لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

يوم عرفه ، لا يجد فيها أمراً جديداً يجهله المسلمون ، والذي يمكن اعتباره شيئاً مهمّاً أكمل اللّه به الدين وأتمّ به النعمة ، إذ ليس فيها إلاّ جملة من الوصايا التي ذكرها القرآن ، أو ذكرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدّة مناسبات ، وأكّد عليها يوم عرفة.

وإليك ما جاء في الخطبة على ماسجّله كلّ الرواه :

إنّ اللّه حرّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا ويومكم هذا.

اتّقوا اللّه ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدّها.

الناس في الإسلام سواء لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى.

كلّ دم كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وكلّ ربا كان في الجاهلية موضوع تحت قدمي.

أيّها الناس إنّما النسيء زيادة في الكفر ... ألا وأنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض.

إنّ عدّة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه ، منها أربعة حرمٌ.

أُوصيكم بالنساء خيراً ، إنّما أخذتموهن بأمانة اللّه ، واستحللتم

١٤١

فروجهنّ بكتاب اللّه.

أُوصيكم بمن ملكت أيمانكم ، فأطعموهم ممّا تأكلون ، وألبسوهم ممّا تلبسون.

إنّ المسلم أخو المسلم ، لا يغشّه ، ولا يخونه ، ولا يغتابه ، ولا يحلّ له دمه ، ولا شيء من ماله.

إنّ الشيطان قد يئس أن يُعبد بعد اليوم ، ولكن يُطاع فيما سوى ذلك من أعمالكم التي تحتقرون.

أعدى الأعداء على اللّه قاتل غير قاتله ، وضارب غير ضاربه ، ومن كفر نعمة مواليه فقد كفر بما أَنزلَ اللّه على محمّد ، ومن انتمى إلى غير أبيه فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.

إنّما أُمرتُ أن أقاتل الناس حتّى يقولوا : لا إله إلا اللّه وإنّي رسول اللّه ، وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ وحسابهم على اللّه.

لا ترجعوا بعدي كفاراً مضلّين يضرب بعضكم رقاب بعض.

هذا كلّ ماقيل في خطبة عرفة من حجّة الوداع ، وقد جمعتُ فصولها من جميع المصادر الموثوقة ، حتى لايبقى شيء من وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي ذكرها المحدّثون إلاّ أخرجتها ، فهل فيها شيء جديد بالنسبة للصحابة؟

١٤٢

كلاّ ، فكل ماجاء فيها مذكور في القرآن ، ومبيّن حكمه في السنّة النبوية.

فقد قضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياته كلّها يبيّن للناس مانزّل إليهم ، ويعلّمهم كلّ صغيرة وكبيرة ، فلا وجه لنزول آية « إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى اللّه » بعد هذه الوصايا التي يعرفها المسلمون؟

وإنّما أعادها عليهم للتأكيد ، لأنّهم لأوّل مرّة يجتمعون عليه بذلك العدد الهائل ، ولأنّه أخبرهم قبل الخروج إلى الحجّ بأنّها حجّة الوداع ، فكان واجباً عليه أن يسمعهم تلك الوصايا.

أمّا إذا أخذنا بالقول الثاني ، وهو نزول الآية يوم غدير خمّ بعد تنصيب الإمام عليّ خليفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأميراً للمؤمنين ، فإنّ المعنى يستقيم ويكون مطابقاً ، لأنّ الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهمّ الأُمور ، ولا يمكن أن يترك اللّه عباده سدى ، ولا ينبغي لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذهب دون استخلاف ويترك أُمّته هملاً بدون راع ، وهو الذي ما كان يُغادر المدينة إلاّ ويستخلف عليها أحداً من أصحابه ، فكيف نصدّق بأنّه التحق بالرفيق الأعلى وما فكّر في الخلافة؟!

وإذا كان المُلحدون في عصرنا يؤمنون بهذه القاعدة ، ويسرعون إلى تعيين خلف للرئيس حتّى قبل موته ليسوس أُمور الناس ، ولا يتركونهم يوماً واحداً بدون رئيس.

فلا يمكن أن يكون الدين الإسلامي ـ وهو أكمل الأديان وأتمها

١٤٣

والذي ختم اللّه به كلّ الشرائع ـ أن يُهمل أمراً مهماً كهذا.

