مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إليه رجل من الأوس يقال له : أحيحة بن الجلاح وخرج إليه من اليهود بنيامين القرطبي فقال له أحيحة : أيها الملك نحن قومك ، وقال له بنيامين : هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها ولو جهدت ، قال : ولم؟ قال : لأنها منزل نبي من الأنبياء يبعثه الله من قريش.

قال : ثم خرج يسير حتى إذا كان من مكة على ليلتين بعث الله عليه ريحا قصفت يديه ورجليه وشنجت جسده (١) فأرسل إلى من معه من اليهود فقال : ويحكم ما هذا الذي أصابني؟ قالوا : حدثت نفسك بشيء؟ قال : نعم ، وذكر ما أجمع عليه من هدم البيت وإصابة ما فيه قالوا : ذاك بيت الله الحرام ، ومن أراده هلك ، قال : ويحكم وما المخرج مما دخلت فيه؟ قالوا : تحدث نفسك بأن تطوف وتكسوه وتهدي له ، فحدث نفسه بذلك فأطلقه الله ، ثم سار حتى دخل مكة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وكسى البيت.

وذكر الحديث في نحره بمكة وإطعامه الناس ثم رجوعه إلى اليمن وقتله وخروج ابنه إلى قيصر واستعانته به فيما فعل قومه بأبيه ، وأن قيصرا كتب له إلى النجاشي ملك الحبشة وأن النجاشي بعث معه ستين ألفا واستعمل عليهم روزبه حتى قاتلوا حمير قتلة أبيه ، ودخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن ، وكان في أصحاب روزبه رجل يقال له أبرهة وهو أبو يكسوم ، فقال لروزبه : أنا أولى بهذا الأمر منك وقتله مكرا وأرضى النجاشي.

ثم أنه بني كعبة باليمين وجعل فيها قبابا من ذهب وأمر أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بذلك البيت الحرام ، وأن رجلا من بني كناية خرج حتى قدم اليمن فنظر إليها ثم قعد فيها يعني لحاجة الإنسان فدخلها أبرهة ، فوجد تلك العذرة فيها فقال : من اجترأ علي بهذا؟ ونصرانيتي لأهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج

__________________

(١) أي نقبض.

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

أبدا ، فدعا بالفيل وأذن في قومه بالخروج ومن اتبعه من أهل اليمن وكان أكثر من تبعه منهم عك والأشعريون وخثعم.

قال : ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه فتلقاه رجل من الحمس من بني كنانة فقتله فازداد بذلك حنقا وأحث السير والانطلاق ، وطلب من أهل الطائف دليلا فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له نفيل ، فخرج بهم يهديهم حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوا وهو من مكة على ستة أميال ، فبعثوا مقدماتهم إلى مكة فخرجت قريش عباديد (١) في رؤوس الجبال وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بقتال هؤلاء القوم ، ولم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته وغير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت ، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول :

لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك

لا يغلبوا بصليبهم ومحالهم عدوا محالك (٢)

إن يغلبوا (٣) البيت الحرام إذا فأمر ما بدا لك

ثم إن مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب ابن هاشم ، فلما بلغه ذلك خرج حتى أتى القوم وكان حاجب أبرهة رجلا من الأشعريين وكانت له بعبد المطلب معرفة ، فاستأذن له على الملك وقال له : أيها الملك جاءك سيد قريش الذي يطعم أنسها في الحي ووحشها في الجبل ، فقال : ائذن له ، وكان عبد المطلب رجلا جسميا جميلا ، فلما رآه أبو يكسوم أجله أن يجلسه تحته وكره أن يجلسه معه على سريره ، فنزل من سريره فجلس على الأرض وأجلس عبد المطلب

__________________

(١) العباديه : الفرق من الناس.

(٢) المِحال : التدبير والقوّة.

(٣) وفي نسخة : « ان يدخلوا » بدل « ان يغلبوا » وفي المصدر : « لا يدخلوا البلد الحرام ».

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

معه ثم قال : ما حاجتك؟ قال : حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك ، فقال أبو يكسوم : والله لقد رأيتك فأعجبتني ، ثم تكلمت فزهدت فيك (١) فقال : ولم أيها الملك قال : لأني جئت إلى بيت عزكم ومنعتكم من العرب وفضلكم في الناس وشرفكم عليهم ودينكم الذي تعبدون ، فجئت لأكسره وأصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلمتني في إبلك ولم تطلب إلى في بيتكم؟ فقال عبد المطلب : أيها الملك إنما أكلمك فيما لي ولهذا البيت رب هو يمنعه ، لست أنا منه في شيء ، فراع ذلك أبا يكسوم وأمر برد إبل عبد المطلب عليه.

