فرق أهل السنّة

صالح الورداني

فرق أهل السنّة

المؤلف:

صالح الورداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-433-7
الصفحات: ٣١١

أمثلة من بطش الحكام بالفرق الأخرى ورموزها :

إن أول صورة من صور البطش والتنكيل ضد الفرق والاتجاهات المخالفة للحكام كانت على يد معاوية بن أبى سفيان حين طارد شيعة الإمام علي وبطش بهم وأعدم الصحابي الجليل حجر بن عدي الذي رفض أن يتبرأ من الإمام علي (١).

وقام ولده يزيد بقتل الإمام الحسين وأبناء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كربلاء وقطع رؤوسهم وسبي نساءهم في واقعة عاشوراء (٢).

ومن بعدهما ابن الزبير وأخيه مصعب وقد قتلا الكثير من المعارضين بعد أن استتب لهما المقام بالكوفة وعلى رأسهم المختار الثقفي وجماعته الذين طاردوا قتلة الحسين وثأروا منهم (٣).

ومن بعدهما الحجاج بن يوسف الذي كان يقتل بالظنة والذي قتل

__________________

١ ـ أنظر ترجمة حجر في كتاب التراجم ، مثل الإصابة في تمييز الصحابة وأسد الغابة في معرفة الصحابة والاستيعاب في معرفة الأصحاب. وأنظر كتب التاريخ ، أحداث عام ٥١ هـ.

٢ ـ أنظر : احداث مذبحة كربلاء في عام ٦١ هـ بكتب التاريخ.

٣ ـ انظر كتب التاريخ ، أحداث عام ٦٦ هـ و ٦٧ هـ.

٤١

آلاف الرجال والشيوخ من أجل الحفاظ على ملك بني أمية (١).

ومن بعده قتل جهم بن صفوان بتهمة القول بنفي صفات الله والقول بخلق القرآن (٢).

وقتل غيلان الدمشقي لتكلمه فى القدر وتبنّيه آراء جهم (٣).

وبطش المتوكل العباسي بخصوم أهل السنة من الشيعة والمعتزلة (٤).

__________________

١ ـ انظر سيرة الحجاج مع التابعي الزاهد سعيد بن جبير في كتب التاريخ أحداث عام ٩٤ هـ.

٢ ـ جهم بن صفوان من الموالي أقام بالكوفة وكان معاصراً لواصل بن عطاء مؤسس فرقة المعتزلة وقد قتل عام ١٢٨ هـ.

٣ ـ هو غيلان بن مروان ووالده كان مولى لعثمان بن عفان ، واختلف المؤرخون في والده ، قتله هشام بن عبدالملك.

٤ ـ أعلن المتوكل إبطال القول بخلق القرآن وطارد المعتزلة ومال لفرقة الحنابلة وبطش بالشيعة ، وأكثر من العطاء والدعم للحنابلة فمدحته فرق أهل السنة ودعت له على المنابر ورغم مظالمه وسوء أفعاله وانطلقوا يطاردون المعتزلة والشيعة ويبطشون بهم ويصدرون فيهم الفتاوى بالزيغ والضلال ، وقد قتل المتوكل بعد ذلك فكان ذلك نكسة على فرق السنة. أنظر أحداث عام ٢٣٤ هـ وما بعدها في كتب التاريخ.

وقال بعضهم : الخلفاء ثلاثة : أبو بكر في قتل أهل الرده. وعمر بن عبدالعزيز في رد المظالم والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم.

وقد نقل القوم أحاديث برواية المتوكل أوردها الخطيب البغدادي وابن عساكر. أنظر تاريخ الخلفاء للسيوطي.

٤٢

وفرض صلاح الدين فرقة الشافعية والأشعرية على مصر بعد إسقاط الحكم الفاطمي وبطشه بالرافضين ومطاردتهم وقتلهم (١).

__________________

كذلك تحالف القادر بالله مع أهل السنة وصنف كتاباً فى الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة وتكفير المعتزلة والقائلين بخلق القرآن ، وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بمسجد المهدي ببغداد ، وقد ترجم له ابن الصلاح في طبقات الشافعية.

وقالوا عنه : حسن المذهب صحيح الاعتقاد .. أنظر السيوطي وسيرة القادر العباسي في كتب التاريخ.

