لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

__________________

وقدرته وإرادته ، وأنّ الخلق ليس لهم فيها إلاّ نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأنّ ذلك كلّه إنّما حصل بتيسير اللّه وبقدرة اللّه والهامه ... » هدي الساري ١٤ : ٣ ( كتاب القدر ).

ب ـ وقال في البحر الرائق ٨ : ٣٣١ : « وقال ( صاحب الحاوي ) : قال الشيخ الإمام أبو بكر محمّد بن أحمد القاضي : إنّ اللّه تعالى خلق أفعال العباد وأفعالهم بقضاء اللّه تعالى ومشيئته ».

جـ ـ وقال ابن حزم في المحلى ١ : ٣٧ : « مسألة : وجميع أفعال العباد خيرها وشرها كل ذلك مخلوقة ، خلقه اللّه عزّ وجلّ ».

د ـ وقال البيهقي : « ... فثبت أنّ الأفعال كلّها خيرها وشرها صادرة عن خلقه وإحداثه إياها .. » الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد : ٢٤٥.

وغيرها من الكلمات الكثيرة التي تنصّ على أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد ، بل نجد ابن أبي العزّ نفسه يصرّح بذلك ، وإن حاول عثمان الخميس نقل عبارته مبتورة حتى لا تنكشف حقيقة عقيدته.

قال ابن أبي العزّ الدمشقي : « وقال أهل الحقّ : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة ، وهي مخلوقة للّه تعالى ، والحقّ سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه » شرح العقيدة الطحاوية ٢ : ٦٤٠.

وعبارة ابن تيمية التي نقلها صاحب كتاب كشف الجاني متناقضة في نفسها ، لأنّ العباد إذا كانوا فاعلين حقيقة فكيف يكون اللّه الخالق لأفعالهم ، وإذا كان اللّه هو الخالق لأفعالهم ، فما معنى أنّ اللّه خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم ، إذ لا معنى لخلق القدرة والإرادة بعد أن كان خالقاً لأفعالهم؟!

والنتيجة : إنّ عقيدة أهل السنّة مضطربة في القضاء والقدر ، والروايات التي

٢٤١

يبعث إلى الجنين في بطن أُمّه ملكين من الملائكة فيكتبان أجله ورزقه وعمله ، وإن كان شقّياً أو سعيداً (١) ، وبين ما يمليه عقلي وضميري ، من عدالة اللّه سبحانه وتعالى وعدم ظلمه لمخلوقاته ، إذ كيف يجبرهم على أفعال ثمّ يحاسبهم عليها ، ويعذّبهم من أجل جرم كتبه هو عليهم وأجبرهم عليه.

فكنت كغيري من شباب المسلمين أعيش تلك التناقضات الفكرية في تصويري بأنّ اللّه سبحانه هو القويّ الجبار الذي لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون (٢) ، وهو فعال لما يريد (٣) ، وقد خلق الخلق وجعل قسماً منهم في الجنة وقسماً آخر في الجحيم ، ثمّ هو رحمن رحيم بعباده لا يظلم مثقال ذرة ( وَمَا رَبُّكَ بِظَـلام لِلْعَبِيدِ ) (٤) ـ ( إنَّ

__________________

رووها وكلمات علمائهم تنصّ على أنّ الإنسان مسيّر في خلقه وأفعاله وليس مخيّراً.

وما ذكره المؤلّف من لغزية موضوع القضاء والقدر عند أهل السنة صحيح لا غبار عليه ولا مجال للطعن عليه بالافك والافتراء والتزوير.

١ ـ صحيح البخاري ٦ : ٥٣ ، كتاب التوحيد ، باب قوله تعالى : ( وَلَـقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ ) ).

٢ ـ الأنبياء : ٢٣.

٣ ـ البروج : ١٦.

٤ ـ فصلت : ٤٦.

٢٤٢

اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) ، ثمّ هو أحنّ عليهم من المرأة على ولدها ، كما جاء ذلك في الحديث الشريف (٢).

