فرق أهل السنّة

صالح الورداني

فرق أهل السنّة

المؤلف:

صالح الورداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-433-7
الصفحات: ٣١١

بصمات السياسة :

جاء أهل السنة برواية جديدة تدعمهم وتمنحهم صفة جديدة فوق صفة الفرقة الناجية ألا وهي صفة الطائفة المنصورة.

وكأن أهل السنة أرادوا الاستحواذ على الدنيا والآخرة معاً.

في الدنيا هم الطائفة المنصورة.

وفي الآخرة هم الفرقة الناجية.

إلاّ أن فكرة الطائفة المنصورة هذه تفوح منها رائحة السياسة بشكل فاضح ، وهو ما يظهر من خلال استعراض روايات الطائفة المنصورة.

روى المغيرة بن شعبة عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله : لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون (١).

وروى معاوية : لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، ما يضرّهم من كذّبهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.

فقال مالك بن يخامر : سمعت معاذاً يقول : هم بالشام.

فقال معاوية : هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول : هم بالشام (٢).

وعن ثوبان : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرّهم من

__________________

١ ـ البخاري كتاب المناقب ، وانظر مسلم كتاب الإمارة.

٢ ـ المرجع السابق كتاب التوحيد ، وانظر مسلم.

١٠١

خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (١).

وعن سعد بن أبي وقاص : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة (٢).

وعن معاوية : لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، وإني لأرجو أن تكونوا هم يا أهل الشام (٣).

وعن قرة بن إياس المزني : إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة (٤).

وروى من عدة طرق ، وآخره نص يقول : عقر دار المؤمنين الشام (٥).

وفي روايات أخرى : هم أهل الشام (٦).

وغير هذه الروايات روايات أخرى تتحدث عن الطائفة المنصورة أنها طائفة مقاتله (٧).

ورغم ذلك فإن فقهاء أهل السنة شهدوا أن الطائفة المنصورة لا صلة لها بالقتال.

قال عبد الله بن المبارك : هم عندي أصحاب الحديث (٨).

__________________

١ ـ مسلم كتاب الإمارة ، وانظر أبو داود والترمذي في كتاب الفتن.

٢ ـ مسلم.

٣ ـ مسند أحمد ج ٤ / ٣٦٩.

٤ ـ الترمذي باب ما جاء في الشام.

٥ ـ انظر النسائي كتاب الخيل وأبي يعلى وابن حبان.

٦ ـ البخاري ، التاريخ الكبير ج ٤ / ٦٢.

٧ ـ انظر المراجع السابقة.

٨ ـ انظر شرف أصحاب الحديث.

١٠٢

وقال يزيد بن هارون : إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟ (١) وقال ابن حنبل نفس مقالة ابن هارون (٢).

وقال المديني : هم أصحاب الحديث (٣).

وقال أحمد بن سنان : هم أهل العلم وأصحاب الأثر (٤).

وقال البخاري : لا تزال طائفة من أمتي ... يعني أصحاب الحديث (٥).

وفي قول آخر له : هم أهل العلم (٦).

وقال ابن حبان في معرض حديث الطائفة المنصورة : ذكر إثبات النصرة لأهل الحديث إلى قيام الساعة (٧).

وجاء آخرون فقالوا إن الطائفة المنصورة مفرقة بين أنواع المؤمنين : المجتهدون في الأحكام والعقائد ، أو المرابطون في الثغور والمجاهدون لإعلان الدين ، أو الزهاد ، أو المحدثون (٨).

وأصحاب هذا القول جاؤوا لإحداث التوازن في الموقف تجاه هذه

__________________

١ ـ المرجع السابق.

٢ ـ المرجع السابق ، وانظر المجروحين لابن حبان ج ١ / ٨٩.

٣ ـ انظر شرف أصحاب الحديث.

٤ ـ المرجع السابق.

٥ ـ المرجع السابق.

٦ ـ البخاري ج ٨ / ١٤٩.

٧ ـ الإحسان ج ١ / ٢٣٢.

٨ ـ انظر شرح النووي على مسلم ج ١٣ / ٦٧ ، وفيض القدير ج ٦ / ٣٩٦.