من جانب آخر عمل المأمون على استثمار المعتزلة والشيعة في ضرب أهل السنة وسار على سنته المعتصم والواثق من بعده.

وقام الحكم بن هشام في الأندلس بجعل الافتاء والقضاء على مذهب مالك.

وكان المماليك قد حاولوا استثمار ابن تيمية وفرقته في ضرب الفرق الأخرى إلاّ أنهم لما فشلوا في ذلك ضحوا بابن تيمية وفرقته. انظر البداية والنهاية لابن كثير أحداث عام ٧٠٥ هـ وما بعدها.

أنظر سيرة المأمون في كتب التاريخ. وأنظر السيوطي.

وأنظر تاريخ حكام الأندلس وسيرة ابن حزم في كتب التاريخ.

وأنظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر ج ١ / ١٥٢.

ولا ننسى الإشارة هنا إلى استثمار آل سعود للفرقة الوهابية في دعم نفوذهم وسلطانهم على المسلمين ليس في محيط الجزيرة العربية فقط بل خارجها أيضاً.

١ ـ أنظر أحداث عام ٥٦٧ هـ في كتب التاريخ. وكان صلاح الدين قد أمر المنادي أن ينادي في طرقات مصر أن من لم يتمذهب بمذهب الشافعي ويعتقد عقيدة الأشعري فقد حل دمه. أنظر لنا كتاب الشيعة في مصر.

٤٣

ومن بعده حكام المماليك والعثمانيين الذين بطشوا بالمخالفين وأراقوا دمائهم تحت مظلة أهل السنة (١).

ومن قبل ظهور فرق أهل السنة عمل الحكام على استثمار فرقة المرجئة وفرقة الجبرية في إضفاء المشروعية على جرائمهم ومنكراتهم وتخدير الجماهير المسلمة في فترة برز فيها الصراع المسلح حول فكرة الإمامة ومشروعيتها بين آل البيت وشيعتهم وبين الأمويين والخوارج الذين ناصبوا كلا الطرفين العداء.

وقد برزت فرقة المرجئة كفرقة محايدة تنادى بالاعتدال والامتناع عن اتخاذ موقف من الفرق المتنازعة وإرجاء الأمر إلى الله ، وهذه الفكرة جاءت في صالح حكام بني أمية ، إذ من شأنها أن تدفع قطاعات من المسلمين إلى الابتعاد عن مناصرة الشيعة أو الخوارج على الأقل فضلا عن اعتزال العمل العسكري والسياسي (٢).

__________________

١ ـ حاول بعض أمراء المماليك استثمار ابن تيمية ضد الفرق الأخرى ، وقد حرض ابن تيمية حكام المماليك على الشيعة في الشام. أنظر أحداث مذبحة كسروان عام ٧٠٥ هـ في كتب التاريخ. وأنظر إعدام الطالب الشيعي في دمشق بفتوى مالكية عام ٧٥٥ هـ. وأنظر بطش العثمانيين بالشيعة وقتلهم فقهاء الشيعة وحصول السلطان سليم على فتوى بجواز قتل الشيعة من فقهاء الفرق السنية. وعلى ضوء هذه الفتوى تم قتل الآلاف من الشيعة في الشام وبلاد الأناضول.

وأنظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج ١. وأنظر تاريخ الدولة العثمانية في البلاد العربية.

٢ ـ فكرة المرجئة قد تم تطويرها فيما بعد لتخرج عن النطاق السياسي إلى النطاق الشرعي

٤٤

أما فرقة الجبرية فقد برزت بفكرة نفي الصفات عن الله سبحانه وإثبات صفتي الفعل والخلق فقط ، وعلى هذا الأساس اعتبرت الجبرية أنه لا يصح أن يتصف المخلوقين بهاتين الصفتين ، وما دامت قد انتفت هذه الصفات عن المخلوقين ينتفي عنهم الاختيار ويصبحوا مجبرين في أفعالهم.

من هنا فإن فكرة الجبر تخدم الحكام إذ تنفي عنهم المسؤولية لأفعالهم وجرائمهم ما داموا مجبرين عليها (١).

__________________

والعقائدي ، واعتبار أن من قال لا إله إلاّ الله فهو مؤمن ، فالإيمان هو التصديق لا الأفعال ولا العبادات .. أنظر كتب الفرق.