وكثيراً مايتراءى هذا التناقض في فهمي لآيات القرآن الكريم ، فمرّة أفهم بأنّ الإنسان على نفسه بصيرة ، وهو المسؤول الوحيد عن أعماله : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ) (٣).

ومرّة أفهم بأنّه مسيّر وليس له حول ولا قوّة ، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا رزقاً ( وَمَا تَشَاؤُونَ إلاّ أنْ يَشَاءَ اللّهُ ) (٤) ، ( فَإنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (٥).

نعم ، لستّ وحدي بل أغلب المسلمين يعيش هذه التناقضات الفكرية ، ولذلك تجد أغلب الشيوخ والعلماء إذا ما سألتهم عن موضوع القضاء والقدر لا يجدون جواباً يقنعون به أنفسهم قبل إقناع

__________________

١ ـ يونس : ٤٤.

٢ ـ صحيح البخاري ٧ : ٧٥ ، كتاب الأدب ، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته ، الحديث السادس.

٣ ـ الزلزلة : ٧ ـ ٨.

٤ ـ الإنسان : ٣٠.

٥ ـ فاطر : ٨.

٢٤٣

غيرهم ، فيقولون : هذا موضوع لا يجب الخوض فيه ، وبعضهم يحرّم الخوض فيه ويقول : يجب على المسلم أن يؤمن بالقضاء والقدر خيره وشرّه ، وأنّه من عند اللّه.

وإذا ماسألهم معاند : كيف يجبر اللّه عبده على ارتكاب جريمة ثمّ يزجّ به في نار جهنم؟ اتهموه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين إلى غير ذلك من التهم الباردة.

فجمدت العقول وتحجرت ، وأصبح الإيمان بأنّ الزواج بالمكتوب ، والطلاق بالمكتوب ، وحتى الزنا فهو مكتوب ، إذ يقولون : مكتوب على كلّ فرج اسم ناكحه ، وكذلك شرب الخمر ، وقتل النفس ، وحتى الأكل والشرب ، فلا تأكل ولا تشرب إلاّ ما كتب اللّه لك!

قلت لبعض علمائنا بعد استعراض كلّ هذه المسائل : إنّ القرآن يكذّب هذه المزاعم ، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) (١) فهذا يدلّ على حريّة الاختيار.

وفي شأن الطلاق : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان ) (٢) وهو أيضاً اختيار.

__________________

١ ـ النساء : ٣.

٢ ـ البقرة : ٢٢٩.

٢٤٤

وفي الزنا قال : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ) (١) ، وهو أيضاً دليل الاختيار.

وفي الخمر قال : ( إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنتَهُونَ ) (٢) وهي أيضاً تنهى بمعنى الاختيار.

أما قتل النفس فقد قال فيها : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ ) (٣) وقال : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (٤) ، فهذه أيضاً تفيد الاختيار في القتل.

وحتى بخصوص الأكل والشرب ، فقد رسم لنا حدوداً فقال : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) (٥) ، فهذه أيضاً بالاختيار.

فكيف ياسيّدي بعد هذه الأدلّة القرآنية بأنّ كلّ شيء من اللّه ، والعبد مسيّر في كلّ أفعاله؟

__________________

١ ـ الإسراء : ٣٢.

٢ ـ المائدة : ٩١.

٣ ـ الأنعام : ١٥١.

٤ ـ النساء : ٩٣.

٥ ـ الأعراف : ٣١.

٢٤٥

أجابني : بأنّ اللّه سبحانه هو وحده الذي يتصرّف في الكون ، واستدلّ بقوله : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (١).

قلت : لا خلاف بيننا في مشيئة اللّه سبحانه ، وإذا شاء اللّه أن يفعل شيئاً فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته ، وإنّما اختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم أم من اللّه؟

أجابني : لكم دينكم ولي ديني ، وأغلق باب النقاش بذلك.

