لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

وثانياً : لكي يلتمسوا عذراً لأعمالهم القبيحة وأخطائهم الشنيعة التي سجّلها لهم التاريخ.

فإذا كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطئُ ويميلُ مع الهوى ، كما رووا ذلك في قصّة عشقه زينب بنت جحش لمّا رآها تمشط شعرها وهي زوجة لزيد بن حارثة ، فقال : « سبحان اللّه مُقلّب القلوب » (١) أو قصّة ميله إلى عائشة وعدم عدله مع بقية زوجاته ، حتّى بعثنَ له مرّة مع فاطمة ومرّة مع زينب بنت جحش ينشدنه العدل (٢).

فإذا كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الحالة ، فلا لوم بعد ذلك على معاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص ويزيد بن معاوية ، وكلّ الخلفاء الذين فعلوا الموبقات واستباحوا الحرمات وقتلوا الأبرياء.

والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أئمه الشيعة يقولون بعصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويأوّلون الآيات القرآنية التي يُفهمُ ظاهرها أنّ اللّه سبحانه عاتب نبيّه مثل : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (٣) ، أو التي في بعضها إقرار الذنوب عليه كقوله : ( لِـيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَـقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ

__________________

١ ـ تفسير القرطبي ١٤ : ١٩٠.

٢ ـ صحيح مسلم ٧ : ١٣٥ ، باب فضائل عائشة ، من كتاب فضائل الصحابة.

٣ ـ عبس : ١.

٨١

وَمَا تَأخَّرَ ) (١) ، أو قوله : ( لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ ) (٢) ، و ( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنتَ لَهُمْ ) (٣).

وكلّ هذه الآيات لا تخدش في عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبعضها لم يكن هو المقصود بها ، وبعضها الآخر يحملُ على المجاز لا على ظواهر الألفاظ ، وهو كثير الاستعمال في لغة العرب ، وقد استعمله سبحانه في القرآن الكريم.

ومن أراد التفصيل والوقوف على حقيقة الأشياء فما عليه إلاّ الرجوع إلى كتب التفسير عند الشيعة ، أمثال : الميزان في تفسير القرآن للعلاّمة الطباطبائي ، وتفسير الكاشف لمحمّد جواد مغنية ، والاحتجاج للطبرسي ، وغيرهم؛ لأنّني رُمتُ الاختصار ، وإبراز عقيدة الفريقين بصفة عامّة ، وليس هذا الكتاب إلاّ لغرض بيان قناعتي الشخصية التي اقتنعتُ بها ، واختياري الشخصي لمذهب يقول بعصمة الأنبياء والأوصياء من بعدهم ويُريحُ فكري ، ويقطعُ عني طريق الشكّ والحيرة.

والقول بأنه معصوم فقط في تبليغ كلام اللّه قولٌ هُراءٌ لا حُجةَ فيه ؛

__________________

١ ـ الفتح : ٢.

٢ ـ التوبة : ١١٧.

٣ ـ التوبة : ٤٣.

٨٢

لأنّه ليس هناك دليلٌ على أنّ هذا القسم من كلامه هو من عند اللّه ، وذاك القسم هو من عند نفسه ، فيكون في الأوّل معصوماً ، ويكون في الثاني غير معصوم ويحتملُ فيه الخطأ.

أعوذ باللّه من هذا القول المتناقض الذي يبعثُ على الشكّ والطعن في قداسة الأديان.

وهذا يذكّرني بمحاورة دارت بيني وبين جماعة من الأصدقاء بعد استبصاري ، وكنتُ أحاول إقناعهم بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، وكانوا يحاولون إقناعي بأنّه معصوم فقط في تبليغ القرآن ، وكان من بينهم أستاذٌ من « توزد » منطقة الجريد (١) ، وهم مشهورون بالذكاء والعلم والنكتة الطريفة ..

ففكّر قليلاً ثم قال : ياجماعة ، أنا عندي رأي في هذه المسألة.