١ ـ كان الجعد بن درهم الذي أخذ عنه الجهم أفكاره مؤدب مروان بن محمد آخر ملوك الأمويين ، ولهذا كان يلقب بمروان الجعدي ، وقد أخذ عنه القول بالجبرية ونفي الصفات والقول بخلق القرآن. انظر : الكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٥ / أحداث عام ١٣٢ هـ ، ذكر قتل مروان بن محمد وكتب التاريخ الأخرى.

٤٥
٤٦

أهل السنة

الإطار المذهبي

٤٧
٤٨

من الواجب بداية تحديد الإطار المذهبي لأهل السنة ، فإن هذا التحديد سوف يساعدنا في حصر الفرق التي تولدت من خلالهم وفق هذا الإطار ، إذ أن المتتبع لتاريخ أهل السنة يتبين له أنهم تبرأوا من الكثير من الفرق بحجة انحرافها عن المعتقد الصحيح معتقد الفرقة الناجية ـ حسب تصورهم ـ بينما هذه الفرق في الحقيقة لا تتناقض في عقائدها وتصوراتها مع عقائدهم ، فمن ثم ليس لأهل السنة الحق في نبذ هذه الفرق والتبرأ منها.

قال البغدادي : الصحيح عندنا أن أمة الإسلام تجمع المقرين بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وصفاته وعدله وحكمته ونفي التشبيه عنه ، وبنبوة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورسالته إلى الكافة وبتأييد شريعته ، وبأن كل ما جاء به حق وبأن القرآن منبع أحكام الشريعة وأن الكعبة هي القبلة التي تجب الصلاة إليها ، فكل من أقر بذلك كله ولم يشبه ببدعة تؤدي إلى الكفر فهو السني الموحد (١).

ويوسع من إطار الفرقة الناجية بحيث تشمل جميع الفرق الإسلامية لا أهل السنة وحدهم ، فجميع الفرق الإسلامية بمختلف توجهاتها تقر وتعتقد بكل ما جاء في كلام البغدادي ، وما دامت جميع الفرق قد أقرت

__________________

١ ـ الفرق بين الفرق ، الباب الثاني ، الفصل الأول في بيان المعنى الجامع للفرق المختلفة في اسم ملة الإسلام على الجملة.

٤٩

بهذا كله فهي لم تأت ببدعة تؤدي بها إلى الكفر. وكيف تأتي بها وهي تقرّ بهذه الأصول ..؟

وإذا كانت جميع الفرق قد تساوت في المعتقد حسب هذه الأصول فمن الذي يملك سلطة الحكم على أحدها بالبدعة والانحراف عن الدين. وما الذي يميزه عن الآخرين حتى يملك هذه السلطة؟

والجواب يظهر لنا من خلال تحديد الإطار المذهبي لأهل السنة وذلك الإطار الذي تميزت به عن الفرق الأخرى وأصبح أساسها في الحكم على الآخرين بالبدعة والانحراف.

إلاّ أن الفرق الأخرى التي سوف نعرض لها في هذا الكتاب لم تتمرد على نهج أهل السنة ولم تحطم هذا الإطار بل التزمت به وكان افتراقها وتعددها لأسباب أخرى تعود إلى أهل السنة وإطارهم وهو إن دل على شيء فإنما يدل على بطلان انحصار فكرة الفرقة الناجية في دائرتهم.

إن إطار أهل السنة يقوم في الأساس على الرواية ، واعتمادهم المطلق على الرواية كان السبب المباشر في إصطدامهم بالآخرين ونفور الآخرين منهم ، فعلى أساس الرواية ـ التي هي ليست محل تسليم مطلق من قبل الآخرين ـ بنوا معتقدات أصبحت أساس الحكم على الآخرين ، وقد برزت من خلال الرواية فكرة عدالة الصحابة ومبدأ إطاعة الحاكم وتقديس الخلفاء ووصف الله سبحانه بالنزول والصعود والضحك والغيرة وغيرها من

٥٠

الصفات التي جاءت بها الروايات (١).

ونتج عن هذا أن الذين وقفوا موقف المعارضة من الرواية اعتبرهم أهل السنة من الرافضة والحلولية والباطنية وغيرها من التسميات التي أطلقوها على المخالفين لهم.