ثم رجع وأمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها (٢) كأنها تكلمهم كلاما لاقترابها منهم ، فأحست نفوسهم بالعذاب ، وخرج دليلهم حتى دخل الحرم وتركهم وقام الأشعريون وخثعم وكسروا رماحهم وسيوفهم وبرأوا إلى الله أن يعينوا على هدم البيت فباتوا كذلك بأخبث ليلة ، ثم أدلجوا بسحر (٣) فبعثوا فيلهم يريدون أن يصبحوا بمكة فوجهوه إلى مكة فربض (٤) فضربوه فتمرغ فلم يزالوا كذلك حتى كادوا أن يصبحوا ، ثم إنهم أقبلوا على الفيل فقالوا : لك الله أن لا نوجهك إلى مكة فانبعث فوجهوه إلى اليمن راجعا فتوجه يهرول فعطفوه حين رأوه منطلقا حتى إذا ردوه إلى مكانه الأول ربض ، فلما رأوا ذلك عادوا إلى القسم فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة فجعلت ترميهم ، وكل طائر في منقاره حجر وفي رجليه حجران وإذا رمت بتلك مضت وطلعت أخرى

__________________

(١) أي رغبت عنك.

(٢) من كلح وجهه بمعنى عبس.

(٣) أي ساروا قريبا من السحر.

(٤) ربض : برك.

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه ولا عظم إلا أوهاه (١) وثقبه وثاب (٢) أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة ، فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها إرب (٣) حتى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلا أباده فلما قدمها انصدع صدره وانشق بطنه فهلك ، ولم يصب من خثعم والأشعريين أحد.

قال وكان عبد المطلب يرتجز ويدعو على الحبشة يقول :

يا رب لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع عنهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا

إنهم لم يقهروا قواكا

قال : ولم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك ، وليس كل القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق (٤).

وقال مقاتل : السبب الذي جر أصحاب الفيل إلى مكة هو أن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي ، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر وفي حقف من أحقافها (٥) بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل ويسميها النجاشي وأهل أرضه ماسرخشان ، فنزل القوم فجمعوا حطبا ثم أججوا نارا فاشتووا لحما فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف ، فذهبت الرياح بالنار فاضطرم الهيكل نارا ، فغضب النجاشي لذلك فبعث أبرهة لهدم الكعبة.

__________________

(١) أي كسره.

(٢) أي عاد.

(٣) أي عضو من أعضائه.

(٤) وفي المصدر بعد قوله « على الطريق » هكذا وقال نفيل في ذلك :

ردينة لو رأيت ولن ترينه

لدى جنب المحصب ما رأينا

حمدت الله اذ عاينت طيرا

وخفت حجارة تلقى علينا

وكلّ القوم يسأل عن نفيل

كأنّ على للحبشان دينا

(٥) الحقف : ما اعون من الرمل واستطال.

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وروي العياشي بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أرسل الله على أهل الفيل طيرا مثل الخطاف أو نحوه ، في منقاره حجر مثل العدسة فكان يحاذي برأس الرجل فيرميه بالحجر ، فيخرج من دبره ، فلم تنزل بهم حتى أتت عليهم ، قال : فأفلت رجل منهم فجعل يخبر الناس بالقصة فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا منها فقال : مثل هذا هو منها ، قال : فحاذى به فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

وقال عبيد بن عمير : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنها الخطاطيف ، كل طير منها معه ثلاثة أحجار ، ثم جاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما من حجر وقع منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر ، إن وقع على رأسه خرج من دبره وإن وقع على شيء من جسده خرج من الجانب الآخر.

وعن ابن عباس قال : دعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين فلما حاذت بهم رمتهم فما بقي أحد منهم إلا أخذته الحكة فكان لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه ، قال : وكانت الطير نشأت من قبل البحر لها خراطيم الطيور ورؤوس السباع ، لم تر قبل ذلك ولا بعده.

وروي الشيخ المفيد (ره) في مجالسه بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عليهم‌السلام قال : لما قصد أبرهة بن الصباح ملك الحبشة لهدم البيت تسرعت الحبشة فأغاروا عليها فأخذوا سرحا (١) لعبد المطلب بن هاشم ، فجاء عبد المطلب إلى الملك فاستأذن عليه فأذن له وهو في قبة ديباج على سرير له ، فسلم عليه فرد أبرهة السلام وجعل ينظر في وجهه ، فراقه (٢) حسنه وجماله وهيئته ، فقال له : هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال : نعم أيها الملك

__________________

(١) السرح : الماشية.

(٢) أي أعجبه.

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء ، فقال له أبرهة : لقد فقتم فخرا وشرفا ويحق لك أن تكون سيد قومك ثم أجلسه معه على سريره وقال لسائس فيله الأعظم ـ وكان فيلا أبيضا عظيم الخلق ، له نابان مرصعان بأنواع الدر والجواهر ، وكان الملك يباهي به ملوك الأرض ـ ائتني به ، فجاء به سائسه وقد زين بكل زينة حسنة فحين قابل وجه عبد المطلب سجد له ولم يكن يسجد لملكه ، وأطلق الله لسانه بالعربية فسلم على عبد المطلب ، فلما رأى الملك ذلك ارتاع له وظنه سحرا فقال : ردوا الفيل إلى مكانه ، ثم قال لعبد المطلب : فيم جئت فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك؟ ورأيت من هيبتك وجمالك وجلالك ما يقتضي أن أنظر في حاجتك فسلني ما شئت ، وهو يرى أنه يسأله في الرجوع عن مكة ، فقال عبد المطلب : إن أصحابك عدوا على سرح لي فذهبوا به ، فمرهم برده علي ، قال : فتغيظ الحبشي من ذلك وقال لعبد المطلب : لقد سقطت من عيني ، جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك ومكرمتكم التي تتميزون بها من كل جيل ، وهو البيت الذي يحج إليه من كل صقع في الأرض ، فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك؟

