لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

وتعاليت ، فتعساً وبعداً لمن خالفك ونأى عنك ولم يقدّرك حقّ قدرك.

ولنختم هذا البحث بما قاله الإمام علي بن موسى الرضا ، وهو الإمام الثامن من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد اشتهر بالعلم في عهد المأمون ، ولم يبلغ الرابعة عشر من عمره حتّى كان أعلم أهل زمانه.

سأله سائل عن معنى قول جدّه الإمام الصادق : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » فأجابه الإمام الرضا :

« من زعم أنّ اللّه يفعل أفعالنا ثمّ يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن اللّه فوّض أمر الخلق والرزق إلى حُججه ـ أي الأئمة ـ فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافرٌ ، والقائل بالتفويض مشركٌ.

أمّا معنى الأمر بين الأمرين فهو وجود السبيل إلى إتيان ما أمر اللّه به ، وترك ما نهى عنه ، أي إنّ اللّه سبحانه أقدره على فعل الشرّ وتركه ، كما أقدره على فعل الخير وتركه ، وأمره بهذا ونهاه عن ذاك » (١).

وهذا لعمري بيان كاف وشاف على مستوى العقول ، ويفهمه كلّ الناس من المثقفين وغير المثققين.

وصدق رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال في حقّهم :

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١١٤ ح ١٧ ، الاحتجاج للطبرسي ٢ : ١٩٨.

٢٦١

« لا تتقدّموهم فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » (١).

تعليقة على الخلافة ضمن القضاء والقدر :

والطريف في هذا الموضوع أنّ أهل السنّة والجماعة رغم اعتقادهم بالقضاء والقدر الحتمي ، وأنّ اللّه سبحانه هو الذي يسيّرُ عباده في أعمالهم ، وليس لهم الخيرة في شيء ، ولكنّهم في أمر الخلافة يقولون بأن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وترك الأمر شورى بين الناس ليختاروا لأنفسهم.

والشيعة على العكس تماماً ، فرغم اعتقادهم بأنّ الإنسان مخيّرٌ في أعماله ، وأنّ عباد اللّه يفعلون ماشاؤوا ( ضمن مقولة لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ) ، إلاّ أنّهم في أمر الخلافة يقولون بأنّه لا حقَّ لهم في الاختيار!

ويبدو هذا وكأنّه تناقضٌ من الطرفين ، السنّة والشيعة لأوّل وهلة ، ولكنّ الحقيقة ليست كذلك.

فالسنّة عندما يقولون بأنّ اللّه سبحانه هو الذي يسيّر عباده في أعمالهم يتناقضون مع الواقع ، إذ أنّ اللّه سبحانه ( عندهم ) هو المخيّر

__________________

١ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٢٦٢

الفعلي ، ولكنه يترك لهم الخيار الوهمي ، إذ أن الذي اختار أبا بكر يوم السقيفة هو عمر ثمّ بعض الصحابة ، ولكن في الحقيقة منفّذون لأمر اللّه الذي جعلهم واسطة ليس إلاّ ، على حساب هذا الزعم.

وأمّا الشيعة عندما يقولون بأن اللّه سبحانه خيّر عباده في أفعالهم ، فلا يتناقضون مع قولهم بأنّ الخلافة هي باختيار اللّه وحده ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ) (١) ؛ لأنّ الخلافة كالنبوة ليست هي من أعمال العباد ولا موكلة إليهم ، فكما أنّ اللّه يصطفي رسوله من بين الناس ويبعثهُ فيهم ، فكذلك بالنسبة لخليفة الرسول ، وللناس أن يطيعوا أمر اللّه ولهم أن يعصوه ، كما وقع بالفعل في حياة الأنبياء وعلى مرّ العصور ، فيكون العباد أحراراً في قبول اختيار اللّه ، فالمؤمن الصالح يقبل ما اختاره اللّه ، والكافر بنعمة ربّه يرفض ما اختاره اللّه له ويتمرّد عليه ، قال تعالى :

( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أتَـتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى ) (٢).

__________________

١ ـ القصص : ٦٨.

