لأكون مع الصّادقين

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

لأكون مع الصّادقين

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-15-3
الصفحات: ٤٥٥

فلم يُعطه أحد شيئاً ، وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره إليه وكان يتختّم بها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره.

فتضرّع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عزّ وجلّ يدعوه ، فقال : « اللّهم إنّ أخي موسى سألك : ( قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) فأوحيتَ إليه : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ) (١) اللّهم وإنّي عبدك ونبيّك ، فاشْرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً ، أشدد به ظهري ».

قال أبو ذر : فواللّه ما استتمّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلمة حتى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآيه : ( إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ) (٢).

ولا خلاف عند الشيعة في أنّها نزلت في علي بن أبي طالب ،

__________________

١ ـ طه : ٢٥ ـ ٣٦.

٢ ـ المائدة : ٥٥ ـ ٥٦ ، وانظر : شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ١ : ٢٣٠ ، نظم درر السمطين للزرندي : ٨٧.

١٠١

رواية عن أئمه أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي من الأخبار المتسالم عليها عندهم ، فقد رُويتْ في العديد من كتب الشيعة المعتبرة عندهم ، مثل :

١ ـ بحار الأنوار للمجلسي [ ٣٥ : ١٨٣ ].

٢ ـ إثبات الهداة للحرّ العاملي [ ٢ : ١٢٠ الباب العاشر ].

٣ ـ تفسير الميزان للعلاّمة الطباطبائي [ ٦ : ١٥ ].

٤ ـ تفسير الكاشف لمحمّد جواد مغنية.

٥ ـ الغدير للعلاّمة الأميني [ ٢ : ٩١ ].

وغير هؤلاء كثير.

كما روى نزولها في علي بن أبي طالب من علماء السنّة والجماعة جمع غفير ، أذكر منهم فقط علماء التفسير :

١ ـ تفسير الكشّاف للزمخشري ١ : ٦٤٩.

٢ ـ تفسير الطبري ٦ : ٢٨٨.

٣ ـ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ٢ : ٣٨٣.

٤ ـ تفسير القرطبي ٦ : ٢١٩.

٥ ـ تفسير الفخر الرازي ١٢ : ٢٦.

٦ ـ تفسير ابن كثير ٢ : ٧١.

٧ ـ تفسير النسفي ١ : ٢٨٩.

٨ ـ شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ١ : ١٦١.

١٠٢

٩ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ٢ : ٢٩٣.

١٠ ـ أسباب النزول للإمام الواحدي : ١٤٨.

١١ ـ أحكام القرآن للجصّاص ٤ : ١٠٢.

١٢ ـ التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ١ : ١٨١.

وما لم أذكره من كتب السنّة أكثر مما ذكرت (١).

__________________

١ ـ وقد ذكر صاحب كتاب منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية : ٤٥ اعتراضاً على الاستدلال بهذه الآية على الولاية لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام كما اعترض غيره بما حاصله : إنّ التصدّق في أثناء الصلاة ينافي التوجّه والانقطاع إلى اللّه سبحانه وتعالى ، فالروايات الواردة في نزول الآية في حقّ علي بن أبي طالب تقدح في خشوعه في الصلاة فضلا عن أن تعدّ من مناقبه ويستدلّ بها على إمامته؟!

وفي الجواب على ذلك نورد كلام العلاّمة الآلوسي في روح المعاني ٦ : ٣٣٦ ، حيث أورد هذا الاعتراض ودفعه فقال : « قيل لابن الجوزي رحمه اللّه تعالى : كيف تصدّق عليّ كرّم اللّه تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة ، والظنّ فيه بل العلم الجازم أنّ له كرّم اللّه تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلّق بها ، وقد حكي ممّا يؤيّد ذلك كثيراً؟!

فأنشأ يقول :

يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته

عن النديم ولا يلهو عن الناس

أطاعه سكره حتى تمكّن من

فعل الصحاة فهذا أوحد الناس »

فعليّ عليه‌السلام انتقل عن طاعة العبادة إلى طاعة الصدقة ، فهو مع اللّه

١٠٣

٢ ـ آية البلاغ تتعلّق أيضاً بولاية علي :

قال تعالى : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).

