لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

العقائد التي يُشنّع بها أهل السنّة على الشيعة

ومن العقائد التي يُشّنع بها أهل السنّة على الشيعة ما هو من محض الشغب المقيت الذي أولده الأمويّون والعبّاسيون في صدر الإسلام ، بما كانوا يحقدون على الإمام عليّ ويبغضونه ، حتّى لعنوه على المنابر أربعين عاماً.

فلا غرابة أنْ يشتموا كلّ من تَشيّعَ له ويرموه بكلّ عار وشنار ، حتى وصل الأمر بهم أن يقال لأحدهم يهودي أحبّ إليه من أن يقال له شيعي. ودأَب أتباعهم على ذلك في كلّ عصر ومصر ، وأصبح الشيعي مسبّة عند أهل السنّة والجماعة؛ لأنّه يخالفهم في معتقداتهم وخارج عن جماعتهم ، فهم يقذفونه بما شاؤوا ، ويرمونه بكلّ التّهم ، وينبزونه بشتّى الألقاب ، ويخالفونه في كلّ أقواله وأفعاله.

ألا ترى بأنّ بعض علماء أهل السنّة المشهورين يقولون : « بأنّ لبس الخاتم في اليد اليمنى هو سنّة نبوية ، ولكن يجبُ تركُهَا لأنّ الشيعة اتخذوا ذلك شعاراً لهم ».

وهذا حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي يقول : إنّ تسطيح القبور هو

٢٨١

المشروع في الدين ، لكن لّما جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم (١).

وهذا ابن تيمية الموصوف بالمصلح المجدّد عند بعضهم يقول : ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذ صارت شعاراً لهم ـ أى للشيعة ـ فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك ، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السنّي من الرافضي ، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحبّ (٢).

وقال الحافظ العراقي عندما تساءل عن كيفيّة إسدال العمامة : لم أرَ مايدلّ على تعيين الأيمن إلاّ في حديث ضعيف عند الطبراني ، وبتقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثمّ يردّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم ، إلاّ أنّه صارَ شعاراً للإماميّة فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم (٣).

سبحان اللّه! ولا حول ولا قوّة إلا باللّه! انظر أخي القارئ إلى هذا

__________________

١ ـ راجع كتاب الصراط المستقيم للبياضي ٣ : ٢٠٦ ، وكتاب الغدير للأميني ١٠ : ٢١٠.

٢ ـ منهاج السنّة لابن تيمية ٤ : ١٥٤ في الردّ على الوجه الخامس للعلاّمة الحلّي في بيان وجوب اتّباع مذهب الحقّ.

٣ ـ شرح المواهب للزرقاني ٥ : ١٣.

٢٨٢

التعصّب الأعمى كيف يُجيز لهؤلاء « العلماء » أن يخالفوا سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الشيعة تمسّكتْ بتلك السنن حتّى صارت شعاراً لهم ، ثمّ هم لا يتحرّجون من الاعتراف بذلك صراحة.

وأنا أقول : الحمد للّه الذي أظهر الحقّ لذي عينين ولكلّ مخلص يبحث عن الحقيقة ، الحمد للّه الذي أظهر لنا بأنّ الشيعة هُمُ الذين يتبعون سنّة رسول اللّه وذلك بشهادتكم أنْتُم! كما شهدتم على أنفسكم بأنّكم تركتُم سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمداً لتخالفوا بذلك أئمة أهل البيت وشيعتهم المخلصين ، واتبعتم سنّة معاوية بن أبي سفيان ، كما شهد بذلك الإمام الزمخشري عندما أثبت إن أوّل من تختّم باليسار خلاف السنّة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان (١).

واتبعتُم سنّة عمر في بدعته للتراويح خِلافاً للسنّةِ النبوية التي أمرت المسلمين بصلاة النافلة في بيوتهم فُرادى لا جماعة ، كما أثبت ذلك البخارىُ في صحيحه (٢) وكما اعترف عمر نفسه بأنّها بدعة ابتدعها مع أنّه لم يصلها لأنّه لا يؤمن بها.

فقد جاء في البخاري عن عبدالرحمن بن عبدالقارىّ أنّه قال :

__________________

١ ـ الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار ٤ : ٢٤.

