لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

[ لماذا .. ثم اهتديت ]

الحمد للّه ربّ العالمين ، المتفضّل علينا بالهداية والعناية والتمكين ، والمنعم على عباده بكلّ خير وسعادة ليكونوا صالحين ، مَنْ توكّل عليه كفاه وحفظه منْ كيد الشياطين ، ومن تنكّب عَنْ صراطه فهو من المخذولين.

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، ناصرالمستضعفين والمظلومين ، وحبيب المساكين الذين آمنوا باللّه رغبة فيما أعدّه سبحانه لعباده الصادقين ..

وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، الذين أعلا اللّه مقامهم على سائر المخلوقين ، ليكونوا قدوة العارفين ، ومنار الهدى ، وسفينة النجاة التي من تخلّف عنها كان من الهالكين ..

ثم الرضى والرضوان على أصحابه الميامين الذين بايعوه وناصروه ولم يكونوا من الناكثين ، وثبتوا بعده على العهد وما بدّلوا وما انقلبوا وكانوا من الشاكرين ..

وعلى من تبعهم بإحسان وسار على هديهم ، من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.

٢١

( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) (١).

ربّ وافتح بصيرة كلّ من يقرأ كتابي على الحقيقة التي تهدي بها عبادك المخلصين.

أما بعد؛ فقد لقي كتابي « ثم اهتديت » قبولاً حسناً لدى القرّاء الأعزّاء الذين أبدوا بعض الملاحظات الهامّة حول موضوعات متفرقّة في الكتاب المذكور ، وطلبوا المزيد من التوضيح في المسائل التي اختلف في فهمها كثير من المسلمين سنّةً وشيعة.

ومن أجل رفع اللَبس والغموض عن ذلك لمن أراد التحقيق والوقوف على جَلّية الأمرِ ، فقد ألّفتُ هذا الكتاب بنفس الأُسلوب الذي اتبعته هناك ، ليسهل على الباحث المنصف الوصول إلى الحقيقة من أقرب سبلها ، كما وصلتُ إليها من خلال البحث والمقارنة ، وقد أسميته ـ على بركة اللّه ـ « مع الصادقين » ، اقتباساً من قوله تعالى : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّـقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٢).

ومَنْ مِنَ المسلمين يرفض أو يزهد في أن يكون مع أولئك الصادقين؟!

هذا ما اقتنعتُ به شخصياً ، وما أحاول توضيحه لغيري ما استطعتُ

__________________

١ ـ طه : ٢٥ ـ ٢٨.

٢ ـ التوبة : ١١٩.

٢٢

إلى ذلك سبيلاً ، دون فرض لرأيي ، بل ومع احترامي لرأي غيري ، فاللّه وحده الهادي وهو الذي يتولّى الصالحين.

وقد اعترض البعض على عنوان الكتاب السابق « ثمّ اهتديت »؛ لانطوائه على غموض قد يبعث على التأمّل والتساؤل حول ما إذا كان الآخرون على ضلالة؟ وما مدلول تلك الضلالة إن قُصد هذا المعنى؟

وعلى هذا الاعتراض أُجيب موضحاً :

أولاً : جاء في القرآن الكريم لفظ الضلالة بمعنى النسيان ، قال تعالى : ( قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَاب لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) (١) ، وقال عزَّ وجلّ : ( أنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الاُخْرَى ) (٢).

كما ورد في القرآن الكريم لفظ الضلالة تعبيراً عن حالة التحقيق والبحث والتفتيش ، قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم : ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) (٣) ، أي وجدك تبحث عن الحقيقة فهداك إليها.

والمعروف من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قبل نزول الوحي عليه كان يهجر قومه في مكّة ليختلي في غار حرّاء الليالي العديدة باحثاً عن الحقيقة.

__________________

١ ـ طه : ٥٢.

٢ ـ البقرة : ٢٨٢.

٣ ـ الضحى : ٧.

٢٣

ومن هذا المعنى ـ أيضاً ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحكمةُ ضالّة المؤمن ، أين ما وجدها أخذها » (١).

فعنوان كتابي الأوّل يتضمّن هذا المعنى.

ثانياً : وعلى فرض أنّ العنوان يتضمّن معنى الضلالة التي تقابل الهداية فيما نقصده على المستوى الفكري من إصابة المنهج الإسلامي الصحيح الذي يضعنا على الصراط المستقيم ، كما عقّب بعض القرّاء بذلك؛ فليكن كذلك ، وهو الواقع الذي يتهيّب مواجهته البعض بروح رياضية بنّاءة ، وَنفَس موضوعيٍّ خلاّق .. ينسجم في الفهم مع قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« تركتُ فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » (٢).