فقال له عبد المطلب : لست برب البيت الذي قصدت لهدمه ، وأنا رب سرحي الذي أخذه أصحابك فجئت أسألك فيما أنا ربه وللبيت رب هو أمنع له من الخلق كلهم وأولى به منهم ، فقال الملك : ردوا عليه سرحه وانصرف إلى مكة وأتبعه الملك بالفيل الأعظم مع الجيش لهدم البيت ، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ ، وإذا تركوه رجع مهرولا ، فقال عبد المطلب لغلمانه : ادعوا لي ابني فجيء بالعباس ، فقال : ليس هذا أريد ، ادعوا لي ابني فجيء بأبي طالب ، فقال : ليس هذا أريد ادعوا لي ابني فجيء بعبد الله أب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما أقبل إليه قال : اذهب يا بني حتى تصعد أبا قبيس ثم اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أي شيء يجيء من هناك وخبرني به قال : فصعد عبد الله أبا قبيس فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل ، فسقط

٢٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

على أبي قبيس ثم صار إلى البيت فطاف سبعا ثم صار إلى الصفا والمروة فطاف بهما سبعا.

فجاء عبد الله إلى أبيه فأخبره الخبر فقال : انظر يا بني ما يكون من أمرها بعد فأخبرني به ، فنظرها فإذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة فأخبر عبد المطلب بذلك ، فخرج عبد المطلب وهو يقول : يا أهل مكة اخرجوا إلى العسكر فخذوا غنائمكم.

قال : فأتوا العسكر وهم أمثال الخشب النخرة وليس من الطير إلا ما معه ثلاثة أحجار في منقاره ويديه يقتل بكل حصاة منها واحدا من القوم ، فلما أتوا على جميعهم انصرف الطير فلم ير قبل ذلك اليوم ولا بعده ، فلما أهلك القوم بأجمعهم جاء عبد المطلب إلى البيت فتعلق بأستاره وقال :

يا حابس الفيل بذي المغمس

حبسته كأنه مكوس

في مجلس تزهق فيه الأنفس

فانصرف وهو يقول في فرار قريش وجزعهم من الحبشة :

طارت قريش إذ رأت خميسا

فظلت فردا لا أرى أنيسا

ولا أحس منهم حسيسا

إلا أخا لي ماجدا نفسيا

مسودا في أهله رئيسا

وروي الشيخ أبو الفتح الكراجكي قدس‌سره في كنز الفوائد بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : قال لما ظهرت الحبشة باليمن وجه يكسوم ملك الحبشة بقائدين من قوادة يقال لأحدهما أبرهة والآخر أرباط في عشرة من الفيلة كل فيل في عشرة آلاف لهدم بيت الله الحرام ، فلما صاروا ببعض الطريق وقع بأسهم بينهم واختلفوا ، فقتل أبرهة أرباط واستولى على الجيش فلما قارب مكة طرد أصحابه عير عبد المطلب بن هاشم فصار عبد المطلب إلى أبرهة والمستولي عليه ابن

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

داية لعبد المطلب ، فقال الترجمان لأبرهة : هذا سيد العرب وديانها فأجله وأعظمه ثم قال لكاتبه : سله ما حاجته؟ فسأله فقال : إن أصحاب الملك طردوا لي نعما ، فأمر بردها ثم أقبل على الترجمان فقال قل له : عجبا لقوم سودوك ورأسوك عليهم حيث جئت تسألني في عيرك وقد جئت لأهدم شرفك ومجدك ، ولو سألتني الرجوع عنه لفعلت فقال : أيها الملك إن هذه العير لي وأنا ربها فسألتك إطلاقها وإن لهذه البنية ربا يدفع عنها ، قال : فإني غاد لهدمها حتى أنظر ما ذا يفعل ، فلما انصرف عبد المطلب رحل أبرهة بجيشه فإذا هاتف يهتف في السحر الأكبر : يا أهل مكة أتاكم أهل عكة بجحفل جرار يملأ الاندار ملء الجفار (١) فعليهم لعنة الجبار ، فأنشأ عبد المطلب يقول :

أيها الداعي لقد أسمعتني

كل ما قلت ومآبي من صمم

إن للبيت لربا مانعا

من يرده بآثام يصطلم

رامه تبع في أجناده

حمير والحي من آل إرم

هلكت بالبغي فيهم جرهم

بعد طسم وجديس وحشم (٢)

وكذلك الأمر في من كاده

ليس أمر الله بالأمر الأمم (٣)

نحن آل الله فيما قد خلا

لم يزل ذاك على عهد أبرهم (٤)

نعرف الله وفينا شيمة

صلة الرحم ونوفي بالذمم

لم يزل لله فينا حجة

يدفع الله بها عنها النقم

ولنا في كل دور كرة

نعرف الدين وطورا في العجم

__________________

(١) عكّة : اسم بلد في الثغور ، والجحفل : الجيش ، والأندر : البيدر ، وهي الموضع الذي يجمع فيه الحصاد ويداس ، والجفار من الأرض : سعة فيها مستديرة.