٢ ـ صحيح البخاري ٧ : ٩٨ ، كتاب الأدب ، باب ٧٥ ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه عزّ وجلّ.

٢٨٣

خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناسُ أوزاع متفرّقون يصلّي الرجلُ لنفسه ، ويصلّي الرجلُ فيُصَلَّي بصلاته الرهطُ ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عَزمَ فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثمّ خرجتُ معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمرُ : نعم البدعةُ هذه ... (١).

ومن المستغرب عدّها نعمة بعد نهي الرسول عنها!! وذلك عندما رفعوا أصواتهم وَحَصّبوا بابَهُ ليصلّي بهم نافلة رمضان ، فخرج إليهم مغضباً فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« مازال بكم صنيعكم حتّى ظننتُ أنّه سيكتَبُ عليكم ، فعليكم في الصلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة » (٢).

كما اتّبعتم سنّة عثمان بن عفّان ، وهي إتمام صلاة السفر خلافاً لسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي صلاّها قصراً (٣).

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٢ : ٢٥٢ ، كتاب صلاة التراويح ، باب فضل ليلة القدر.

٢ ـ صحيح البخاري ٧ : ٩٨ ، كتاب الأدب ، باب ٧٥ ما يجوز من الغصب والشدة لأمر اللّه عزّ وجل.

٣ ـ صحيح البخاري ٢ : ٣٤ ، كتاب تقصير الصلاة ، باب الصلاة بمنى ، وفي الباب الخامس أيضاً من نفس الكتاب : « أنّ عائشة أتمت الصلاة في السفر كما أتمّها عثمان ، وقد خالفا بذلك سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

٢٨٤

ولو أردت أن أُحصي ما خالفتُم به سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستوجب ذلك كتاباً خاصّاً ، ولكن تكفي شهادتكم في ما أقررتم به على أنفسكم ، وتكفي شهادتكم أيضاً بإقراركم بأنّ الشيعة الروافض هم الذين اتّخذوا سنّة النبي شعاراً لهم.

أفبعد هذا يبقى دليل على قول الجهلة الذين يدّعون بأنّ الشيعة اتّبعوا علي بن أبي طالب ، أمّا أهل السنّة فإنّهم اتّبعوا رسول اللّه؟ أيريد هؤلاء أن يثبتوا بأنّ عليّاً خالفَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابتدع ديناً جديداً؟ كبُرت كلمة تخرجُ من أفواههم ، فعليّ هو محض السنّة النبوية ، وهو مفسّرُها والقائم عليها ، وقد قال فيه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« عليّ منّي بمنزلتي من ربّي » (١).

أي كما أنّ محمّداً هو الوحيد الذي يُبلّغُ عن ربّه ، فعلىٌ هو الوحيد الذي يبلّغ عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ ذنب عليّ هو إنّه لم يعترف بخلافة من قبله ، وذنبُ شيعته أنّهم اتّبعوه في ذلك ، فرفضوا أن

__________________

١ ـ المناقب للخوارزمي : ٢٩٧ ح ٢٩٢ ، ذخائر العقبى : ٦٤ ، وورد بلفظ : « عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني » ، وفي تاريخ بغداد ٧ : ١٣ ، والجامع الصغير ٢ : ١٧٧ ، وكنز العمال ١١ : ٦٠٣ ح ٣٢٩١٤ ، والصواعق المحرقة ٢ : ٣٦٦ ( في فضائل علي عليه‌السلام ).

٢٨٥

ينْضَوُوا تحت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولذلك سمّوهم « الروافض ».

فإذا أنكر هؤلاء السنّة على معتقدات الشيعة وأقوالهم فهو لسببين :

أوّلهما : العداء الذي أجج ناره حُكّام بني أُميّة بالأكاذيب والدعايات واختلاق الروايات المزوّرة.

وثانيهما : لأنّ معتقدات الشيعة تتنافى وما ذهبوا إليه من تأييد الخلفاء ، وتصحيح أخطائهم واجتهاداتهم مقابل النصوص ، خصوصاً حكّام بني أُميّة وعلى رأسهم معاوية ابن أبي سفيان.