وأعلن ابن حنبل موقفه من الفرق والاتجاهات المخالفة لفرق أهل السنة فيما يلي :

قال ابن حنبل : ولأصحاب البدع ألقاب وأسماء ، ولا تشبه أسماء الصالحين ولا العلماء من أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فمن اسمائهم :

المرجئة : وهم الذين يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل ، وان الإيمان قول والأعمال شرائع ، وإن الإيمان مجرد لا يزيد ولا ينقص ، وان الإيمان ليس فيه استثناء ، وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقاً ، هذا كلّه قول المرجئة وهو أخبث الأقاويل ، وأضله وأبعده عن الهدى.

والقدرية : وهم الذين يزعمون أن إليهم الاستطاعة والمشيئة والقدرة ، وأنهم يملكون لأنفسم الخير والشر ، والضر والنفع ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال ، وأن العباد يعملون بدءاً من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله عز وجل أو في علمه ، وقولهم يضارع قول المجوسية والنصرانية. وهو أصل الزندقة.

__________________

١ ـ أنظر تفاصيل عقائد أهل السنة في كتاب العقيدة الطحاوية. وعقيدة أهل السنة لابن حنبل والعقيدة الواسطية لابن تيمية وغيرها من كتب العقائد. وأنظر لنا كتاب أهل السنة شعب الله المختار.

٥١

والمعتزلة : وهم يقولون بقول القدرية ويدينون بدينهم ، ويكذبون عذاب القبر ، والشفاعة والحوض ، ولا يرون الصلاة خلف أحد من أهل القبلة ولا الجمعة إلاّ من كان على أهوائهم ، ويزعمون أن أعمال العباد ليست في اللوح المحفوظ.

والنصرانية : وهم قدرية ، وهم أصحاب الحبة والقيراط الذين يزعمون أن من أخذ حبة أو قيراطاً أو دانقاً حرام فهو كافر وقولهم يضاهي قول الخوارج.

والجهمية : أعداء الله وهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق ، وأن الله عز وجل لم يكلم موسى ، وأن الله ليس بمتكلم ولا يتكلم ولا ينطق ، وكلاماً كثيراً أكره حكايته وهم كفار زنادقة أعداء الله.

والواقفة : وهم يزعمون أن القرآن كلام الله ، ولا يقولون أنه مخلوق وهم شر الأصناف وأخبثها.

واللفظية : وهم الذين يزعمون أن القرآن كلام الله عز وجل لكن ألفاظنا بالقرآن وقراءتنا له مخلوقة. وهم جهمية فساق.

والرافضة : وهم الذين يتبرؤون من أصحاب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويسبونهم وينتقصونهم ، ويكفرون الأئمة الأربعة : علي وعمار والمقداد وسلمان. وليست الرافضة من الإسلام في شيء.

والمنصورية : وهم رافضة أخبث من الروافض ، وهم الذين يقولون : من قتل أربعين نفساً ممن خالف هواهم دخل الجنة ، وهم الذين يخيفون الناس ويستحلون أموالهم ، وهم الذين يقولون : أخطأ جبريل بالرسالة ،

٥٢

وهذا هو الكفر الواضح الذى الا يشوبه إيمان. فنعوذ بالله منه.

والسبئية : وهم رافضة. وهم قريب ممن ذكرت مخالفون للأئمة ، كذابون وصنف منهم يقولون : علي في السحاب ، وعلي يبعث قبل يوم القيامة ، وهذا كذب وزور وبهتان.

والزيدية : وهم رافضة. وهم الذين يتبرءون من عثمان وطلحة والزبير وعائشة ، ويرون القتال مع كل من خرج من ولد علي ، براً كان أو فاجراً ، حتى يغلب أو يُغْلب.

والخشبية : وهم يقولون بقول الزيدية ، وهم فيما يزعمون ينتحلون حب آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكذبوا ، بل هم المبغضون لآل محمد دون الناس ، إنما الشيعة لآل محمد المتقون ، أهل السنة والأثر ، من كانوا وحيث كانوا ، الذين يحبون آل محمد وأصحاب محمد ولا يذكرون أحداً منهم بسوء ولا عيب ولا منقصة ، فمن ذكر أحد من أصحاب محمد بسوء أو طعن عليهم أو تبرأ من أحد منهم أو سبهم أو عرَّض بعيبهم : فهو رافضي خبيث خبيث.