__________________

١ ـ ورد الحديث بألفاظ مختلفة : ففي سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٩٥ ح ٤١٦٩ ، وكذلك سنن الترمذي ٤ : ١٥٥ ح ٢٨٢٨ بلفظ : « الكلمة الحكمة ضالّة المؤمن حيثما وجدها فهو أحقّ بها ».

وفي المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٣١٧ ح ١٦٠ عن سعيد بن أبي بردة قال : « كان يقال : الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها إذا وجدها ».

وعن عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة : « الحكمة ضالّة المؤمن ، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق ».

وورد بألفاظ أُخر أيضاً.

٢ ـ حديث الثقلين ـ بألفاظه المختلفة ـ حديث صحيح متواتر ، صحّحه

٢٤

فالحديث واضح وصريح في الإشارة إلى ضلال من لم يتمسك بهما معاً ( الكتاب والعترة ).

وعلى كلّ حال ، فأنا مقتنع بأنّني اهتديت بفضل اللّه سبحانه وتعالى إلى التمسك بكتاب اللّه وعترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه ، لقد جاءت رسل ربّنا بالحق.

فكتابي الأوّل والثاني يحملان عناوينَ من القرآن الكريم ، وهو أصدق الكلام وأحسنه ، وكلّ ما جمعته في الكتابين إن لم يكن الحقّ فهو أقرب مايكون إليه؛ لأنّه ممّا اتفق عليه المسلمون سنةً وشيعة ، وما ثبت عند الفريقين أنّه صحيح ، فكانت النتيجة ولادة هـذين الكتابين بحمد اللّه : « ثمّ اهتديتُ » و « لأكون مع الصادقين ».

__________________

الألباني في عدّة أماكن منها سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤ : ٣٥٥ ح ١٧٦١ ، واعترض على من ضعّفه ممن هو حديث عهد بهذه الصناعة ، وسبب القول بضعفه ناشئ من ناحيتين ـ كما قال الألباني ـ :

١ ـ الاقتصار على بعض المصادر ، ممّا سبب فوات الكثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها الصحيحة أو حسنة فضلاً عن الشواهد والمتابعات.

٢ ـ عدم الالتفات إلى أقوال المصحّحين للحديث من العلماء.

والحاكم بضلالة من لم يتمسك بالكتاب والعترة هو رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا غيره.

وقد أُورد هذا الاعتراض ـ أيضاً ـ في المناظرة التي جرت بين الشيعة والوهابية في قناة المستقلّة سنة ١٤٢٣ هـ ، المناظرة العاشرة.

٢٥

واللّه أسأل أن يهدي أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجمعهم حتى يكونوا خير أُمّة ، ويقودوا العالم بأسره إلى النور والهداية تحت لواء الإمام المهدي المنتظر ، الذي وعدنا به جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً ، وليتم نور اللّه ولو كره الكافرون.

٢٦

المقدمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيّدنا ومولانا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أما بعد ، فإنّ الدين يعتمد بنحو أساسي على العقائد التي تكون منه مجموعة الأُصول والمرتكزات التي يؤمن بها معتنقو هذا الدين أو ذاك ، والتي لابدّ أن يقوم إيمانهم بها على الدليل القاطع والبرهان الجلي الذي ينطلق من المسلّمات العقلية التي يؤمن بها جميع الناس ، ليتسنّى له إقناعهم بما يدعوهم إليه. ورغم ذلك ، فإنّه ثمّة أفكار يصعب على العالم تفسيرها ، مثلما يصعب على العقل التصديق بها عند الوهلة الأُولى ، من ذلك مثلاً أن تكون النار « برداً وسلاماً » ، في حين أنّ العلم والعقل يتفقان على أنّها حرارةٌ مهلكة! أو أنّ تقطَّع الطير إلى أجزاء متناثرة فوق الجبال ، ثم تُدعى فتأتي تسعى ، في حين أنّ العلم والعقل يستبعدان ذلك ، أو أن يُشفى الأعمى والأبرص والأكمه بمجرّد مسح عيسى عليه‌السلام ، بل وإحياء الموتى ، في حين أنّ

٢٧

العلم والعقل لا يجدان تفسيراً لهذا ..