هذه هي في أغلب الأحيان حجّة علمائنا ، وأذكر أنّي رجعت إليه بعد يومين وقلت له : إذا كان اعتقادك أنّ اللّه هو الذي يفعل كلّ شيء وليس للعباد أن يختاروا أيّ شيء ، فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول ، وإنّ اللّه سبحانه هو الذي يخلق مايشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؟

فقال : نعم أقول بذلك؛ لأنّ اللّه هو الذي اختار أبا بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ عليّ ، ولو شاء اللّه أن يكون علي هو الخليفة الأوّل ما كان الجنّ والإنس بقادرين على منع ذلك.

قلت : الآن وقعت؟

__________________

١ ـ آل عمران : ٢٦.

٢٤٦

قال : كيف وقعت؟

قلت : إمّا أن تقول بأنّ اللّه اختار الخلفاء الراشدين الأربعة ، ثم بعد ذلك ترك الأمر للناس يختارون من شاؤوا. وإمّا أن تقول بأنّ اللّه لم يترك للناس الاختيار ، وإنّما يختار هو كلّ الخلفاء من وفاة الرسول إلى قيام الساعة؟

أجاب : أقول بالثاني ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ... ).

قلت : إذاً فكلّ انحراف وكلّ ضلالة وكلّ جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأُمراء فهي من اللّه؛ لأنه هو الذي أمّر هؤلاء على رقاب المسلمين؟

أجاب : وهو كذلك ، ومن الصالحين من قرأ : ( وَإذَا أرَدْنَا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) (١) أي جعلناهم أمراء.

قلت متعجّباً : إذاً فقتل عليّ على يد ابن ملجم وقتل الحسين بن عليّ أراده اللّه؟

فقال منتصراً : نعم طبعاً ، ألم تسمع قول الرسول لعليّ : « أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتلّ هذه » ، وأشار إلى رأسه ولحيته كرم اللّه وجهه.

__________________

١ ـ الإسراء : ١٦.

٢٤٧

وكذلك سيّدنا الحسين قد علم رسول اللّه بمقتله في كربلاء وحدّث أُمّ سلمة بذلك ، كما علم بأنّ سيّدنا الحسن سيصلح اللّه به فرقتين عظيمتين من المسلمين ، فكلّ شيء مسطر ومكتوب في الأزل وليس للإنسان مفرّ ، وبهذا أنت الذي وقعت لا أنا.

سكتُّ قليلاً أنظر إليه وهو مزهو بهذا الكلام ، وظنّ أنّه أفحمني بالدليل؛ كيف لي أن أقنعه بأنّ علم اللّه بالشيء لا يفيد حتماً بأنّه هو الذي قدّره وأجبر الناس عليه ، وأنا أعلم مسبقا بأنّ فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.

سألته من جديد : إذاً فكلّ الرؤساء والملوك قديماً وحديثاً والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصّبهم اللّه.

قال : نعم وبدون شكّ.

قلت : حتى الاستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من اللّه؟ قال : بلى ، لمّا جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار.

قلت : سبحانه اللّه! فكيف كنت تدافع سابقاً عن نظرية أهل السنّة بأنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون؟

قال : نعم ، ولا زلت على ذلك وسأبقى على ذلك إن شاء اللّه!

٢٤٨

قلت : فكيف توفّق بين القولين : اختيار اللّه ، واختيار الناس بالشورى؟

قال : بما أنّ المسلمين اختاروا أبا بكر فقد اختاره اللّه!

قلت : أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلّهم على اختيار الخليفة؟

قال : أستغفر اللّه ، ليس هناك وحي بعد محمّد كما يعتقد الشيعة! ( والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا ، وإنّما هي تهمة ألصقها بهم أعداؤهم ) (١).

