لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

علم الأئمة

ومّما يشنّع به أهل السنّة والجماعة على الشيعة قولهم : بأنّ الأئمة من أهل البيت سلام اللّه عليهم قد خصّهم اللّه سبحانه بعلم لم يشاركهم فيه أحد من الناس ، ومن أنّ الإمام يكون أعلم أهل زمانه ، فلا يمكن أن يسأله أحد فيعجز عن الجواب!

فهل لهذا الادّعاء من دليل؟

ولنبدأ كما هي عادتنا في كلّ بحث بالقرآن الكريم.

يقول اللّه سبحانه وتعالى في محكم تنزيله : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَـفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (١) ، فالآية تدلّ دلالة واضحة بأنّ اللّه سبحانه اصطفى عباداً من بين الناس وأورثهم علم الكتاب ، فهل لنا أن نعرف هؤلاء العباد المصطفين؟

ذكرنا فيما تقدّم بأنّ الإمام الثامن من أئمة أهل البيت علي بن موسى الرضا استدلّ بنزول هذه الآية فيهم ، وذلك لّما جمع له

__________________

١ ـ فاطر : ٣٢.

٣٠١

المأمون أربعين قاضياً من مشاهير القُضاة ، وأعدّ له كلّ واحد منهم أربعين مسألة ، فأجاب عليها وأفحمهم وأقرُّوا له بالأعلمية.

وإذا كان هذا الإمامُ الثامن ، ولمّا يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً عندما وقعتْ هذه المحاورة بينه وبين الفقهاء الذين أقرّوا له بالأعلمية ، فكيف يستغربُ بعدها قول الشيعة بأعلميّتهم ، مادام أنّ علماء السنّة وأئمتهم يعترفون لهم بذلك؟!

أمّا إذا أردنا تفسير القرآن بالقرآن ، فسوف نجد العديد من الآيات ترمي إلى معنى واحد ، وتبيّن بأنّه سبحانه ولحكمة بالغة اختصّ الأئمة من أهل البيت النبوي بعلم من لَدُنْه موهوب حتّى يكونوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى.

قال تعالى : ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلا اُوْلُوا الألْبَابِ ) (١).

وقال أيضاً : ( فَلا اُقْسِمُ بِمَوَاقِـعِ النُّجُومِ * وَإنَّهُ لَـقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَـقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْـنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرُونَ ) (٢).

أقسمَ سبحانه في هذه الآية بقسم عظيم بأنّ القرآن الكريم له

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٩.

٢ ـ الواقعة : ٧٥ ـ ٧٩.

٣٠٢

أسرار ومعان باطنة مكنونة ، لا يدرك معانيها وحقائقها إلاّ المطهّرون ، وهم أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجْس وطهّرهم تطهيراً.

دلّت الآية أيضاً على أنّ للقرآن باطناً اختصّ اللّه سبحانه به أئمة أهل البيت ، ولا يمكن لغيرهم معرفتها إلاّ عن طريقهم.

ولذلك أشار رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الحقيقة فقال :

« لا تتقدموهم فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » (١).

وكما قال الإمام عليّ نفسه : « أين الذين زعموا أنّهم الراسخون بالعلم دوننا كذباً وبغياً علينا أن رفعنا اللّه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يُستعطى الهدى ، ويُستجلى العمى ... إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (٢).

وقال تعالى : ( فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٣) وهذه الآية نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام (٤).

__________________

١ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٤٣.

٣ ـ النحل : ٤٣.

٤ ـ مضى تخريجه فيما تقدّم.

٣٠٣

وتفيد بأنّ الأُمّة لابدّ لها بعد فقد نبيّها أن ترجع إلى الأئمة من أهل البيت لمعرفة الحقائق ، وقد رجع الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم إلى الإمام عليّ بن أبي طالب ليبيّن لهم ما أشكل عليهم ، كما رجع الناس على مرّ السنين إلى الأئمة من أهل البيت لمعرفة الحلال والحرام ، ولينْهلوا من معارفهم وعلومهم وأخلاقهم.

وإذا كان أبو حنيفة يقول : « لولا السنتان لهلك النعمان » (١) يقصد بذلك العامين الذين قضاهما في التعلّم من الإمام جعفر الصادق.