يقول بعض المفسّرين من أهل السنّة والجماعة بأنّ هذه الآية نزلت في بداية الدعوة عندما كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقيم حرساً يحرسونه خوفاً من القتل والاغتيال ، فلما نزلتْ : ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) قال : « إذهبوا فإنّ اللّه قد عصمني ».

__________________

في كلا الحالتين ، ولم ينشغل عنه طرفة عين حتى يكون ذلك منافياً للخشوع والخضوع المطلق في الصلاة ، ولأجل ذلك أنزل اللّه سبحانه وتعالى في حقّه قرآناً يتلوه المسلمون على مدى الأجيال المتمادية.

وهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنّه أرقى حالا من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، نجده يفعل بعض الأفعال في الصلاة ، فقد روى مسلم في صحيحه ٢ : ٤٤ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « إنّي لأدخل في الصلاة أُريد إطالتها ، فأسمع بكاء الصبي ، فأخفف من شدّة وجد أُمه به » ، وعن أبي قتادة : « إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول اللّه ... فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها » ، صحيح البخاري ١ : ١٣١.

فهذه الأفعال كان يقوم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة ، ولا تؤثّر على توجّهه وانقطاعه إلى اللّه سبحانه وتعالى ، وكذا ما قام به الإمام علي عليه‌السلام لا يضرّ في خشوعه وخضوعه التامّ إلى اللّه تعالى بعدما كان فعله صدقة يراد بها وجه اللّه عزّ وجلّ.

١ ـ المائدة : ٦٧.

١٠٤

فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبداللّه بن شفيق قال : »إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعقّبه ناس من أصحابه ، فلمّا نزلت : ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ، فخرج فقال : « يا أيها الناس إلحقوا بملاحقتكم ، فإنّ اللّه قد عصمني من الناس » (١).

وأخرج ابن حبّان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنّا إذا صحبنا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلّق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يامحمّد من يمنعك مني؟ فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّه يمنعني منك ، ضع عنك السيف » ، فوضعه ، فنزلت : ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٢).

كما أخرج الترمذي والحاكم وأبو نعيم عن عائشة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُحرسُ ، حتّى نزلتْ ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ، فأخرج رأسه من القبّة فقال : « أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني اللّه » (٣).

__________________

١ ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٢ : ٥٣٠ ( ذيل الآية ).

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ البداية والنهاية ٨ : ٧٣ حوادث سنة ٥٩ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٤ : ٣٤٩ ، الطبقات الكبرى ١ : ٧٨ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ٤٦٣ ، الإصابة ٣ : ٢٨٧ ، فتح الباري ٦ : ٣١ و ٧ : ٣٩١.

١٠٥

وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عبّاس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُحرسُ ، وكان يرسل معه عمّه أبو طالب كلّ يوم رجلاً من بني هاشم يَحرسونه ، فقال : « يا عّمْ ، إنّ اللّه قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث » (١).

ونحن إذا تأمّلنا في هذه الأحاديث وهذه التأويلات ، وجدناها لا تستقيم ومفهوم الآية الكريمة ولا حتى مع سياقها ، فكلّ هذه الروايات تُفيد بأنّها نزلتْ في بداية الدعوة ، حتى إنّ البعض يصرّح بأنّها في حياة أبي طالب ، يعني قبل الهجرة بسنوات كثيرة ، وبالخصوص رواية أبي هريرة التي يقول فيها : « كنّا إذا صحبنا رسول اللّه في سفر تركنا له أعظم دوحة ... الخ ».

فهذه الرواية ظاهرة الوضع ، لأنّ أبا هريرة لم يعرف الإسلام ولا رسول اللّه إلاّ في السنة السابعة للهجرة النبوية ، كما يشهد هو نفسه بذلك (٢) ، فكيف يستقيم هذا ، وكلّ المفسّرين سنّة وشيعة أجمعوا على أنّ سورة المائدة مدنية ، وهي آخر ما نزل من القرآن؟!

فقد أخرج أحمد ، وأبو عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي ، وابن المنذر ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه

__________________

١ ـ الدر المنثور للسيوطي ٢ : ٤٤٦ ، سورة المائدة.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٠٦

عن جُبير بن نفير قال : حججتُ فدخلتُ على عائشة ، فقالت لي : ياجبير تقرأ المائدة؟ فقلتُ : نعم ، فقالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم من حرام فحرّموه (١).