وهي أُمور تندرج في باب المعجزات التي أجراها اللّه تعالى على أيدي أنبيائه عليهم‌السلام ، وهي موجودة لدى المسلمين واليهود والنصارى ..

وإنّما أجرى اللّه سبحانه وتعالى تلك المعجزات والخوارق على أيدي أنبيائه ورسله عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ، ليُفهم العباد بأنّ عُقولهم قاصرة عن الإدراك والإحاطة بكلّ شيء؛ لأنه سبحانه لم يؤتهم من العلم إلاّ قليلاً ، ولعلّ في ذلك صلاحهم وكمالهم النسبي ، فقد كفر الكثير بنعمة اللّه ، وأنكر الكثير وجوده سبحانه ، واغترّ الكثير منهم بالعلم والعقل حتى عبدوهما من دون اللّه ، هذا مع قلّة العلم وقصور العقل ، فكيف لو أعطاهم علم كلّ شيء؟!

ونظراً لأهمية العقيدة ومركزيتها في إيمان المسلم ، فإنّ كتابي هذا قد تناول جملة من العقائد الإسلامية التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة ، والتي كانت مسرحاً لاختلاف فرق المذاهب الإسلامية ، فَعَقدتُ فصلاً خاصاً بمعتقدات أهل السنّة والشيعة في القرآن الكريم والسنّة النبوية ، ثمّ تطرّقت بعد ذلك لسائر المسائل التي اختلفوا فيها وشنّع بعضهم على البعض الآخر بدون مبرّر؛ هادفاً من ذلك بيان ما رأيته الحقّ ، راغباً في مساعدة من يريد البحث عنه ،

٢٨

آملاً أن يساهم ذلك في قيام الوحدة الإسلامية على أساس فكريٍّ متين ، واللّه أسأل أن يوفّقنا جميعاً لما يحبّ ويرضى ، ويجمع كلمة المسلمين على الصواب ، إنّه عزيز قدير.

٢٩
٣٠

القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة وعند الشيعة الإمامية الاثني عشرية

هو كلام اللّه المنزل على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو المرجع الأعلى للمسلمين في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم ، من شكّ فيه أو أهانه فقد برئ من ذمة الإسلام ، فهم ـ المسلمون كافة ـ متفقون على تقديسه واحترامه ، والتعبّد بما ورد فيه ، ولكنهم اختلفوا في تفسيره وتأويله.

ومرجع الشيعة في التفسير والتأويل يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشروحات الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، ومرجع أهل السنّة والجماعة يعود إلى أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً ، ولكنهم يعتمدون على الصحابة ـ دون تمييز ـ أو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة في نقل الأحاديث وشرحها وتفسيرها.

وبطبيعة الحال نشأ من ذلك اختلاف في العديد من المسائل الإسلامية وخصوصاً الفقهية منها.

وإذا كان الاختلاف بين المذاهب الأربعة من مدرسة أهل السنّة

٣١

والجماعة ظاهراً ، فلا غرابة في أن يكون بينهم وبين مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أظهر.

وكما ذكرت في مستهلّ الكتاب فإنّني سوف لن أتطرّق إلاّ إلى بعض الأمثلة بغية الاختصار ، وعلى من يريد البحث والاستزادة أن يغوص في أعماق البحر لاستخراج ما يمكنه من الحقائق الكامنة والجواهر المخفيّة.

يتفق أهل السنّة مع الشيعة في القول بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن للمسلمين كلّ أحكام القرآن وفسّر كلّ آياته ، ولكنهم اختلفوا في من ينبغي الرجوع إليه بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية التعرّف إلى ذلك البيان والتفسير : فذهب أهل السنّة إلى الاعتماد على الصحابة ـ دون تمييز ـ ومن بعدهم الأئمة الأربعة وعلماء الأُمة الإسلامية.

أما الشيعة فقالوا : إنّ الأئمة من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم المؤهلون لذلك وصفوة من الصحابة المنتجبين؛ فأهل البيت عليهم‌السلام هم أهل الذكر الذين أمرنا اللّه تعالى بالرجوع إليهم في قوله عزَّ وجلَّ : ( فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) ، وهم الذين اصطفاهم اللّه تعالى

__________________

١ ـ النحل : ٤٣ ، وقد ذكرت مصادر التفسير عند أهل السنّة عدّة أقوال في تفسير هذه الآية ، منها : أنّها تعني أهل البيت عليهم‌السلام ، راجع : جامع البيان للطبري ١٤ : ١٤٥ و ١٧ : ٨ ، تفسير القرطبي ١١ : ٢٧٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٥٩١ ، وزعم باطلا أنّ قول الإمام الباقر عليه‌السلام : « نحن أهل الذكر » الوارد في تفسير الآية بمعنى الأُمة لا أهل البيت عليهم‌السلام.