وقد عرفنا فيما تقدّم بأنّ عائشة وابن عمر وقبلهما أبو بكر وعمر أدركوا كلّهم بأنّه لابدّ من تعيين الخليفة ، وإلاّ لكانت فتنة ، كما أدرك ذلك مَن جاء بعدهم من الخلفاء ، فكلُّهم عَيّنوا مَنْ بعدهم ، فكيف تغيب هذه الحكمة على اللّه وعلى رسوله؟!

فالقولُ بأنّ اللّه سبحانه أوحى إلى رسوله في الآية الأُولى « آية البلاغ » وهو راجع من حجّة الوداع بأنْ يُنصّب عليّاً خليفة له بقوله : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي : يامحمّد إنْ لم تبلّغ ما أمرتك به بأنّ علياً هو ولي المؤمنين بعدك فكأنك لم تُكمل مهمتك التي بُعثتَ بها ، إذ أنّ إكمال الدين بالإمامة أمرٌ ضروري لكلّ العقلاء.

ويبدو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخشى معارضتهم له أو تكذيبهم ، فقد جاء في بعض الروايات قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وقد أمرني جبرئيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد وأُعلم كلّ أبيض وأسود : أنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيّي وخليفتي والإمام بعدي ، فسألتُ جبرئيل أن يستعفي لي ربّي لعلمي بقلّة المتّقين وكثرة المؤذين لي واللائمين لكثرة ملازمتي لعليّ وشدّة إقبالي عليه حتى سمّوني أُذناً ، فقال تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ اُذُنٌ قُلْ اُذُنُ خَيْر لَكُمْ ) (١)

__________________

١ ـ التوبة : ٦١.

١٤٤

ولو شئتُ أن أُسمّيهم وأدلُ عليهم لفعلتُ ، ولكنّي بسترهم قد تكرّمتُ ، فلم يرض اللّه إلاّ بتبليغي فيه ، فاعلموا معاشر الناس إنّ اللّه قد نصّبه لكم ولياً وإماماً ، وفرض طاعته على كلّ أحد ... » الخطبة (١).

فلمّا أنزل اللّه عليه : ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أسرع في نفس الوقت وبدون تأخير بامتثال أمر ربّه ، فنصب علياً خليفة من بعده ، وأمر أصحابه بتهنئته بإمارة المؤمنين ، ففعلوا ، وبعدها أنزل اللّه عليهم : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ).

أضف إلى كلّ ذلك أنّنا نجد بعض علماء أهل السنّة والجماعة يعترفون صراحة بنزول آية البلاغ في إمامة عليّ :

فقد رووا عن ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك ـ أنّ عليّاً مولى المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته واللّه يعصمك من الناس » (٢).

وبعد هذا البحث إذا أضفنا روايات الشيعة عن الأئمة الطاهرين ،

__________________

١ ـ أخرجها بكاملها الحافظ ابن جرير الطبري في كتاب الولاية ، وعنه في الصراط المستقيم للبياضي ١ : ٣٠١ ، والغدير للأميني ١ : ٢١٤.

٢ ـ فتح القدير للشوكاني ٢ : ٦٠ ، الدر المنثور للسيوطي ٢ : ٢٩٨ ، في تفسير الآية ٦٧ من سورة المائدة.

١٤٥

يتجلّى لنا بأنّ اللّه أكمل دينه بالإمامة ، ولذلك كانت الإمامة عند الشيعة أصلاً من أُصول الدين.

وبإمامة علي بن أبي طالب أتمّ اللّه نعمته على المسلمين ، لئلاّ يبقوا هملاً تتجاذبهم الأهواء وتمزّقهم الفتن فيتفرقوا كالغنم بدون راع.

ورضي لهم الإسلام ديناً؛ لأنّه اختار لهم أئمة أذهب عنهم الرجس وطهّرهم ، وأتاهم الحكمة وأورثهم علم الكتاب؛ ليكونوا أوصياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيجب على المسلمين أن يرضوا بحكم اللّه واختياره ، ويسلّموا تسليماً ، لأنّ مفهوم الإسلام العام هو التسليم للّه ، قال تعالى :

( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللّهُ لا إلَهَ إلا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الاُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١).