وإذا كان الإمام مالك بن أنس يقول : « مارأتْ عينٌ ، ولا سمعتْ أذنٌ ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً

__________________

١ ـ اعترف الدهلوي بأنّ علماء أهل السنّة ورؤساءهم كالزهري وأبي حنيفة ومالك تتلمذوا على أئمة أهل البيت عليهم‌السلام التحفة الاثني عشرية : ٩٣ و ٤٦٧ ، ومختصرها للآلوسي : ٣٤ و ١٩٣.

وجاء في مختصر التحفة الاثني عشرية للآلوسي : « وهذا أبو حنيفة ... كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : لولا السنتان لهلك النعمان ، يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق ، وقال غير واحد إنّه أخذ العلم والطريقة من هذا ومن أبيه الإمام محمّد الباقر ... » التحفة الاثني عشرية : ١٤٣ ، ومختصرها : ٨.

واعترف محمّد أبو زهرة بأنّ أئمة السنّة الذين عاصروا الإمام الصادق عليه‌السلام أخذوا عنه ، كمالك وأبي حنيفة انظر : الإمام الصادق لأبي زهرة : ٥٣.

٣٠٤

وعبادة وورعاً » (١).

إذا كان الأمر كذلك باعتراف أهل السنّة والجماعة ، فلماذا كلّ هذا

__________________

١ ـ هذا النصّ في المناقب لابن شهرآشوب ٣ : ٣٧٢ ، وجاء في كتاب التوسّل والوسيلة لابن تيمية ص : ٩٢ بلفظ : « ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على ثلاث خصال : إمّا مصلياً وإما صامتاً وإما يقرأ القرآن ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه ، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون اللّه » ، ونحوه في تهذيب التهذيب لابن حجر ٢ : ١٠٤.

ومن الملاحظ أنّ علماء الرجال يفرّقون بين العابد الزاهد التقي وبين الثقة الضبط أو الصدوق ، فلا يوجد تلازم بين أن يكون الشخص زاهداً عابداً تقياً وأن يكون ثقة يروى عنه ، فقد يكون زاهداً وعابداً لكن لا يروى عنه لعدم كونه ثقة أو غير ضابط أو غير ذلك ، وقد يكون ثقة وليس زاهداً عابداً تقياً ، ولهذان الأمران أمثلة كثيرة في كتب الرجال ، والرجالي عمله الأولي أن يكون الراوي ثقة ولا ربط له بأمر آخر.

بعد هذا الإيضاح نرجع إلى ما ذكره في كشف الجاني : ١٦١ ، حيث إنّ المؤلّف ذكر عبارة عن الإمام مالك فيها شهادة بتقواه وزهده وعبادته ، بينما عثمان الخميس ردّ على المؤلّف بأنّ مالكاً لم يرو عن الصادق عليه‌السلام منفرداً بل يضم إليه شخص آخر ، وهذا لا ربط له بكلام المؤلّف كما أوضحناه ، لأنّ الزهد والتقوى شيء والثقة والضبط في الرواية شيء آخر ، فعدم رواية الإمام مالك عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام منفرداً ـ إن صح ـ لا ينافي مدح مالك للإمام الصادق وكونه زاهداً عابداً ورعاً أو غير ذلك ، وهذا الكلام الذي ذكره في كشف الجاني ناشئ من قلّة الاطلاع على فنّ علم الحديث ومعرفة قوانينه.

٣٠٥

التشنيع وهذا الاستنكار بعد هذه الأدلّة ، وبعدما أثبت تاريخ المسلمين كافّة بأنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كانوا أعلم أهل زمانهم ، فأيّ غرابة في أن يخصّ اللّه سبحانه وتعالى أولياءه « الذين اصطفاهم » بالحكمة والعلم اللدنّي ، ويجعلهم قدوة المؤمنين وأئمة المسلمين.

ولو تتبّع المسلمون أدلّة بعضهم بعضاً لأقتنعوا بقول اللّه ورسوله ، ولكانوا أُمةً واحدة يشدّ بعضها بعضاً ، ولم يكن هناك اختلاف ولا مذاهب متعدّدة!

ولكم لابدّ من كلّ ذلك ليقضي اللّه أمراً كان مفعولا : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة وَإنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١).

__________________

١ ـ الأنفال : ٤٢.

٣٠٦

البداء

وهو أن يبدو له شيء في أمر مَا يريد فعله ، ثمّ يتغيّر رأيه في ذلك الشيء ، فيفعل فيه غير ما عزم على فعله سابقاً.