فقلنا جميعاً : تفضّل هات ما عندك.

قال : إنّ ما يقوله أخونا التيجاني على لسان الشيعة هو الحقّ الصحيح ، ويجبُ علينا الاعتقاد بعصمة الرسول المطلقة ، وإلاّ داخلنا الشكّ في القرآن نفسه.

قالوا : ولم ذلك؟

__________________

١ ـ منطقة الجريد بالجنوب التونسي تبعد عن قفصة ٩٢ كم ، وهي مسقط رأس أبو القاسم الشابي الشاعر المعروف ، والخضر حسين الذي ترأس الأزهر الشريف ، والكثير من علماء تونس مولودون في هذه المنطقة ( المؤلّف ).

٨٣

أجاب على الفور : هل وجدتُم أيّ سورة من سور القرآن تحتها إمضاء اللّه تعالى؟

ويقصد بالإمضاء : الختمُ الذي يختمُ به العقود والرسائل ، دلالة على هوية صاحبها وأنّها صادرة عنه.

وضحك الجميع لهذه النكتة الطريفة ، ولكنّها ذاتَ معنى عميق ، فأيّ إنسان غير متعصّب يتمعّن بعقله ستصدمه هذه الحقيقة ، ألا وهي : الاعتقاد بأنّ القرآن كلام اللّه ، وهو الاعتقاد بعصمة مُبلّغه المطلقة بدون تجزئة؛ لأنّه لا يمكن لأحد أن يدّعي بأنّه سمع اللّه يتكّلمُ ، ولا يدّعي أحدٌ بأنّه رأى جبرائيل عندما ينزل بالوحي.

والخلاصة : إنّ قول الشيعة في العصمة قولٌ سديد يطمئنّ إليه القلب ويقطع وساوس النفس والشيطان ، ويقطع الطريق على كلّ المشاغبين ، وخصوصاً أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين الذين يبحثون عن ثغرات ينفذون منها لنسف معتقداتنا وديننا ، والطعن في نبيّنا ، فتراهم كثيراً ما يحتجّون علينا بما أورده صحيح البخاري ومسلم من أفعال وأقوال تنسبُ إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو منها بريءٌ (١).

__________________

١ ـ أخرج البخاري في صحيحه ٣ : ١٥٢ باب شهادة الأعمى ، من كتاب

٨٤

وكيف لنا أن نقنعهم بأنّ كتاب البخاري وكتاب مسلم فيهما بعض الأكاذيب (١).

وهذا الكلام خطير طبعاً؛ لأنّ أهل السنّة والجماعة لا يقبلونه ، فالبخاري عندهم أصحّ كتاب بعد كتاب اللّه!

__________________

الشهادات ) قال : « حدّثنا ابن عبيد ميمون أخبرنا عيسى ... عن عائشة قالت : سَمِعَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجُلاً يقرأ في المسجد فقال : رحِمَهُ اللّه لقدْ أذكرني كذا وكذا أية أسقطتهنّ من سورة كذَا وكذَا ... ».

اقرأ واعجـب أيّها القاري من هذا الرسول الذي يسقط الآيات ، ولولا هذا الأعمى الذي ذكّره بهنّ لكنّ في خبر كان!! أستغفر اللّه من هذا الهذيان ( المؤلّف ).

١ ـ قال السيد محمد رشيد رضا في جواب سؤال حول صحيح البخاري ـ بعد ما نفى وجود الموضوعات فيه ـ قال : « ولكنّه لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق عليه بعض ما عدّوه من علامة الوضع .. » ، مجلة المنار ٢٩ : ١٠٤ ، عنه في أضواء على السنّة المحمدية لأبي رية : ٣٠٥.