ومن خلال كلّ ذلك يُفهمُ بأنّ يوم الغدير اتخذه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم عيد ، إذ بعد تنصيب الإمام عليّ وبعد أن نزل عليه قوله : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... ) الآية : قال : « الحمد للّه على إكمال الدين ،

__________________

١ ـ القصص : ٦٨ ـ ٧٠.

١٤٦

وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي » (١).

ثم عقد له موكباً للتهنئة ، وجلس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيمة وأجلس عليّاً بجانبه ، وأمر المسلمين ـ بما فيهم زوجاته أُمهات المؤمنين ـ أن يدخلوا عليه أفواجاً ويهنّئوه بالمقام ، ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ففعل الناس ما أُمروا به ، وكان من جملة المهنّئين لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بهذه المناسبة أبو بكر وعمر.

وقد جاءا إليه يقولان له : بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ مولانا ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (٢).

ولمّا عرف حسّان بن ثابت شاعر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرح النبي واستبشاره في ذلك اليوم ، قال : أتأذن لي يارسول اللّه أن أقول في هذا المقام أبياتاً تسمعهن؟ فقال : « قل على بركة اللّه ، لا تزال ياحسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ».

فأنشد يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ فأسمع بالرسول مناديا

__________________

١ ـ الحاكم الحسكاني ١ : ١٥٨ ح ٢١٢ ، عن أبي سعيد الخدري في تفسيره للآية ، المناقب للخوارزمي : ١٣٥ ح ١٥٣.

٢ ـ مرّ تخريجه فيما تقدّم.

١٤٧

إلى آخر الأبيات التي ذكرها المؤرّخون (١).

ولكن ورغم كلّ ذلك ، فإنّ قريشاً اختارت لنفسها ، وأبتْ أن تكون في بني هاشم النبوّة والخلافة ، فيجحفون على قومهم بُجُحاً بُجحاً ، كما صرّح بذلك عمر بن الخطاب لعبد اللّه بن عبّاس في محاورة دارت بينهما (٢).

فلم يكن في وسع أحد أن يحتفل بذلك العيد بعد ذكراه الأُولى التي احتفل بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإذا كانوا قد تناسوا نصّ الخلافة وتلاشى من أذهانهم ، ولم يمض عليه من الوقت غير شهرين ، ومع ذلك لم يتكلّم به أحد ، فكيف بذكر الغدير التي مضى عليها عام كامل ، على أنّ هذا العيد مربوط بذلك النصّ على الخلافة ، فإذ انعدم النصّ وزال السببُ لم يبق لذلك العيد أثرٌ يذكر.

ومضت على ذلك السنون ، حتّى رجع الحقّ إلى أهله بعد ربع قرن ، فأحياها الإمام علي من جديد بعد ما كادت تُقبرُ ، وذلك في

__________________

١ ـ شواهد التنزيل للحسكاني ١ : ٢٠٢ ، المناقب للخوارزمي : ١٣٦ ح ١٥٢ ، نظم درر السمطين : ١١٢.

٢ ـ الطبري في تاريخه ٤ : ٢٢٢ حوادث سنة ٢٣ باب شيء من سيرهِ ممّا لم يمض ذكره ، تاريخ ابن الأثير ٣ : ٦٣ حوادث سنة ٢٣.

١٤٨

الرحبة عندما ناشد أصحاب محمّد ممّن حضر عيد الغدير أن يقوموا فيشهدوا أمام الناس ببيعة الخلافة ، فقام ثلاثون صحابياً منهم ستّة عشر بدريَّاً وشهدوا (١) ، والذي كتم الشهادة وادّعى النسيان ، كأنس ابن مالك الذي أصابتْه دعوى عليّ بن أبي طالب ، فلم يقم من مقامه ذلك إلاّ أبرص ، فكان يبكي ويقول : أصابتني دعوة العبد الصالح ، لأني كتمتُ شهادته (٢).

__________________

١ ـ مسند أبي يعلى ١ : ٤٢٩ ح ٥٦٧ ، مسند أحمد ١ : ٨٨ و ١١٩ وعنه في مجمع الزوائد ٩ : ١٠٤ وقال : « رجاله رجال الصحيح » ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٠٦ ، المعجم الكبير ٥ : ١٧٥ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٨ ، ذخائر العقبى : ٦٨ ، مع اختلاف في عدد البدريين.