٢ ـ طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

٢٦٣

ثمّ انظر إلى نظرية أهل السنّة والجماعة في هذه المسألة بالذات فسوف لن تُلقي باللّوم على أحد؛ لأنّ كلّ ما وقع ويقع بسبب الخلافة ، وكلّ الدماء التي أُريقت والمحارم التي هُتكتْ كلّ ذلك من اللّه ، حيث عقب بعض من يدعي العلم منهم بقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ) (١).

أمّا نظرية الشيعة فهي تحمّل المسؤولية كلّ من تَسبب بالانحراف ، وكلّ من عصى أمر اللّه ، وكلٌّ على قدر وزره ووزر من تبع بدعته إلى يوم القيامة « كلّكم راع وكلكّم مسؤول عن رعيته » (٢) قال تعالى : ( وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ) (٣).

__________________

١ ـ الأنعام : ١١٢.

٢ ـ بحار الأنوار ٧٢ : ٣٨ ، صحيح البخاري ١ : ٢١٥ ، كتاب الحجة ، باب ما يقرأ في صلاة الضحى ، صحيح مسلم ٦ : ٨ ، كتاب الامارة ، باب فضيلة الإمام.

٣ ـ الصافات : ٢٤.

٢٦٤

الخمس

وهو أيضاً من المواضيع الذي يختلف فيه الشيعة والسنّة ، وقبل الحكم لهم أو عليهم لابدّ لنا من بحث موجز في موضوع الخمس : ولنبدأ بالقرآن الكريم. قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .. ) (١).

وقد قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أَمركمْ بأربع : الإيمان باللّه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تؤدّوا للّه خُمس ما غنمتُم » (٢).

فالشيعة ، امتثالاً لأمر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُخرجون خمس ماحصلوا عليه من أموال طيلة سنتهم ، ويفسّرون معنى الغنيمة بكلّ ما يكسبه الإنسان من أرباح بصفة عامّة.

أمّا أهل السنّة والجماعة فقد أجمعوا على تخصيص الخمس

__________________

١ ـ الأنفال : ٤١.

٢ ـ صحيح البخاري ٢ : ٤٤ ، كتاب فرض الخمس ، باب أداء الخمس من الدين.

٢٦٥

بغنائم الحرب فقط ، وفسّروا قوله سبحانه وتعالى : ( وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء ) يعني ما حصّلتم خلال الحرب.

هذه خلاصة أقوال الفريقين في الخمس ، وقد كتب علماء الفريقين عدّة مقالات في المسألة.

ولستُ أدري كيف أُقنِع نفسي أو غيري بآراء أهل السنّة التي اعتمدتْ ـ على ما أظنّ ـ أقوال الحكّام من بني أُميّة ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان الذي استأثر بأموال المسلمين ، وخصّ نفسه وحاشيته بكلّ صفراء وبيضاء.

فلا غرابة في تأويلهم لآية الخمس على أنّها خاصّة بدار الحرب؛ لأنّ سياق الآية الكريمة جاء ضمن آيات الحرب والقتال ، وكم لهم من تأويل للآيات على سياق ماقبلها أو مابعدها.

فهم يؤولون مثلاً آية إذهاب الرجس والتطهير على أنّها خاصّة بنساء النبي؛ لأن ماقبلها وما بعدها يتكلّم عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما يؤولون قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب ألِيم ) (١) على أنّها خاصّة في أهل الكتاب.

وقصة أبي ذر الغفاري ( رضي الله عنه ) مع معاوية وعثمان بن عفّان ونفيه إلى

__________________

١ ـ التوبة : ٣٤.

٢٦٦

الربذة من أجل ذلك مشهورة. إذ أنّه عاب عليهم كنزهم الذهب والفضّة ، وكان يحتجُ بهذه الآية عليهم ، ولكنّ عثمان استشار كعب الأحبار عنها فقال له بأنّها خاصّة بأهل الكتاب ، فشتمه أبو ذر الغفاري وقال له : ثكلتك أُمّك يابن اليهوديّة أَوَ تُعلّمنا ديننا؟ فغضب لذلك عثمان ، ثمّ نفاه إلى الربذة بعدما تعاظم انزعاجه منه ، فمات هناك وحيداً طريداً لم تجد ابنته حتّى من يغسّله ويكفنّه (١).

