مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٥

قال قلت قوله « إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ » (١) قال يعني جبرئيل عن الله في ولاية

______________________________________________________

« إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ » الآية في سورة الحاقة ، وقالوا : إن الضمير راجع إلى القرآن وعلى ما فسره عليه‌السلام أيضا راجع إليه لكن باعتبار الآيات النازلة في الولاية خصوصا ، أو المعنى أنها جار فيها أيضا بل هي عمدتها ، وفسر عليه‌السلام الرسول بجبرئيل ، قال البيضاوي : لقول رسول يبلغه عن الله فإن الرسول لا يقول عن نفسه كريم على الله وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو جبرئيل عليه‌السلام « وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ » كما تزعمون تارة « قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ » تصدقون لما ظهر لكم صدقه تصديقا قليلا لفرط عنادكم « وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ » كما تزعمون أخرى « قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ » تذكرا قليلا ولذلك يلتبس الأمر عليكم وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية ، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم « تَنْزِيلٌ » هو تنزيل « مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » نزله على لسان جبرئيل « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ » سمى الافتراء تقولا لأنه قول متكلف « لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ » بيمينه « ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ » أي يناط قلبه يضرب عنقه وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك لمن يغضبون عليه ، وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب جيده (٢) وقيل : اليمين بمعنى القوة « فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ » عن القتل أو المقتول « حاجِزِينَ » دافعين وصف لأحد فإنه عام والخطاب للناس « وَإِنَّهُ » وإن القرآن « لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ » لأنهم المنتفعون به « وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ » فنجازيهم على تكذيبهم « وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ » إذا رأوا ثواب المؤمنين « وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ » لليقين الذي لا ريب فيه « فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ » فسبح الله بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا

__________________

(١) سورة الحاقة : ٤٠.

(٢) الجيد : العنق.

١٤١

علي عليه‌السلام ، قال : قلت : « وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ » قال قالوا إن محمدا كذاب على ربه وما أمره الله بهذا في علي فأنزل الله بذلك قرآنا فقال : « (إن ولاية علي) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا (محمد) بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ » ثم عطف القول فقال : « إن (ولاية علي) لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ للعالمين وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإن (عليا) لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ * وَإن (ولايته) لَحَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ (يا محمد) بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ » يقول اشكر ربك العظيم الذي أعطاك هذا الفضل.

______________________________________________________

على ما أوحى إليك ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : قالوا : إن محمدا كذاب على ربه ، تفسير لشاعر لأن المراد به من يروج الكذب بلطائف الحيل ، وقد يكون منها الوزن والقافية ، والحاصل أنه لا بد أن يكون مرادهم بالشاعر من يكون بناء كلامه على الخيالات الشعرية والأمور الباطلة المموهة ، لأن عدم كون القرآن شعرا مما لا يريب فيه أحد ، وقوله عليه‌السلام إن ولاية علي ، لا ينافي رجوع الضمير إلى القرآن لأن المراد به الآيات النازلة في ولايته عليه‌السلام كما عرفت ، وفي القاموس : الوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه « ثم عطف » على بناء المعلوم والضمير لله أي ارجع القول إلى ما كان في الولاية « إن ولاية علي » تفسير لقوله « وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ » ، أي الآيات النازلة في الولاية تذكرة ، وفسر المتقين بالعالمين بالولاية ، وكفر من أنكرها « أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ » أي بالولاية « وإن عليا لحسرة » هذا أيضا تفسير لمرجع الضمير ، وبيان لحاصل المعنى ، فإن الآيات النازلة في الولاية وعدم العمل بها لما صارت وبالا وحسرة على الكافرين يوم القيامة فكأنه عليه‌السلام صار حسرة لهم ، وكذا الكلام في قوله : وإن ولايته ، فإن الضمائر كلها راجعة إلى شيء واحد ، وعبر عنه بعبارات مختلفة تفننا وتوضيحا.

