فرق أهل السنّة

صالح الورداني

فرق أهل السنّة

المؤلف:

صالح الورداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ليلى
الطبعة: ٢
ISBN: 964-319-433-7
الصفحات: ٣١١

مناقشة المتن :

إن ما يظهر لنا من خلال نصوص الروايات السابقة أنها مجانبة للعقل ولوقائع التاريخ ولنصوص القرآن.

أما مجانبتها للعقل ، فتمثل في كون هذه الروايات حددت الفرقة الناجية في ثلاث دوائر ، هي :

ـ الجماعة.

ـ الصحابة.

ـ السواد الأعظم.

وفيما يتعلق بالجماعة فقد ذكر القوم ما يلي :

أن الجماعة هي جماعة الصحابة.

أنهم أهل العلم.

أنها الاجتماع على الحق وعدم الفرقة.

أنها مجموع المسلمين.

أنهم أهل الحل والعقد (١).

__________________

١ ـ انظر الاعتصام للشاطبي ج ٢ / ٢٦٢ ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ج ١ / ١٠٩ ، وفتح الباري ج ١٣ / ٣١٦.

٨١

وقد قيد فقهاء أهل السنة هذه التعريفات الخمسة في حدود الالتزام بنهج السنة على اعتبار أن الصحابة كانوا جميعاً على نهجهم وأن الاجتماع على الحق إنما يكون في حدود أهل السنة وكذلك مجموع المسلمين وأهل الحل والعقد وأهل العلم الذين اجتمعوا على السنة ونقلوها وحفظوها وتمسكوا بها (١).

ولو كان أهل السنة قد تركوا هذه التعريفات دون تقييد لكان من الممكن أن تستثمرها الفرق الأخرى لصالحها لكنهم سارعوا باحتكار هذه المفاهيم لتحصن أنفسهم وأتباعهم.

إلاّ أن المأزق الذي وقعوا فيه هو أن هذه المفاهيم لا يمكن احتكارها في دائرتهم فهي كما تنطبق عليهم تنطبق على الآخرين.

ولقد قامت على مر التاريخ دول وجماعات على مذاهب وعقائد شتى غير عقيدة أهل السنة ومذاهبها ، وكانت لها فقهاء وأهل حل وعقد واتباع من مجموع المسلمين وجميعهم كانوا في دائرة الدين.

فهل يمكن القول أن هذه الدول والجماعات لا ينطبق عليها هذه التعريفات؟

ان أهل السنة قد أغلقوا الأبواب على أنفسهم واعتبروا أن الخارجين عن دائرتهم ليسوا جماعة وليسوا من أهل العلم وليس لهم اتباع سوى شرذمة قليلون ، ولم يكن هذا التصور نابع من الشرع وإنما كان نابعاً من السلطة التي كانت تحميهم وتؤويهم وتسهل السبل أمامهم لاستقطاب

__________________

١ ـ انظر المراجع السابقة وشروحات كتب السنن أبواب الفرقة والفتن.

٨٢

عامة الناس.

من هنا أعتبر أهل السنة أنه يخرج من مفهوم الجماعة المبتدعة وأصحاب الأهواء والمحدثات في الدين واتباع الفرق الأخرى.

واستدلوا على ذلك بحديث منسوب للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : لا تجتمع أمتي على ضلالة ولأنهم هم الذين يمثلون الأمة وينطقون بلسانها بنفوذ الحكام فقد اعتبروا أنفسهم الأمة وأن اجتماعهم يكون على الحق دائماً ، وبالتالي فهم من خلال تحصّنهم بهذا الحديث يكونون في دائرة العصمة (١).

كذلك تحصن أهل السنة بحديث آخر يقول : من أحدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد (٢).

وتحصنوا بحديث ثالث يقول : يد الله مع الجماعة (٣).