وأهل السنّة والجماعة لهم في تأويل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فنٌ معروف وفقهٌ مشهورٌ ، وذلك اقتداءً بما تأوّله الخلفاء الأوّلون ، والصحابة المشهورون في خصوص النصوص الصريحة من الكتاب والسنّة (٢).

ولو أردنا استقصاء ذلك لاستوجب كتاباً خاصّاً ، ويكفي الباحث

__________________

١ ـ نحوه باختلاف في مسند أحمد ١ : ٦٣ ، وصحّحه محقّق الكتاب الشيخ أحمد شاكر وقال : « وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ : ٢٣٩ ولم يعله إلاّ بابن لهيعة ، وابن لهيعة ثقة. ولأبي ذر حديث آخر في معناه سيأتي في مسنده ٥ : ١٤٩ ، وهو في مجمع الزوائد ٣ : ١٢٠ و ١ : ٢٢٥ ».

وراجع : البحار ٣١ : ٢٧٣.

٢ ـ جمع السيّد شرف الدين في كتابه النصّ والاجتهاد أكثر من مائة مورد تأوّلوا فيها النصوص الصريحة ، فعلى الباحثين قراءة هذا الكتاب لأنّه ماجمع إلاّ ما أخرجوه علماء السنّة معترفين بصحته ( المؤلّف ).

٢٦٧

أن يرجع إلى كتاب « النصّ والاجتهاد » ليعرف كيف يتلاعب المتأولون بأحكام اللّه سبحانه.

وأنا كباحث ليس لي أن أتأوّل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية حسبَ ما أهوى ، أو حسب مايُمليه علىَّ المذهب الذي أميلُ إليه. ولكّن ماحيلتي إذا كان أهل السنّة والجماعة هم الذين أخرجوا في صحاحهم فرض الخمس في غير دار الحرب ، ونقضوا في ذلك تأويلهم ومذهبهم.

فقد جاء في صحيح البخاري في باب « في الركاز الخُمس » : وقال مالك وابن إدريس : الركازُ دفنُ الجاهلية ، في قليله وكثيره الخُمس ، وليس المعدنُ بركاز ، وقد قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المعدن : « جبارٌ وفي الركاز الخُمس » (١).

وجاء في باب مايُستخرج من البحرِ : وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : ليس العنبرُ بركاز ، هو شيء دَسرهُ البحرُ ، وقال الحسنُ : في العنْبرِ واللؤلؤ الخمس ، فإنّما جَعلَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الركاز الخمس ، ليس في الذي يصابُ في الماء (٢).

والباحثُ يفهم من خلال هذه الأحاديث بأنّ مفهوم الغنيمة التي

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٣٦ ، كتاب الزكاة ، باب في الركاز الخمس.

٢ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٣٦ ، كتاب الزكاة ، باب مايستخرج من البحر.

٢٦٨

أوجب اللّه فيها الخمس لا تختصّ بدار الحرب ، لأنّ الركاز الذي هو كنزٌ يستخرج من باطن الأرض ، وهو ملك لمن استخرجه ، ولكن يجب عليه دفع الخمس منه لأنّهُ غنيمة ، كما أنّ الذي يستخرج العنبر واللؤلؤ من البحرِ يَجبْ عليه إخراج الخمس؛ لأنّه غنيمة.

وبما أخرجه البخاري في صحيحه يتبيّن لنا أن الخُمس لا يختصّ بغنائمِ الحرب.

فرأىُ الشيعة يبقى دائماً مصداقُ الحقيقة التي لا تناقضُ فيها ولا اختلاف ، وذلك لأنّهم يرجعون في كلّ أحكامهم وعقائدهم إلى أئمة الهدى الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً ، والذين هم عدلُ الكتاب ، لا يَضِلّ من تمسّكَ بهم ، ويأمن من لجأ إليهم.

على أنّه لا يمكن لنا أن نعتمدَ على الحروب لإقامة دولة الإسلام ، وذلك يخالف سماحة الإسلام ودعوته للسّلم ، فالإسلام ليس دولة استعماريّة تقوم على استغلال الشعوب ونهب خيراتها ، وهو ما يحاول الغربيّون إلصاقه بنا عندما يتكلّمون عن نبي الإسلام بكلّ ازدراء ، ويقولون : بأنّه توسّع بالقوّة والقهر وبالسيف لاستغلال الشعوب!!