وأمّا قول الشيعة بالبداء ونسبته إلى اللّه تعالى ، والتشنيع عليهم بأنّه يستوجب نسبة الجهل والنقص إلى اللّه سبحانه وتعالى ، كما يريد أهل السنّة والجماعة حمله على هذا المعنى ، فهذا التفسير باطل ولا تقول به الشيعة أبداً ، ومن ينسب ذلك إليهم فقد افترى عليهم ، وهذه أقوالهم قديماً وحديثاً تشهد لهم.

قال الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الإمامية : »والبداء بهذا المعنى يستحيل على اللّه تعالى؛ لأنّه من الجهل والنقص ، وكذلك محالٌ عليه تعالى ولا تقول به الإمامية.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من زعم أنّ اللّه تعالى بدا لَهُ في شيء بداء ندامة ، فهو عندنا كافر باللّه العظيم » ، وقال أيضاً : « من زعم أنّ اللّه بدا لَهُ في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه » (١).

__________________

١ ـ عقائد الإمامية : ٤٠ ، والنصوص في كمال الدين للصدوق : ٦٩ ـ ٧٠.

٣٠٧

إذاً فالبداء الذي تقول به الشيعة لا يتعدّى حدود القرآن في قوله سبحانه وتعالى : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتَابِ ) (١).

وهذا القول يقول به أهل السنّة والجماعة كما يقول به الشيعة ، فلماذا يشنّع على الشيعة ولا يشنّع على أهل السنّة والجماعة القائلين بأنّ اللّه سبحانه يُبدّل الأحكام ويُغيّر الآجال والأرزاق.

فقد أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ ( رضي الله عنه ) أنّه سأل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الآية : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الكِتَابِ )؟ فقال له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لأقرنّ عينيك بتفسيرها ، ولأقرنّ عين أُمّتي بعدي بتفسيرها ، الصدقة على وجهها ، وبِرّ الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء » (٢).

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن قيس ابن عباد ( رضي الله عنه ) قال : للّه أمرٌ في كلّ ليلة العاشر من أشهر الحرم ، أمّا العاشر من رجب ففيه يمحو اللّه ما يشاء ويثبت (٣).

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عمر بن

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ٤ : ٦٦.

٣ ـ المصدر نفسه.

٣٠٨

الخطاب أنّه قال وهو يطوف بالبيت : اللّهم إن كنتَ كتبت علىَّ شقاوةً أو ذنباً فامحه ، فإنّك تمحو ماتشاء وتثبت ، وعندك أُمّ الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة (١).

وأخرج البخاري في صحيحه قصّة عجيبة وغريبة تحكي معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقاءه مع ربّه ، وفيها يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ثُمَ فُرضتْ علىَّ خمسون صلاة فأقبلتُ حتّى جئتُ موسى ، فقال : ماصنعتَ؟ قُلتُ : فُرضتْ علىَّ خمسون صلاة. قال : أنا أعلم بالناس منك عَالجتُ بني إسرائيل أشدّ المعالجة وإنّ أمّتك لا تطيق ، فارجع إلى ربّك فسلْهُ ، فرجعتُ فسألتُه فجعلها أربعين ، ثمّ مثله ، ثم ثلاثين ، ثمّ مثله فجعل عشرين ، ثمّ مثله فجعل عشراً ، فأتيتُ موسى فقال مثله ، فجعلها خمساً ، فأتيت موسى فقال : ماصنعتَ؟ قلتُ : جعلها خمساً ، فقال مثله ، قلتُ : فَسلّمتُ فنودىَ أنّي قد أمضيتُ فريضتي وخَففّتُ عن عبادي وأجزي الحسنة عشراً » (٢).

وفي رواية أُخرى نقلها البخاري أيضاً ، وبعد مراجعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ صحيح البخاري ٤ : ٧٨ ، كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة ، وكتاب مناقب الأنصار ، باب المعراج.

صحيح مسلم ١ : ١٠٤ ، كتاب الايمان ، باب الإسراء برسول اللّه وفرض الصلوات.

٣٠٩

ربّه عديد المرّات ، وبعد فرض الخمس صلوات ، طلب موسى عليه‌السلام من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُراجع ربّه للتخفيف؛ لأنّ أُمّته لا تطيق حَتّى خمس صلوات ، ولكن محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجابه : « قد استحييت من رَبّي » (١).

نعم ، اقرأ واعجب من هذه العقائد التي يقول بها رواة أهل السنّة والجماعة! ومع ذلك فهم يشنّعون على الشيعة أتباع أئمة أهل البيت في القول بالبداء.