كما أخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والحَاكمْ وصَححّه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عبداللّه بن عمرو قال : آخر سورة نزلت سورة المائدة (٢).

وأخرج أبو عبيد عن محمّد بن كعب القرطني قال : نزلت سورة المائدة على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع ، فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته ، فانصدعت كتفها ، فنزل عنها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال : نزلت سورة المائدة على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسير في حجّة الوداع وهو راكب راحلته ، فبركت به راحلته من ثقلها (٤).

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ المصدر نفسه.

٤ ـ المصدر نفسه.

١٠٧

وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المائدة من آخر القرآن تنزيلاً ، فأحلّوا حلالها ، وحرّموا حرامها » (١).

فكيف يقبل العاقل المنصف بعد كلّ هذا ادّعاء من قال بنزولها في أوّل البعثة النبّوية ، وذلك لصرفها عن معناها الحقيقي؟!

أضف إلى ذلك أنّ الشيعة لا يختلفون في أنّ سورة المائدة هي آخر القرآن نزولاً ، وأنّ هذه الآية بالذات : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... ) ـ والتي تسمّى آية البلاغ ـ نزلت على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة عقيب حجة الوداع في غدير خمّ ، قبل تنصيب الإمام علي عَلماً للناسِ ليكونَ خليفته من بعده ، وذلك يوم الخميس.

وقد نزل بها جبرائيل عليه‌السلام بعد مضيّ خمس ساعات من النهار فقال : يا محمّد ، إنّ اللّه يقرئك السلام ويقول : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ).

على أنّ قوله سبحانه وتعالى : ( وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يدلّ دلالة واضحة بأنّ الرسالة انتهت أو هي على وشك النهاية ، وإن

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

١٠٨

بقي فقط أمرٌ مهمّ لا يكتمل الدينُ إلاّ به.

كما تُشعر الآية الكريمة بأنّ الرسول كان يخشى تكذيب الناس له إذا ما دعاهم بهذا الأمر الخطير ، ولكنّ اللّه سبحانه لم يُمهله للتأجيل ، فالأجل قد قَرُبَ ، وهذه الفرصة هي أحسن الفرص ، وموقفها هو أعظم المواقف ، إذ اجتمع معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من مائة ألف رافقوه في حجّة الوداع ، وما زالت قلوبهم عامرة بشعائر اللّه ، مستحضرة نعي الرسول نفسه إليهم.

وقوله لهم : « لعلّي لا ألقاكم بعد عامكم هذا ، ويوشك أن يأتي رسول ربّي وأُدعى فأجيب » ، وهم سيفترقون بعد هذا الموقف الرهيب للعودة إلى ديارهم ، ولعلّهم لا تُتاحُ لهم فرصة اللّقاء مرّة أُخرى بهذا العدد الكبير ، وغدير خمّ هو مفترق الطرقات ، فلا يمكن لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُفوّتَ هذه الفرصة بأيّ حال من الأحوال.

كيف ، وقد جاءه الوحي بما يشبه التهديد على أنّ كلّ الرسالة منوطة بهذا البلاغ ، واللّه سبحانه قد ضمن له العصمة من الناس ، فلا داعي للخوف من تكذيبهم ، فكم كُذِبتْ رسُلٌ من قبله ، ولكن لم يُثنهم ذلك عن تبليغ ما أُمروا به ، فما على الرسول إلاّ البلاغ ، ولو علم اللّه مُسبقاً بأنّ أكثرهم ( لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) (١) ، ولو علم بأنّ منهم

__________________

١ ـ الزخرف : ٧٨.

١٠٩

( مُكَذِّبِينَ ) (١) ، ما كان سبحانه ليتركهم بدون إقامة الحجّة عليهم ، ( لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (٢).

على أنّ لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسوة حسنة بمن سبقه من إخوانه الرسل الذين كذّبتهم أممهم ، قال تعالى : ( وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوط * وَأصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) (٣).