ومثل هذه الأحاديث يعتمد عليها أهل السنة في إثبات كونهم الفرقة الناجية ومثلهم في هذا كمثل بيت العنكبوت في وهنه وضعفه إذ أن

__________________

١ ـ حديث ضعيف رواه ابن أبي عاصم برقم ٨٠١ ، وضعفه الألباني في سلسلته ج ١ / ٣٩ : ٤٠ ، وذكره الشاطبي في كتابه الاعتصام ، والترمذي كتاب الفتن ج ٤ / ٤٦٦ برقم ٢١٦٧ ، وأحمد في مسنده ج ٥ / ١٤٥ ، والحاكم في مستدركه ج ١ / ١٥ ، والدارمي ج ١ / ١٤٥.

وهذا الحديث في إسناده سليمان بن سفيان القرشي التيمي وثقه ابن حبان وقال : يخطىء وقال عنه ابن معين ليس بثقة. وقال عنه المديني : روى أحاديث منكرة. وقد أجمعوا أنه من رواة المناكير.

٢ ـ رواه البخاري ومسلم.

٣ ـ هذا النص جزء من الحديث الأول. وقد انفرد به الترمذي في حديث مستقل.

٨٣

استدلالاتهم وتحصنهم بمثل هذه الأحاديث واه يشوبه الخلل الدائم ولا يرح العقل وهم لم يكسبوا قدرتهم وشيوعهم ببرهان ساطع ودليل قاطع إنما كسبوها من باب الأمر الواقع وغياب الفرق الأخرى.

إن كثرة الأحاديث المنسوبة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والتي تتعلّق بالجماعة في مصادر أهل السنة إنما تعكس حالة رد الفعل لديهم تجاه الفرق المخالفة التي تهدد عقائدهم وأفكارهم تلك الحالة التي دفعت بهم إلى التحصّن بهذه الأحاديث في مواجهة خصومهم.

إلاّ أن أزمة فرق أهل السنة أنها لا زالت تتمسك بهذه الأحاديث إلى اليوم ولا زالت تعيش بعقل الماضي في مواجهة عصر يختلف في توجهاته وأوضاعه كل الاختلاف عن العصر الذي نشأت في ظله ، فقد كان يمكن استخدام سلاح الأحاديث في الماضي أما اليوم فهذا السلاح لا يصلح للمواجهة وتحقيق الأمن والاستقرار لعقائدهم وأفكارهم.

وحديث من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد الذي جزم القوم بصحته يثير الكثير من التساؤلات بعد أن اعتبر أهل السنة أن عقائد وأفكار الفرق الأخرى باطلة ومردودة على أساسه.

ومن هذه التساؤلات كيف نحدد الأمر. وكيف يكون الرد؟ وعلى أي أساس؟ والإجابة على هذه التساؤلات متوافرة عند أهل السنة بالطبع ، فالأمر هو أمرهم وما هم عليه والردّ هو رفضها وعدم قبوله اوالأساس هو قواعدهم وأحاديثهم ، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : هل أهل السنة على أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )؟

٨٤

والجواب بالطبع لا وإلاّ ما كان هناك مبرر لظهور الفرق والاتجاهات الأخرى التي ناصبتهم العداء التي برهنت من خلال اطروحاتها عدم استقامة أهل السنة مع نهج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

وتصدع أهل السنة وتعدّد فرقهم هو برهان آخر على عدم توافقهم مع أمر الرسول ، وبرهان أيضاً على كونهم ليسوا الجماعة المقصودة التي يمكن اعتبارها الفرقة الناجية.

إنّ الخلاف إنّما يبرز في حالة الانحراف عن الاستقامة على أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولو كان أهل السنة يعبرون التعبير الشرعي الحقيقي عن الدين لما كان هناك مبرر لاصطدام الفرق الأخرى بهم ومخاصمتها لهم وعدم اعترافها بعقائدهم وأفكارهم ولكان الخلاف بينهم وبين الآخرين ينحصر في دائرة الأمور الفرعية الاجتهادية ، أما هذا الخلاف الذي وصل إلى الأصول بينهم وبين الآخرين فيدل على أنهم لا يعبرون عن الدين وأصوله وإنما يعبرون عن اعتقادات وأفكار خاصة بهم.

والدائرة الثانية التي حددتها الروايات هي دائرة الصحابة فقد حصرت الفرقة الناحية في حدود ما أنا عليه وأصحابي.