٢ ـ قريب منه الفضائل لشاذان بن جبرئيل : ١٦٤ وعنه في البحار ٤١ : ٢١٨ ح ٣١ ، الإرشاد للمفيد ١ : ٣٥١.

وجاء في أنساب الأشراف للبلاذري : ١٥٧ ح ١٦٩ : عن أبي وائل قال : قال عليّ على المنبر : « نشدت اللّه رجلا سمع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم : اللهمّ وال من والاه وعاد من عاده ، إلاّ قام فشهد » ، وتحت المنبر أنس ابن مالك والبراء ابن عازب وجرير بن عبد اللّه ، فأعادها فلم يجبه منهم ، فقال : « اللهمّ من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتى تجعل به آية يُعرف بها » قال أبو وائل : فبرص أنس ، وعمي البراء ، ورجع جريراً أعرابياً ...

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ١٩ : ٢١٨ : « ذكر ابن قتيبة حديث

١٤٩

وبذلك أقام أبو الحسن الحجّة على هذه الأُمّة ، ومنذ ذلك العهد وحتّى يوم الناس هذا وإلى قيام الساعة يحتفل الشيعة بذكرى يوم الغدير ، وهو عندهم العيد الأكبر ، كيف لا وهو اليوم الذي أكمل اللّه لنا فيه الدين ، وأتمّ فيه علينا النعمة ، ورضي بالإسلام لنا ديناً ، وهو يوم عظيم الشأن عند اللّه ورسوله والمؤمنين.

ذكر بعض علماء أهل السنّة عن أبي هريرة أنه قال : لّما أخذ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي وقال : « من كنتُ مولاه فعليّ مولاه .. » إلى آخر الخطبة ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ) ، قال أبو هريرة : وهو يوم غدير خم ، من صام يوم ثمان عشر من ذي الحجّة كتب له

__________________

البرص والدعوة التي دعا بها أمير المؤمنين عليه‌السلام على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص من أعيان الرجال ، وابن قتيبة غير منهم في حقّ عليّ عليه‌السلام على المشهور من انحرافه عنه ».

وجاء في مسند أحمد ١ : ١١٩ : « فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته ».

وفي المجمع الكبير للطبراني ٥ : ١٧٥ : « قال زيد : وكنت أنا فيمن كتم فذهب بصري ».

وفي تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٠٨ : « وكتم قوم فما فنوا من الدنيا حتى عموا وبرصوا ».

١٥٠

صيام ستّين شهراً (١).

أمّا روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في فضائل ذلك اليوم فحدّث ولا حرج ، والحمد للّه على هدايته أن جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين ، والمحتفلين بعيد الغدير.

وخلاصة البحث : إنّ حديث الغدير « من كنتُ مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار » هو حديث ، أو بالأحرى هي حادثة تاريخية عظيمة أجمعت الأُمّة الإسلامية على نقلها ، فقد مرّ علينا ذكر ثلاثمائة وستّين من علماء أهل السنّة والجماعة ، وأكثر من ذلك من علماء الشيعة.

ومن أراد البحث والمزيد فعليه بكتاب الغدير للعلاّمة الأميني.

وبعد الذي عرضناه لا يُستغربُ أنْ تنقسمَ الأُمّة الإسلامية إلى سنّة وشيعة : تمسّكت الأُولى بمبدأ الشورى في سقيفة بني ساعدة ، وتأوّلت النصوص الصريحة ، وخالفت بذلك ما أجمع عليه الرواة من حديث الغدير ، وغيره من النصوص.

__________________

١ ـ تاريخ بغداد ٨ : ٢٨٤ ح ٤٣٩٢ ، وقال : « اشتهر هذا الحديث من رواية حبشون ، وكان يقال : إنّه تفرّد به ، وقد تابعه عليه أحمد بن عبد اللّه بن النيري ... ».

١٥١

وتمسكت الثانية بتلك النصوص ، فلم ترض عنها بدلاً ، وبايعت الأئمة الإثني عشر من أهل البيت ولم تبغ عنهم حولاً.