__________________

١ ـ أتهم صاحب كتاب كشف الجاني : ١٥٨ الشيعة بأنّها تؤمن بوجود الوحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذ يستهزئ بما ذكره المؤلّف من أنّ الشيعة لا تؤمن بوجود وحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولإيضاح المسألة للقارئ نقول : اتفقت الأُمّة الإسلامية بجميع طوائفها شيعة وسنّة على أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأنّ شريعته ودينه خاتم الأديان والشرائع ، وأنّه لا وحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة : الخطبة ١٢٩ : « أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن ، فقضى به الرسل ، وختم به الوحي ».

وقال عليه‌السلام كما في خطبته الأُولى من النهج : « إلى أن بعث اللّه محمّداً لإنجاز عدته وإتمام نبوته ».

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المؤكّدة لهذا الأمر.

وهناك أمرٌ آخر لابدّ من بيانه ، وهو : إنّ الوحي الذي ينزل بالرسالة السماوية وهو جبرائيل عليه‌السلام يختلف عن رؤية الملائكة أو الموجودات السماوية

٢٤٩

__________________

الملكوتية ، فالوحي بالرسالة لا ينزل ولا يأتي إلاّ للأنبياء المرسلين المأمورين بتبليغ شرائع اللّه ، وبما أنّ آخر الأنبياء نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ختمت رسالته جميع الرسائل ، فلا يوجد وحي بعدها ولا تأتي رسالة سماوية أُخرى ، ولكن هناك عبادٌ صالحون وأئمة مطهّرون معصومون يرون الملائكة ويحدّثونهم ويتعلّمون منهم ، وهذا شيء لا ربط له بالوحي الخاصّ الذي ينزل بالرسالة السماوية ، والقرآن شاهد على ذلك ، فهذه مريم عليها‌السلام رأت ملكاً يبشّرها بعيسى عليه‌السلام وهي ليست نبيّة ، ورأت زوجة إبراهيم عليه‌السلام الملك وبشّرها بإسحاق ويعقوب ، ورأت زوجة لوط الملائكة وأخبرت قومها بهم ، ورأى السامري الملك وأخذ قبضة من أثره ، مع أنّ هؤلاء جميعاً ليسوا أنبياء.

وجاء في صحيح مسلم ٧ : ٧٢ ، كتاب الفضائل ، باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد : « عن سعد بن أبي وقاص قال : رأيت عن يمين رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن شماله يوم أُحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد ، يعني جبرئيل وميكائيل عليهما‌السلام ».

قال النووي : « وفيه فضيلة الثياب البيض ، وأنّ رؤية الملائكة لا تختصّ بالأنبياء ، بل يراهم الصحابة والأولياء ، وفيه منقبة لسعد ابن أبي وقاص الذي رأى الملائكة » ١ : ٦٦.

وجاء في صحيح البخاري ٤ : ٢٠ كتاب المناقب ، باب مناقب عمر عن أبي هريرة قال : « قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيما قبلكم من الأُمم ناس محدّثون ، فإن يك في أُمتي أحد فإنّه عمر ».

قال ابن حجر في شرحه للرواية : « قوله : محدّثون ، بفتح الدال ... قالوا

٢٥٠

__________________

المحدّث بالفتح هو الرجل الصادق الظنّ ، وهو من اُلقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى ... وقيل مكلّم ، أي تكلّمه الملائكة بغير نبّوة ، وهذا ورد في حديث أبي سعيد الخدري ... ولفظه : قيل : يارسول اللّه وكيف يحدّث؟ قال : تتكلّم الملائكة على لسانه ، رويناه في فوائد الجوهري » فتح الباري ٧ : ٦٢ كتاب فضائل أصحاب النبي ، في مناقب عمر.

وذكر القسطلاني في إرشاد الساري ٨ : ٢٠٤ نحوه وقال : « وليس قوله : فإن يكن ، للترديد ، بل للتأكيد ، كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء ، وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى ».