١٠٣

الروايات من قبل فرق أهل السنة ولدفع الشك عن نفوس الاتباع فيها.

ومن الملاحظ أن بعض نصوص هذه الروايات جاء عن طريق معاوية بن أبي سفيان ، وهي في أغلبها تركزت حول الشام معقل معاوية واتباعه ، والروايات التي جاءت عن طرق أخرى لم تشر إلى الشام قام الفقهاء بتأويلها نحو الشام.

ومعنى أن بعض هذه الروايات جاءت عن طريق معاوية وأشارت إلى الشام معقله ورواتها الآخرون من الصحابة هم من اتباعه وحلفائه مثل المغيرة بن شعبة ومالك بن يخامر وأبي هريرة ـ معنى هذا أنها روايات سياسية اخترعت لنصرة معاوية وخطة وإضفاء المشروعية على نهج أهل الشام خصوم الإمام علي وأهل الكوفة.

والظاهر أن وقت ظهور هذه الروايات هو الفترة الأموية ، ولو كانت هذه الروايات قد ظهرت في العصر العباسي لاتجهت بالطائفة المنصورة نحو بغداد.

إلاّ أنه يمكن القول أن تفسيرات فقهاء فرق أهل السنة للطائفة المنصورة وحصرها في دائرة أهل الحديث برزت في العصر العباسي فترة ظهور أهل الحديث الذين لم يكن لهم وجود في العصر الأموي.

ولم تلق هذه الروايات ما لاقت روايات الفرقة الناجية من طعن في سندها إذ إنها رويت في صحاح القوم وعلى رأسها البخاري ومسلم ، فلا مجال للكلام في سندها هنا مادام القوم لم يطعنوا في سندها من الأصل كما طعنوا في سند روايات الفرقة الناجية.

١٠٤

وما يمكن قوله في مجال الطائفة المنصورة هو أن الروايات الخاصة بها لم تحدد طائفة بعينها كما هو حال روايات الفرقة الناجية ، لكن أهل السنة فصّلوا هذه الروايات على أنفسهم كما هو حالهم دائماً في التحصن بالرواية واحتكارها واستغلالها ضد خصومهم.

ولما كان الشيعة هم الخصم الأكبر لأهل السنة على مر الزمان وحتى اليوم الذي اختفت فيه الفرق الأخرى المناوئة لهم تقريباً ، فقد حصّن أهل السنة أنفسهم برواية في مواجهتهم ، رووها على لسان الإمام علي حتى تكون الحجة قوية ورادعة في منظورهم أو على الأقل تكون مطمئنة للاتباع.

روى أبو موسى الأشعري : اجتمع عند علي رأس النصارى ورأس اليهود.

فقال الرأس : تجادلون على كم افترقت اليهود؟

وقال الآخر : على إحدى وسبعين فرقة.

فقال علي : لتفترقن هذه الأمة على مثل ذلك ، وأضلها فرقة وشرها الداعية إلينا ـ أهل البيت ـ آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر (١).

وهذه الرواية المختلقة لم تحظ باحترام القوم ، إذ لم تروها كتبهم المعتمدة وإن كانت قد اشتهرت وسلطت عليها الأضواء في زمان ظهورها واختراعها حيث كانت القوى الحاكمة وأهل السنة في حاجة ماسة لدعم

__________________

١ ـ رواه ابن بطة في كتاب الإبانة الكبرى ج ١ / ١٢٢٩ ، وفي رواية اخرى : شرها فرقة تنتحل حبنا وتخالف أمرنا.

١٠٥

الصراع المحتدم بينهم وبين الشيعة وإضفاء المشروعية عليه.

وجملة : شرها الداعية إلينا آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر ، تفوح منها المذهبية والسياسة في آن واحد.

أما من جهة المذهبية فهي تبدو ظاهرة من خلال تحديد علامة الفرق بالدعوة إلى أهل البيت وربطها بالشر ، فربط الشر بدعوة أهل البيت هو قمة التعصب المذهبي وقمة التشوية والتضليل.