ولو كانت الرواية قد توقفت على قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أنا عليه فقط لكان الأمر مقبولا ولاستقامت الرواية مع رواية من أحدث في أمرنا ، ويكون الضمير في كلتاهما يعود على الرسول ، لكن أن يربط أمر الرسول بأمر صحابته فهذا ما يتوقف فيه العقل.

فما عليه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيء.

٨٥

وما عليه الصحابة شيء آخر.

ولا يمكن الربط بين الأمرين.

إن محاولة الربط بين الرسول والصحابة من قبل أهل السنة إنما هي محاولة التغطية على تجاوزاتهم وخلافاتهم وإضفاء القدسية عليها وهو نهج أهل السنة الدائم الذين يستمدون من رواياتهم وأقوالهم عقائدهم وأفكارهم ، فمن ثم فإن محاولة المساس بالصحابة في منظورهم تعد مساساً بالرسول وبالدين (١).

وهذا المعتقد المبالغ فيه عندهم يعد أحد نقاط الخلاف الرئيسية بينهم وبين الفرق الأخرى التي تحكم العقل ولا تقدس الرواية.

لقد وقع الصدام بين الصحابة من بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مباشرة وبرزت طائفة المنافقين والقبليين لتقوم بدورها الذي لم تستطع القيام به في حياته ـ في العمل على الانحراف بالمسلمين عن نهجه القويم (٢).

بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ضرب آل البيت والصحابة التابعين لهم.

وساد الحزب القبلي والصحابة التابعين له.

وفي عهد عثمان ضرب النهج القبلي وساد النهج الأموي والصحابة المتحالفين معه.

__________________

١ ـ هذا يوازي شعار أهل السنة الذي رفعوه فيما بعد وهو ربط الكتاب بالسنة كمحاولة لإضفاء القدسية على الرواية التي يعتمدون عليها في صياغة أفكارهم ومعتقداتهم والحيلولة دون المساس بها.

٢ ـ أنظر لنا السيف والسياسة. وانظر كتب التاريخ ، أحداث سقيفة بني ساعدة.

٨٦

وفي عهد الإمام علي انقسم الصحابة إلى ثلاث جبهات :

جبهة تحالفت مع الإمام علي.

وجبهة تحالفت مع معاوية.

وجبهة وقفت على الحياد (١).

هذا ما كان عليه الصحابة في عالم الحكم والسياسة.

أما ما كانوا عليه في عالم الفقة والدين فلم يكونوا على مشرب واحد أو على درجة واحدة (٢).

وما كانوا عليه من جانب الأخلاق والتقيد بالدين كذلك ، فلم يكونوا على مستوى واحد ودرجة واحدة (٣).

كذلك ما كانوا على درجة واحدة في الجهاد والبذل والعطاء.

وإذا كان الصحابة لم يكونوا كتلة واحدة.

ولم يكونوا على حظ واحد من العلم.

وكان بينهم المنافقين والقبليين.

فكيف يمكن للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يلزم الأمة بالاقتداء بهم جملة دون تحديد الطائفة المختارة من بينهم؟

__________________

١ ـ أنظر لنا المرجع السابق وكتب التاريخ فترة الخلفاء الأربعة.

٢ ـ لم يكن الصحابة على صلة دائمة بالنبي في حياته وحضور مجالسه بانتظام وإنما كان هناك عدد من الصحابة كان ملتصقاً به على الدوام على رأسهم الإمام علي الذي تميز بكونه أعلم الصحابة. انظر سيرة الرسول في المدينة.

٣ ـ انظر خلافات الصحابة وصداماتهم مع بعضهم البعض وتجاوزاتهم مع الرسول في كتب السيرة والتراجم وانظر سورة التوبة.

٨٧

هل هذا يعني أن الصحابة جميعهم كانوا على مستوى القدوة؟

وإذا كان أهل السنة يعرفون الصحابي هو من لقي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مؤمناً به ومات على الإسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ومن لم يره لعرض كالعمى ومنهم الجن (١).

وعلى ضوء هذا التعريف الذي هو محل إجماعهم يستوي الصحابي الذي أسلم قبل الفتح وقاتل مع الذي أسلم بعد الفتح ولم يقاتل.