وهم في هذه القصّة يعتقدون بأنّ اللّه سبحانه فرض على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسين صلاة ، ثمّ بدا له بعد مراجعة محمّد إيّاه أن جعلها أربعين ، ثمّ بدا له بعد مراجعة ثانية أن جعلها ثلاثين ، ثمّ بدا له بعد مراجعة ثالثة أن جعلها عشرين ، ثمّ بدا له بعد مراجعة رابعة أن جعلها عشراً ، ثمّ بدا له بعد مراجعة خامسة أن جعلها خمساً.

وبغضّ النظر عن قبولنا بهذه الرواية وعدمه ، فإنّ القول بالبداء عقيدة سليمة تتماشى ومفاهيم الدين الإسلامي وروح القرآن : ( إنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ ) (٢).

ولولا اعتقادنا ـ سنّة وشيعة ـ بأنّ اللّه سبحانه يبدّلُ ويُغيّر ، لما كان لصلاتنا ودعائنا من فائدة ولا تعليل ولا تفسير ، كما أنّنا نؤمن

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ الرعد : ١١.

٣١٠

جميعاً بأنّ اللّه سبحانه يبدّل الأحكام ، وينسخ الشرائع من نبي لآخر ، بل وحتى في شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك ناسخ ومنسوخ ، فالقول بالبداء ليس كفراً ولا خروجاً على الدين ، وليس لأهل السنّة أن يشنّعوا على الشيعة من أجل هذا الاعتقاد ، كما أنّه ليس للشيعة أن يشنّعوا على أهل السنّة أيضاً.

والحقيقة أنّي أرى رواية المعراج هذه مستوجبة لنسبة الجهل إلى اللّه عزّ وجلّ ، وموجبة لانتقاص شخصية أعظم إنسان عرفه تاريخ البشرية ، وهو نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ تقول الرواية بأنّ موسى قال لمحمّد : أنا أعلم بالناس منك ، وتجعل هذه الرواية الفضل والمزيّة لموسى الذي لولاه لما خفّف اللّه عن أُمّة محمّد.

ولستُ أدري كيف يعلمُ موسى بأنّ أُمّة محمّد لا تطيق حتى خمس صلوات ، في حين أنّ اللّه لا يعلمُ ذلك ويكلّف عباده بما لا يطيقون ، فيفرض عليهم خمسين صلاة؟!

وهل تتصوّر معي أخي القارئ كيف تكون خمسين صلاة في اليوم الواحد ، فلا شغل ولا عمل ، ولا دراسة ولا طلب رزق ولا سعي ولا مسؤولية ، فيصبح الإنسان كالملائكة مكلّف بالصلاة والعبادة ، وما عليك إلاّ بعملية حسابية بسيطة لتعرف كذب الرواية ، فإذا ضربت عشر دقائق ـ وهو الوقت المعقول لأداء فريضة واحدة

٣١١

للصلاة جماعة ـ في الخمسين فسيكون الوقت المفروض بمقدار عشر ساعات ، وما عليك إلاّ بالصبر ، أو أنّك ترفض هذا الدين الذي يكلّف أتباعه فوق ما يتحمّلون ، ويفرض عليهم ما لا يطيقون.

فإذا كان أهل السنّة والجماعة يشنّعون على الشيعة قولهم بالبداء ، وأنّ اللّه سبحانه وتعالى يبدو له فيغيّر ويبدّل كيف شاء ، فلماذا لا يشنّعون على أنفسهم في قولهم بأنّ اللّه سبحانه يبدوا له ، فيغيّر ويبدّل الحكم خمس مرّات في فريضة واحدة وفي ليلة واحدة وهي ليلة المعراج؟

لعن اللّه التعصّب الأعمى والعناد المقيت الذي يغطّي الحقائق ويقلبها ظهراً على عقب ، فيتحامل المتعصّب على مَن يخالفه في الرأي ، وينكر عليه الأُمور الواضحة ، ويقوم بالتشنيع عليه وبثّ الإشاعات ضدّه ، والتهويل في أبسط القضايا ، التي يقول هو بأكثر منها.

وهذا يذكّرني بما قاله سيّدنا عيسى عليه‌السلام لليهود عندما قال لهم :

« أنتم تنظرون إلى التبنةِ في أعين الناس. ولا تنظرون إلى الخشبة في أعينكم ».