(٢) أسماء قبائل من العرب البائدة.

(٣) الأمم : اليسير.

(٤) مخفف إبراهيم.

٢٤٨

٢٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن رفاعة

______________________________________________________

فإذا ما بلغ الدور إلى

منتهى الوقت أتى الطين فدم (١)

بكتاب فصلت آياته

فيه تبيان أحاديث الأمم

فلما أصبح عبد المطلب جمع بينه وأرسل الحارث ابنه الأكبر إلى أعلى أبي قبيس فقال : انظر يا بني ما ذا يأتيك من قبل البحر فرجع فلم ير شيئا فأرسل واحدا بعد واحد من ولده ولم يأته أحد منهم عن البحر بخبر ، فدعا عبد الله وإنه لغلام حين أيفع (٢) وعليه ذؤابة تضرب إلى عجزه ، فقال : اذهب فداك أبي وأمي ، فاعل أبا قبيس فانظر ما ذا ترى يجيء من البحر ، فنزل مسرعا فقال : يا سيد النادي (٣) رأيت سحابا من قبل البحر مقبلا يستفل تارة ويرتفع أخرى ، إن قلت غيما قلته ، وإن قلت جهام (٤) اخلته يرتفع تارة وينحدر أخرى ، فنادى عبد المطلب : يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده ، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طائر حجر وفي رجليه حجران ، فكان الطائر الواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة كان يلقي الحجر في قمة (٥) رأس الرجل فيخرج من دبره.

وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم في كتابه فقال سبحانه : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ » السورة.

الحديث السادس والعشرون حسن كالصحيح وفي القاموس فناء الدار ككساء :

ما اتسع من أمامها وغيره إما منصوب بالاستثناء أو مجرور بالنعت لأنه لا يكسب التعريف بالإضافة ، وفي المصباح : درج الصبي دروجا من باب فقد : مشى قليلا في أول

__________________

(١) قال الشارح (ره) في البحار : الفدم : الأحمر المشبع حمرة ولعله هنا كناية عن الدم.

(٢) يفع الغلام وأيفع : ترعوع وناهز البلوغ.

(٣) النادي : مجلس القوم ما داموا مجتمعين فيه.

(٤) الجهام : السحاب لا ماء فيه.

(٥) القِمّة ـ بالكسر ـ أعلى كلّ شيء.

٢٤٩

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كان عبد المطلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره وكان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو طفل يدرج حتى جلس على فخذيه فأهوى بعضهم إليه لينحيه عنه فقال له عبد المطلب دع ابني فإن الملك قد أتاه

______________________________________________________

ما يمشي ، وقال : هوى يهوي من باب ضرب هويا بضم الهاء وفتحها : سقط من أعلى إلى أسفل وأهوى إلى الشيء بيده مدها ليأخذه إذا كان عن قرب فإن كان من بعد قيل هوى إليه من غير ألف ، انتهى.

« فإن الملك قد أتاه » الظاهر أن الملك بالتحريك والمراد إما الإتيان حقيقة في ذلك الزمان ، فالمراد غير جبرئيل عليه‌السلام فإنه قد دلت الأخبار على نزول روح القدس والملائكة عليه قبل بعثته وفي صباه أو مجازا تنزيلا للأمر المتيقن الوقوع منزلة الواقع وربما يقرأ أتاه على بناء التفعيل أو بناء الأفعال ، أي الملك حمله وجاء به هنا ، ولم يأت بنفسه ولا يخفى بعده ، ويمكن أن يقرأ الملك بالضم أي سيصير ملكا في منزلة الدين والدنيا يطيعه أهل الشرق والغرب ، أو حقيقة في ذلك الوقت أيضا كما عرفت.

وقد يقال : أنه على الوجه الأول إشارة إلى ما روي في الكتب الخاصة والعامة من نزول الملائكة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في صباه وشق صدره وغسل قلبه وأمثال ذلك مما أوردته في الكتاب الكبير وتكلمنا فيه نفيا وإثباتا.

قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : « أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ » وقيل : إنه إشارة إلى ما روي أن جبرئيل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صباه أو يوم الميثاق فاستخرج قلبه وغسله ثم ملأه إيمانا وعلما ، انتهى.

وأقول : لا حاجة إلى حمله على ذلك ، إذ الأخبار في نزول الملائكة عليه من عند ولادته إلى بعثته كثيرة.

وفي نهج البلاغة قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف الرسول : ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ليله ونهاره.

وعندي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نبيا مذ ولد ، وكان يوحى إليه ويعمل بشريعة نفسه ، وإنما كانت رسالته وبعثته على الناس بعد أربعين سنة ، ولو كان تابعا لشريعة غيره لكان رعية لذلك الرسول ، وكان ذلك الرسول أفضل منه ، وأيضا لو لم يكن وحي أو إلهام من الله تعالى كيف كان يعلم شريعة غيره حتى يعمل بها ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أميا ولم يختلف إلى عالم ، ولم يأخذ من أحد علما وكان هذا من أقوى معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا علم ذلك بالوحي كان شريعته وإن وافق شريعة غيره ، وقد بسطنا القول في ذلك في الكتاب الكبير بما لا يبقى معه شبهة للفطن الخبير.