٣٢

وأورثهم علم الكتاب في قوله عزَّ وجَّل : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (١) ، ولكلّ ذلك جعلهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عِدْلَ القرآن ، والثقل الثاني الذي أمر المسلمين بالتمسك به فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تركتُ فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً » (٢).

وفي لفظ مسلم : « كتاب اللّه ... أهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي » ، قالها ثلاث مرّات (٣).

ومن المعلوم أنّ أهل البيت عليهم‌السلام كانوا أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم وأفضلهم ، وقد قال فيهم الفرزدق :

إن عُدَّ أهلُ التُقَى كَانُوا أئِمَّتُهُم

أو قِيلَ مَنْ خَيرُ أهْلُ الأَرضِ قِيلَ هُمُ

وأسوق هنا مثالاً واحداً للتذكير بطبيعة الرابطة بين أهل

__________________

١ ـ فاطر : ٣٢.

٢ ـ ورد بألفاظ وأسانيد مختلفة ، راجع : الطبقات لابن سعد ٢ : ١٩٤ ، مسند ابن الجعد : ٣٩٧ ، مسند أحمد ٣ : ١٤ وفي غير موضع منه ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩ وصححه ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٦٣٩ ح ١٥٥٣ ـ ١٥٥٥ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٥ ح ٨١٤٨ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٦٥ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١٦٣ ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٦٣٠.

٣ ـ صحيح مسلم ٧ : ١٢٣ ، ( كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب علي بن أبي طالب ).

٣٣

البيت عليهم‌السلام والقرآن الكريم ، فقد قال تعالى : ( فَلا اُقْسِمُ بِمَوَاقِـعِ النُّجُومِ * وَإنَّهُ لَـقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَـقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْـنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ ) (١).

فهذه الآيات تشير بدون لبس إلى أنّ أهل البيت عليهم‌السلام وعلى رأسهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الذين يدركون معاني القرآن الغامضة ، لأنّا لو أمعنّا النظر في القَسَم الذي أقسَم به ربّ العزّة والجلالة لوجدنا مايلي :

إذا كان اللّه تعالى يُقسم بالعصر وبالقلم وبالتين وبالزيتون ، فعظمة القَسَم بمواقع النجوم بيّنة ، لما تنطوي عليه من أسرار وتأثير على الكون بأمره سبحانه ، ونلاحظ تعزيز القسم في صيغة النفي والإثبات ، فبعد القَسم يؤكد سبحانه : ( إنَّهُ لَـقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْـنُون ) ، والمكنون ما كان باطناً ومستتراً ، ثم يقول عزّ وجلّ : ( لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ ) ، و ( لا ) هنا للنفي ، ويمسّه تعني يدركه ويفهمه ، وليس المقصود بها لمس اليد (٢) ، فهناك فرقٌ بين اللّمس

__________________

١ ـ الواقعة : ٧٥ ـ ٧٩.

٢ ـ ذكر القرطبي في تفسيره عند ذكره عدّة تفاسير لها ، منها : ما نقله عن الحسين بن الفضل حيث قال : « لا يعرف تفسيره وتأويله إلاّ من طهّره اللّه من الشرك والنفاق ».

وقال الآلوسي أيضاً في تفسيره روح المعاني في ذيل الآية ـ بعد ما ذكر أنّ

٣٤

والمسّ ، قال تعالى : ( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (١) ، وقال أيضاً عزّ منْ قائل : ( الَّذِينَ

__________________

المطهّرين هم الملائكة ـ : « ونفي مسّه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه ».