١٤٢

قلت : قوله : « لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ » (١) قال الهدى الولاية ، آمَنَّا بمولانا فمن آمن بولاية مولاه « فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً » قلت تنزيل قال لا تأويل قلت : قوله : « لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً » (٢) قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا الناس إلى ولاية علي فاجتمعت إليه قريش فقالوا يا محمد أعفنا من هذا فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا إلى الله ليس إلي فاتهموه وخرجوا من عنده فأنزل الله « قُلْ إِنِّي لا

______________________________________________________

« لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى » الآيات في سورة الجن نقلا عنهم هكذا « وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ » وفسر المفسرون الهدى بالقرآن ، ولما كان أكثره في الولاية إما تصريحا أو تلويحا وإما ظهرا وإما بطنا فسر عليه‌السلام الهدى بالولاية ، ولما كان الإيمان بالولاية راجعا إلى الإيمان بالمولى أي صاحب الولاية ، والذي هو أولى بكل أحد من نفسه أرجع ضمير به إلى المولى بيانا لحاصل المعنى ، ويحتمل أن يكون الهدى مصدرا بمعنى اسم الفاعل مبالغة ، فالمراد بالهدي الهادي وهو المولى والأول أنسب بالظاهر.

وأول عليه‌السلام « فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ » بالإيمان بالولاية ، للدلالة على أن من لم يؤمن بالولاية لم يؤمن بربه فإنها شرط الإيمان بالله كما قال الرضا عليه‌السلام : وأنا من شروطها ، وكما ورد أن كلمة التوحيد مسلوبة عن غير الإمامية في القيامة وكيف يتم الإيمان بالله مع رد ما أنزل في شأن المولى.

« فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً » قيل : أي نقصا في الجزاء ، ولا أن يرهقه ذلة أو جزاء نقص لأنه لم يبخس حقا ولم يرهق ظلما لأن من حق الإيمان بالقرآن أن يجتنب ذلك ، وفي القاموس : البخس : النقص والظلم ، والرهق محركة : غشيان المحارم.

« قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً » قال البيضاوي : أي لا نفعا ، أو غيا ولا رشدا

__________________

(١) سورة الجن : ١٣.

(٢) سورة الجن : ٢١.

١٤٣

أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ » إن عصيته « أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ » في علي قلت هذا تنزيل قال نعم ثم قال توكيداً : « وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ » في ولاية علي « فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً » قلت : « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً » يعني بذلك القائم وأنصاره.

______________________________________________________

عبر عن أحدهما باسمه ، وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارا بالمعنيين « قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ » إن أراد بي سوءا « وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً » أي منحرفا وملتجئا « إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ » استثناء من قوله : لا أملك ، فإن التبليغ إرشاد وإنفاع ، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة ، أو من ملتحدا ، أو معناه إن لا أبلغ بلاغا ، وما قبله دليل الجواب « وَرِسالاتِهِ » عطف على بلاغا ومن الله صفته ، فإن صلته عن ، كقوله بلغوا عني ولو آية.

« وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ » في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه « خالِدِينَ » جمعه للمعنى « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ » في الدنيا كوقعة بدر أو في الآخرة ، انتهى.

« أعفنا » يقال : أعفاه عن الأمر إذا لم يكلفه به « قلت هذا تنزيل » قيل : أي أراد ذلك في ظهر القرآن أو هو مدلوله المطابقي يعني بذلك القائم فإنه من جملة ما وعدوا به ، ولا ينافي شموله للقيامة وعقوباتها أيضا ، وروى علي بن إبراهيم عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في قوله عز وجل : « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ » قال : القائم وأمير المؤمنين عليهما‌السلام في الرجعة ، وفي قوله : « فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً » قال : هو قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لزفر : ولله يا بن صهاك لو لا عهد من رسول الله وكتاب من الله سبق لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا قال : فلما أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يكون من الرجعة قالوا : متى يكون هذا قال الله : قل يا محمد إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ، وقوله : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً » قال : يخبر الله رسوله الذي يرتضيه بما كان قبله من الأخبار وما يكون بعده أخبار القائم والرجعة