أمّا بالنسبة إلى صحيح مسلم ، فقد قال الأستاذ أبو رية في أضواء على السنّة المحمدية : ٣٠٩ : « وقد بلغت الأحاديث التي انتقدت على مسلم ١٣٢ ، وعدد من انتقدوهم من رجاله ١١٠ » ، ثمّ ذكر اعتراض أبي زرعة الرازي على مسلم.

وتقدم كلام الشيخ محمّد عبده وكلام الجصّاص وهما ينكران حديث سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطعنان فيه ، وأنّه موضوع كما قال الجصّاص؛ فهذا يدلّ على عدم إيمانهما بما في صحيح مسلم والبخاري ، وأنّ فيهما المكذوب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٨٥
٨٦

العقيدة في الإمامة عند الطرفين

والقصد من الإمامة في هذا البحث هي الإمامة الكبرى للمسلمين ، أعني الخلافة والحكم ، والقيادة والولاية.

وبما أنّ كتابي اعتمد في أبحاثه على المقارنة بين مذهب أهل السنّة والجماعة والشيعة الإمامية ، لابدّ لي من إبراز مبدأ الإمامة عند الفريقين ، حتّى يتبيّن للقارئ والباحث ما هي الأُسس والمعالم التي يرتكز عليها كلّ من الفريقين ، ويعرف بالتالي القناعات التي ألزمتني بقبول التحوّل وترك ماكنتُ عليه.

فالإمامة عند الشيعة : هي أصل من أُصول الدين ، لما لها من الأهمية الكبرى والخطورة العظمى ، وهي قيادة خير أمة أخرجت للناس ، وما تقوم عليه القيادة من فضائل عديدة وخصائص فريدة ، أذكر منها : العلم ، والشجاعة ، والحلم ، والنزاهة ، والعفّة ، والزهد ، والتقوى ، والصلاح .. الخ.

فالشيعة يعتقدون بأنّ الإمامة منصب إلهي يعهد به اللّه سبحانه إلى

٨٧

من يصطفيه من عباده الصالحين؛ ليقوم بذلك الدور الخطير ، ألا وهو قيادة العالم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى هذا كان الإمام علي بن أبي طالب إماماً للمسلمين باختيار اللّه له ، وقد أوحى لرسوله لكي ينصّبه علماً للناس ، وقد نصّبه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلّ الأُمّة عليه وبعد حجّة الوداع في غدير خم ، فبايعوه ، هذا ما يقوله الشيعة.

أمّا أهل السنّة والجماعة فيقولون ـ أيضاً ـ بوجوب الإمامه لقيادة الأُمّة ، ولكنّهم يجعلون للأُمة حقّ اختيار إمامها وقائدها ، فكان أبو بكر بن أبي قحافه إماماً للمسلمين باختيار المسلمين أنفسهم له بعد وفاة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي سكت عن أمر الخلافة ولم يبيّن للأُمّة شيئا منها ، وترك الأمر شورى بين الناس.

أين الحقيقه؟

إذا تأمّل الباحث في أقوال الطرفين ، وتمعّن في حُجج الفريقين بدون تعصّب ، فسوف يقترب من الحقيقة بدون شكّ.

وها أنا سوف أستعرض وإياكم الحقيقة التي وصلت إليها على النحو التالي :

١ ـ الإمامة في القرآن الكريم :

قال اللّه تعالى : ( وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي

٨٨

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١).

في هذه الآية الكريمة يبيّن اللّه لنا بأنّ الإمامة منصبٌ إلهي يعطيه اللّه لمن يشاء من عباده لقوله : ( جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً ) ، كما توضّح الآية بأنّ الإمامة هي عهد من اللّه لا يناله إلاّ العباد الصالحين الذين اصطفاهم اللّه لهذا الغرض؛ لانتفائه عن الظالمين الذين لا يستحقّون عهده سبحانه وتعالى.

وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا وَأوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَـنَا عَابِدِينَ ) (٢).

وقال سبحانه وتعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٣).

وقال أيضاً : ( وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ ) (٤).