وبما أنّ المال هو عصب الحياة ، وخصوصاً إذا كانت نظرية الاقتصاد الإسلامي تقتضي إيجاد مايسمّى اليوم بالضمان

٢٦٩

الاجتماعي لتضمن للمعوزين والعاجزين معاشهم بكرامة وشهامة ، فلا يُمْكنْ لدولة الإسلام أن تعتمد على مايخرجه أهل السنّة والجماعة من الزكاة ، وهي تمثل في أحسن الأحوال اثنين ونصف بالمائة ، وهي نسبة ضعيفة لا تقوم بحاجة الدولة من إعداد القوّة ، ومن بناء المدارس والمستشفيات ، وتعبيد الطرقات ، فضلاً عن أن تضمن لكلّ فرد دخلاً يكفي معاشَه ويضمن حياته ، كما لا يمكن لدولة الإسلام أن تعتمد على الحروب الدامية وقتال الناس؛ لتضمن بقاءها وتطوّر مؤسساتها على حساب المقتولين الذين لم يرغبوا في الإسلام.

فأئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم كانوا أعلم بمقاصد القرآن ، كيف لا وهم ترجمانه ، وكانوا يرسمون للدولة الإسلامية معالم الاقتصاد ، ومعالم الاجتماع ، لو كان لهم رأىٌ يطاع.

ولكن للأسف الشديد كانت السلطة والقيادة في يد غيرهم الذين اغتصبوا الخلافة بالقوّة والقهر ، وبقتل الصلحاء من الصحابة واغتيالهم ، كما فعل ذلك معاوية ، وبدّلوا أحكام اللّه بما اقتضته مصالحهم السياسية والدنيوية ، فَضلّوا وأضلّوا ، وتركوا هذه الأُمة تحت الحضيض لم تقم لها قائمة حتّى يومنا هذا.

فبقيت تعاليم أهل البيت مجرّد أفكار ونظريات يؤمن بها الشيعة

٢٧٠

ولم يجدوا لتطبيقها من سبيل ، إذ أنّهم كانوا مطاردين في مشارق الأرض ومغاربها ، وقد تتّبعهم الأمويون والعبّاسيون عبر العصور.

وما أن انقرضت الدولتان وأوجد الشيعة مجتمعاً عملوا بأداء الخُمسْ الذي كانوا يؤدّونه للأئمة سلام اللّه عليهم خُفية ، وهم الآن يؤدّونه إلى المرجع الذي يقلّدونه ، نيابة عن الإمام المهدي عليه‌السلام ، وهؤلاء يقومون بصرفه في أبوابه المشروعة ، من تأسيس حوزات علمية ، ومبرّات خيرية ، ومكتبات عمومية ، ودور أيتام ، وغير ذلك من أعمال جليلة ، كدفع رواتب شهرية لطلبة العلوم الدينية والعلمية وغيرها.

ويكفينا أن نستنتج من هذا أنّ علماء الشيعة مستقلّون عن السلطة الحاكمة؛ لأنّ الخمس يفي بحاجاتهم ويقومون بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

أمّا علماء أهل السنّة والجماعة فهم عالة على الحكّام ، وموظفون لدى السلطة الحاكمة في البلاد ، وللحاكم أن يقرّب من شاء منهم أو يبعّد ، حسب تعامله معه وإفتائهم لمصالحه. فأصبح العَالِمُ بذلك أقرب إلى الحاكم منه إلى مجرد عَالِم! هذه بعض الآثار الوخيمة التي ترتّبت على ترك العمل بفريضة الخُمس بمعناها الذي فهمه أهل البيت عليهم‌السلام.

٢٧١
٢٧٢

التقليد

يقول الشيعة : أمّا فروع الدين ، وهي أحكام الشريعة المتعلّقة بالأعمال العبادية : كالصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، فالواجب في أحكامها أحد الأُمور الثلاثة :

أ ـ أن يجتهد وينظر الإنسان في أدلّة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك.

ب ـ أو أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط.