وأما الخوارج : فمرقوا من الدين ، وفارقوا الملة ، وشردوا عن الإسلام ، وشذوا عن الجماعة ، فضلوا عن السبيل والهدى ، وخرجوا على السلطان ، وسلوا السيف على الأمة ، واستحلوا دماءهم وأموالهم ، وعادوا من خالفهم إلاّ من قال بقولهم ، وهم قدرية جهمية رافضة يرون النكاح بغير ولي ولا سلطان ، ويرون المتعة في دينهم ولا يرون الصلاة فى الخفاف ولا المسح عليها ولا يرون للسلطان عليهم طاعة ولا لقريش عليهم خلافة ، وأشياء كثيرة يخالفون عليها الإسلام وأهله ، وكفى بقوم ضلالة أن يكون هذا

٥٣

رأيهم ومذهبهم ودينهم ، وليسوا من الإسلام في شيء.

وأصحاب الرأي : وهم مبتدعة ضلال ، أعداء للسنة والأثر يبطلون الحديث ويردون على الرسول ، ويتخذون أبا حنيفة ومن قال بقوله إماماً ويدينون بدينهم ، وأي ضلالة أبين ممن قال بهذا؟ فكفى بهذا غياً مردياً وطغياناً.

والولاية بدعة والبراءة بدعة. وهم الذين يقولون نتولى فلاناً ، ونتبرأ من فلان. وهذه القول بدعة فاحذروه.

فمن قال بشيء من هذه الأقاويل ، ورآها أو صوبها أو رضيها أو أحبها ، فقد خالف السنة ، وخرج من الجماعة ، وترك الأثر ، وقال بالخلاف ، ودخل في البدعة وزال عن الطريق (١).

ويلاحظ من خلال كلام ابن حنبل الحدة والتشدّد تجاه الفرق المخالفة ، ومن جانب آخر يظهر لنا بوضوح دور الرواية في هذا الموقف المتطرف ، فالرواية هي التي أسس عليها ابن حنبل موقفه ، وهي التي حكم على أساسها ببطلان وانحراف عقائد الفرق الأخرى.

وقد تجاوز ابن حنبل حدود الرواية ووقع في الخلط والتخبط بين عقائد وأفكار هذه الفرق الإحدى عشر حسب تصنيفه ، والتي هي في الحقيقة لا يجب أن تتجاوز حدود الست فرق ، فالمرجئة فرقة متميزة بأفكارها ومعتقداتها وكذلك القدرية والمعتزلة ، أما النصرانية والجهمية

__________________

١ ـ رسالة السنة. ملحق كتاب الردّ على الجهمية والزنادقة. طبع رئاسة إدارات البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية.

٥٤

والواقفة فهي امتداد للقدرية والمعتزلة ، والرافضة فرقة ، أما المنصورية والسبئية والزيدية والخشبية فهي امتداد لها ، والخوارج بجميع فرقها نهج واحد.

هذا مع الإشارة إلى أن هذه التسميات التي أطلقت على هذه الفرق هي من اختراع أهل السنة ولا تعبر بحال عن حقيقة هذه الفرق.

والذي يلفت الانتباه هنا هو أن ابن حنبل اعتبر أصحاب الرأي من أهل السنة فرقة حكم عليها بالبدعة والضلال وعلى رأسها أبو حنيفة.

وهذا الموقف الحنبلي تجاه المخالفين إنما يتناقض مع الموقف الآخر للبغدادي الذي يتميز بالاعتدال ، وهو يؤكد ما ذكرناه من أن الفرق المخالفة لأهل السنة لم تخرج عن دائرة الأصول ، ولم تأت بمعتقدات تنقلها من الملة.

وينبغي لنا أن نعرض لعدد من الروايات التي استخدمها أهل السنة كسلاح ضد الفرق الأخرى وكغطاء شرعي لهم يبررون على أساسه الحكم عليها بالمروق والضلال والكفر والزندقة.

وأول هذه الروايات رواية تقول : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية (١).

ورواية ثانية تقول : لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجاً ولا عمرةً ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلا ، يخرج من

__________________

١ ـ الترمذي كتاب القدر ج ٤ ، وابن ماجة ج ١ ، باب الإيمان.

٥٥

الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين (١).

ورواية ثالثة تقول : إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم (٢).

وقد اعتبر أهل السنة الأحاديث الواردة في الإيمان هي أحاديث ترد فكرة الإرجاء ، أي استثمروها ضد فرقة المرجئة (٣).