وقد يتوهّم البعض بأنّ مدلول الآيات المذكورة يُفهم منها بأنّ

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٤.

٢ ـ الأنبياء : ٧٣.

٣ ـ السجدة : ٢٤.

٤ ـ القصص : ٥.

٨٩

الإمامة المقصودة هنا هي النبّوة والرسالة ، وهو خطأ في المفهوم العام للإمامة؛ لأنّ كلّ رسول هو نبي وإمام ، وليس كلّ إمام رسول أو نبي.

ولهذا الغرض أوضح اللّه سبحانه تعالى في كتابه العزير بأنّ عباده الصالحين يمكن لهم أن يسألوه هذا المنصب الشريف ليتشرّفوا بهداية الناس وينالوا بذلك الأجر العظيم ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّـنَا هَبْ لَـنَا مِنْ أزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً ) (١).

كما أنّ القرآن الكريم استعمل لفظ الإمامة للتدليل على القادة والحكّام الظالمين الذين يُضلّون أتباعهم وشعوبهم ، ويقودونهم إلى الفساد والعذاب في الدنيا والآخرة ، فقد جاء في الذكر الحكيم حكاية عن فرعون وجنوده قوله تعالى : ( فَأخَذْنَاهُ وَجُـنُودَهُ فَـنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لا يُـنصَرُونَ * وَأتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِنَ المَقْبُوحِينَ ) (٢).

__________________

١ ـ الفرقان : ٧٢ ـ ٧٤.

٢ ـ القصص : ٤٠ ـ ٤٢.

٩٠

وعلى هذا الأساس فقول الشيعة هو الأقرب لما أقرّه القرآن الكريم؛ لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أوضح بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الإمامة منصب إلهي ويجعله اللّه حيث يشاء ، وهو عهد اللّه الذي نفاه عن الظالمين.

وبما أنّ غير علي من صحابة النبي قد أشركوا فترة ما قبل الإسلام ، فإنهم بذلك يصبحون من الظالمين ، فلا يستحقّون عهد اللّه لهم بالإمامة والخلافة.

ويبقى قول الشيعة بأنّ الإمام علي بن أبي طالب استحقّ وحده دون سائر الصحابة عهد اللّه بالإمامة؛ لأنّه لم يَعبُد إلاّ اللّه ، وكرّم اللّه وجهه دون الصحابة ، لأنّه لم يسجد لصنم.

وإذا قيل بأنّ الإسلام يجبّ ما قبله.

قلنا : نعم ، ولكن يبقى الفرق كبيراً بين من كان مشركاً وتاب ، ومن كان نقيّاً خالصاً لم يعرف إلاّ اللّه.

٢ ـ الإمامة في السنّة النبوية :

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإمامة أقوالاً متعدّدة ، رواها كلّ من الشيعة والسنّة في كتبهم ومسانيدهم ، فمرّةً تحدّث عنها بلفظ الإمامة ، ومرّة بلفظ الخلافة ، وأُخرى بلفظ الولاية أو الإمارة.

جاء في الإمامة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خيار أئمتكم الذين تحبّونهم

٩١

ويحبّونكم وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم ، وشرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم » ، قالوا : يا رسول اللّه أفلا ننابذهم بالسيف؟

فقال : « لا ما أقاموا فيكم الصلاة » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنونّ بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس » (٢).

وجاء في الخلافة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم إثنا عشر خليفة كلّهم من قريش » (٣).

وعن جابر بن سمرة قال : سمعتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثمّ قال كلمة لم أفهمها ، فقلتُ لأبي : ما قال؟ فقال : « كلّهم من قريش » (٤).

وجاء في الإمارة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ،

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٦ : ٢٤ ، كتاب الإمارة ، باب خيار الأئمة وشرارهم.

٢ ـ صحيح مسلم ٦ : ٢٠ ، كتاب الامارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.