والحقّ أنّني عندما أبحث في مذهب أهل السنّة والجماعة خصوصاً في أمر الخلافة أجد المسائل مبنيةً على الظنّ والاجتهاد ؛ لأنّ قاعدة الانتخاب ليس فيها دليل قطعي على أنّ الشخص الذي نختاره اليوم هو أفضل من غيره؛ لأنّنا لا نعلمُ خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ، ولأنّنا في الحقيقية مركّبون من عواطف وعصبيات ، وأنانية كاملة في نفوسنا ، وستلعب هذه المركّبات دورها إذا ما أُوكل إلينا اختيار شخص من بين أشخاص.

وليست هذه الأطروحة خيالاً أو أمراً مبالغاً فيه ، فالمتتبّع لهذه الفكرة ، فكرة اختيار الخليفة ، سيجد أن هذا المبدأ الذي يطبّل له لم ينجح ولا يمكن له أن ينجح أبداً.

فهذا أبو بكر زعيم الشورى بالرغم من وصوله إلى الخلافة ( بالاختيار والشورى ) ، نراه عندما شارف على الوفاة أسرع إلى تعيين عمر بن الخطاب خليفةً له دون استعمال طريقة الشورى. وهذا عمر بن الخطاب الذي ساهم في تأسيس خلافة أبي بكر نراه بعد وفاة أبي بكر يُعلن على الملأ بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتةً

١٥٢

وقى اللّه المسلمين شرّها (١).

ثم بعد ذلك نرى أنّ عمراً عندما طُعن وأيقن بدنو أجله ، عينّ ستّة أشخاص ، ليختاروا بدورهم واحداً منهم ليكون خليفة ، وهو يعلم علم اليقين أنّ هؤلاء النفر على قلّتهم سيختلفون رغم الصحبة والسبق للإسلام والورع والتقوى ، فستثور فيهم العواطف البشرية التي لا ينجو منها إلاّ المعصوم ، ولذلك نراه ـ لحسم الخلاف ـ رجّح كفّه عبدالرحمن بن عوف فقال : إذا اختلفتُم فكونوا في الشقّ الذي فيه عبدالرحمن بن عوف ، ونرى بعد ذلك بأنّهم اختاروا الإمام عليّاً ليكون خليفة ، ولكنّهم اشترطوا عليه أن يحكم فيهم بكتاب اللّه وسنّة رسوله وسنّة الشيخين أبي بكر وعمر ، وقَبِلَ علىُّ كتاب اللّه وسنّة رسوله ورفض سنّة الشيخين (٢) ، وقَبلَ عثمان هذه الشروط فبايعوه بالخلافة. وقال علي في ذلك :

« فيا للّه وللشورى متى اعترض الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم حتّى صرتُ أُقرنُ إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففتُ إذا أسفّوا وطرت إذ

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٨ : ٢٦ ، كتاب المحاربين ، باب ١٧ ، في رجم الحبلى من الزنا.

٢ ـ تاريخ الطبري ٣ : ٣٠١ ، حوادث سنة ٢٣ ، قصة الشورى ، وكذلك في الكامل لابن الأثير٣ : ٧٤ في نفس الموضع.

١٥٣

طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهن .. » (١).

وإذا كان هؤلاء ـ وهم نخبة المسلمين وهم خاصّة الخاصّة ـ تلعبُ بهم العواطف ، فيكون فيهم الحقد ، وتكون فيهم العصبية بين هن وهن. يقول محمّد عبده في شرحه لهذه الفقرة : ( يشير الإمام عليّ إلى أغراض أُخرى يكره ذكرها ) ؛ فعلى الدنيا بعد ذلك السلام.

على أنّ عبدالرحمن بن عوف ندم فيما بعد على اختياره ، وغَضبَ على عثمان واتّهمه بخيانه العهد لمّا حدث في عهده ماحدث ، وجاءه كبار الصحابة يقولون له : يا عبدالرحمن هذا عمل يديك. فقال لهم : ما كنتُ أظنّ هذا به ، ولكنّ للّه علىَّ أن لا أُكلّمه أبداً. ثمّ مات عبدالرحمن بن عوف وهو مهاجر لعثمان ، حتى رووا أنّ عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول بوجهه إلى الحائط ولم يكلّمه (٢).

ثمّ كان بعد ذلك ما كان ، وقامت الثورة على عثمان وانتهت بقتله ، ورجعت الأُمّة بعد ذلك للاختيار من جديد ، وفي هذه المرّة اختاروا عليّاً ، ولكنْ يا حسرة على العباد : فقد اضطربت الدولة الإسلامية ،

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٣ المعروفة بالشقشقية.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده ١ : ٣٥.