ت ـ أو أن يقلّد المجتهد الجامع للشرائط ، بأن يكون من يقلّده حيّاً عاقلاً ، عادلاً ، عالماً ، صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه.

والاجتهاد في الأحكام الفرعيّة واجب كفائي على جميع المسلمين ، فإذا نهض به من اجتمعت فيه الشروط سقط عن باقي المسلمين ، فيجوز لهم تقليده والرجوع إليه في فروع دينهم؛ لأنّ رتبة الاجتهاد ليست من الأُمور الميسورة ولا هي في متناول الجميع ، بل تحتاج إلى كثير من الوقت والعلوم والمعارف والاطّلاع ، وهذا لا يتهيأ إلاّ لمن جدَّ وكدّ وأمضى عمره في البحث والتعلّم ، ولا ينال

٢٧٣

الاجتهاد إلاّ ذو حظٌ عظيم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أراد اللّه به خيراً فَقّههُ في الدينِ » (١).

وقول الشيعة هذا لا يختلف عن قول أهل السنّة والجماعة ، إلاّ في شرط حياة المجتهد.

غير أنّ الخلاف الواضح بينهم هو في العمل بالتقليد ، إذ أنّ الشيعة يعتقدون بأنّ المجتهد الجامع للشروط المذكورة هو نائب للإمام عليه‌السلام في حال غيبته ، فهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضاء والحكومة بين الناس والرادّ عليه رادّ على الإمام.

فليس المجتهد الجامع للشروط عند الشيعة مرجعاً يرجع إليه في الفتيا فحسب ، بل إنّ له الولاية العامّة على مقلّديه ، فيرجعون إليه في الأحكام والفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من القضاء ، ويعطونه الزكاة وخُمس أموالهم ، يتصرّف بها كما تفرضه عليه الشريعة نيابة عن إمام الزمان عليه‌السلام.

أمّا عند أهل السنّة والجماعة فليس للمجتهد هذه المرتبة ، ولكنّهم يرجعون في المسائل الفقهية لأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب ، وهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل.

والمعاصرون من أهل السنّة قد لا يلتزمون بتقليد واحد من

__________________

١ ـ الأمالي للمفيد : ١٥٨ ح ٩ ، سننن الترمذي ٤ : ١٣٧ ح ٢٧٨٣.

٢٧٤

هؤلاء على سبيل التعيين ، فقد يأخذون بعض المسائل من أحدهم والبعض الآخر من غيره حسبما تقتضيه حاجتهم ، كما فعل ذلك السيد سابق الذي ألّفَ فِقْهاً مأخوذاً من الأربعة؛ لأنّ أهل السنّة والجماعة يعتقدون بأنّ الرحمة في اختلافهم ، فللمالكي مثلاً أن يأخذُ برأي أبي حنيفة إذا وجدَ حلاً لمشكلته قد لا يجده عند مالك (١).

__________________

١ ـ اختلفت أقوال أهل السنّة في هذا الأمر :

قال النووي في المجموع ١ : ٨٨ المسألة الثالثة من آداب المستفتي : « هل يجوز للعامي أن يتخيّر ويقلّد أي مذهب شاء؟ قال الشيخ : ينظر إن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين ـ حكاهما القاضي حسين : في أنّ العامي هل له مذهب أم لا؟ ـ أحدهما : لا مذهب له لأنّ المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما ، والثاني : ـ وهو الأصح عند القفال ـ له مذهب فلا يجوز له مخالفته ...

وإن لم يكن منتسباً ، بني على وجهين ـ حكاهما ابن برهان : في أنّ العامي هل يلزمه أن يتذهّب بمذهب معيّن يأخذ برخصة وعزائمه؟ ـ أحدهما : لا يلزمه ... فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء ، أم يجب عليه البحث عن أشدّ المذاهب وأصحّها أصلا ليقلد أهله؟ فيه وجهان ... والثاني : يلزمه ، وبه قطع أبو الحسن الكيّا ، وهو جار في كلّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم ».

