسه باليمين كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعبد الرّحمن بن سمرة « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير » (١) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » نصبا على أنه عطف بيان « لِأَيْمانِكُمْ » أي للأمور المحلوف عليها الّتي هي البرّ والتقوى والإصلاح ، كذا قيل ، وفيه نظر لأنّ حمل الأيمان على المحلوف عليه إن صحّ كان مجازا ولا يصار إليه إلّا مع تعذر الحقيقة ، وليست متعذّرة لجواز أن يكون الآية من المعنى الثاني أي لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم أي لا تكثروا الحلف به حتى في المحقّرات ، وفي غير المهمّات الضروريّة ، ولذلك ذمّ الحلّاف بقوله « وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ » (٢) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » علّة للنهي أي أنهاكم عن ذلك إرادة برّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فانّ الحلّاف مجترئ على الله والمجترئ ، لا يكون بارّا ولا متّفقا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين.

ويستفاد من التأويل الأوّل أنّه متى تضمن اليمين ترك برّ أو تقوى أو إصلاح ، فإنّها باطلة لا يجب العمل بمضمونها ، ويجوز مخالفتها ومن الثاني النهي عن كثرة الأيمان ، وإن كانت صادقة.

وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة وهذا الّذي فسّرنا به الآية هو تحقيق ما قاله المفسّرون ، ولهم هنا أقوال في الآية أعرضنا عنها لعدم تحقيقها.

الثانية ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

__________________

(١) تراه في مشكاة المصابيح ص ٢٩٦ وقال : متفق عليه.

(٢) القلم : ١٠.

١١٩

قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (١).

يمكن أن يكون هذا جواب سؤال مقدّر ، تقديره إذا نهى عن جعل الله عرضة للأيمان ، هلك الناس لكثرة حلفهم بالله ، فأجاب بقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » و « اللغو » لغة هو الساقط أو ما لا فائدة فيه ، واختلف في المراد بالآية فقال طاوس هي يمين الغضبان ، وقال الحسن هي يمين الظانّ ، وهو أن يحلف على شي‌ء يظنّه أنه على ما حلف عليه ولم يكن ، وبه قال أبو حنيفة وقال ابن عبّاس هو قول الرّجل لا والله وبلى والله ممّا يؤكّد به كلامه من غير قصد إلى القسم حتّى لو قيل له إنّك حلفت قال لا ، وبه قال الشافعيّ وأصحابنا وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (٢).

وقال مالك هي الحلف على الماضي وهي الغموس ، والمراد بعدم المؤاخذة هو عدم العقاب ، وعدم الكفّارة معا ، وقال الزّمخشري : يكفي عدم أحدهما ، وفيه نظر لأنّه لو ثبت أحدهما لثبت المؤاخذة ، لكنّه ليس فليس.

قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » الفرق بين كسب اللّسان وكسب القلب أنّ القلب لا يخالف النفس المكلّفة بخلاف اللّسان ، فإنّه فضوليّ قد يخالفها ، ويصدر منه ما لم يأذن به النفس ، فلا يليق بالحكيم المؤاخذة بما لم تأذن النفس في فعله ، وفي هذا الكلام إشارة إلى اشتراط القصد في اليمين والنيّة ، فلا يقع يمين الغضبان ، غضبا يرتفع معه القصد ، وكذا الساهي والغافل « وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ » يغفر لكم ما لم يكسبه قلوبكم ، ويحلم عنكم بعدم المؤاخذة.

الثالثة ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٥.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٤٣.

١٢٠