وقال المناوي : ٦٠٩٧ : « وقد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم ... أُناس محدّثون ، قال القرطبي : الرواية بفتح الدال اسم مفعول جمع محدّث بالفتح ، شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ... أو تكلمه الملائكة بلا نبّوة. ومعنى هذا الخبر قد تحقق ووجد في عمر قطعاً ، وإن كان النبي لم يجزم بالوقوع ، دلّ على وقوعه لعمر أشياء كثيرة » فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٦ : ٦٦٤.

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة وكلمات علماء السنّة التي تصرّح بأنّ عمر بن الخطاب محدّث ، تحدّثه الملائكة ، لا أنّه يراها فقط.

فإذا كان هناك روايات عند أهل السنّة تصرّح بذلك ، فلا معنى لإلقاء التهم على الشيعة والطعن فيهم والتحامل عليهم بأنُهم لا يؤمنون بانقطاع الوحي ، فإن كان تحديث الملائكة لشخص يعني عدم الإيمان بانقطاع الوحي ، فهذا مشترك بين السنّة والشيعة ؛ لأنّه كما توجد روايات عند الشيعة بتحديث

٢٥١

قلت : دعنا من الشيعة وأباطيلهم ، واقنعنا بما عندك! كيف علمت بأنّ اللّه اختار أبا بكر؟

قال : لو أراد اللّه خلاف ذلك لما تمكّن المسلمون ولا العالمون خلاف مايريده اللّه تعالى؟

عرفتّ حينئذ أنّ هؤلاء لا يفكّرون ولا يتدبّرون القرآن ، وعلى رأيهم سوف لن تستقيم أيّة نظرية فلسفية أو علمية.

وهذا يذكّرني بقصة أُخرى كنت أمشي مع صديق في حديقة كان بها نخل كثير ، وكنت أُحدّثه في القضاء والقدر ، فسقطت فوق رأسي تمرة ناضجة أخذتها من فوق الحشائش لأكلها وضعتها في فيَّ.

تعجّب صديقي قائلاً : لا تأكل إلاّ ماكتبه اللّه لك! هذه التمرة سقطت باسمك.

__________________

الملائكة لأئمة أهل البيت ، فكذلك توجد روايات عند أهل السنّة بتحديث الملائكة لعمر ، وإن كان تحديث الملائكة لشخص يختلف عن معنى الوحي والرسالة فهذا ما تؤمن به الشيعة أيضاً من أن الوحي والرسالة شيء وهو قد ختم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتحديث شيء آخر يختلف عنه ، فلا داعي للتشنيع على الشيعة بأمر هو موجود عند أهل السنّة ومروي في أصح كتبهم ، بل تجاوز أهل السنّة الحدّ في ذلك حيث جعلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير عالم بأنّ عمر بن الخطاب محدَّث من قبل الملائكة ، ولذا أخبر على نحو التعليق لا الجزم!!

٢٥٢

قلت : ما دمت تؤمن بأنّها مكتوبة فسوف لن آكلها ، ولفظتها.

قال : سبحان اللّه! إذا كان الشي غير مكتوب لك يُخرجه اللّه حتى من بطنك.

قلت : إذاً سآكلها والتقطتها من جديد لأثبت بأنّي مخيّر في أكلها أو تركها ، بقي صديقي يرقبني حتى مضغتها وابتلعتها ، عند ذلك قال : هي واللّه كاتبة لك ( يقصد كتبها اللّه إليك ) ، وانتصر عليّ بتلك الطريقة؛ لأنه لا يمكن لي بعد ، أن أخرج التمرة من جوفي.

نعم ، هذه عقيدة أهل السنّة في خصوص القضاء والقدر ، أو قل : هذه عقيدتي عندما كنتُ سنياً.