٣ ـ صحيح مسلم ٦ : ٤ ، كتاب الامارة ، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

٤ ـ المصدر نفسه.

٩٢

فمن عرف بريء ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع » ، قالوا : أفلا نقاتلهم قال : « لا ، ما صلّوا » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لفظ الإمارة أيضاً : « يكون اثنا عشر أميراً ... كلّهم من قريش » (٢).

وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محذّراً أصحابه : « ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعةُ وبئستِ الفاطمةُ » (٣).

وجاء الحديث أيضاً بلفظ الولاية :

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من وال يَلي رعيّة من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلاّ حرّمَ اللّه عليه الجنّة » (٤).

كما حدّث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ الولاية : « لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش » (٥).

وبعد هذا العرض الوجيز عن مفهوم الإمامة أو الخلافة التي

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٦ : ٢٣ ، كتاب الإمارة ، باب وجوب الإنكار على الأُمراء.

٢ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٢٧ ، كتاب الأحكام ، باب الاستخلاف.

٣ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٠٧ ، كتاب الأحكام ، باب مايكره من الحرص على الإمارة.

٤ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٠٧ ، كتاب الأحكام ، باب من استرعى رعية فلم ينصح.

٥ ـ صحيح مسلم ٦ : ٣ ، كتاب الامارة ، باب الخلافة في قريش.

٩٣

استعرضتها من القرآن الكريم ، ومن السنّة النبّوية الصحيحة بدون تفسير ولا تأويل ، بل اعتمدتُ على صحاح أهل السنّه دون غيرهم من الشيعة؛ لأنّ هذا الأمر ـ أعني الخلافة في اثني عشر كلهم من قريش ـ عندهم من المسلّمات التي لا غبار عليها ، ولا يختلف فيها اثنان منهم ، مع العلم بأنّ بعض علماء أهل السنّة والجماعة يصرّحون بأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلّهم من بني هاشم » (١).

وعن الشعبي عن مسروق قال : « بينما نحن عند ابن مسعود نعرض مصاحفنا عليه ، إذ قال له فتى : هل عهد إليكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ قال : إنّك لحديث السنّ ، وإنّ هذا شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، نعم عهد إلينا نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه يكون بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل ... » (٢).

وبعد هذا فلنستعرض أقوال الفريقين على صحّة إدّعاء كلّ منهما من خلال النصوص الصريحة ، كما نناقش تأويل كلّ منهما في هذه المسألة الخطيرة التي فرّقت المسلمين من يوم وفاة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذا ، وقد نشأ من ذلك اختلاف المسلمين إلى مذاهب

__________________

١ ـ ينابيع المودة ٢ : ٣١٥ و ٣ : ٢٩٠.

٢ ـ ينابيع المودة ٣ : ٢٩٠.

٩٤

وفرق ومدارس كلامية وفكرية ، بعد أن كانوا أُمّة واحدة.

فكلّ خلاف وقع بين المسلمين ، سواء في الفقه أو في التفسير للقرآن أو في فهم السنّة النبوية الشريفة ، منشؤه وسببه الخلافة ، وما أدراك ما الخلافة ، التي أصبحت بعد السقيفة أمراً واقعاً يُستنكر بسببها أحاديث صحيحة وآيات صريحة ، وتُختَلقُ من أجل تثبيتها وتصحيحها أحاديث أُخرى لا أساس لها في السنّة النبوية الصحيحة.

وهذا يذكّرني بإسرائيل ، والأمر الواقع ذلك أنّ الرؤساء والملوك العرب اجتمعوا واتفقوا أن لا اعتراف بإسرائيل ولا تفاوض معها ولا سِلْم ، فما أُخِذَ بالقوّة لا يستردّ بغير القوة ، وبعد سنوات قليلة اجتمعوا من جديد ليقطعوا هذه المرّة علاقاتهم مع مصر التي اعترفت بالكيان الصهيوني ، وبعد سنوات قليلة أعادوا علاقاتهم مع مصر ولم يطعنوا بعلاقتها بإسرائيل ، مع أنّ إسرائيل لم تعترف بحقّ الشعب الفلسطيني ، ولم تغيّر شيئاً من موقفها ، بل زادت في تعنّتها وضاعفت قمعها للشعب الفلسطيني ، فالتاريخ يعيد نفسه ، وقد اعتاد العربُ التسليم بالأمر الواقع.