ونحن إذا تركنا التعصّب المقيت وحبّ الانتصار للمذهب ، لوجدنا أنّ هذا الشرح هو المناسب لعقولنا ، ويتماشى مع سياق الآية والأحداث التي سبقتها وأعقبتها.

وقد أخرج كثير من علمائنا نزولها في غدير خمّ في شأن تنصيب الإمام علي ، وصحّحوا تلك الروايات ، ووافقوا بذلك إخوانهم من علماء الشيعة ، وأذكر على سبيل المثال من علماء السنّة :

١ ـ الحافظ أبو نعيم في كتاب نزول القرآن.

٢ ـ الإمام الواحدي في كتاب أسباب النزول : ١٥٠.

__________________

١ ـ الحاقة : ٤٩.

٢ ـ النساء : ١٦٥.

٣ ـ الحج : ٤٢ ـ ٤٤.

١١٠

٣ ـ الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير ٤ : ٩٢.

٤ ـ الحاكم الحسكاني في كتابه شواهد التنزيل لقواعد التفضيل ١ : ١٨٧.

٥ ـ جلال الدين السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور : ٣ : ١١٧.

٦ ـ الفخر الرازي في تفسيره الكبير ١٢ : ٥٠.

٧ ـ محمد رشيد رضا في تفسير المنار ٢ : ٨٦ و ٦ : ٤٦٣.

٨ ـ تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ٢ : ٨٦.

٩ ـ فتح القدير للشوكاني ٢ : ٦٠.

١٠ ـ مطالب السؤول لابن طلحه الشافعي ١ : ٤٤.

١١ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي : ٢٥.

١٢ ـ ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي : ١٢٠.

١٣ ـ الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٣.

١٤ ـ ابن جرير الطبري في كتاب الولاية.

١٥ ـ ابن سعيد السجستاني في كتاب الولاية.

١٦ ـ عمدة القاري في شرح البخاري لبدر الدين الحنفي ٨ : ٥٨٤.

١٧ ـ تفسير القرآن لعبد الوهاب البخاري.

١١١

١٨ ـ روح المعاني للآلوسي ٢ : ٣٨٤.

١٩ ـ فرائد السمطين للحمويني ١ : ١٨٥.

٢٠ ـ فتح البيان في مقاصد القرآن للعلاّمة سيد صديق حسن خان ٣ : ٦٣.

فهذا نزرٌ يسيرٌ ممّن يحضرني ، وهناك أضعاف هؤلاء من علماء أهل السنّة ذكرهم العلاّمة الأميني في كتاب الغدير.

فماذا ياتُرى فعل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما أمره ربّه بإبلاغ ما أنزل إليه؟

يقول الشيعة : بأنّه جمع الناس على صعيد واحد في ذلك المكان وهو غدير خمّ ، وخطبهم خطبة بليغة طويلة ، وأشهدهم على أنفسهم ، فشهدوا بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهم من أنفسهم ، وعند ذلك رفع يد علي بن أبي طالب وقال : « من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار » (١).

__________________

١ ـ وهو مايسمّى بحديث الغدير ، وقد أخرجه علماء الشيعة وعلماء السنّة على حد سواء ( المؤلّف ).

وبهذا اللفظ تجده في : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٣ ، والسيرة الحلبية ٣ : ٣٨٤ ، والصواعق المحرقة ١ : ١٠٦ ، وفي مستدرك إحقاق الحقّ ٦ : ٢٩٢

١١٢

ثمَّ ألبسه عمامته ، وعقد له موكباً ، وأمر أصحابه بتهنئته بإمرة المؤمنين ، ففعلوا ، وفي مقدّمتهم أبو بكر وعمر يقولان : « بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة » (١).

__________________

عن إسعاف الراغبين والعقد الفريد.

وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني حديث « من كنت مولاه » ، وأثبت صحته ، بل أثبت أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولا فهذا علي مولاه » متواتر ، وردّ على ابن تيمية في تضعيفه للحديث ، راجع الصحيحة ٤ : ٣٣٠ ح ١٧٥٠.