١٤٤

قلت : « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ » (١) فيك « وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي

______________________________________________________

والقيامة وقال رحمه‌الله في قوله : « وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ » يعني رسول الله يدعوهم إلى ولاية أمير المؤمنين « كادت قريش يكون عليه لبدا » أي يتعاونون عليه « فلا أَمْلِكُ لَكُمْ » إن توليتم عن ولايته « ضَرًّا وَلا رَشَداً ، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ » إن كتمت ما أمرت به « وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً » يعني مأوى « إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ » أبلغكم ما أمرني الله به من ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

« وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ » في ولاية علي « فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ » قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي أنت قسيم النار تقول هذا لي وهذا لك ، قالوا : فمتى يكون ما تعدنا به يا محمد من أمر على والنار؟ فأنزل الله : « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ » يعني الموت والقيامة « فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً » يعني فلانا وفلانا ومعاوية وعمرو بن العاص وأصحاب الضغائن من قريش ، من أضعف ناصرا وأقل عددا ، قالوا : فمتى يكون هذا؟ قال الله لمحمد « قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً » قال : أجلا.

« عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » يعني عليا المرتضى من رسول وهو منه « فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً » قال : في قلبه العلم ومن خلفه الرصد يعلمه علمه ، ويزقه زقا ويعلمه الله إلهاما ، والرصد التعليم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعلم النبي أن قد أبلغوا رسالات ربه وأحاط علي بما لدى الرسول من العلم « وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً » ما كان وما يكون ، الخبر.

قوله : « فاصبر « عَلى ما يَقُولُونَ » (٢) » أقول : في المزمل « وَاصْبِرْ » وكأنه من تصحيف النساخ ، وقيل : من المحتمل أن ذكر الفاء بدل الواو للإشعار بأن واصبر عطف على اتخذ من تتمة التفريع قال : يقولون فيك : إنه شاعر أو كاهن أو أن ما يقول في ابن عمه هو من قبل نفسه ولم يوح إليه.

« وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً » قال البيضاوي : بأن تجانبهم وتداريهم وتكليفهم وتكل

__________________

(١) سورة المزّمّل : ٩.

(٢) وفي التمن « واصبر » وهو الصحيح كما ذكره الشارح (ره) أيضا.

١٤٥

( يا محمد ) وَالْمُكَذِّبِينَ ( بوصيك ) أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً » قلت إن هذا تنزيل قال نعم.

قلت : « لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » (١) قال يستيقنون أن الله ورسوله ووصيه حق قلت : « وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً » قال ويزدادون بولاية الوصي إيمانا قلت « وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ » قال بولاية علي عليه‌السلام قلت :

______________________________________________________

أمرهم إلى الله كما قال : « ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ » دعني وإياهم وكل إلى أمرهم فإن لي غنية عنك في مجازاتهم « أُولِي النَّعْمَةِ » أرباب التنعم يريد صناديد قريش « وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً » زمانا وإمهالا.

« قلت إن هذا تنزيل؟ » أي قوله : يوصيك ، ويجري فيه التأويلات المتقدمة فإن تكذيبه في أمر الوصي تكذيب للوصي « لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » في سورة المدثر هكذا : « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » قال البيضاوي : أي ليكتسبوا اليقين بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدق القرآن لما رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم « وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا » بالإيمان به أو تصديق أهل الكتاب له « وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ » أي في ذلك وهو تأكيد للاستيقان وزيادة الإيمان ، ونفي لما يعرض المتيقن حيثما عراه شبهة « وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » شك أو نفاق فيكون إخبارا بمكة عما سيكون في المدينة بعد الهجرة.