ومن جانب آخر فإن تحديد دائرة أهل البيت ( عليهم السلام ) يعني أن هذه الرواية موجهة إلى خصوم بعينهم وهم الشيعة الفئة الوحيدة بين المسلمين التي ترفع راية أهل البيت ( عليهم السلام ) وتدعو إلى مذهبهم.

ثم أن الإشارة إلى أبي بكر وعمر تؤكد النزعة المذهبية الفرقية لأهل السنة الذين يعتقدون بقداسة هذين الرمزين دون بقية الفرق الأخرى ، وقد وجهوا هذه الرواية نحو الشيعة التي تتبنى موقفاً رافضاً لهذين الرمزين (١).

ومن جهة السياسة فإنه يمكن القول أن هذه الرواية من اختراع العصر العباسي ، حيث كان الصراع على أشده بين العباسيين الذين ركبوا موجة أهل البيت ووصلوا إلى الحكم عن طريقها ـ وشيعة أهل البيت المنافسين لهم على مستوى واقع المسلمين الذين كانوا يمثلون فيه ثقلا كبيراً آنذاك.

من هنا كان العباسيون في حاجة ماسة إلى الشرعية التي وجدوها في جيل الفقهاء الذين نموا وترعرعوا في العصر الأموي الذي سادت فيه القيم

__________________

١ ـ من هنا أطلق على الشيعة اسم الرافضة ، والشيعة هم الطائفة الوحيدة التي تملك نظرية نقدية للصحابة دون بقية الفرق والاتجاهات الأخرى.

١٠٦

المعادية لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، فقاموا باحتضان هؤلاء الفقهاء ودعموهم ليبرزوا فقههم ورواياتهم التي وجدوا فيها الغطاء الشرعي في مواجهة الشيعة.

هذه هي قصة نشأة أهل السنة وبروز رواياتهم وفرقهم.

وهذا هو دافع خصومتهم وعدائهم للفرق الأخرى فقد وجد فيهم العباسيون ضالتهم المنشودة ليس في مواجهة الشيعة فقط بل في مواجهة جميع القوي المعارضة الأخرى.

ووجدوا هم في العباسيين الأمن والدعم والحماية ، وكان لابد لهم من الحفاظ على هذه المكاسب ودفع الثمن بإعلان الحرب على الفرق والاتجاهات الأخرى وتشويهها وتخويف المسلمين منها وتشكيكهم في عقائدها وأفكارها.

ولا شك أن الفرق والاتجاهات الأخرى لا تشكّل خطراً على أهل السنة وحدهم بل على العباسيين أيضاً.

وهكذا كان الدافع المصلحي هو مبرر الارتباط بين العباسيين وأهل السنة فكلاهما ارتبط مصيره ومستقبله بالآخر.

وعلى ضوء هذه المصلحة ارتبط أهل السنة بالحكام من بعد العباسيين وقاموا بتقنين العلاقة بين الرعية والحكام وجعلوا طاعتهم وعدم الخروج عليهم من العقائد.

وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نتبين أهمية فكرة الطائفة المنصورة والفرقة الناجية بالنسبة لأهل السنة وللحكام.

١٠٧

فهي تدعم الحكام وأهل السنة في مواجهة خصومهم.

وفي الوقت نفسه تضفي القدسية والمشروعية عليهما.

وقد وردت الكثير من الروايات في تفضيل أهل الشام كما وردت روايات أكثر في تفضيل الإمام علي بن أبي طالب وأهل البيت (١).

واحتار فقهاء أهل السنة في حسم هذا التناقض بين الروايات ، فتفضيل أهل الشام يعني رفع معاوية وخفض الإمام علي ، وتفضيل الإمام علي يعني الحط من أهل الشام وخفض معاوية.

ولو انحاز أهل السنة بفكرة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة نحو أهل البيت ( عليهم السلام ) لضرب الخط السائد نهج معاوية والعباسيين من بعده ولضاع أهل السنة أيضاً ولم يصبح لهم وجود ويلحقون بكثير من الفرق التي أصبحت في ذمة التاريخ ، وأمام هذا الأمر اضطر أهل السنة إلى التوفيق بين الروايات وتبني الحل الوسط الذي يحفظ كيانهم وكيان الحكام.