١٥٤

وأصبحت مسرحاً للمنافقين ، ولأعدائه المُناوئين والمستكبرين ، والطامعين لارتقاء منصّة الخلافة بأىّ ثمن وعلى أيّ طريق ولو بإزهاق النفوس البريئة.

وقد تغيرت أحكام اللّه ورسوله على مرّ تلك السنين الخمس والعشرين ، ووجد الإمام عليّ نفسه وسط بحر لجي وأمواج متلاطمة ، وظلمات حالكة ، وأهواء جامحة ، وقضى خلافته في حروب دامية فُرضتْ عليه فرضاً من الناكثين والقاسطين والمارقين ، ولم يخرج منها إلاّ باستشهاده سلام اللّه عليه وهو يتحسّر على أُمّة محمّد ، وقد طمع فيها الطليق بن الطليق معاوية بن أبي سفيان ، وأضرابه كعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم ، وغيرهم كثيرون ، وما جرّأ هؤلاء على مافعلوه إلاّ فكرة الشورى والاختيار.

وغرقت أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بحر من الدماء ، وتحكّم في مصيرها سفهاؤها وأرذالُها ، وتحوّلت الشورى بعد ذلك إلى الملك العضوض ، إلى القيصرية والكسروية.

وانتهت تلك الفتره التي أطلقوا عليها اسم الخلافة الراشدة ، وبها سمّوا الخلفاء الأربعة بالراشدين ، والحقّ إنّه حتّى هؤلاء الأربعة لم يكونوا خلفاء بالانتخاب والشورى سوى أبي بكر وعليّ ، وإذا استثنينا أبا بكر لأنّ بيعته كانت فلتَة على حين غفلة ولم يحضرها

١٥٥

« الحزب المعارض » كما يقال اليوم ، وهم عليّ وسائر بني هاشم ومن يرى رأيهم ، لم يبق معنا من عُقدتْ له بيعة بالشورى والاختيار إلاّ علي بن أبي طالب الذي بايعه المسلمون رغم أنفه ، وتخلّف عنه بعض الصحابة فلم يفرض عليهم ولا هدّدهم.

وقد أراد اللّه سبحانه وتعالى أن يكون علي بن أبي طالب خليفة لرسول اللّه بالنصّ من اللّه وكذلك بالانتخاب من المسلمين ، وقد أجمعت الأُمّة الإسلامية قاطبة سنّة وشيعة على خلافة عليّ ، واختلفوا على خلافة غيره كما لا يخفى.

أقول : ياحسرة على العباد لو أنّهم قبلوا ما اختاره اللّه لهم؛ لأكلوا من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم ، ولأنزل اللّه عليهم بركات من السماء ، ولكان المسلمون اليوم أسياد العالم وقادته كما أراد اللّه لهم لو اتّبعوه ( وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (١).

ولكنّ إبليس اللّعين عدوُنا المبين قال مخاطباً ربّ العزّة : ( فَبِمَا أغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (٢).

__________________

١ ـ آل عمران : ١٣٩.

٢ ـ الأعراف : ١٦ ـ ١٧.

١٥٦

فلينظر العاقل اليوم إلى حالة المسلمين في العالم ، وهم أذلاّء لا يقدرون على شيء ، يركضون وراء الدول معترفين بإسـرائيل ، وهي ترفض الاعتراف بهم ولا تسمح لهم حتى بالدخول إلى القدس التي أصبحت عاصمة لها ، وإذا مارأيت بلاد المسلمين اليوم ترى أنهّم تحت رحمة أمريكا وروسيا ، وقد أكل الفقر شعوبهم ، وقتلهم الجوع والمرض ، في حين تأكل كلاب أُوربا شتّى أنواع اللحوم والأسماك ، فلا حول ولا قوة إلاّ باللّه العليّ العظيم.