ومن هنا يجد الباحث المتتبع أنّ الخلاف بين الشيعة وأهل السنّة نشأ يوم السقيفة وتفاقم ، وكلّ خلاف جاء بعده فهو عيالٌ عليه ، وأكبر دليل على ذلك أنّ العقائد التي يُشنّع أهل السنّة على إخوانهم من الشيعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الخلافة وتتفرّع منه ، كعدد الأئمة ، والنص على الإمام ، والعصمة ، وعلم الأئمة ، والبداء ، والتقية ، والمهدي المنتظر ، وغير ذلك.

ونحن إذا بحثنا في أقوال الطرفين مجرّدين من العاطفة ، فسوف لا نجد بُعداً شاسعاً بين معتقداتهم ، ولا نجدُ مُبرّراً لهذا التهويل وهذا التشنيع؛ لأنّك عندما تقرأ كتب السنّة الذين يشتمون الشيعة ، يخيّل

٢٨٦

إليك بأنّ الشيعة ناقضوا الإسلام ، وخالفوه في مبادئه وتشريعه ، وابتدعوا ديناً آخر! بينما يجد الباحث المنصف في كلّ عقائد الشيعة أصْلاً ثابتاً في القرآن والسنّة ، وحتّى في كتب من يُخالفهم في تلك العقائد ويُشنّع بِها عليهم.

ثمّ ليس هناك في تلك العقائد مايخالف العقل أو النقل أو الأخلاق ، وليتبَينّ لك أيها القارئ اللبيب صحّة ما أدّعيه سأستعرض معك تلك العقائد.

٢٨٧
٢٨٨

العصمة

يقول الشيعة : ونعتقدُ أنّ الإمام كالنّبي يجبُ أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، من سنّ الطفولة إلى الموت ، عمداً وسهواً.

كما يجبُ أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان؛ لأنّ الأئمة حفظة الشرع والقوّامين عليه ، حالهم في ذلك حال النبي ، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق (١).

نعم ، هذا كما نرى هو رأي الشيعة في موضوع العصمة ، فهل فيه ما ينافي القرآن والسنّة؟ أو مايقول العقل باستحالته؟ أو مايشين الإسلام ويُسيء إليه؟ أو ما يُنقصُ قدر النّبي أو الإمام؟

حاشا وكلاّ ، لم نجد في هذا القول إلاّ التأييد لكتاب اللّه وسنّة نبّيه ، وما يتماشى مع العقل السليم ولا يناقضه ، وما يرفع من قيمة

__________________

١ ـ عقائد الإمامية للمظفر : ٧٥ ( العقيدة رقم ٢٤ ).

٢٨٩

النبي والإمام ويشرّفه.

ولنبدأ بحثنا في استقراء القرآن الكريم.

قال تعالى : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أهْلَ البَـيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١).

فإذا كان إذهاب الرجس الذي يشمل كلّ الخبائث ، والتطهير من كلّ الذنوب لا يفيد العصمة ، فما هو المعنى إذن؟

يقول اللّه تعالى :

( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (٢).

فإذا كان المؤمن التقي يعصمه اللّه من مكايد الشيطان إذا حاول استفزازه وإضلاله ، فيتذكّر ويبصر الحقّ فيتّبعه ، فما بالك بمن اصطفاهم اللّه سبحانه وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً؟

ويقول تعالى : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٣) والذي يصطفيه اللّه سبحانه يكون بلا شكّ معصوماً من الخطأ ، وهذه الآية بالذات هي التي احتجّ بها الإمام الرضا من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على العلماء الذين جمعهم الخليفة العبّاسي المأمون ابن هارون

__________________

١ ـ الأحزاب : ٣٣.

٢ ـ الأعراف : ٢٠١.

٣ ـ فاطر : ٣٢.

٢٩٠

الرشيد ، وأثبت لهم بأنّهم ( أي أئمة أهل البيت ) هم المقصودون بهذه الآية ، وبأنّ اللّه اصطفاهم وأورثهم علم الكتاب ، واعترفوا له بذلك (١).

__________________

١ ـ راجع عيون أخبار الرضا عليه‌السلام للصدوق ٢ : ٢٠٨ ح ١ ، والأمالي : ٦١٥ ح ٨٤٣.

ولا يخفى أنّ كلمة الاصطفاء استعملت في القرآن بعدّة معاني :

منها : ما لا يدلّ على العصمة.