يقول ابن تيمية : أما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يزال أهل الغرب ظاهرين .. ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم فهكذا وقع ، وهذا هو الأمر ، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين.

وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله. ومن هو ظاهر فلا

__________________

١ ـ انظر تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ وقد حشد فيه عشرات الروايات التي تمجد في الشام وأهله وانظر الترمذي كتاب الفتن باب ما جاء في الشام. وانظر كتب السنن أبواب الفضائل. وباب فضل أهل البيت في مسلم. وفضل الإمام علي في هذه الكتب. وخصائص الإمام علي للنسائي.

١٠٨

يقتضي ألا يكون فيهم من بغى ، ومن غيره أولى بالحق منهم ، بل فيهم هذا وهذا.

وأما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : تقتلهم أولى الطائفتين بالحق .. فهذا دليل على أن علياً ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى ، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحاً في بعض الأحوال ، لم يمنع أن يكون قائماً بأمر الله ، وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر الله عن طاعة الله ورسوله ، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه.

وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات ، مع كون بغيه خطأ مغفور ، أو ذنباً مغفوراً ، فهذا أيضاً ـ لا يمنع ما شهدت به النصوص ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم ، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال (١).

ويظهر لنا من كلام ابن تيمية هذا ـ وهو من فقهاء الشام ـ ميله لأهل الشام وتبريره لشنائعهم في الوقت الذي يحاول فيه إظهار تعاطفه مع الإمام علي ( عليه السلام ) من خلال تعليقه على حديث : .. تقتلهم أولى الطائفتين بالحق. وهو حديث يشير إلى وقعة صفين بين الإمام علي ومعاوية ، في الوقت الذي أجهد نفسه في تبرير وتأويل جريمة معاوية بقتاله الإمام.

وكان البخاري من قبل ابن تيمية قد روى حديث الطائفة المنصورة عن طريق معاوية الذي قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطي الله ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى

__________________

١ ـ الفتاوى الكبرى ج ٤ / ٤٤٧ وما بعدها.

١٠٩

تقوم الساعة أو حتى يأتى الله (١).

وكأن معاوية يريد أن يؤكد من خلال هذه الرواية أنه المقصود بها ، وأن نهجه هو نهج الاستقامة والرشاد ، وقد صدق فقهاء أهل السنة هذا وباركوه وأشاعوه في الأمة وكل هذا من بركاته السياسية التي ساروا في ركابها (٢).

ولقد كان معاوية ونهجه وأهل الشام الذين تحصن بهم أكثر حظاً من العباسيين في المجال الاعتقادي ، إذ أن أهل السنة اعتبروه من الصحابة العدول فباركوه واعتمدوه كمصدر من مصادر الفقه والعلم والإمامة وعدوه من الفقهاء المجتهدين.

أما العباسيون فلم يحظ أحد منهم بهذه البركة أو هذا الصك السني ، اللهم إلاّ صك الإمامة والسمع والطاعة ، وهو صك تم منحه لجميع الحكام.

وقد اخترع معاوية وحزبه أحاديث نسبت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تبارك أهل الشام بينما فاتت على العباسيين فرصة تحقيق ذلك (٣).

__________________

١ ـ كتاب الاعتصام ، وانظر فتح الباري ج ١٣ / ٢٥٠ ، وشرح النووي على مسلم كتاب الإمارة.

٢ ـ انظر البخاري باب ذكر معاوية وليس فيه سوى رواية واحدة تقول : سئل ابن عباس عن معاوية فقال : أنه فقيه.

٣ ـ معاوية أحد رواة حديث الفرقة الناجية كما سبق ذكره.

١١٠

فرق الماضي

١١١
١١٢

يعد تفرق الصحابة في البلدان بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) السبب المباشر في بروز الفرق في واقع المسلمين ، فقد نقل كل صحابي إلى البلد الذي استقر فيه روايات وسنن عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مختلفة عن الصحابي الآخر (١).

وكان أن نشأت فى كل بلد فرقة على أساس هذه الروايات والسنن تتبنى عقائد ومفاهيم مختلفة عن فرق البلدان الآخرى.