ويؤيد بعض الوجوه المتقدمة ما رواه الصدوق (ره) في إكمال الدين بإسناده عن ابن عباس قال : كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو إجلالا له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج عبد المطلب ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج وهو غلام صبي فيجيء حتى يجلس على الفراش فيعظم ذلك أعمامه ويأخذونه فيقول لهم عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني فو الله إن له لشأنا عظيما إني أراني أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم ، إني أرى غرته غرة تسود الناس ، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويقول : ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط ولا جسدا ألين منه ولا أطيب ، ثم يلتفت إلى أبي طالب ، وذلك أن عبد الله وأبا طالب لأم واحدة فيقول : يا أبا طالب إن لهذا الغلام لشأنا عظيما فاحفظه واستمسك به ، فإنه فرد وحيد وكن له كالأم لا يصل إليه شيء يكرهه ، ثم يحمله على عنقه فيطوف به أسبوعا وكان عبد المطلب قد علم أنه يكره اللات والعزى فلا يدخله عليهما فلما تمت له ست سنين ماتت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة ، وكانت قدمت به على أخواله من بني عدي فيبقى رسول الله يتيما لا أب له ولا أم فازداد عبد المطلب له رقة وحفظا ، وكانت هذه حاله حتى أدرك عبد المطلب الوفاة ، فبعث إلى أبي طالب ومحمد على صدره وهو في غمرات الموت وهو يبكي

٢٥١

٢٧ ـ محمد بن يحيى ، عن سعد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن محمد الثقفي ، عن علي بن المعلى ، عن أخيه محمد ، عن درست بن أبي منصور ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لما ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكث أياما ليس له لبن فألقاه أبو طالب على ثدي نفسه فأنزل الله فيه لبنا فرضع منه أياما حتى وقع أبو طالب على حليمة السعدية فدفعه إليها

______________________________________________________

ويلتفت إلى أبي طالب ويقول : يا أبا طالب انظر أن تكون حافظا لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه ، ولم يذق شفقة أمه ، انظر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كبدك ، فإني قد تركت بني كلهم وأوصيتك به لأنك من أم أبيه ، يا أبا طالب إن أدركت أيامه تعلم أني كنت من أبصر الناس به وأنظر الناس وأعلم فإن استطعت أن تتبعه فافعل وانصره بلسانك ويدك ومالك ، فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بين آبائي ، يا أبا طالب ما أعلم أحدا من آبائك مات منه أبوه على حال أبيه ولا أمه على حال أمه فاحفظه لوحدته ، هل قبلت وصيتي؟ قال : نعم قد قبلت ، والله علي ذلك شاهد فقال عبد المطلب : فمد يدك إلى ، فمد يده فضرب بيده إلى يده ، ثم قال عبد المطلب : الآن خفف على الموت ، ثم لم يزل يقبله ويقول : أشهد أني لم أقبل أحدا من ولدي أطيب ريحا منك ولا أحسن وجها منك ويتمنى أن يكون قد بقي حتى يدرك زمانه ، فمات عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين ، فضمه أبو طالب إلى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار وكان ينام معه حتى بلغ لا يأمن عليه أحدا.

الحديث السابع والعشرون : ضعيف.

« ليس له لبن » إما لمرض أمه أو لفقد لبنها لا لموتها كما زعم ، فإن موتها على جميع الأقوال المتقدمة لم يكن متصلا بالولادة ، ونزول اللبن على ثدي أبي طالب رضي‌الله‌عنه من قبيل الإعجاز ، وبه تشتد أخوة أمير المؤمنين عليه‌السلام له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل المراد بثدي نفسه ثدي فاطمة بنت أسد وهو في غاية البعد.

« فرضع » كضرب « حتى وقع » أي اطلع ، وحليمة هي بنت أبي ذؤيب من

٢٥٢

٢٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله « أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ »

٢٩ ـ الحسين بن محمد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن إسحاق ، عن بكر بن محمد الأزدي ، عن إسحاق بن جعفر ، عن أبيه عليه‌السلام قال قيل له إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافرا فقال كذبوا كيف يكون كافرا وهو يقول :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا

نبيا كموسى خط في أول الكتب

______________________________________________________

بني سعد بن بكر ، واسم زوجها الحارث بن عبد العزى وقصصها طويلة أوردتها في الكتاب الكبير.

الحديث الثامن والعشرون : حسن.

والمثل بالتحريك ـ الحال العجيبة ، وقيل : الإيمان الطوع القلبي بجميع ما جاء به الرسول ، فإن الأول لا يجتمع مع الجحد بخلاف الثاني كما قال تعالى : « جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » (١).

« وأظهروا الشرك » أي عند من تجب التقية عنده لا عند جميع الناس « مرتين » مرة للإيمان ومرة للتقية عند وجوبها ، فإنها من أفضل الطاعات لا سيما تقية أبي طالب عليه‌السلام لأنها صارت سببا لشدة اقتداره على إعانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والخبر يدل على أن أصحاب الكهف كانوا مؤمنين ولم يحدث إيمانهم عند خروجهم وهو المشهور أيضا بين المفسرين وغيرهم.