وقد تنبأت سيدة النساء فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها عندما خاصمتْ أبا بكر ، وخطبت خطبتها في نساء المهاجرين والأنصار ، وقالت في آخرها مُخبرةً عن مآل الأُمّة :

« أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تُنتج ، ثم احتلبوا ملأ القعب دماً عبيطاً وزُعافاً مبيداً ، هناك يخسر المبطلون ويعرف التَالون غبّ ما أسسّه الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفساً واطمئنّوا للفتنة جأشاً ، وأبشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج شامل ، واستبداد من الظالمين ، يدعُ فيئكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً ، فيا حسرةً لكم ، وأنّى بكم ، وقد عُمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون » (١).

__________________

١ ـ دلائل الإمامة للطبري الشيعي : ١٢٩ ، أمالي الطوسي : ٣٧٦ ح ٨٠٤ ، الاحتجاج للطبرسي ١ : ١٤٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٤.

١٥٧

صدقت سيّدة النساء فيما تنبأت به وهي سليلة النبوّة ومعدن الرسالة ، وقد تجسّدت أقوالها في حياة الأُمّة ، ومن يدري لعلّ الذي ينتظرها أبشّع ممّا انقضى ، ذلك بأنّهم كَرهوا ما أنزل اللّه فأحبط أعمالهم.

١٥٨

العنصر المهم في البحث

بَقِيَ عنصرٌ واحدٌ مهمّ في كلّ هذا البحث يستحقّ العناية والدرس ، وربما هو الاعتراض الوحيد الذي كثيراً ما يثار عندما يُفحمُ المعاندون بالحُجج الدامغة ، فتراهم يلجأون إلى الاستغراب واستبعاد أن يكون قد حضر تنصيب الإمام عليّ مائة ألف صحابي ، ثمّ يتواطؤون كلّهم على مخالفته والإعراض عنه ، وفيهم خيرة الصحابة وأفضل الأمّة!

وهذا ماوقع لي بالذات عند اقتحام البحث ، فلم أُصدّق ولا يمكن لأحد أن يصدّق إذا ماطُرحت القضية بهذا الطرح ، ولكن عندما ندرُس القضية من جميع الجوانب يزول الاستغراب؛ لأنّ المسألة ليست كما نتصوّرها أو كما يعرضها أهل السنّة ، فحاشى أن يكون مائة ألف صحابي خالفوا أمر الرسول ، فكيف وقعت الواقعة إذن؟

أوّلاً : لم يكن يسكن المدينة المنورة كلّ من حضر بيعة الغدير ، وإنّما كان كما هو المفروض وعلى أكبر تقدير ثلاثة أو أربعة الآف منهم يسكنون المدينة ، وإذا عرفنا أنّ هؤلاء فيهم الكثير من الموالي

١٥٩

والعبيد والمستضعفين الذين قدموا على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مناطق عديدة ، وليس لهم في المدينة قبيلة ولا عشيرة أمثال أهل الصفة ، فلا يبقى معنا إلاّ نصفهم يعني الفين فقط ، وحتّى هؤلاء فهم خاضعون لرؤساء القبيلة ونظام العشيرة التي ينتمون إليها ، وقد أقرّهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك ، فكان إذا قدم عليه وفدٌ ولىّ عليهم زعيمهم وسيّدهم ، ولذلك وجدنا اصطلاحاً على تسميتهم في الإسلام بأهل الحلّ والعقد.

وإذا مانظرنا إلى مؤتمر السقيفة الذي انعقد عند وفاة الرسول مباشرة ، وجدنا أنّ الحاضرين الذين اتخذوا قرار اختيار أبي بكر خليفة لا يزيد على مائة شخص على أكثر تقدير؛ لأنّه لم يحضر من الأنصار ـ وهم أهل المدينة ـ إلاّ أسيادهم وزعماؤهم ، كما لم يحضر من المهاجرين ـ وهم أهل مكة الذين هاجروا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلاّ ثلاثة أو أربعة أشخاص يمثّلون قريش.

ويكفي دليلاً أن نتصوّر ماهو حجم السقيفة ، فكلّنا يعرف ما هي السقيفة التي ما كانت تخلو منها أيّ دار ، فليست هي قاعة الحفلات ولا قصر المؤتمرات ، فإذا ماقُلنا بحضور مائة شخص في سقيفة بني ساعدة ، فذلك مبالغة مّنا حتّى يفهم الباحث بأنّ المائة ألف لم يكونوا حاضرين ، ولا سمعوا حتى مادار في السقيفة إلاّ بعد زمن بعيد ، فلم

١٦٠