ومن الطبيعي أن أعيش بهذه العقيدة مشوّش الفكر بين المتناقضات ، ومن الطبيعي أن نبقى في جمود دائم وننتظر أن يغيّر اللّه ما بنا عوض أن نغيّر نحن ما بأنفسنا لكي يغيّر اللّه ما بنا ، ونتهرّب من المسؤولية التي تحمّلناها ونلقي بها عليه سبحانه ، فإذا قلت للزاني أو للسارق أو حتى للمجرم الذي اغتصب فتاة قاصرة وقتلها بعد شهوته فسيجيبك : اللّه غالب ، قدّر ربّي. سبحان هذا الربّ الذي يأمر الإنسان بدفن ابنته ثمّ يسأله بأيّ ذنب قتلت؟! سبحانك إن هذا إلاّ بهتان عظيم!

ومن الطبيعي أن يزدري بنا علماء الغرب ويضحكون لسخافة

٢٥٣

عقولنا ، بل وينبزوننا بالألقاب فيسمونه « مكتوب العرب » ويجعلونه سبباً رئيسياً لجهلنا وتخلّفنا.

ومن الطبيعي أيضاً أن يعرف الباحثون بأنّ هذا الاعتقاد نشأ من حكّام الدولة الأموية ، الذين كانوا يروّجون بأنّ اللّه سبحانه هو الذي أعطاهم الملك وأمّرهم على رقاب الناس ، فيجب على الناس إطاعتهم وعدم التمرّد عليهم؛ لأنّ مطيعهم مطيع للّه ، والخارج عليهم هو متمرّد على اللّه يجب قتله ، ولنا في ذلك شواهد عديدة من التاريخ الإسلامي :

فهذا عثمان بن عفّان عندما يطلبون منه أن يعتزل يرفض ويقول : لا أخلع قميصاً قمّصنيه اللّه (١) ، فعلى رأيه الخلافة هي لباس له وقد ألبسه اللّه إياه ، فلا ينبغي لأحد من الناس أن ينزعه عنه إلاّ اللّه سبحانه ، يعني بالوفاة.

وهذا معاوية أيضاً يقول : إنّي لم أُقاتلكم لتصوموا ولتزكّوا ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون (٢).

فهذا يذهب شوطاً أبعد من عثمان؛ لأنّه يتّهم ربّ العزة والجلالة

__________________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ : ٤٠٥.

٢ ـ المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٢٥١ ح ٢٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٤٦ ، تاريخ دمشق ٥٩ : ١٥٠ ، البداية والنهاية ٨ : ١٤٠.

٢٥٤

بأنّه أعانه على قتل المسلمين ليتأمّر عليهم ، وخطبة معاوية مشهورة.

وحتّى في اختياره ليزيد ابنه وتوّليه على الناس رغم أُنوفهم ، فقد ادّعى معاوية أنّ اللّه هو الذي استخلف ابنه يزيداً على الناس ، وذلك مارواه المؤرّخون وعندما كتب بَيعتهُ إلى الآفاق ، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم ، فكتب إليه يذكر الذي قضى اللّه به على لسانه من بيعة يزيد (١).

وكذلك فعل ابن زياد الفاسق عندما أدخلوا عليه عليّاً زين العابدين مكبّلاً بالأغلال ، فسأل قائلاً : من هذا؟ فقالوا : عليّ بن الحسين! قال : ألم يقتل اللّه عليّ بن الحسين ، فأجابته زينب عمّته : بل قتلَهُ أعداء اللّه وأعداء رسوله.

فقال لها ابن زياد : كيفَ رأيت فعل اللّه بأهل بيتك.

قالت : مارأيت إلاّ جميلاً ، هؤلاء قومٌ كتبَ اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ، ثكلتك أُمّك يابن مرجانه (٢).

وهكذا تفشّى هذا الاعتقاد من بني أُميّة وأعوانهم وسرى في

__________________

١ ـ الإمامة والسياسة ١ : ٢١٠ ( في قدوم معاوية المدينة ).

٢ ـ صدر الحديث في مقاتل الطالبين : ٨٠ عن يزيد ، وذيله في مثير الأحزان لابن نما : ٧١ ، البحار ٤٥ : ١١٥ عن ابن زياد.

٢٥٥

الأُمّة الإسلامية ، عدا شيعة أهل البيت.