الحديث التاسع والعشرون : صحيح وآخره مرسل.

« ألم تعلموا » الخطاب للكفار والمنكرين والاستفهام للإنكار أو للتقرير « في أول الكتب » أي في أول كل كتاب بالأولية الإضافية ، أو المراد كتاب آدم أو التوراة ، وقيل : اللوح المحفوظ ، أو التشبيه بموسى عليه‌السلام في كونه نبيا صاحب شريعة ناسخة.

__________________

(١) سورة النمل : ٥١٤

٢٥٣

وفي حديث آخر كيف يكون ـ أبو طالب كافرا وهو يقول :

لقد علموا أن ابننا لا مكذب

لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

______________________________________________________

« لقد علموا » هذان البيتان من قصيدة مشهورة لأبي طالب عليه‌السلام رواها الخاص والعام أوردت أكثرها في الكتاب الكبير « ولا يعبأ » على المعلوم والمجهول من العبأ وهو المبالاة بالشيء والاعتناء به ، وفي بعض النسخ ولا تعيأ باليائية والمثناة من العياء والكلال ، وفي بعضها ولا يعني بالنون أي لا يعتني على بناء المعلوم أو المجهول والأول أصح وأشهر ، والأباطل جمع أبطل أفعل التفضيل ، وهم المكذبون له والقائلون أنه ساحر أو مجنون أو إن ما جاء به سحر أو أساطير الأولين وأمثال ذلك.

« وأبيض » مرفوع معطوف على « لا مكذب » والبياض كناية عن اليمن والسعادة وإشارة إلى النور الذي كان في وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله « يستسقي الغمام بوجهه » أي بجاهه عند الله تعالى وكأنه إشارة إلى ما رواه الشهرستاني في الملل والنحل في بيان آراء محصلة للعرب في بيان حال عبد المطلب : ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم الجذب العظيم ، وأمسك السحاب عنهم سنين أمر أبا طالب ابنه أن يحضر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو رضيع في قماط فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء فقال : يا رب بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائبا هطلا ، فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد ، وأنشأ أبو طالب ذلك الشعر :

وأبيض يستقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله نبزي محمد

ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل (١)

__________________

(١) مرّت الأبيات بمعناها قريبا فراجع

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وإلى ما رواه السيد الجليل الرضي فخار بن معد الموسوي في كتاب إيمان أبي طالب عن شيخه محمد بن إدريس الحلي رحمه‌الله بإسناده عن عرفطة قال : وردت الأبطح يوما وقد أجدبت الصحراء وأخلقت الأنواء (١) وإذا قريش حلق قد ارتفعت لهم ضوضاء (٢) فقائل يقول : استجيروا باللات والعزى وقائل يقول : بل استجيروا بمناة الثالثة الأخرى ، فقام رجل من جملتهم يقال له ورقة بن نوفل عم خديجة بنت خويلد فقال : فيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل فقالوا : كأنك عنيت أبا طالب ، قال :

إنه ذلك فقاموا إليه بأجمعهم وقمت معهم فقالوا : يا أبا طالب قد أقحط الواد وأجدب العباد ، فهلم فاستق لنا ، فقال : رويدكم دلوك الشمس وهبوب الريح ، فلما زاغت الشمس أو كادت وافى أبو طالب قد خرج وحوله أغيلمة من بني عبد المطلب وفي وسطهم غلام أيفع منهم كأنه شمس دجى تجلت عنه غمامة قتماء (٣) فجاء حتى أسند ظهره إلى الكعبة في مستجارها ، ولاذ بإصبعه وبصبصت الأغيلمة حوله (٤) وما في السماء قزعة (٥) فأقبل السحاب من هيهنا ومن هيهنا حتى كث ولف وأسحم واقتحم وأرعد وأبرق ، وانفجر له الوادي ، فلذلك قال أبو طالب يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وأبيض يستسقي الغمام بوجهه » إلى آخر الأبيات.

وقد أوردت خبرا طويلا في الكتاب الكبير بأسانيد إن الناس استسقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جدب عرض لهم ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرخت السماء عزاليها (٦) وتبرم الناس من كثرة المطر ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه ، من ينشدنا قوله؟ فقام عمر بن الخطاب فقال : عسى أردت يا رسول الله :

وما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبر وأوفى ذمة من محمد

__________________

(١) الأنواء جمع النوء : النبات والبقل.

(٢) الضوضاء : أصوات الناس في الازدحام.

(٣) القتماء : الشديدة السواد.

(٤) بصبص فلان : تملّق.

(٥) القزعة : القطعة من السحاب.

(٦) كناية عن شدّة وقع المطر.

٢٥٥

٣٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال بينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد فألقى المشركون عليه سلى ناقة فملئوا ثيابه بها فدخله من ذلك ما شاء الله فذهب إلى أبي طالب فقال له يا عم كيف ترى حسبي فيكم فقال له وما ذاك يا ابن أخي فأخبره الخبر فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف وقال لحمزة خذ السلى ثم توجه إلى القوم والنبي معه فأتى قريشا وهم حول الكعبة فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه ثم قال لحمزة أمر السلى على سبالهم ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم

______________________________________________________

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس هذا من قول أبي طالب ، هذا من قول حسان بن ثابت ، فقام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : كأنك أردت يا رسول الله : « وأبيض يستسقي الغمام بوجهه » إلى آخر الأبيات المتقدمة.