والذي هاجر وبذل وأعطى مع الذي رأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولو لساعة مجرد رؤية دون أن ينجز شيئاً لهذا الدين.

والذي تابع النبي من بداية بعثته وحتى مماته مع الذي سلم على الرسول مرة إن هذا التعميم هو قمة التضليل والتعتيم في آن واحد.

التضليل عن المفهوم الحقيقي للصحبة والصحابي.

والتعتيم على النماذج النقية الراقية من الصحابة ، أصحاب الدور الجهادي والعلمي الذين قصدهم الرسول وجعلهم القدوة لأمته من بعده.

وهل يعني هذا التعريف للصحابي الذي يعتقده أهل السنة أن ما كان عليه الرسول وأصحابه يشمل الذين رأوه وسلموا عليه وولدا في حياته؟

لقد فات أهل السنة أن يدركوا أن مجتمع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن مجتمعاً ملائكياً ، ولم يكن هدف الرسالات السماوية تحويل الناس إلى ملائكة ، وهذا أمر لم يتحقق في حياة الرسل ومحمد خاصة فكيف يتحقق بعد وفاته؟

__________________

١ ـ انظر مقدمة الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني.

٨٨

وعلى طريق دعم فكرة تعريف الصحابي التي تفوح منها رائحة السياسة ابتدع أهل السنة فكرة عدالة جميع الصحابة التي شملت كبارهم وصغارهم ، عالمهم وجاهلهم ، صالحهم وفاسدهم ، فجميعهم سواء يروى عنهم ولا يجوز الطعن فيهم (١).

من هنا وعلى ضوء ما سبق فإن أهل السنة وفق عقيدتهم في الأحاديث والروايات وفكرة الصحابي وعدالته يكون مبرر لديهم اعتقاد كونهم الفرقة الناجية ، ذلك الاعتقاد الذي أشاعوه بين المسلمين ليكسبوا عطفهم وتأييدهم به ليتحقق لهم ما أسموه بالسواد الأعظم الذي أشارت إليه روايات الفرقة الناجية.

والسواد الأعظم هو جمهور المسلمين ليس على العموم وإنما المتمسكين بالسنة منهم وهذا التقييد من عند أهل السنة ، فهم لا يعجبهم أن يكون جمهور المسلمين خارج دائرتهم غير مقيد بعقيدتهم ، وهذا يعني أن جمهور المسلمين لا يستحق أن يكون من الفرقة الناجية إلاّ إذا كان مع أهل السنة.

والسؤال هنا : ما هو الدليل على أن المقصود بالسواد الأعظم ـ أهل الفرقة الناجية ـ جمهور أهل السنة دون جمهور الفرق الأخرى؟

والجواب عند أهل السنة هو أن هذا الجمهور هو الملتزم بعقيدة الفرقة الناجية عقيدة أهل السنة والجماعة أي السواد.

وهذا الجواب يفرض سؤالا آخر : ما هو الدليل على أن عقيدة أهل

__________________

١ ـ قاعدة أهل السنة في الجرح والتعديل أن من ثبتت صحبته ثبتت عدالته. فيجوز تجريح رواة السند عدا الصحابي فلا يجوز تجريحه.

٨٩

السنة هي عقيدة الفرقة الناجية؟

وجواب أهل السنة ينحصر في كم الأحاديث والروايات التي يتبنونها والتي هي محل شك الفرق الأخرى وهم بهذا يشهدون لأنفسهم ولا يشهد الغير لهم.

وعدم شهادة الغير لهم لكونهم لا يرون فيهم ما يميزهم عنهم ولا يساويهم بهم بل هم محل سخرية وتسفيه الآخرين (١).

وبالنظر إلى الإثنى عشر رواية السابقة نرى التناقض واضح بين نصوصها.

فالرواية الأولى حددت الافتراق على ثلاث وسبعين فرقة.

والرواية الثانية حددت الافتراق على ثلاث وسبعين ملة.

والرواية الرابعة حددت الافتراق على ثنتين وسبعين فرقة.

والرواية الخامسة حددت الفرق الناجية في ثلاث فرق.

والرواية السابعة لم تشر إلى الفرقة الناجية.