ومنها : ما يدلّ عليها.

فمن القسم الأوّل : قوله تعالى حكاية عن نبيّه في حقّ طالوت : ( إنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ) [ البقرة : ٢٤٧ ] ، فالاصطفاء هنا بمعنى الاختيار للملك ، والملك لا يحتاج العصمة ، بل يحتاج العلم والقوةّ ، أمّا العصمة فهي خاصّة بمن يريد إبلاغ شيء عن اللّه تعالى ، أمّا الملوك فهم حكّام وليسوا برسل ولا أنبياء ، والآية جاءت ردّاً لقول المعترضين حيث قالوا : ( أنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ ... ).

ومن القسم الثاني : أي الاصطفاء الدالّ على العصمة قوله تعالى : ( يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ... ) [ البقرة : ١٤٤ ] ، وقوله تعالى : ( إنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ) [ آل عمران : ٣٣ ] ، كما قد استدلّ الفخر الرازي في كتابه على عصمة الأنبياء ص ٣٠ بهذه الآيات على وجوب عصمة الأنبياء ، ثمّ قال : « لا يقال الاصطفاء لا يمنع من فعل الذنب ، بدليل قوله تعالى : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللّهِ ) قسّم المصطفين إلى الظالم والمقتصد والسابق ، لأنّا نقول الضمير في قوله : ( فَمِنْهُمْ ) عائد إلى قوله : ( مِنْ عِبَادِنَا ) لا إلى قوله : ( الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا ) ، لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب ».

وقال الطباطبائي في تفسير الميزان ١٧ : ٤٥ بعد ذكر الأقوال في الآية : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا

٢٩١

__________________

الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) قال : « وقيل : وهو المأثور عن الصادقين عليهما‌السلام في روايات كثيرة مستفيضة أنّ المراد بهم ذريةّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أولاد فاطمة عليها‌السلام ... وقد نصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على علمهم بالقرآن وإصابة نظرهم فيه وملازمتهم إياه بقوله في الحديث المتواتر المتفق عليه : إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، وعلى هذا فالمعنى : بعدما أوحينا إليك القرآن ـ ثم للتراخي الرتبي ـ أورثنا ذريتك إياه ، وهم الذين اصطفينا من عبادنا ... ».

والذي يؤيّد كون الآية بالتفسير الشيعي اضطراب أهل السنّة في تفسيرها؛ لأنّهم أرجعوا ضمير ( فمنهم ) إلى الوارثين ، ومن جانب آخر فسّر الظالم لنفسه بالكافر ، فيكون الكافر وارثاً للكتاب ، وهذا لا يمكن الأخذ به ، ولأجل ذلك قال القرطبي في تفسـيره بعد أن ذكره الآية : « فيه أربع مسائل : الأولية هذه الآية مشكلة؛ لأنه قال عزّ وجل : ( اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ثمّ قال : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) ، وقد تكلّم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ... قال النحاس : فمن أصـح ما روي في ذلك ؛ ما روي عن ابن عباس ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) قال : الكافر .. » الجامع لأحكام القرآن ١٤ : ٢٢١.

٢٩٢

هذه بعض الأمثلة ممّا جاء في القرآن الكريم ، وهناك آياتٌ أُخرى تفيد العصمة للأئمة كقوله : ( أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا ) (١) وغيرها ، ولكن نكتفي بهذا القدر روماً للاختصار دائماً.

وبعد القرآن الكريم فإليك ماورد في السنّة النبوية

قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أيّها الناس إنّي تارك فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا : كتَاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (٢).

وهو كما ترى صريحٌ بأنّ الأئمة من أهل البيت معصومون أوّلاً؛ لأنّ كتَاب اللّه معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو كلام اللّه ، ومن شكّ فيه كفر.

ثانياً : لأنّ المتمسّك بهما « الكتاب والعترة » يأمنُ من الضلالة ، فدلّ هذا الحديث على أنّ الكتاب والعترة لا يجوز فيهما الخطأ.

وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة

__________________

وبما أنّ الكافر لا يمكن أن يكون وارثاً للكتاب؛ لأنّه يجحده وينكره ، فلابدّ من أن تكون الوراثة لأناس مطهرّين مصطفين من اللّه سبحانه وتعالى ، وأُولئك هم أهل البيت عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبعد ما عرضنا من الإيضاح للآية المباركة ، يكون ما ذكره في كشف الجاني : ١٦٠ مجانباً للصواب وبعيداً عن الأُسس العلمية الرصينة.

١ ـ الأنبياء : ٧٣.

٢ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٢٩٣

نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (١).

وهو كما ترى صريح في أنّ الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام معصومون عن الخطأ ، ولذلك يأمل وينجوا كلّ من ركب سفينتهم ، وكلّ من تأخّر عن ركوب سفينتهم غرق في الضلالة.

وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أحَبّ أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة التي وعدني ربي ، وهي جنّة الخلد ، فليتولّ عليّاً وذريته من بعده ، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (٢).

وهو كما ترى صريح في أنّ الأئمة من أهل البيت ـ وهم عليّ وذريته ـ معصومون عن الخطأ؛ لأنّهم لن يُدخلوا الناس الذين يتّبعوهم في باب ضلالة ، ومن البديهي أنّ الذي يجوز عليه الخطأ لا يمكنُ له هداية الناس.

وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا المنذرُ وعلىٌّ الهادي ، وبك ياعليّ يهتدي المهتدون من بعدي » (٣).

__________________

١ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٢ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٣ ـ تفسير الطبري ١٣ : ١٤٢ في تفسير قوله تعالى : ( ولكلّ قوم هاد ) ، عنه فتح الباري ٨ : ٢٨٥ وقال : « أخرجه الطبري باسناد حسن » ، كنز العمال ١١ :

٢٩٤

وهذا الحديث هو الآخر صريح في عصمة الإمام ، كما لايخفى على أُولي الألباب.

والإمام عليّ نفسه أثبت العصمة لنفسه وللأئمة من ولده عندما قال : « فأين تذهبون وأنّى تؤفكون؟ والأعلام قائمةٌ والآياتُ واضحةٌ ، والمنار منصوبةٌ فأين يُتاه بكم ، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم ، وهم أئمة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألْسنةُ الصدق؟ فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش.

أيها الناس خذوها من خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يموت من ماتَ منّا وليس بميّت ، ويبلى من بلي منّا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون ، واعذروا من لا حجّة لكم عليه وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، وركزتُ فيكم راية الإيمان ... » (١).

__________________

٦٢٠ ح ٣٣٠١٢ عن الديلمي ، شواهد التنزيل للحسكاني ١ : ٣٨١ ، نظم درر السمطين : ٩٠ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٥٩ ، الدر المنثور للسيوطي ٤ : ٤٥ عن ابن جرير وابن مردويه وأبي نعيم والديلمي وابن عساكر وابن النجار ، وفي المستدرك ، باب فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن عليّ بلفظ : « رسول اللّه المنذر وأنا الهادي » وقال : « صحيح الاسناد ولم يخرجاه ».

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨٧.

وقد علّق الشيخ محمّد عبده في شرحه لهذه الخطبة بقوله : « إنّه يموت الميّت

٢٩٥

وبعد هذا البيان من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة ، وأقوال الإمام عليّ الدالة كلّها على عصمتهم سلام اللّه عليهم؛ هل يرفض العقلُ عصمة من يصطفيه اللّه سبحانه للهداية؟

والجواب : كلاَّ ، لا يرفض ذلك ، بل العكس ، العقل يقول بوجوب تلك العصمة؛ لأنّ من توكَلُ إليه مهمّة القيادة وهداية البشريّة لايمكنُ أن يكون إنساناً عادياً يعتريه الخطأ والنسيان ، وتُثقل ظهره الذنوب والأوزار ، فيكون عُرضة لانتقاص الناس ونقدهم ، بل العقل يفرض أن يكون أعلم الناس في زمانه وأعدلهم وأشجعهم وأتقاهم ، وهي صفاتٌ ترفَعُ من شأن القائد وتُعظّمه في أعين الناس ، وتجلب له احترام الجميع وتقديرهم ، وبالتالي طاعتهم له بدون تحفّظ ولاتملّق.