١ ـ راجع لكلامهما في التهنئة لعليّ بالولاية : المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٣ ح ٥٥ ، المناقب للخوارزمي : ١٥٦ ح ١٨٣ ، مسند أحمد ٤ : ٢٨١ ، تاريخ بغداد ٨ : ٢٨٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٢١ ، سير أعلام النبلاء ١٩ : ٣٢٨ ، فيض القدير للمناوي ٦ : ٢٨٢ ، تفسير الفخر الرازي ٤ : ٤٠١.

ثمّ إنّه لا يقال إنّ سبب واقعة الغدير حدوث نزاع بين أحد الصحابة وبين علي بن أبي طالب ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيقاف النزاع فتكلّم بذلك الكلام.

وذلك لأمور :

أولا : إنّ الآية القرآنية تنصّ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن لم يبلّغ الناس بهذا الأمر فهو لم يبلّغ شيئاً من الرسالة الإسلامية ، ويكون خلال السنين السالفة كأنّما لم يفعل شيئاً ، ولم يبلّغ عن اللّه سبحانه وتعالى ، فالآية تنصّ على أنّ هذا الأمر المأمور بتبليغه من صلب الدين وأنّ رسالة السماء مرتبطة به ، فكيف بعد هذا يكون الأمر بالتبليغ لأجل قضية شخصية ، مع أنّ القضايا الشخصية لا مدخلية لرسالة السماء فيها ، وأيّ ربط بين رسالة عالمية خالدة بقضية شخصية حدثت أمام مجموعة من المسلمين؟!

١١٣

وبعدما فرغوا أنزل اللّه عليه : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ).

هذا مايقوله الشيعة ، وهو عندهم من المسلّمات ، ولا يختلف فيه عندهم اثنان.

فهل لهذه الحادثة ذكرٌ عند أهل السنّة والجماعة؟

وحتى لا ننحاز إليهم ويُعحبنا قولهم ، فقد حذّرنا اللّه سبحانه بقوله : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ

__________________

ثانياً : لو سلّمنا ذلك ، فلا داعي لإيقاف هذا الجمع الغفير من الحجّاج في ذلك الحرّ الشديد لأجل قضية شخصية جرت بين بعض الصحابة وعلي بن أبي طالب ، إذ كان بإمكانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلّ المسألة أمام من شهدها ، بلا حاجة لإيقاف عموم المسلمين القافلين من الحجّ.

ثالثاً : القضيّة الشخصية التي وقعت للإمام علي مع بعض الصحابة كانت في اليمن ، حيث حصل خلاف حول جارية في السبي أو حول إبل الصدقة ، وأُولئك النفر لم يشهدوا الحجّ حتى يوقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الجمع الغفير للمصالحة بينهم.

والخلاصة : إن جميع الأدلّة والقرائن تدلّ دلالة صريحة لا غبار عليها على أنّ قضية غدير خم قضية إلهية مرتبطة بروح الدين الإسلامي وأُسسه ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من ذلك الموقف العظيم تبليغ أمر سماوي إلهي وهو الولاية لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وخلافته بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يثار خلاف ذلك ما هو إلاّ تخرصات وأراجيف للدفاع عن الباطل المهزول.

١١٤

عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ ألَدُّ الخِصَامِ ) (١).

فالواجب أن نحتاط ونبحث هذا الموضوع بكلّ حذر ، وننظرُ في أدلّة الفريقين بكلّ نزاهة ، مبتغين في ذلك رضاه سبحانه.

والجواب : نعم ، إنّ كثيراً من علماء أهل السنّة يذكرون هذه الحادثة بكلّ أدوارها ، وها هي بعض الشواهد من كتبهم :

١ ـ أخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث زيد بن أرقم قال : نزلنا مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواد يقال له وادي خم ، فأمر بالصلاة فصلاّها بهجير ، قال : فخطبنا ، وظلّل لرسول اللّه بثوب على شجرة سمرة من الشمس فقال : « ألستم تعلمون ، أو ألستم تشهدون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟ » قالوا : بلى ، قال : « فمن كنتُ مولاه فعليّ مولاه ، اللَّهم وال من والاه وعاد من عاداه ... » (٢).