والرواية العاشرة حددت الافتراق على ثنتين وسبعين فرقة.

والرواية الثانية عشر حددت الافتراق على بضع وسبعين فرقة.

والفرق كبير وشاسع بين معنى الفرقة الذي ورد في الرواية الأولى ، ومعنى الملة الذي ورد في الرواية الثانية.

معنى الفرقة هو أن الأمر ما زال فى دائرة الإسلام.

ومعنى الملة هو أن الأمر خارج دائرة الإسلام.

وهذا الخلل في تحديد المراد من النص إنما يشكك فيه ، وما دام النص

__________________

١ ـ الفرق الأخرى تطلق على أهل السنة اسم المشبهة والنواصب والشكاكون والحشوية.

٩٠

قد دخل في دائرة الشك فلا يصح الاستدلال به.

كذلك الأمر فيما يتعلق بتحديد عدد الفرق فهو يقودنا إلى نفس النتيجة ، وهي الارتياب في النص ، خاصة إن الرواية السابعة لم تشر إلى الفرقة الناجية ، وأن تحديدها فى دائرة الصحابة أمر غير مقبول عقلا ولا تسانده الوقائع التاريخية كما أشرنا سابقاً.

أما الرواية الحادية عشر والثانية عشر فقد كشفت لنا أبعاداً جديدة فيما يتعلق بالفرقة الناجية ، فقد أشارت الأولى إلى أن واحدة من الثلاث وسبعين فرقة ـ في الجنة وسائرهن في النار دون أن تشير إلى جهة محددة كما أشارت الروايات الأخرى.

ومن جهة أخرى فإن الراوي عوف بن مالك لم يسأل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الفرقة الناجية وإنما سأله عن توقيت الافتراق؟

وكان الجواب هو : إذا كثرت الشرط وملكت الإماء وقعدت الحملان على المنابر واتخذ القرآن مزامير وزخرفت المساجد ورفعت المنابر.

وهذه هي علامات فرق النار التي تتمثل في كثرة أعوان السلطان والضرب والقتل وتملك الإماء وسيطرة دعاة السوء والجهالة والضلالة على المنابر واتخاذ القرآن مزامير للتغني به دون توقيره والاستفادة منه وزخرفة المساجد والإخلال بدور المنابر في توعية الأمة وتوجيهها.

وهذه العلامات لا تنطبق على فرقة من الفرق سوى أهل السنة الذين تحققت لهم السيادة والتمكن في ظل حكومات الأمويين والعباسيين والأيوبيين وغيرهم ، تلك الحكومات التي سادت في ظلها هذه الشرور

٩١

علامات أهل النار.

ومن هنا يمكن القول أن هذه الرواية ليست في صالح أهل السنة بل تدينهم وكان من الأولى بهم أن يتخلصوا منها.

والرواية الثانية ـ الثانية عشر ـ جاءت عن طريق عوف بن مالك أيضاً ، وقد نصت على أن أعظم الفرق فتنة على الأمة تلك التي تقيس الأمور بالرأي وتحرم الحلال وتحلّ الحرام.

وهذه الرواية تتناقض مع الرواية السابقة التي جاءت عن طريق نفس الراوي ، ومن جهة أخرى هي تدين أهل السنة فهم أئمة القياس بالرأي وهم الذين حرموا الحلال وأحلو الحرام تحت وطأة السياسة والروايات.

لقد وضع أهل السنة القياس من بين مصادر الفقه وأصوله بعد الكتاب والسنة والاجماع ، كذلك أضافوا إلى أصول الفقه الاستحسان ، وهو امتداد للقياس وكلاهما ـ القياس والاستحسان ـ مجالهما الرأي (١).

وهل يمكن أن يكون الرأي أحد مصادر التشريع؟

وهل يمكن طاعة الحكام الفجار وإضفاء المشروعية عليهم؟

إن التاريخ يروي لنا جرائم ومنكرات وانتهاكات لحقوق الإنسان على يد الحكام الأمويين والعباسيين وغيرهم ، الذين باركهم أهل السنة وزينوهم في أعين الجماهير المسلمة ، بل جعلوا طاعتهم والجهاد معهم وعدم الخروج عليهم من العقائد التي يتوجّب على المسلمين الالتزام بها (٢).