ولم يكن الواقع في فترة القرن الأول ـ فترة حركة الصحابة في البلدان ـ قد تبلورت في دائرته تلك المفاهيم العقائدية التي نبعت من خلال علم الكلام والتي تكونت منها كتب العقائد فيما بعد.

من هنا فإن الفرق التي برزت في تلك الفترة لم تكن ذات أطر عقائدية محددة ، فلم تكن هناك حاجة لتلك الأطر لقرب العهد بعصر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولعدم وجود فرق مخالفة بارزة على الساحة تشكل تحدياً للاتجاه السائد الاتجاه الأموي والتابعين الذين ساروا في ركابه (٢).

__________________

١ ـ لم يكن الصحاية ملتصقون بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دائماً إنما كانوا يلتقون به على فترات غير منتظمة ، من هنا فإن تلقيهم عن الرسول كان متفاوتاً ، وهذا لا يعني أن هناك فئة خاصة كانت ملتصقة بالرسول على الدوام.

٢ ـ كان هناك تيار الخوارج وتيار الشيعة إلاّ أنهما كانوا محظورين ولم يكن لهما وجوداً علنياً بارزاً.

١١٣

إلاّ أن الوضع قد اختلف في العصر العباسي ، وبعد ظهور حركة الترجمات وبروز التيار الشيعي بقوة ، ثم تيار المعتزلة والتيارات الكلامية الأخرى التي شكلت تحدياً كبيراً لفرق أهل السنة والحكام.

وجاء رد الفعل عنيفاً وشديداً من قبل فرق أهل السنة السائدة ، ونتج عن رد الفعل هذا وقوع خلافات وصدامات أدت إلى بروز فرق في دائرتهم تبنت علم الكلام الذي نبذ من قبل الفرق القديمة واستخدمته كسلاح في مواجهة الفرق المخالفة (١).

ويمكن القول أن العصر العباسي هو عصر تأسيس وبلورة عقائد وأفكار فرق أهل السنة المختلفة ، وهو عصر التعددية في دائرتهم أيضاً ، فأغلب فرق أهل السنة برزت في هذا العصر.

وإذا كان العصر الأموي قد حوى فرق البصرية والحنفية والمالكية والأوزاعية ، فإن العصر العباسي قد حوى فرق الشافعية والحنابلة والظاهرية والأشاعرة والماتريدية وكذلك الحنفية والمالكية والأوزاعية التي عاصرت العباسيين أيضاً.

وهذه هي الفرق التي سوف نعرض لها في هذا الباب بالإضافة إلى فرقة

__________________

١ ـ علم الكلام هو العلم الذي اشتق من الفلسفات التي تم ترجمتها وتفسيرها ويعتمد على استخدام الحجج المنطقية في إثبات العقائد ودفع الشبه عنها. وينقل ابن خلكان إن لفظة متكلم تطلق على من يعرف علم الكلام وهو أصول الدين. وإنما قيل علم الكلام لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله. أمخلوق هو أم غير مخلوق؟

انظر وفيات الأعيان ج ١ / ٦٠٩. وقد هوجم علم الكلام من قبل فرق الحنابلة والمالكية والشافعية وغيرهم ، بينما تبناه الأشاعرة والماتريدية.

١١٤

الحزمية بالأندلس وفرقة ابن تيمية في الشام والتي برزت في العصر المملوكي.

وهذه الفرق الخمسة عشر التي يحتويها هذا الباب هي الفرق الكبرى البارزة في واقع أهل السنة التي سلطت عليها الأضواء قديماً ، وهي تنقسم إلى قسمين :

فرق الفقة والعقائد.

فرق الرواة.

١١٥
١١٦

البصرية :

اتخذ الحسن البصري في مسجد البصرة حلقة له يدرّس فيه الوعظ والحكم والإرشاد وتلاوة القرآن والزهد ومكارم الأخلاق وذم الدنيا بعيداً عن السياسة والقضايا الكلامية والفلسفية التي لم تكن قد فرضت نفسها على واقع المسلمين في أوائل القرن الثاني الذي هو عصر البصري.