٢ ـ أخرج الإمام النسائي في كتاب الخصائص عن زيد بن أرقم قال : لمّا رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع ، ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، ثمّ قال : « كأنّي دُعيت فأجبتُ ، وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ،

__________________

١ ـ البقرة : ٢٠٤.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٣٧٢ ، وصرّح محقّق الكتاب بصحة الحديث ، والمصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٣ ح ٥٥ ، وسنن النسائي ٥ : ١٣١ ح ٨٤٦٩.

١١٥

فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض » ، ثم قال : « إنّ اللّه مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن » ، ثم إنّه أخذ بيد عليّ فقال : « من كنتُ وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ». قال أبو الطفيل : فقلتُ لزيد : سمعته من رسول اللّه؟ فقال : وإنّه ماكان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينيه ، وسمعه بأذنيه (١).

٣ ـ أخرج الحاكم النيسابوري عن زيد بن أرقم من طريقين صحيحين على شرط الشيخين قال : لمّا رجع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع ونزل غدير خمّ ، أمر بدوحات فقممن فقال : « كأنّي دعيتُ فأجْبتُ ، وإنّي تركتُ فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه تعالى وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لم يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض » ، ثم قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ مولاي وأنا مولى كلّ مؤمن » ، ثمّ أخذ بيد علي فقال : « من كنتُ مولاه فهذا وليّه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه ... » (٢).

__________________

١ ـ خصائص النسائي : ٩٣ ، ورواه أيضاً في سننه ٥ : ١٣٠ ح ٨٤٦٤.

٢ ـ مستدرك الصحيحين ٣ : ١٠٩ ، وقال « صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه بطوله » ، وسكت عنه الذهبي ، وانظر : السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٥ ح ٨١٤٨ ، والبداية والنهاية ٥ : ٢٢٨ وقال : « تفرّد به النسائي من هذا الوجه ، وقال شيخنا أبو عبد اللّه الذهبي » : « وهذا حديث صحيح ».

١١٦

٤ ـ كما أخرج هذا الحديث مسلم في صحيحه يُسْنده إلى زيد بن أرقم ولكنّه اختصره فقال : قام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خمًّا بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : « أمّا بعد ، ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأُجيبُ ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به » ، فحثّ على كتاب اللّه ورغّب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكركم اللّه في أهل بيتي ... » (١).

تعليق : بالرغم من أنّ الإمام مسلم اختصر الحادثة ولم يروها بكاملها ، إلاّ أنّها بحمد اللّه كافية وشافية ، ولعلّ الاختصار كان من زيد بن أرقم نفسه لمّا اضطرّته الظروف السياسية إلى كتمان حديث الغدير ، وهذا نفهمه من سياق الحديث إذ يقول الراوي :

انطلقتُ أنا وحُصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلمّا جلسنا إليه قال له حُصين : لقد لقيتَ يازيد خيراً كثيراً ، رأيتَ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمعتَ حديثه ، وغزوتَ معه ، وصلّيتَ خلفه ، لقد لقيتَ يازيدُ خيراً كثيراً ، حدّثنا يازيد ماسمعت من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٧ : ١٢٣ ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، مسند أحمد ٤ : ٣٦٧ ، السنن الكبرى للنسائي ١٠ : ١١٤.

١١٧

قال : يا بن أخي واللّه لقد كبرتْ سنّي ، وقدُمَ عهدي ، ونسيتُ بعض الذي كنتُ أعِي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما حدّثتكم فاقبلوا ، وما لا فلا تكلّفونيه.

ثمّ قال : قام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خُمَّا ....

فيبدو من سياق الحديث أنّ حُصيناً سأل زيد بن أرقم عن حادثة الغدير ، وأحرجه أمام الحاضرين بهذا السؤال ، وكان بدون شكّ يعلم بأنّ الجواب صريح على ذلك يسبّب له مشاكل مع الحكومة التي كانت تحمِلُ الناس على لعن علي بن أبي طالب ، ولهذا نجده يعتذر للسائل بأنّه كبُرتْ سنّه ، وقدُم عهده ، ونسي بعض الذي كان يَعِي ، ثم يُضيف طالباً من الحاضرين بأن يقبلوا مايحدّثهم به ، ولا يكلّفوه ما يريد السكوت عنه.