عقيدة الشيعة في القضاء والقدر :

وما إن عرفتُ علماء الشيعة (١) وقرأت كتبهم حتّى اكتشفتُ علماً جديداً في القضاء والقدر.

وقد أوضحه الإمام عليّ عليه‌السلام بأوضح بيان وأشمله ، إذ قال لمن سأله عن القضاء والقدر :

« ويحك! لعلّك ظننتَ قضاءً لازماً وقدراً حاتماً ، ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد.

إن اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلّف يسيراً ، ولم يكلّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يُطعْ مُكرِهاً ، ولم يرسل الأنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً ، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً. ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَـفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَـفَرُوا مِنَ النَّارِ ... ) » (٢).

فما أوضحه من بيان ، وما قرأت في الموضوع كلاماً أبلغ منه ،

__________________

١ ـ كالسيد محمّد باقر الصدر طيّب اللّه ثراه الذي أفادني كثيراً في هذا الموضوع ، وكالسيّد الخوئي والسيد محمّد علي الطباطبائي والسيّد الحكيم وغيرهم ( المؤلّف ).

٢ ـ نهج البلاغة ٤ : ١٧ ، الخطبة ٧٨.

٢٥٦

وبرهاناً أدّل على الحقيقة منه ، فالمسلم يقتنع بأنّ أعماله هي من محض إرادته واختياره ، لأنّ اللّه سبحانه أمرنا ، ولكنّه ترك لنا حرية الاختيار ، وهو قول الإمام : « إن اللّه أمر عباده تخييراً ».

كما أنّه سبحانه نهانا وحذّرنا عقابَ مخالفته ، فدلّ كلامه على أنّ للإنسان حرية التصرّف وبإمكانه أن يخالف أوامر اللّه ، وفي هذه الحالة يستوجب العقاب ، وهو قول الإمام : « ونهاهم تحذيراً ».

وزاد الإمام علي عليه‌السلام توضيحاً للمسألة فقال : بأن اللّه سبحانه « لم يُعصَ مغلوباً » ، ومعنى ذلك بأنّ اللّه لو أراد جبْرَ عباده وإرغامهم على شيء لم يكن بمقدورهم جميعاً أن يغلبوه على أمره ، فدلّ ذلك على أنّه ترك لهم حريّة الاختيار في الطاعة والمعصية ، وهو مصداقٌ لقوله تعالى : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (١).

ثمّ بعد ذلك يخاطب الإمام عليّ ضمير الإنسان ليصل إلى أعماق وجدانه ، فيأتي بالدليل القاطع على أنّه لو كان الإنسان مجبوراً على أفعاله ـ كما يعتقده البعض ـ لكان إرسال الأنبياء وإنزال الكتب ضرباً من اللعب والعبث الذي يتنزّه اللّه جلّ جلاله عنه؛ لأنّ دور الأنبياء سلام اللّه عليهم أجمعين وإنزال الكتب هو لإصلاح الناس ،

__________________

١ ـ الكهف : ٢٩.

٢٥٧

وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وإعطائهم العلاج النافع لأمراضهم النفسية ، وتوضيح الطريقة المثلى للحياة السعيدة ، قال تعالى : ( إنّ هذا القرآن يهدي للّتي هي أقومُ ) (١).

ويختم الإمام عليّ بيانه بأنّ الاعتقاد بالجبر هو نفس الاعتقاد بخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، وهو كفرّ توعّد اللّه القائلين به بالنار.

وإذا محّصنا قول الشيعة في القضاء والقدر وجدناه قولاً سديداً ورأياً رشيداً ، فبينما فرّطت طائفة فقالت بالجبر ، وأفرطت أُخرى فقالت بالتفويض ، جاء أئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم ليصحّحوا المفاهيم والمعتقدات ، ويرجعوا بهؤلاء وأُولئك ، فقالوا : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين » (٢).