وبالمثل القائل : « رمتني بدائها وانسلّت ».

ولعلّ البعض يعترض بأنّه لم يرد لفظ البداء عند أهل السنّة ، وبأنّ

٣١٢

هذه القصّة وإن كان معناها التغيير والتبديل في الحكم ولكن لا تقطع بأنّه بدا للّه فيها.

وأقول هذا لأنّه كثيراً ما كنتُ أستعرض قصّة المعراج للاستدلال بها على القول بالبداء عند أهل السنّة ، فأعترض علىّ بعضُهم بهذا الرأي ، ولكنّهم سلّموا بعدها عندما أوقفتهم على رواية أُخرى من صحيح البخاري تذكر البداء بلفظة صراحة لا لبس فيها.

فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا للّه أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص ، فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ فقال : لون حسن وجلد حسن ، قد قذرني الناس ، فمسحه فذهب عنه ، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، ثمّ قال له : أيّ المال أحبّ إليك؟ فقال : الإبل ، فأُعطي ناقة عشراء.

وأتى الأقرع فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهبُ عني هذا ، قد قذرني الناس ، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً ، ثمّ قال له : أيّ المال أحبّ إليك؟ فقال : البقر ، فأعطاه بقرة حاملاً.

وأتى الأعمى فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : يرد اللّه بصري ، فمسحه فردّ اللّه إليه بصره ، قال : فأيّ المال أحب إليك؟ قال : الغنم ،

٣١٣

فأعطاه شاة ولوداً ...

ثمّ رجع الملك بعدَ أن تكاثرت عند هؤلاء الإبل والبقر والغنم حتّى أصبح يملك كلّ منهم قطيعاً ، فأتى الأبرص والأقرع والأعمى كلّ على صورته ، وطلب من كلّ واحد منهم أن يعطيه ممّا عنده ، فردّه الأقرع والأبرص ، فأرجعهما اللّه إلى ماكانا عليه ، وأعطاه الأعمى فزاده اللّه وأبقاه مبصراً » (١).

ولهذا أقول لأخواني قول اللّه تعالى :

( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْم عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاء عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أنفُسَكُمْ وَلا تَـنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَـعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَـتُبْ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢).

كما أتمنّى من كلّ قلبي أن يثوب المسلمون إلى رشدهم وينبذُوا التعصّب ويتركوا العاطفة؛ ليحلّ العقلُ محلّها في كلّ بحث حتى مع أعدائهم ، وليتعلّموا من القرآن الكريم أُسلوب البحث والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن ، فقد أوحى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنْ يقول

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٤ : ١٤٦ ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع صحيح مسلم ٨ : ٢١٣ ، كتاب الزهد والرقائق.

٢ ـ الحجرات : ١١.

٣١٤

للمعاندين ( وَإنَّا أوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أوْ فِي ضَلال مُبِين ) (١) ، فرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع من قيمة هؤلاء المشركين ، ويتنازل هو ليعطيهم النصف حتّى يُدلوا ببرهانهم وأدلّتهم إن كانوا صادقين ، فأين نحن من هذا الخلق العظيم.

__________________

١ ـ سبأ : ٢٤.

٣١٥
٣١٦

التقية

وكما قدّمنا بالنسبة إلى القول بالبداء ، فإنّ التقيّة هي أيضاً من الأُمور المستنكرة عند أهل السنّة والجماعة ، وهم ينبزون بها إخوانهم الشيعة ، ويعتبرونهم منافقين إذ يظهرون ما لا يبطنون!!

وكثيراً ماحاورْتُ البعض منهم وحاولتُ إقناعهم بأنّ التقّية ليست نفاقاً ، ولكنّهم لم يقتنعوا بل إنك تجد السامع لهذا يشمئزّ أحياناً ، ويتعجّب أحياناً أُخرى ، وهو يظنّ أنّ هذه العقائد مبتدعة في الإسلام ، وكأنّها من مختلقات الشيعة وبدعهم.

ولكن إذا بحث الباحث وأنصف المنصف سيجد أنّ هذه العقائد كلَّها من صلب الإسلام ، وهي وليدة القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة ، بل لا تستقيم المفاهيم الإسلامية السمحاء ، والشريعة القويمة إلاّ بها.

والأمر العجيب في أهل السنّة والجماعة ، أنّهم يستنكرون عقائد يقولون بها ، وكتبهم وصحاحهم ومسانيدهم مليئة بذلك وتشهد عليهم.