ومع خوفه ، ومع اختصاره للحادثه واقتضابها ، فقد أوضح زيد بن أرقم ـ جزاه اللّه خيراً ـ كثيراً من الحقائق ، وألمحَ لحديث الغدير بدون ذكره ، وذلك قوله : »قام فينا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً بماء يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة « ، ثمّ بعد ذلك ذكر فضل علي ، وأنّه شريك القرآن في حديث الثقلين »كتاب اللّه وأهل بيتي « بدون أن يذكر اسم علي ، وترك للحاضرين أن يستنتجوا ذلك بذكائهم؛ لأنّ كلّ المسلمين يعرفون أنّ علياً هو سيّد أهل بيت النبوة.

ولذلك نرى حتّى الإمام مسلم نفسه فهم من الحديث مافهمناه

١١٨

وعرف ماعرفناه ، فتراه يخرج هذا الحديث في فضائل علي بن أبي طالب ، رغم أنّ الحديث ليس فيه ذكر لاسم علي بن أبي طالب.

٥ ـ أخرج الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن زيد بن أرقم وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : خطب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خمّ تحت شجرات فقال : « أيها الناس يوشك أن أُدعى فأُجيب ، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون؟ » قالوا : نشهد أنك قد بلّغتَ وجاهدتَ ونصحتَ ، فجزاك اللّه خيراً ، فقال : « أليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت ، وأنّ الساعة آتية لاريب فيها ، وأنّ اللّه يبعثُ من في القبور؟ » قالوا : بلى نشهد بذلك ، فقال « اللَّهم اشهد ».

ثمّ قال : « يا أيّها الناس إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه ـ يعني علياً ـ اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ».

ثمّ قال : « يا أيها الناس إنّي فرطكم ، وإنّكم واردون عليَّ الحوض ، حوض أعرض ما بين بصرى إلى صنعاء ، فيه عدد النجوم قدحان من فضّة ، وإنّي سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين ، كيف تخلّفوني فيهما ، الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّ وجلّ سبب طرفه بيد اللّه تعالى وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا ، وعترتي

١١٩

أهل بيتي ، فإنه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتى يردا عليَّ الحوض » (١).

__________________

١ ـ المعجم الكبير للطبراني ٣ : ١٨٠ ح ٣٠٥٢ ، وعنه الصواعق المحرقة ١ : ١٠٨ الشبهة الحادية عشر ، ونصّ على صحة سنده وقال : « ولفظه عند الطبراني وغيره بسند صحيح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب بغدير خم ... » ، وأيضاً في مجمع الزوائد ٩ : ١٦٥ وقال : « وفيه زيد بن الحسن الأنماطي قال أبو حاتم : منكر الحديث ، ووثقه ابن حبان » ، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات.

وما ذكره في كشف الجاني : ١٥٤ من أنّ الحديث ضعيف جدّاً ، ناشئٌ من التعصّب والافتراء ، وذلك : لأنّ زيد بن الحسن الأنماطي لم يضعفه إلاّ أبو حاتم ، ووثّقه ابن حبّان ، وأبو حاتم من المعروفين بالتشدّد في الرجال كما ذكر ذلك الذهبي في كتابه الموقظة : ص ١٢٠ ، وأمّا الذهبي فقد ذكره في ميزان الاعتدال ٢ / ١٠١ واقتصر على نقل توثيق ابن حبان وتضعيف أبي حاتم ، نعم في كتاب من له رواية في كتب الستة ١ / ٤١٦ ذكر ضعفه ، ولم يحكم بأنّه منكر الحديث كما قال عثمان الخميس.

وبعد الرجوع إلى موازين الذهبي الرجالية نجد أنّ هذا التضعيف ناشئ من تعصّبه وتحامله على فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، وذلك واضح لمن يرجع إلى كتاب تلخيص فضائل علي بن أبي طالب في المستدرك ليرى بأُمّ عينيه ، حتى اضطره التعصب إلى استحداث قواعد رجالية جديدة ، فقد مرّ على رواية رواتها ثقات لا يستطيع الطعن بهم ، فطعن بالرواية من خلال ضابطة رجالية جديدة ، فقال : « كذب يشهد القلب بوضعه » ، فصار القلب من الموازين التي يرجع إليها في وضع الحديث وعدمه!!

١٢٠