٩٥

رأي أهل السنّة والجماعة في الخلافة ومناقشته

رأيهم معروف ، وهو أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي ولم يُعين أحداً للخلافة ، ولكن أهل الحلّ والعقد من الصحابة اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وولّوا أمرهم أبا بكر الصدّيق ، لمكانته من رسول اللّه ، ولأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخلفه في الصلاة أيام مرضه ، فقالوا : رضيهُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر ديننا ، فكيف لا نرضاه لأمر دنيانا؟

ويتلخّص قولهم في :

١ ـ الرسول لم ينصّ على أحد.

٢ ـ لا تكون الخلافة إلاّ بالشورى.

٣ ـ استخلاف أبي بكر وقع من طرف كبار الصحابة.

نعم ، هذا رأيي عندما كنت مالكياً ، أدافع عنه بكلّ ما أُوتيت من قوّة ، وأستدلّ عليه بآيات الشورى ، وأحاول جهدي التبجّح بأنّ الإسلام هو دين الديمقراطية في الحكم ، وأنّه السابقُ لهذا المبدأ الإنساني الذي تفخرُ به الدول المتحضّرة الراقية.

٩٦

وأقول : إذا كان الغربُ ماعرف النظام الجمهوري إلاّ في القرن التاسع عشر ، فإنّ الإسلام عرفه وسبقهم إليه في القرن السادس.

ولكن ، وبعد لقائي بعلماء الشيعة وقراءة كتبهم ، والاطّلاع على أدلّتهم المقنعة التي هي موجودة في كتبنا ، غيّرتُ رأيي الأوّل ، لمّا أسفرت الحجّة عن وجهها؛ لأنّه لا يليق بجلال اللّه سبحانه أن يترك أُمّة بدون إمام ، وهو القائل : ( إنّما أنتَ منذرٌ ولكلّ قوم هاد ) (١).

كما لا يليق برحمة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يترك أُمّته بدون راع ، وبالخصوص إذا عرفنا أنّه كان يخشى على أُمته الفرقة (٢) والانقلاب على الأعقاب (٣) ، والتنافس على الدنيا (٤) ، حتى يضرب بعضهم رقاب بعض (٥) ، ويتبعوا سنن اليهود والنصارى (٦).

__________________

١ ـ الرعد : ٧.

٢ ـ سنن الترمذي ٤ : ١٣٤ وسنن أبي داود ٢ : ٣٩٠ وسنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢١ ومسند أحمد بن حنبل ٢ : ٣٣٢ والمصنف لعبد الرزاق ١٠ : ١٥٦.

٣ ـ صحيح البخاري ٧ : ٢٠٩ كتاب الرقاق ، باب الحوض.

٤ ـ صحيح البخاري ٧ : ٢٠٩ كتاب الرقاق ، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.

٥ ـ صحيح البخاري ٨ : ٩١ ، كتاب الفتن ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ترجعوا بعدي كفّاراً.

٦ ـ صحيح البخاري ٨ : ١٥١ ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم.

٩٧

وإذا كانت أُمّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر تبعث إلى عمر بن الخطاب حين طُعن فتقول له : « استخلف على أُمّة محمّد ولا تدعهم بعدك هملاً ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة » (١).

وإذا كان عبداللّه بن عمر يدخل على أبيه حين طُعن فيقول له : « إنّ الناس زعموا أنّك غير مُستخلف ، وإنّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها رأيتَ أن قد ضيّع ، فرعاية الناس أشدّ .. » (٢).