فاقرأ معي مايقوله أهل السنّة والجماعة في مسألة التقيّة :

٣١٧

أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (١) قال : التقيّة باللسان ، من حمل على أمر يتكلّم به وهو معصية للّه فيتكلّم به مخاف الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإنّ ذلك لا يضرّه ، إنما التقيّة باللسان (٢).

وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) قال : التقاة هي التكلّم باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان (٣).

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : التقيّة جائزة إلى يوم القيامة (٤).

وأخرج عبد بن أبي رجاء إنّه كان يقرأ : ( إلا أنْ تتّقوا منهم تقيّةً ) (٥).

__________________

١ ـ آل عمران : ٢٨.

٢ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي ٢ : ١٦ ، وتفسير الطبري ٣ : ٣١٠.

٣ ـ السنن الكبرى للبيهقي ٨ : ٢٠٩ ، المستدرك للحاكم ٢ : ٢٩١ ، تفسير الطبري ٣ : ٣١٠ ، الدر المنثور ٢ : ١٦.

٤ ـ الدر المنثور لجلال الدين السيوطي ٢ : ١٦.

٥ ـ المصدر السابق.

٣١٨

وأخرج عبدالرزاق ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وصحّحه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في الدلائل ، قال : أخذ المشركون عمّار بن ياسر فلم يتركوه حتّى سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر آلهتم بخير ثمّ تركوه ، فلمّا أتى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ماوراءك شيء؟ قال : شرّ ، ما تركتُ حتّى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنّ بالإيمان ، قال : إن عادوا فعد ، فنزلتْ ( إلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) (١).

وأخرج ابن سعد عن محمّد بن سيرين : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي عمّاراً وهو يبكي ، فجعل يمسحُ عن عينيه ويقول : « أخذك الكفّار فغطّوك في الماء فقلتَ كذا وكذا ، فإن عادوا فقل لهم ذلك » (٢).

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طريق علي ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( من كفر باللّه ... ) الآية ، قال : أخبر اللّه سبحانه : أنّ من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليه غضَبٌ من اللّه وله عذاب عظيم ، فأمّا من أكره فتكلّم بلسانه وخالفه قلبهُ بالإيمان لينجُوا بذلك من عدوّه فلا حرج عليه؛ لأنّ اللّه

__________________

١ ـ سورة النحل : ١٠٦ ، والنصّ في الدر المنثور ٤ : ١٣٢ ، المستدرك للحاكم ٢ : ٣٥٧ ، وسنن البيهقي ٨ : ٢٠٨.

٢ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ : ٢٤٩ ، الدر المنثور ٤ : ١٣٢ ، سير أعلام النبلاء ١ : ٤١١.

٣١٩

سبحانه إنمّا يؤاخذ العباد بما عقدتْ عليه قُلوبهم (١).

وأخرج أبن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزلتْ هذه الآيه في أُناس من أهل مكّة آمنوا ، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة : أن هاجروا فإنّا لا نرى أنكم منّا حتّى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم ، فكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية : ( إلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) (٢).

وأخرج البخاري في صحيحه في باب المداراة مع الناس ، ويذكر عن أبي الدرداء قال : « إنّا لنُكشّر في وجوه أقوام وأن قلوبنا لتلعَنُهم » (٣).

وأخرج الحلبي في سيرته قال : لمّا فتح رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة خيبر ، قال له حجاج بن علاط : يارسول اللّه إن لي بمكّة مالاً ، وإن لي بها أهلاً ، وأنا أُريد أن آتيهم فأنا في حلّ إن أنا نلتُ منكَ ، وقلتُ شيئا؟ فأذن له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول مايشاء (٤).

__________________

١ ـ الدر المنثور ٤ : ١٣٢ ، تفسير الطبري ١٤ : ٢٣٨ ، سنن البيهقي ٨ : ٢٠٩.

٢ ـ الدرّ المنثور ٤ : ١٣٢ ، تفسير القرطبي ١٠ : ١٨١.

٣ ـ صحيح البخاري ٧ : ١٠٢ ، كتاب الأدب ، باب ٨٣ المداراة مع الناس.

٤ ـ السيرة الحلبية ٣ : ٧٦ ، مسند أحمد ٣ : ١٣٨ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٥ : ٤٦٦ ح ٩٧٧١ ، السنن للنسائي ٥ : ١٩٤ ح ٨٦٤٦.

٣٢٠