كذلك استثمروا الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة عندهم في طعن وتشويه الشيعة (٤).

واستثمروا الأحاديث الخاصة بعذاب القبر والرأي والعقل في ضرب المعتزلة والفلاسفة وأصحاب الرأي (٥).

__________________

١ ـ ابن ماجة ، باب اجتناب البدع والجدل ج ١.

٢ ـ المرجع السابق باب في القدر ج ١ ، أو أنظر أبو داود باب في القدر ج ٤ رقم ٤٦٩١.

٣ ـ أنظر كتاب الإيمان في مسلم وشرحه عند النووي. وكتاب الإيمان في البخاري وشرحه في فتح الباري.

٤ ـ أنظر الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة في البخاري ومسلم وكتب السنن وشروحها.

٥ ـ أنظر باب اجتناب الرأي والقياس عند ابن ماجة وباب فيما أنكرت الجهمية وكتاب نقض المنطق لابن تيمية. وأنظر الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة وقد حشد عشرات الروايات التي يتحصن بها القوم في عقائدهم تجاه أهل الرأي وعذاب القبر وغيرها من القضايا الخلافية. وهذا الكتاب للبيهقي صاحب السنن. وأنظر درء

٥٦

ومكمن الأشكال هنا هو أن هذه الروايات معتمدة عند أهل السنة وحدهم ، فهي صحيحة بطرقهم هم ، لا بطرق الفرق والاتجاهات الأخرى ، إلاّ أن حالة الأمن والتمكن التي عاشوها في ظل الحكام جعلت لهم السيادة ، ويسرت لهم احتكار الدين والتحدث بلسانه وإغلاق المنافذ الأخرى التي اعتبرت منافذ غير شرعية تضل الناس عن سبيل الله.

من هنا كان المخالفون لأهل السنة على مر التاريخ هم أهل بدعة وضلالة وهوى وزندقة يجب عزلهم عن الواقع وطالما استمروا على بدعتهم فهم غير معصومي الدم والمال ، أي مستباحين لأهل السنة وللحكام ، وهو ما حدث بالأمس واليوم (١).

وهذا التصوّر هو ما نراه واضحاً من خلال ما طرحه ابن حنبل ، وما طرحه غيره من فقهاء فرق أهل السنة.

__________________

تعارض العقل والنقل لابن تيمية. وتلبيس إبليس لابن الجوزي. والاعتصام للشاطبي. وهذه الكتب وغيرها إنما هي موجهة للفرق الأخرى المخالفة.

١ ـ حشدت لنا المصادر التاريخية الكثير من الحوادث التي راح ضحيتها الشيعة وغيرهم من خصوم أهل السنة. أنظر ملحق رقم ٢ من هذا الكتاب.

وأنظر لنا كتاب مدافع الفقهاء. وكتاب الكلمة والسيف وقد عرضنا فيه نماذج كثيرة من شهداء الرأي من مختلف الفرق الإسلامية.

وقد حدثت اعتداءات كثيرة من فرقة الوهابية على المخالفين في جزيرة العرب وشكلت الوهابية فرقاً لغزو العراق وهدم مقامات أهل البيت هناك وقامت هذه الفرق بقتل النساء والشيوخ والأطفال والاستيلاء على ما في المساجد من تحف ومقتنيات. انظر لنا مدافع الفقهاء وتاريخ الوهابيين أيوب صبري وهو مترجم عن التركية.

٥٧

وقد وضع البغدادي قواعد وحدود تنظيم التعامل مع الفرق المخالفة ، وهو بهذا يؤكد أن أهل السنة هم أهل الحق والريادة.

يقول البغدادي عن الجهمية : هؤلاء اتباع جهم بن صفوان الذي قال بالجبر وزعم أن العباد مضطرون إلى أنواع تصرفهم كما يضطر الريح إلى حركته ، ولم يثبتوا للعبد كسباً ولا استطاعة ، وهذا القول وإن كان فاسداً فإنه لا يوجب عندنا تكفيراً ، لأنه خلاف في وصف العبد ، وإنما يكفر الجهمية في شيئين :

أحدهما قولهم بأن الجنة والنار تفنيان.

وقولهم بحدوث علم الله تعالى.

لأن هذا يوجب أن لا يكون الله عالماً قبل حدوث علمه.