وإذا كان أبو بكر نفسه ـ وهو الذي استخلفه المسلمون بالشورى ـ يحطّم هذا المبدأ ويسارع إلى استخلاف عمر من بعده ليقطع بذلك دابر الخلاف والفرقة والفتنة ، وهو الأمر الذي تنبّأ به علي عليه‌السلام حينما شدّد عليه عمر لمبايعة أبي بكر فقال له : « احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم يردده عليك غداً » (٣).

أقول : إذا كان أبو بكر لا يؤمن بالشورى ، فكيف نصدّق بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الأمر بدون استخلاف؟! وهل أنّه لم يكن يعلم

__________________

١ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٤٢.

٢ ـ صحيح مسلم ٦ : ٥ ، كتاب الإمارة ، باب الاستخلاف وتركه.

٣ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٢٩ ، شرح النهج لابن أبي الحديد ٦ : ١١ نقلا عن كتاب السقيفة للجوهري.

٩٨

ما عمله أبو بكر وعائشة وعبداللّه بن عمر ، وما يعلمه كل الناس بالبداهة ، من اختلاف الآراء وتشتت الأهواء عندما يوكل إليهم أمر الاختيار ، بالخصوص إذا كان الأمر يتعلّق بالرئاسة واعتلاء منصّة الخلافة؟!

كما وقع ذلك بالفعل حتّى في اختيار أبي بكر يوم السقيفة ، إذ إنّنا رأينا خلاف سيّد الأنصار سعد بن عبادة ، وابنه قيس بن سعد ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوّام ، والعباس بن عبدالمطلب ، وسائر بني هاشم ، وبعض الصحابة الذين كانوا يرون الخلافة حقّاً لعلي عليه‌السلام ، وتخلّفوا في داره عن البيعة حتّى هُدِّدوا بالحرق (١).

في مقابل ذلك نرى الشيعة الإمامية يثبتون عكس مقالة أهل السنّة ، ويؤكّدون بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّنَ عليّاً للخلافة ، ونصّ عليه في عدّة مناسبات ، وأشهرها في غدير خم.

وإذا كان الإنصاف يقتضي منك أن تستمع إلى خصمك ليدلي برأيه وحجّته في قضية وقع الخلاف فيها معك ، فكيف إذا احتجّ خصمك بما تشهد أنتَ نفسك بوقوعه (٢)؟!

__________________

١ ـ تاريخ الخلفاء لابن قتيبة ١ : ٢٩ وما بعدها.

٢ ـ وذلك أنّه ليس هناك دليل عند الشيعة إلاّ وفي كتب السنّة مصداقه ( المؤلّف ).

٩٩

وليس دليل الشيعة دليلاً واهياً أو ضعيفاً حتّى يمكن التغاضي عنه وتناسيه بسهولة ، وإنّما الأمر يتعلّق بآيات من الذكر الحكيم أُنزلت في هذا الشأن ، وأولاها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العناية والأهمية ما سارت به الركبان ، وتناقله الخاصّ العامّ ، حتّى ملأتْ كتب التاريخ والأحاديث وسجّله الرواة جيلاً بعد جيل.

١ ـ ولاية علي في القرآن الكريم :

قال اللّه تعالى : ( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ) (١).

أخرج الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير (٢) بالإسناد إلى أبي ذرّ الغفاري قال : سمعتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلاّ صمّتا ، ورأيته بهاتين وإلاّ عميتا ، يقول : « عليٌّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ».

أما أنّي صلّيت مع رسول اللّه ذات يوم ، فسأل سائل في المسجد ،

__________________

١ ـ المائدة : ٥٥ ـ ٥٦.

٢ ـ أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي المتوفي سنة ٣٣٧ هـ ، ذكره ابن خلكان وقال : « كان أوحد زمانه في علم التفسير صحيح النقل موثوق به » ( المؤلّف ).

١٠٠