وكذلك الفخر الرازي في تفسيره رجّح كون ( لا ) بمعنى النفي لا النهي وأنّها إخبار عن عدم مسّ غير المطهّرين له ، ثم قال : « إلاّ المطهّرون » هم الملائكة طهرهم اللّه في أوّل أمرهم وأبقاهم .. ولو كان المراد نفي الحدث لقال : لا يمسّه إلاّ المطهرون أو المطّهّرون بتشديد الطاء والهاء ، والقراءة المشهورة الصحيحة ( المطهرون ) من التطهير لا من الاطهار ، وعلى هذا يتأيد ما ذكرناه من وجه آخر من حيث إنّ بعضهم كان يقول : هو من السماء ، ينزل به الجن ويلقيه عليه .. فقال : لا يمسّه الجن وإنّما يمسّه المطهّرون الذي طُهّروا عن الخبث « التفسير الكبير ٣٠ : ٤٣١ ـ ٤٣٣.

وقد خلط صاحب كتاب « منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية » : ٢٥ بردّه على المؤلّف بين استعمال المسّ في اللمس وبين مساواة المسّ للمس في المعنى ، فالمسّ يستخدم بمعنى اللمس الحسي ، وبمعنى المسّ المعنوي كمسّ العقل ونحوه ، ولهذا تقول : هذا ممسوس ، بمعنى فيه جنون ، وإن شيئاً مسّ عقله فجنه.

ويستخدم المس بمعنى اللمس أيضاً ، ولكن هذا لا يعني أنّ المسّ عين اللمس ونفس معناه كما توهمه صاحب كتاب « منهج أهل البيت » ليفسّر الآية المباركة باللمس المادي الذي يعني حمل الكلام على النهي ، وقد لاحظت كلمات بعض المفسرين في إبطال كون النفي بمعنى النهي ، وإنّما هو إخبار عن عدم مسّ القرآن لغير المطهّر من الخبائث والآثام.

١ ـ الأعراف : ٢٠١.

٣٥

يَأكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ المَسِّ ) (١).

فالمسّ هنا يتعلّق بالعقل والإدراك لا بلمْسِ اليد.

وكيف يُقسم اللّه سبحانه وتعالى بأن لا يلمس القرآن باليد إلاّ من تطهّر ، والتاريخ يحدّثنا بأنّ بعض الجبّارين قد عبثوا به ومزّقوه ، وقد شاهدنا الاسرائيليين يدوسونه بأقدامهم ـ نستجير باللّه ـ ويحرقونه عندما احتلّوا بيروت في اجتياحهم السيئ الصيت ، وقد نقلت أجهزة التلفزة عن ذلك صوراً بشعة ومذهلة؟!

فالمدلول لقوله تعالى هو أنّه لا يدرك معاني القرآن المكنون إلاّ نخبة من عباده الذين اصطفاهم وطهّرهم تطهيراً.

والمطهَّرون في هذه الآية اسم مفعول ، أي : وقع تطهيرهم ، وقد قال عزَّ وجلّ : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢).

فقوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ ) ، معناه : لا يدرك حقيقة القرآن إلاّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، ولذلك قال فيهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان

__________________

١ ـ البقرة : ٢٧٥.

٢ ـ الأحزاب : ٣٣.

٣٦

لأُمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (١).

وما يذهب إليه الشيعة في ذلك يستند إلى القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المرويّة حتى في صحاح أهل السنّة كما وجدنا.

__________________

١ ـ المستدرك للحاكم ٣ : ١٤٩ وقال : « حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه » ، ورواه السيوطي في الجامع الصغير ٢ : ٦٨٠ ح ٩٣١٣ مختصراً بلفظ : « النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأُمتي » ، وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير ٦ : ٣٨٦ : « شبّههم بنجوم السماء وهي التي يقع بها الاهتداء ، وهي الطوالع والغوارب والسيّارات والثابتات ، فكذلك بهم الاقتداء وبهم الأمان من الهلاك » ، ثمّ ذكر أنّ تعدّد طرقه ربما يصيّره حسناً. ورواه أحمد في الفضائل ٢ : ٦٧١ ، وأورده القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة ١ : ٧٢ ، وابن حجر الهيتمي في الصواعق ٢ : ٤٤٥.

٣٧

السنّة النبوية الشريفة عند أهل السنّة والجماعة وعند الشيعة الإمامية

هي : كلّ ما قاله رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فعله أو أقرّه ، وهي المرجع الثاني عندهم بعد القرآن الكريم في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم.

يضيفُ أهل السنّة والجماعة إلى السنّة النبوية سنّة الخلفاء الراشدين الأربعة : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وذلك لحديث يروونه : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عِضّوا عليها بالنواجذ » (١).