وقد ضرب الإمام جعفر الصادق لذلك مثلاً مبسّطاً يفهمه كلّ الناس وعلى قدر عقولهم ، فقال للسائل عندما سأله : ما معنى قولك : « لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين »؟ أجابه عليه‌السلام : « ليس مشيُك على الأرض كسقوطك عليها ».

ومعنى ذلك أنّنا نمشي على الأرض باختيارنا ، ولكنّنا عندما

__________________

١ ـ الإسراء : ٩.

٢ ـ الكافي ١ : ١٦٠ ح ١٣ ، التوحيد للصدوق : ٣٦٢ ح ٨.

٢٥٨

نسقط على الأرض فهو بغير اختيارنا ، فمن منّا يُحبّ السقوط الذي قد يُسبّبْ كسر بعض الأعضاء من جسمنا فنصبح معاقين.

فيكون القضاء والقدر أمراً بين أمرين ، أي قسم هو من عندنا وباختيارنا ونحن نفعله بمحض إرادتنا ، وقسم ثان هو خارج عن إرادتنا ونحن خاضعون له ، ولا نقدر على دفعه ، فنُحاسَبُ على الأوّل ، ولا نُحاسبُ على الثاني.

والإنسان في هذه الحالة مُخيّرٌ ومسيّرٌ في نفس الوقت :

أ ـ مُخيّرٌ في أفعاله التي تصدر منه بعد تفكير ورويّة ، إذ يمرّ بمرحلة التخيير والصراع بين الإقدام والإحجام ، وينتهي به الأمر إمّا بالفعل أو الترك ، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله : ( وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

فالتزكية للنفس والدسّ لها هما نتيجة اختيار الضمير في كلّ إنسان ـ كما أنّ الفلاح والخيبة هما نتيجة حتمية وعادلة لذلك الاختيار.

ب ـ مُسيّرٌ بكلّ مايحيط به من نواميس الكون وحركته الخاضعة كلّها لمشيئة اللّه سبحانه بكلّ أجزائها ومركبّاتها وأجرامها وذرّاتها ،

__________________

١ ـ الشمس : ٧ ـ ١٠.

٢٥٩

فالإنسان ليس له أن يختار جنسه من ذكورة وأُنوثة ، ولا أن يختار لونه ، فضلاً عن اختيار أبويه ليكون في أحضان أبوين موسرين بدلاً من أن يكونوا فقراء ، ولا أن يختار حتى طول قامته وشكل جسده.

فهو خاضع لعدّة عوامل قاهرة ( كالأمراض الوراثية مثلاً ) ، ولعدّة نواميس طبيعيّة تعمل لفائدته بدون أن يتكلّف ، فهو ينام عندما يتعب ، ويستيقظ عندما يرتاح ، ويأكل عندما يجوع ، ويشرب عندما يعطش ، ويضحك وينشرح عندما يفرح ، ويبكي وينقبض عندما يحزن ، وفي داخله معامل ومصانع تصنع الهرومونات والخلايا الحيّة ، والنطفْ القابلة للتحوّل ، وتبني في نفس الوقت جسمه في توازن منسّق عجيب ، وهو في كلّ ذلك غافل لايدري بأنّ العناية الإلهيّة محيطة به في كلّ لحظة من لحظات حياته بل وحتى بعد مماته! يقول اللّه عزّ وجلّ في هذا المعنى :

( أيَحْسَبُ الإنسَانُ أنْ يُـتْرَكَ سُدىً * ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَـقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَـيْنِ الذَّكَرَ وَالاُنثَى * ألَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِر عَلَى أنْ يُحْيِيَ المَوْتَى ) (١).

بَلى ، سبحانك وبحمدك ربّنا الأعلى أنت الذي خلقْتَ فَسّويتَ ، وأنتَ الذي قدّرتَ فهديت ، وأنت الذي أمَتَّ ثمّ أحَيْيتَ ، تباركت

__________________

١ ـ القيامة : ٣٦ ـ ٤٠.

٢٦٠