فالمسألة إذاً خلافية بينهم ، هذا من حيث النظر والتأمل ، أمّا من حيث العمل

٢٧٥

وأضربُ لذلك مثلاً حتّى يتبينّ للقارئ فيفهم المقصود : كان عندنا

__________________

فهم كما قال الشاطبي في الموافقات ٤ : ٧٧ : « وقد أدّى إغفال هذا الأصل [ أي أنّ الشريعة كلّها ترجع إلى قول واحد في فروعها وان كثر الخلاف كما أنّها في أُصولها كذلك ] إلى أن صار كثير من مقلّدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال إتباعاً لغرضه وشهوته ، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب إتباعاً للغرض والشهوة ... ».

ثمّ ذكر عدّة حكايات تتعلّق بالموضوع إلى أن قال :

« وذكر ابن باجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين ... وربما زعم بعضهم أنّ النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيّها شاء دون أن يخرج عنها ولايميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك ، فيقضي في قضية بقول مالك ، وإذا تكرّرت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفاً للقول الأول لا لرأي تجدّد له ... وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدّم أنّه كان يقول معلناً غير مستتر أنّ الذي لصديقي عليّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه ... ».

والغرض من هذا العرض السريع إنّما هو بيان الاختلاف والاضطراب الذي وقعوا فيه ، وليس ذلك إلاّ للبعد عن هدي الثقلين.

فما ذكره في كشف الجاني : ١٥٩ ناشئ من قلّة الاطلاع والمجادلة بغير حقّ. أضف إلى أن المؤلّف لم يقل بأنّ المالكي يحقّ له الأخذ بمذهب الحنفي حتى لو كان لديه حلّ لمشكلته عند المذهب المالكي ، وإنّما قيّد بقوله : ( إذا وجد حلاّ لمشكلته قد لا يجده عند مالك ) ، وعليه فالمؤلّف عبارته سلمية وواضحة جداً ، لا كما حاول عثمان الخميس إيهام القارئ بأنّ المؤلّف افترى هذا الكلام على أهل السنّة وأخذ بنقل عبارات لا ربط لها بالموضوع.

٢٧٦

في تونس ( في وقت المحاكم القضائية ) فتاةٌ بالغة أحبّتْ رجُلاً وأرادتْ الزواج منه ، ولكنَّ أباها رفض أن يزوجَها من هذا الشاب لسبب « اللّه أعلم به » ، فهربت الفتاة من بيت أبيها وتزوّجتْ ذلك الشاب بدون إذن أبيها ، ورفع الأب شكوى ضِدَّ الزوج.

ولّما حَضرَتْ الفتاة وزوجها لدى القاضي ، وسألَها عن السبب في الهروب من البيت والزواج بدون إذن وليّها ، قالتْ : سيّدي ، أنا عمري خمسة وعشرون عاماً ، وأحبْبتُ الزواج من هذا الرجل على سنّة اللّه ورسوله ، ولأنّ أبي يريد أن يزوّجني بمن أكره ، فتزوّجتُ على رأي أبي حنيفة الذي يعطيني حقّ الزواج بمن أحبّ لأنىّ بالغة.

يقول القاضي رحمة اللّه عليه ( روى لي بنفسه هذه القصّة ) : « فجئنا في المسألة فوجدناها على حقّ ، وأعتقد بأنّ أحد العلماء المطّلعين هو الذي لَقّنَها ماذا تقول ». يقول هذا القاضي : فرددتُ دعوة الأب وأمضيتُ الزواج ، فخرج الأب غَاضباً يضرب يديه على بعضها ويقول : « حَنّفَتْ الكَلْبَة » أي إن ابنته تركت مالك واتبعتْ أبا حنيفة ، وكلمة الكلبة فيها إهانة لابنته التي قال فيما بعد بأنّه يتبرّأ منها.

والمسألة هي اختلاف في اجتهاد المذاهب ، فبينما يرى مالك إنّ الفتاة البكر لا يصحّ زواجها إلاّ بإذن ولي الأمر وحتى إذا كانت ثيباً ، فهو شريكها في الزواج فلا تنفرد به وحدها ولابدّ من موافقته ، يرى

٢٧٧

أبو حنيفة : إنّ البالغة بكراً كانتْ أم ثيباً ، لها أن تنفرد باختيار الزوج ، وأن تنشئ العقد بنفسها (١).