وليس أدلّ على ذلك من اتباعهم سنّة عمر بن الخطّاب في صلاة التراويح التي نهى عنها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

__________________

١ ـ ورد في كثير من مصادر أهل السنّة ، انظر على سبيل المثال : سنن ابن ماجة ١ : ١٥ ح ٤٢ ، سنن الترمذي ٤ : ١٤٩ ح ٢٨١٦ ، المستدرك للحاكم ١ : ٩٥ ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٤٦ ، وصرّح محقّق الكتاب محمد ناصر الدين الألباني بصحته.

٢ ـ صحيح البخاري ٧ : ٩٩ ، ( كتاب الأدب ، باب ٧٥ ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه ) ، ولفظه : « احتجر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حُجيرة مخصّفة أو

٣٨

والبعض منهم يضيفون إلى سنّة الرسول سنّة الصحابة بأجمعهم ـ أيّ صحابي كان ـ وذلك لحديث يروونه : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (١) ، وحديث : « أصحابي أمنةٌ لأمتي » (٢).

أمّا حديث « أصحابي كالنجوم » ، فهو لا ينسجم مع العقل والمنطق والحقيقة العلمية ، إذ إنّ العرب لم يكونوا ليهتدوا في مسيرهم

__________________

حصيراً ، فخرج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي فيها ، فتتبع إليه رجال وجاؤوا يصلّون بصلاته ، ثمّ جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم مغضباً ، فقال لهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مازال بكم صنيعكم حتى ظننت أنّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإن خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ».

وهذا النصّ صريح في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفرضها ، بل نهاهم عن أدائها كذلك ورغّبهم في الصلاة في بيوتهم.

وهذا النهي استمر في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزمن أبي بكر إلى أن جاء عمر بن الخطاب فابتدع فيهم القيام جماعة في شهر رمضان ، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة ٢ : ٥١٠ ترجمة ٢٩٣٤ حيث قال : « قلت : ذكر أبو عمر في التمهيد : أنّ أوّل ما جمع عمر الناس على إمام في رمضان كان سنة أربع عشرة ».

وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء ١٣١ : « وفي سنة أربع عشرة جمع عمر الناس على صلاة التراويح ».

١ ـ الشفا للقاضي عياض ٢ : ٥٣.

٢ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٤٨ ح ٣ ، صحيح مسلم ٧ : ١٨٣ ، ( كتاب فضائل الصحابة ، باب ٥١ ) ، ومسند أحمد بن حنبل ٤ : ٣٩٩.

٣٩

الصحراوي لمجرّد اقتدائهم بأيّ نجم من النجوم ، وإنّما كانوا يهتدون باتباع نجوم معيّنة محدّدة معروفة لها أسماؤها.

كما أنّ هذا الحديث لا تؤيده الأحداث اللاحقة والممارسات التي بدت من بعض الصحابة بعد وفاة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ منهم من ارتدّ (١) ، كما أنّهم اختلفوا في كثير من الأُمور التي سببت الطعن ـ بعضهم في بعض ـ (٢) ، ولعن بعضهم بعضاً (٣) ، وقتل بعضهم بعضاً (٤) ، وأُقيم الحدّ على بعض الصحابة لشرب الخمر والزنا والسرقة وغير ذلك ، فكيف يقبل عاقلٌ بهذا الحديث الذي يأمر بالاقتداء بمثل هؤلاء؟! وكيف يكون من يقتدي بمعاوية الخارج على إمام زمانه أمير المؤمنين في حربه للإمام علي عليه‌السلام مهتدياً وهو يعلم أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّاه إمام الفئة الباغية (٥)؟! وكيف يكون من المهتدين من يقتدي بعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وبسر بن أرطأة وقد قتلوا الأبرياء لتدعيم ملك الأمويين؟!

وأنت أيها القارئ اللبيب إذا قرأت حديث « أصحابي كالنجوم » يتبيّن لك أنّه موضوع؛ لأنه موجّه إلى الصحابة ، فكيف يقول

__________________

١ ـ كالّذين حاربهم أبو بكر وسُمّوا بأهل الردّة ( المؤلّف ).

٢ ـ كما طعن أكثر الصحابة في عثمان حتى قتلوه ( المؤلّف ).

٣ ـ كما فعل ذلك معاوية الذي كان يأمر بلعن علي ( المؤلّف ).

٤ ـ كحروب الجمل وصفين والنهروان وغيرها ( المؤلّف ).

٥ ـ حديث « ويح عمّار تقتله الفئة الباغية » ( المؤلّف ).

٤٠