ولأجل هذه البدعة قتل جهم بن صفوان بمرو ، قتلة مسلم بن احرز المازني في آخر زمان بني أمية.

وقال عن البخارية اتباع الحسين بن محمد البخار : وهم فرق بالري ، كل فرقة منها تكفر سائرها ، ويجمعها القول بحدوث كلام الله تعالى ونفي صفاته الأزلية واستحالة رؤيته ، فهم في هذه الأصول الثلاثة كالقدرية ، فهذه أصولها التي نكفرهم فيها ، أما قولهم في خلق أفعال العباد في الاستطاعة مع الفعل وفي أنه لا يكون إلاّ ما أراد الله تعالى وفي باب الوعد والوعيد فكقول أهل السنة سواء.

وقال عن المعتزلة : أعلم أن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب من وجوه.

أما واصل بن عطاء فلأنه كفر في باب القدر بإثبات خالقين لأعمالهم

٥٨

سوى الله تعالى ، وأحدث القول بالمنزلة بين المنزلتين في الفاسق ، ثم أنه شكك في الصحابة.

وأما زعيمهم أبو الهزيل فإنه قال بفناء مقدرات الله تعالى حتى لا يكون بعدها قادراً على شيء.

وأما زعيمهم النظام فهو الذي نفى نهاية الجسم أو الجزء ، وأبطل بذلك إحصاء الباري تعالى لأجزاء العالم وعلمه بكمية أجزائه ، وزعم أن الإنسان هو الروح وأنكر وقوع الطلاق بالكنايات.

وزعم الجاحظ منهم أن لا فعل للإنسان إلاّ أراده ، وأن المعارف كلّها ضرورية ، ومن لم يضطر إلى معرفة الله لم يكن مكلفاً ولا مستحقاً للعقاب.

وزعم تمامة أن المعارف ضرورية ، وأن عامة الدهرية وسائرة الكفرة يصيرون في الآخرة تراباً لا يعاقب واحد منهم ، وحرم السبي واستفراش ـ جماع ـ الإماء.

وأنواع كفرهم لا يحصيها إلاّ الله تعالى ، وقد اختلف أصحابنا فيهم : فمنهم من قال : حكمهم حكم المجوس ، لقول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : القدرية مجوس هذه الأمة.

ومنهم من قال : حكمهم حكم المرتدين.

وقال في المجسمة والمشبهة : كل من شبه ربه بصورة الإنسان من البيانية والمغيرية والجواربية المنسوبة إلى داود الجواربي والهشامية المنسوبة إلى هشام بن سالم ، فإنما يعبد إنساناً مثله ويكون حكمه في الذبيحة والنكاح كحكم عبدة الأوثان.

٥٩

وقال عن الكرامية : وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب بقولهم : بأن الله له حدّ ونهاية.

وقولهم بأن الله محل للحوادث.

وهم يرون جميع فرق الأمة من أهل الجنة ، وأن أهل الأهواء بعد العقاب يصيرون إلى الجنة ولا يدوم عقابهم وجميع مخالفيهم على أنهم من أهل النار فصاروا من هذه الجهة شر الفرق عند الأمة.

وقال عن البكرية وهم اتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن زيد وكان يوافق النظام في أن الإنسان غير الجسد ، ووافق أصحابنا في إبطال القول بالتولد وانفرد بأشياء كفرته الأمة فيها ، منها قوله : إن الله يُرى يوم القيامة في صورة يخلقها ، وأنه يكلم عباده في تلك الصورة ، ومنها قوله في الكبائر أنها نفاق وأن صاحب الكبيرة من أهل القبلة منافق.

وقال في علي وطلحة والزبير إن ذنوبهم كانت كفراً أو شركاً غير أنهم مغفور لهم لورود الخبر بأن الله تعالى أطلع على أهل بدر فقال : أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

أما الضرارية اتباع ضرار بن عمرو فقد وافق أصحابنا في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وفي إبطال القول بالتولد ، ووافق البخار في أن الجسم أعراض مجتمعة من لون وطعم ورائحة وحرارة أو ضدها ونحو ذلك من الأعراض التي يخلو منها الجسم.

وانفرد بأشياء ، منها قوله : إن الله يرى بحاسة يرى بها المؤمنون ماهية الإله ووصف الله بالماهية كما قال أبو حنيفة.

٦٠