وقال في النهاية في قوله : ثمال اليتامى ، الثمال بالكسر : الملجإ والغياث ، وقيل : هو المطعم في الشدة ، وقال في قوله : عصمة للأرامل ، العصمة المنعة ، والعاصم المانع الحامي ، أي يمنعهم من الضياع والحاجة ، وقال : الأرامل المساكين من رجال ونساء ويقال : لكل واحد من الفريقين على انفراده أرامل ، وهو بالنساء أخص وأكثر استعمالا ، والواحد أرمل وأرملة ، وقد تكرر ذكر الأرامل والأرملة في الحديث ، فالأرامل : الذي ماتت زوجته والأرملة التي مات زوجها سواء كانا غنيين أو فقيرين.

الحديث الثلاثون : حسن كالصحيح.

والجدد بضمتين جمع جديد نعت ثياب ، والسلى مقصورا الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد « فملأوا ثيابه بها » أي لطخوا جميع ثيابه بالدم والكثافات التي فيها « ما شاء الله » أي من الغم والحزن « كيف ترى حسبي فيكم » أي لست بدني الحسب والنسب بينكم فلم تخذلونني ولا تنصرونني « وما ذاك » أي وما سبب هذا الكلام « عرفوا الشر » أي إرادة الشر والغضب « على سبالهم » وفي بعض النسخ : على أسبالهم ، وفي القاموس : السبلة محركة الدائرة في وسط الشفة العليا أو ما على الشارب

٢٥٦

ثم التفت أبو طالب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا ابن أخي هذا حسبك فينا.

٣١ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي نصر ، عن إبراهيم بن محمد الأشعري ، عن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا محمد اخرج من مكة فليس لك فيها ناصر وثارت قريش بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج هاربا حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون فصار إليه.

٣٢ ـ علي بن محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى ، عن محمد بن عبد الله رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن أبا طالب أسلم بحساب الجمل قال بكل لسان

______________________________________________________

من الشعر أو طرفه أو مجتمع الشاربين ، أو ما على الذقن إلى طرف اللحية كلها أو مقدمها خاصة ، والجمع سبال ، وعين سبلاء طويلة الهدب وملأها إلى أسبالها أي حروفها وشفاهها.

وأقول : أوردت هذا الخبر بوجوه أخرى أبسط من ذلك في الكتاب الكبير.

الحديث الحادي والثلاثون : كالسابق.

« ثارت » أي هاجت ، وقال في النهاية : الحجون : الجبل المشرف مما يلي شعب الجزارين بمكة وقيل : هو موضع بمكة فيه اعوجاج ، والمشهور الأول ، وهو بفتح الحاء وفي القاموس : جبل بمعلاة مكة وموضع آخر ، وأقول : الظاهر الجبل الذي فيه الغار المشهور.

الحديث الثاني والثلاثون : مرفوع.

وحساب الجمل بضم الجيم وفتح الميم المشددة كما في الصحاح وفي القاموس وقد يخفف : حساب الأبجد ، ويمكن أن يكون ضمير « قال » أولا راجعا إلى الراوي وثانيا إلى الإمام عليه‌السلام بأن يكون الراوي قال من نفسه أو ناقلا عن غيره إن أبا طالب أظهر إسلامه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحساب الجمل كما سيأتي في الخبر الثاني؟ فأجاب عليه‌السلام بأنه أظهر إسلامه بجميع الألسن فإنه كان عارفا بها ، ويحتمل أن يكون المراد أنه أظهر عند موته بحساب الجمل بعقود الأنامل ، لكن قبل ذلك تكلم بعقائد الإيمان

٢٥٧

٣٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى ، عن أبيهما ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن إسماعيل بن أبي زياد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال أسلم أبو طالب بحساب الجمل وعقد بيده ثلاثا وستين.

______________________________________________________

بكل لسان ردا على بعض العامة القائلين بأنه إنما أسلم بلسان الحبشة ، أو المراد أن إسلامه بحساب الجمل كان بكل لسان.

الحديث الثالث والثلاثون : ضعيف على المشهور.

وهو من معضلات الأخبار وقد تحير في حله العلماء الأخيار ولنذكر منها وجوها :

الأول : ما رواه الصدوق (ره) في كتاب معاني الأخبار عن محمد بن المظفر عن محمد بن أحمد الداودي عن أبيه قال : كنت عند أبي القاسم الحسين بن روح قدس‌سره فسأله رجل ما معنى قول العباس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن عمك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمل وعقد بيده ثلاثة وستين؟ فقال : عنى بذلك إله أحد جواد ، وتفسير ذلك أن الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والهاء خمسة ، والألف واحد ، والحاء ثمانية والدال أربعة ، والجيم ثلاثة والواو ستة والألف واحد والدال أربعة فذلك ثلاثة وستون.

واعترض عليه بعض الأفاضل في العصر السابق بعد حكمه بالبعد بأن قوله بيده لا فائدة له حينئذ سواء كان الضمير للعباس أو لأبي طالب.