__________________

١ ـ انظر كتب أصول الفقه.

٢ ـ انظر كتب العقائد.

٩٢

الانحرافات العقائدية والفقهية عند أهل السنة :

وسوف نورد هنا نماذج من الانحرافات العقائدية والفقهية التي وقعت فيها فرق أهل السنة والتي نتج عنها تحريم الحلال وإباحة المحرمات.

ففيما يتعلق بالمحظورات التي أباحوها ، نعرض التالي :

ـ اعتبارهم طاعة الحكام الفجار الظلمة واجبة واعتبارهم أئمة (١).

ـ إباحتهم الجهاد من ورائهم وتسليمهم زكاة الأموال والحج معهم (٢).

ـ إباحة التوضأ بالنبيذ (٣).

ـ إباحة القصر في سفر المعصية (٤).

ـ إباحة المسح على الخفين (٥).

ـ إباحة الصيد للمحرم (٦).

__________________

١ ـ انظر كتب العقائد. وانظر باب فرق الماضي. وكتابنا أهل السنة شعب الله.

٢ ـ انظر المراجع السابقة.

٣ ـ قال بذلك أبو حنيفة. انظر بداية المجتهد ج ١ / ٢٥. وانظر أحكام القرآن للجصاص ج ٢ / ٣٨٦.

٤ ـ قال بذلك مالك وأبو حنيفة. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ٤٧٥.

٥ ـ جوز ذلك جميع فقهاء فرق أهل السنة مع مخالفته الصريحة لآية الوضوء في سورة المائدة. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ١٣٥ وبداية المجتهد ج ١ / ١٤.

٦ ـ قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة. انظر كتب الفقه وتفسير الخازن ج ١ / ٥٢٩.

٩٣

ـ إباحة نكاح الرجل لابنته من الزنا (١).

ـ إباحة تطليق الزوجة وهي حائض (٢).

ـ القول بطهارة المني (٣).

ـ إباحة بيع الخمر للمسلم بتوكيل ذمي عنه في البيع (٤).

ـ اعتكاف المرتد لا يبطل بعد ارتداده (٥).

ـ إباحة تطليق الزوجة تطليقاً بائناً لا رجعة فيه إذا ما طلّقها زوجها ثلاث تطليقات مرة واحدة (٦).

ـ إباحة الزوجة المطلقة ثلاثاً لزوجها بالنكاح الفاسد (٧).

ـ إباحة الحيل في الطلاق (٨).

ـ إباحة وقوع الطلاق قبل الزواج وكذلك الظهار (٩).

__________________

١ ـ قال بذلك الشافعي. انظر الأم ج ٥ / ٢٥ ، وبداية المجتهد ج ٢ / ٢٩.

٢ ـ قال بذلك الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ٤ / ٣٠٠ وما بعدها. وانظر بداية المجتهد ج ٢ / ٥٢.

٣ ـ انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ١٣ ، وبداية المجتهد ج ١ / ٦٤.

٤ ـ انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ١٣ ، وبداية المجتهد ج ١ / ٦٤.

٥ ـ قال بذلك الشافعي. انظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ٥٨٧.

٦ ـ قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة ومالك ، انظر بداية المجتهد ج ٢ / ٥٠ والفقه على المذاهب الأربعة ج ٤ / ٢٩٧.

٧ ـ بداية المجتهد ج ٢ / ٤٨ ، والفقه على المذاهب الأربعة ج ٤ / ١١٧.

٨ ـ قال بذلك أبو حنيفة ، انظر كتب الفقه الحنفي ، وانظر أعلام الموقعين ج ٤ / ١٦.

٩ ـ قال بذلك أبو حنيفة. انظر بداية المجتهد ج ٢ / ٦٩ ، وانظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ٤ / ٤٩٣ ، وقال بذلك مالك أيضاً انظر الموطأ.

٩٤

وفيما يتعلق بالمباحات التي حرموها والمحرّمات التي أباحوها نعرض ما يلي :

ـ وقوع طلاق المكره (١).