فهذه المسألة الفقهيّة فرّقتْ بين الأب وابنته حتّى تبرّأ منها ، وكثيراً ماكان الآباء يتبرّؤون من بناتهم لعدّة أسباب ، منها : الهروب من البيت مع رجُل تحبُّ الزواج منه. ولهذا التبرّئ عواقب وخيمة ، إذ أنّ الأب يلجأ في أغلب الأحيان إلى حرمان ابنته من الميراث وتبقى الفتاة عدوّة للإخوة الذين يتبرّؤون بدورهم من أُختهم التي جلبت لهم العار.

فليست القضية ـ إذن ـ كما يقول أهل السنّة بأنّ في اختلافهم رحمة ، أو على الأقلّ ليست الرحمة في كلّ القضايا الخلافية.

ويبقى بعد هذا خلاف آخر بينهما ألا وهو تقليّد الميّت ، فأهل السنّة يقلّدون أئمةً ماتوا منذ قرون ، وأغلق عندهم باب الاجتهاد من ذلك العهد ، وكلّ من جاء بعدهم من العلماء اقتصروا على الشروح والمدوّنات شعراً ونثراً لفِقه المذاهب الأربعة ، وقد تعالت أصوات المنادين من بعض المعاصرين بِفَتحِ الباب والرجوع للاجتهاد ، لما تقتضيه مصلحة الزّمان ، ولما استجدّ من أمور كانت مجهولة في زمن الأئمة الأربعة.

__________________

١ ـ راجع كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري ٤ : ٣٤.

٢٧٨

أمّا الشيعة فلا يجوّزون تقليد الميّت ، ويرجعون في كلّ أحكامهم إلى المجتهد الحي الجامع للشروط التي ذكرناها سابقاً ، وذلك بعد غيبة الإمام المعصوم ، والذي كلّفهم بالرجوع إلى العلماء العدول في زمن غيبته وحتّى ظهوره.

فالسنّي المالكي مثلاً يقول : هذا حلال وهذا حرام على قول الإمام مالك ، وهو ميّت منذ أكثر من اثني عشر قرناً ، وكذلك يقول السنّي الحنفي والشافعي والحنبلي؛ لأنّ الأئمة عاشوا في عصر واحد وتتلمذ بعضهم على بعض.

كما لا يعتقد السنّي في عِصمة هؤلاء الأئمة الذين لم يدّعوها لأنفسهم ، بل جوّزوا عليهم الخطأ والصواب ، ويقولون بأنّهم مأجورون في كلّ اجتهاداتهم ، فلهم أجران إن أصابوا ولهم أجرٌ واحد إذا أخطاؤا.

والشيعي الإمامي مثلاً عنده مرحلتان في التقليد.

المرحلة الأولى : وهي زمن الأئمة الاثني عشر ، وقد امتدّت هذه المرحلة ثلاثة قرون ونصف تقريباً ، وفيها كان الشيعي يقلّد الإمام المعصوم الذي لا يقول برأيه واجتهاده ، وإنّما بعلم وروايات توارثها عن جدّه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول في المسألة : روى أبي ، عن جدّي ، عن جبرئيل ، عن اللّه عَزَّ وَجلّ.

٢٧٩

المرحلة الثانية : وهي زمن الغيبة التي امتدّت حتى اليوم ، فالشيعي يقول : هذا حلال وهذا حرام على رأي السيّد الخوئي أو السيّد الخميني مثلاً ، وكلاهما حىّ ، ورأيهما لا يتعدّى الاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص القرآن والسنّة على روايات أئمة أهل البيت أولاً ، ثمّ الصحابة العدول ثانياً.

وهم عندما يبحثون في روايات أئمة أهل البيت بالدرجة الأُولى ، ذلك لأنّ هؤلاء الأئمة يرفضون استعمال الرأي في الشريعة ويقولون : ما من شيء إلاّ وللّه فيه حكم ، فإذا ما فقدنا حكماً في مسألة ما فليس ذلك يعني أنّ اللّه سبحانه أهمله ، ولكن قُصُورِنا وجَهْلِنا لم يصلا بنا إلى معرفة الحكم ، فالجهل بالشيء وعدم معرفته ليس دليلاً على عدمه ، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء ) (١).

__________________

١ ـ الأنعام : ٣٨.

٢٨٠