أقول : الاعتراض على الأخبار وإن بعدت عن الأفهام ليس من طريقة الأتقياء الأخيار ، إذ هؤلاء الأجلاء والفائزون بدرجة السفارة كانوا في تلو رتبة العصمة وكثيرا ما كانوا يقولون : لا نقول شيئا برأينا ، ولا نروي ولا نبدي إلا ما سمعناه من الحجة عليه‌السلام ، مع أن اعتراضه (ره) مبني على عدم فهم المراد إذ المقصود أن أبا طالب عليه‌السلام أظهر إسلامه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لغيره بحساب العقود ، بأن أظهر الألف أولا ثم اللام ثم الهاء وهكذا ، وإنما أظهر كذلك للتقية من قريش وليتمكن من معاونة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبه تظهر فائدة ذكر حساب الجمل ، إذ دلالة الأعداد المبنية بالعقود

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

على الحروف إنما هو بحساب الجمل فتأمل.

وقيل : يحتمل في هذا الخبر الذي رواه الصدوق أن يكون العاقد العباس حين أخبر النبي بذلك ولا يخفى بعده وعدم انطباقه على خبر الكتاب.

الثاني : أنه أشار بإصبعه المسبحة إلى قول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أو قالهما مشيرا لذلك فإن عقد الخنصر والبنصر وعقد الإبهام على الوسطى يدل على الثلاث والستين على اصطلاح أهل العقود ، فيكون المراد بالجمل حساب العقود ، ويؤيده ما رواه الشيخ ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المناقب بإسناده عن شعبة عن قتادة عن الحسن في خبر طويل نقلنا منه موضع الحاجة ، وهو أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى ، وقال : يا محمد إني أخرج من الدنيا وما لي غم إلا غمك ، إلى أن قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عم إنك تخاف علي أذى أعادي ولا تخاف على نفسك عذاب ربي ، فضحك أبو طالب وقال : يا محمد دعوتني وقد كنت قدم أمينا وعقد بيده على ثلاث وستين عند الخنصر والبنصر ، وعقد الإبهام على إصبعه الوسطى وأشار بإصبعه المسبحة بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فقام علي عليه‌السلام وقال : الله أكبر ، والذي بعثك بالحق نبيا لقد شفعك في عمك وهداه بك ، فقام جعفر وقال : لقد سدتنا في الجنة يا شيخي كما سدتنا في الدنيا ، فلما مات أبو طالب أنزل الله تعالى : « يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ » انتهى.

وهذا حل متين مؤيد بالخبر ، لكن يرد عليه أنه لم يعهد إطلاق الجمل على حساب العقود.

الثالث : أنه أشار بذلك إلى كلمتي لا وإلا ، والمراد كلمة التوحيد فإن الأصل والعمدة فيها النفي والإثبات.

الرابع : أن أبا طالب أو أبا عبد الله عليه‌السلام أمر بالإخفاء اتقاء ، فأشار بحساب العقود إلى كلمة سج من التسجية وهي التغطية أي غط واستر هذا فإنه من الأسرار

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا هو المروي عن شيخنا البهائي طيب الله مضجعه ، ولا يستقيم هذان إلا بما ذكرنا في الوجه الأول.

الخامس : أنه أشار بذلك إلى أنه أسلم بثلاث وستين لغة ، ويؤيده الخبر السابق بأن يكون الظرف فيه متعلقا بالقول ، وعلى هذا الوجه والوجه السابق ضمير « عقد » و « بيده » راجعان إلى أبي عبد الله ، وعلى الوجه الثالث يحتمل ذلك ورجوعه إلى أبي طالب.

السادس : أن أبا طالب علم بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته بالجفر ، فالمراد أنه أسلم بسبب حساب مفردات الحروف بحساب الجمل.

السابع : أنه أشار بذلك إلى عمر أبي طالب حين أظهر الإسلام وآمن بالله زمان تكليفه وهي ثلاث وستون سنة.

الثامن : أنه إشارة إلى أن أبا طالب قال ثلاث وستين قصيدة في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كل منهما يدل على إيمانه ، ذكره بعض الأفاضل وذكر وجها أغرب من ذلك وهو أن يكون المقصود هذه الصورة الدالة على هذا العدد بدون قصد إلى الدلالة عليه ليكون إشارة إلى أن أبا طالب رمى بإلهام على قلوب مشركي قريش ، وهذا يدل على إيمانه ولا يخفى بعد هذه الوجوه وركاكتها سوى الوجهين الأولين المؤيدين بالخبرين ، والأول منهما أوثق وأظهر.

فائدة

لما ذكر في حل هذا الخبر حساب العقود ، وكثيرا ما يبتني على معرفته حل الأخبار الموردة في الأصول المعتبرة أردت أن أذكرها هيهنا ، اعلم أن القدماء قد وضعوا ثمان عشرة صورة من أوضاع الأصابع الخمسة اليمنى لضبط الواحد إلى تسعة وتسعين ومثلها من أوضاع الأصابع الخمسة اليسرى لضبط المائة إلى تسعة آلاف ووضعا لعشرة آلاف ، فيضبطون بتلك الأوضاع من الواحد إلى عشرة آلاف ، وذلك أنهم جعلوا

٢٦٠