ـ إباحة الصلاة وراء الفاجر (٢).

ـ إباحة رضاعة الكبير (٣).

ـ إباحة الصلاة في الأرض المغصوبة (٤).

ـ إباحة التجسيم والتشبيه (٥).

ـ تحريم جمع الصلاة في الحضر (٦).

ـ تحريم الحج على المرأة بدون محرم وبدون استئذان الزوج (٧).

ـ تحريم الوصية للوارث (٨).

__________________

١ ـ قال بذلك أبو حنيفة ، انظر الهداية شرح بداية المبتدى ج ١ / ١٦٧ و ج ٢ / ٤١.

٢ ـ انظر كتب العقائد ، وانظر الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ٤٢٩.

٣ ـ انظر مسلم كتاب الرضاع ، باب رضاعة الكبير. وانظر شرح النووي.

٤ ـ هو ما عليه جميع فرق أهل السنة ، وانظر الفقه على المذاهب الأربعة.

٥ ـ استناداً لكم من الروايات التي تتعلق بصفات الله ، وأبرز فرق أهل السنة التي تبنت التجسيم والتشبيه فرقة الحنابلة ، انظر درء شبه التشبيه لابن الجوزي وهو يرد فيه على الحنابلة ، وانظر السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل للسبكي ، وانظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر ج ١ / ١٤٤ ، ترجمة ابن تيمية وتبنيه للتجسيم والتشبيه.

٦ ـ قال بذلك الأحناف ، وانظر بداية المجتهد ج ١ / ١٣٤ والفقه على المذاهب الأربعة ج ١ / ٤٨٥ وما بعدها.

٧ ـ بداية المجتهد ج ١ / ٢٦٠ ، وانظر الهداية ج ١ / ٩٧.

٨ ـ بداية المجتهد ج ٢ / ٢٨٠ ، وانظر التاج الجامع للأصول ج ٢ / ٢٦٦.

٩٥

ـ تحريم ميراث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (١).

ـ إسقاط فريضة الخمس في الأموال بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (٢).

ـ تحريم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها (٣).

ـ تحريم نكاح المتعة (٤).

ـ التوبة لا تسقط الحد (٥).

ـ تحريم الرضاع ولو بقطرة واحدة (٦).

ـ تعطيل سهم المؤلفة قلوبهم (٧).

__________________

١ ـ استناداً إلى الرواية المنسوبة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على لسان أبي بكر : لا نورث ما تركناه صدقة. وعلى أساس هذه الرواية صودر ميراث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي ملكه بحق الخمس من قبل الخلفاء وحجب عن السيدة فاطمة ( عليها السلام ) ونساء النبي ، انظر مسلم كتاب الجهاد والبخاري كتاب المغازي والخمس.

٢ ـ فريضة الخمس للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولذي القربى من أبناء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما نصت على ذلك آية سورة الأنفال ( واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) رقم ٤١ انظر تفسير سورة الأنفال في كتب التفسير والبخاري كتاب الخمس. وشرحه في فتح الباري. وانظر كتب السنن.

٣ ـ استناداً إلى رواية منسوبة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تقول : لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. انظر البخاري ومسلم كتاب النكاح.

٤ ـ استناداً إلى فتوى عمر بن الخطاب وروايات تقول بتحريمها. انظر البخاري ومسلم كتاب النكاح. وانظر كتب السنن الأخرى. وتكتظ هذه الكتب بروايات تقول بإباحة هذا الزواج. انظر لنا كتاب : زواج المتعة حلال في الكتاب والسنة.

٥ ـ قال بذلك الشافعية. انظر الأم ج ٦ / ١٦٥.

٦ ـ قال بذلك الأحناف. انظر أحكام القرآن ج ٢ / ١٢٤. وانظر كتب التفسير.

٧ ـ استناداً إلى فتوى عمر بن الخطاب الذي اجتهد على النص الصريح.

٩٦

ـ تحريم شد الرحال للمساجد (١).

ـ تحريم جهاد الحكام الطغاة والفجار (٢).

ـ تحريم النظر في كتب المخالفين (٣).

ـ تحريم دفن تارك الصلاة في مقابر المسلمين (٤).