وقد استفزت سلبية البصري وعدم ايجابيته في مواجهة عدة قضايا كانت تشغل المسلمين في ذلك الوقت تتعلق بشرعية الحكم الأموي وما ارتكبه من جرائم في حق آل البيت والمسلمين عموماً ، استفزت أحد اتباعه ، فسأله عن حكم الشرع في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر؟

وانفرد بالجواب قبل البصري واصل بن عطاء أحد اتباعه والمترددين على حلقته ، وقال صاحب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ، أي بين الإيمان والكفر.

أما جواب البصري فقد اعتبر من أتى بكبيرة منافقاً ، وهو جواب سلبي ، إذ أن المقصود بصاحب الكبيرة في تلك الفترة حكام بني أمية.

وتتركز أفكار البصري فيما يلي :

ـ الدعوة إلى الزهد والصبر على المكاره.

ـ مسالمة الحكام.

١١٧

ـ نشر العلم بين المسلمين.

ويعد الحسن البصري من التابعين الذين عاصروا عدداً كبيراً من الصحابة غير أن أفكاره وفرقته لم يتحقق لها الانتشار والبقاء إذ ذابت وتوزعت بين فرق أهل السنة التي برزت فيما بعد (١).

__________________

١ ـ انظر ترجمة الحسن البصري في طبقات ابن سعد ج ٧ / ١٥٦ ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ٤ / ٥٦٣ ، وحلية الأولياء للأصفهاني ج ٢ / ترجمة رقم ١٦٩.

١١٨

الأحناف :

تأسست هذه الفرقة على يد النعمان بن ثابت الملقب بأبي حنيفة الذي يعد من التابعين.

وتقوم أفكار هذه الفرقة على الكتاب والسنة والاجتهاد أو الرأي.

وما تميزت به عن الفرق الأخرى هو ما يلي :

ـ حجية القراءة الشاذة في الاستدلال.

ـ جواز القراءة في الصلاة بغير العربية.

ـ الشك في حديث الآحاد.

ـ جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وإقامة الآذان.

ـ صحة صلاة الجمعة في أكثر من جامع واحد في البلد الواحد.

ـ جواز الوضوء بالنبيذ.

ـ عدم جواز مرور الجنب في المسجد.

ـ جواز دخول المشركين المساجد.

ـ جواز إعطاء اليهود والنصارى زكاة الفطرة والكفارة.

ـ الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

ـ جواز وقوع طلاق المكره.

ـ جواز استخدام الحيل للوصول إلى المباح.

١١٩

ـ الرضعة الواحدة ولو كانت قطرة توجب الحرمة.

ـ جواز قتل المسلم بالكافر.

ـ جواز تولي المرأة القضاء.

وهذه أمثلة من أفكار الفرقة الحنفية التي اختلفت معها فرق أهل السنة بسببها ، ومصادر هذه الفرقة تحوى الكثير من الأمور التي لا يتسع المجال لذكرها هنا ، غير أن هذه الأفكار قد جذبت الكثير من المسلمين نحو الأحناف.

إن فرقة الأحناف تعدّ من أوائل الفرق الكبرى التي ظهرت في واقع أهل السنة ، إذ لم تكن هناك فرقة تنافسها في زمانها وقد ساعدها هذا الوضع على أن تكون من أكبر الفرق السنية وأوسعها انتشاراً ، إذ سادت كل بلاد المشرق تقريباً بدءاً من العراق وتركيا وحتى الصين ، وذلك بتأثير الدولة العثمانية التي اعتنقت أفكار هذه الفرقة وتمذهبت بمذهبها ليصبح المذهب الرسمي السائد في الشام ومصر أيضاً ، وهما في دائرة نفوذها واستمر تواجد الأحناف فيهما حتى اليوم.

ومن أشهر تصانيف أبي حنيفة في مجال العقائد كتابه الفقه الأكبر ، وهي رسالة يتعرض فيها لأصل التوحيد والإيمان والقضاء والقدر وصفات الله وأفعال العباد والنبوة وعصمة الأنبياء وكرامات الأولياء والشفاعة والجنة والنار وعذاب القبر والخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلامات الساعة.

وهذه القضايا التي حوتها هذه الرسالة هي محور الخلاف بين فرق أهل السنة ، وهي الأساس الذي بررت به إنشقاقها وتميزها عن الفرقة الأم.

١٢٠