وإذا كان الأمر كذلك ، لماذا كلّ هذا التشنيع والتهويل على مَن يعتقد بذلك؟

ويخيّلُ إليك وأنت تسمع وتقرأ انتقاد أهل السنّة على موضوع العصمة بأنّ الشيعة هم الّذين يقلّدون وسام العصمة لمن أحبّوا ، أو أنّ القائل بالعصمة يكون مُنكراً وكفراً!! فلا هذا ولا ذاك ، إنّما العصمة عند الشيعة هي أن يكون المعصوم مُحاطاً بعناية إلهيّة ورعاية ربّانية ،

__________________

من أئمة أهل البيت وهو في الحقيقة غير ميت ، لبقاء روحه ساطعة النور في عالم الظهور ( المؤلّف ).

٢٩٦

فلا يتمكّن الشيطان من إغوائه ، ولا تتمكّن النفس الأمّارة بالسوء من التغلّب على عقله فتجرّه للمعصية ، وهذا الأمر لم يحرم اللّه منه عباده المتّقين كما تقدّم في آية ( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) (١).

وهذه العصمة الموقوتة لعباد اللّه في حالة معينّة ، قد تزول لفقد سببها ألا وهي التقوى ، فالعبد إذا كان بعيداً عن تقوى اللّه لا يعصمه اللّه ، أمّا الإمام الذي اصطفاه اللّه سبحانه فلا يحيد ولا يتزحزح عن التقوى وخشية اللّه سبحانه وتعالى.

وقد جاء في القرآن الحكيم حكاية عن سيّدنا يوسف عليه‌السلام : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ ) (٢).

ولأنّ سيّدنا يوسف لم يهم بالزنا ، كما فسّره بعض المفسّرين ، فحاشا أنبياء اللّه من هذا الفعل القبيح ، ولكنّه همّ بدفعها وضربها إذا اقتضت الحال ، ولكنّ اللّه سبحانه عصمه من ارتكاب مثل هذا الخطأ؛ لأنّه لو فعله لكان سبباً في اتهامه بالفاحشة ، وتكون حجّتها قويّة ضدّه ، فيلحقه منهم عند ذلك السوء.

__________________

١ ـ الأعراف : ٢٠١.

٢ ـ يوسف : ٢٤.

٢٩٧
٢٩٨

عدد الأئمة الاثني عشر

يقول الشيعة بأنّ عدد الأئمة المعصومين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو اثنا عشر إماماً ، لا يزيدون ولا ينقصون ، وقد ذكرهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسمائهم وعددهم (١) وهم :

١ ـ الإمام عليّ بن أبي طالب.

٢ ـ الإمام الحسن بن عليّ.

٣ ـ الإمام الحسين بن عليّ.

٤ ـ الإمام عليّ بن الحسين ( زين العابدين ).

٥ ـ الإمام محمّد بن علي ( الباقر ).

٦ ـ الإمام جعفر بن محمّد ( الصادق ).

٧ ـ الإمام موسى بن جعفر ( الكاظم ).

٨ ـ الإمام عليّ بن موسى ( الرضا ).

٩ ـ الإمام محمّد بن عليّ ( الجواد ).

__________________

١ ـ ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ٣ : ٢٨١.

٢٩٩

١٠ ـ الإمام عليّ بن محمّد ( الهادي ).

١١ ـ الإمام الحسن بن عليّ ( العسكري ).

١٢ ـ الإمام محمّد بن الحسن ( المهدي المنتظر ).

فهؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر الذين تقول الشيعة بعصمتهم ، حتّى لا ينطلي المكر على بعض المسلمين.

فالشيعة لا يعترفون قديماً ولا حديثاً بالعصمة إلاّ لهؤلاء الأئمة الذين سمّاهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يولَدوا بعدُ ، وقد أخرج بعض علماء السنّة أسماءهم كما مرّ علينا ، وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الأئمة بعددهم ، وهم اثنا عشر كلّهم من قريش (١).

وهذه الأحاديث لا تصحّ ولا تستقيم إلاّ إذا فسّرناها على أئمة أهل البيت الذين تقول بهم الشيعة الإمامية ، وأهل السنّة والجماعة هم المطالبونَ بحلّ هذا اللّغز ، إذْ إنّ عدد الأئمة الاثني عشر الذي أخرجوه في صحاحهم بقىَ حتّى الآن لُغزاً لا يجدون له جواباً.

__________________

١ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٣٠٠