ـ تحريم نكاح المخالفين (٥).

ـ تحريم الخوض في الصحابة (٦).

وذلك غير تضليلهم المسلمين عن حقيقة أهل البيت ( عليهم السلام ) وتشويههم والحط من قدرهم ، وهذا قمة المحرمات التي تتناقض مع النصوص الصريحة في حقهم.

ومن هذا يتبين لنا أن أهل السنة تنطبق عليهم مواصفات الفرقة الهالكة

__________________

١ ـ اعتمد التحريم على رواية : لا تشد الرحال إلاّ لثلاثة مساجد. انظر مسلم كتاب الحج والبخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

٢ ـ انظر العقيدة الطحاوية وشرحها وانظر كتب العقائد الأخرى الخاصة بفرق أهل السنة. وانظر مسلم كتاب الإمارة وشرح النووي له. وانظر البخاري كتاب الأحكام وشرح ابن حجر له في فتح الباري. وانظر كتابنا : أهل السنة شعب الله المختار.

٣ ـ انظر الاعتصام للشاطبي والطرق الحكمية لابن القيم ونقص المنطق لابن تيمية وأصول الدين للبغدادي.

٤ ـ قال بذلك الحنابلة. وتارك الصلاة كافر في منظورهم على أساس بعض الروايات. انظر كتب الفقه الحنبلي. وفتاوى رموز الوهابية المعاصرين.

٥ ـ أفتى بذلك الحنابلة والوهابيون المعاصرون. وانظر كلام البغدادي السابق.

٦ ـ انظر كتب العقائد مثل العقيدة الطحاوية والعقيدة الواسطية لابن تيمية وعقيدة أهل السنة لابن حنبل. وعقيدة أهل السنة للأشعري.

٩٧

لا الفرقة الناجية ، فهم قد وقعوا في متاهات الأحبار والرهبان ومتاهات الحكام بالإضافة إلى متاهات الروايات.

وهذا كلّه يعود إلى كونهم رفضوا تحكيم العقل بداية ونبذوه ونسجوا كهفاً من أوهامهم عاشوا فيه وتحصنوا به في عزلة عن الآخرين.

إلاّ أن حصن أهل السنة ـ كما تبين مما سبق عرضه ـ هو أوهى من بيت العنكبوت ، فلا يصلح أن يأوى إليه المسلمون طلباً للأمن والأمان في الدنيا والآخرة.

والمتأمل في نصوص التحريم والإباحة التي عرضناها ، يتبين أنها لا تخرج عن كونها رد فعل لأطروحات الفرق المخالفة ، فهي لا تستند على نصوص بقدر ما تستند على مواقف لفقهاء فرق أهل السنة لا تتحلى بما يميّزها عن الفرق الأخرى ، وإذا سلّمنا بتساويها مع الآخرين فهذا يعنى فقدانها صفة النجاة ويعني مشاركتهم لها في هذه الصفة ، والحقيقة أن فرق أهل السنة هي أقل منهم طرحاً وعقلا وأكثرهم خللا.

وليس من السهل أن يسلّم العقل بأن الفرقة التي تجانب العقل وتوالي الحكام الفجار وتلتزم المسلمين بطاعتهم وتتبنى التجسيم والتشبيه فيما يتعلق بصفات الله سبحانه ، وتقوم على فقه الرجال الذين تعددت مذاهبهم وطغت على النصوص الصريحة ، وتقدّس الرواية إلى الحد الذي يجعلها تعتدى على القرآن ، وفوق هذا كله هي لا تلتزم بخلق الإسلام فى مواجهة الخصوم والمخالفين ، فتسبهم وتلعنهم وتكفّرهم وتفتري عليهم القول ، ليس من السهل ولا من الممكن أن يسلم العقل أن مثل هذه الفرقة هي

٩٨

الفرقة الناجية ، فإن مثل هذا التصور فضلا عن كونه يصطدم بالعقل فهو يصطدم بجوهر الدين ، ويصوره وكأنه يناقض العدل والرحمة ويقر الظلم والفساد بالإضافة إلى تناقضه مع الفطرة.

٩٩
١٠٠