« وَالْكافِرُونَ » الجازمون في التكذيب « ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً » أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب؟ استغرابا للمثل ، وقيل : لما استبعدوه حسبوه أنه مثل مضروب « كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ » مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين « وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ » جموع خلقه على ما هم عليه « إِلاَّ هُوَ » إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والاطلاع على حقائقها وصفاتها وما يوجب اختصاص كل منهم بما يخصه من كم وكيف واعتبار ونسبة « وَما هِيَ » وما

__________________

(١) سورة المدّثّر : ٣١. والآيات التالية أيضا في هذه السورة إلى قوله : « يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ».

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

سقر أو عدة الخزنة أو السورة « إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ » إلا تذكرة لهم « كَلاَّ » ردع لمن أنكرها أو إنكار لأن يتذكروا بها « وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ » أي أدبر كقبل بمعنى أقبل ، وقرأ نافع وحمزة ويعقوب وحفص إذا أدبر على المضي.

« وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ » أضاء « إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ » لأي البلايا الكبر أي البلايا كثيرة وسقر واحدة منها وإنما جمع كبرى على كبر إلحاقا بفعله تنزيلا للألف كالتاء ، كما ألحقت قاصعا بقاصعة فجمعت على قواصع والجملة جواب القسم ، أو تعليل لكلا والقسم معترض للتأكيد لإحدى الكبر « نَذِيراً لِلْبَشَرِ » إنذارا ، حال دلت عليه عليه الجملة ، أي كبرت منذرة « لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ » بدل من « للبشر » أي نذير للممكنين من السبق إلى الخير أو المتخلف عنه أو لمن شاء ، خبر لأن يتقدم فيكون في معنى قوله : « فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ».

« كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ » مرهونة عند الله ، مصدر كالشتيمة أطلق للمفعول كالرهن ، ولو كانت صفة لقيل رهين « إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ » فإنهم فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم ، وقيل : هم الملائكة أو الأطفال « فِي جَنَّاتٍ » لا يكتنه وصفها وهي حال من أصحاب اليمين أو ضميرهم في قوله : « يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ » أي يسأل بعضهم بعضا أو يسألون غيرهم عن حالهم كقولك تداعيناه أي دعوناه ، وقوله : « ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ » بجوابه حكاية لما جرى بين المسؤولين والمجرمين أجابوا بها « قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ » الصلاة الواجبة « وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ » ما يجب إعطاؤهم « وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ » نشرع في الباطل مع الشارعين فيه « وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ » أخره لتعظيمه أي وكنا بعد ذلك كله مكذبين بالقيامة « حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ » الموت ومقدماته « فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ » لو شفعوا لهم جميعا « فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ » أي معرضين عن التذكير يعني القرآن أو ما يعمه « ومعرضين » حال.

« كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ » شبههم في إعراضهم ونفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة « فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ » أي أسد « بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً » قراطيس تنشر وتقرأ ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن نتبعك حتى تأتي كلا منا بكتاب من السماء فيها من الله إلى فلان : اتبع محمدا.

« كَلاَّ » ردع عن اقتراحهم الآيات « بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » فلذلك أعرضوا عن التذكرة لامتناع إيتاء الصحف « كَلاَّ » ردع عن أعراضهم « إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ » وأي تذكرة؟! « فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ » أي فمن شاء أن يذكره ذكره « وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ » ذكرهم أو مشيتهم « هُوَ أَهْلُ التَّقْوى » حقيق بأن تقي عقابه « وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ » حقيق بأن يغفر عباده سيما المتقين.

أقول : إذا عرفت تفسير الآيات وما يرتبط بها فلنرجع إلى التأويل الوارد في الرواية فإنه من أغرب التأويلات وأصعبها ، فأقول : قبل تلك الآيات : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً ، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ » إلخ.

وقد ذكر المفسرون أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وقيل : إنه كان ملقبا بالوليد فسماه الله به تهكما أو أراد أنه وحيد في الشرارة أو عن أبيه لأنه كان زنيما (١) ورووا أنه مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقرأ حم السجدة فأتى قومه وقال : لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس والجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق (٢) وأنه ليعلو ولا يعلى ، فقال قريش : صبا الوليد (٣) فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فناداهم فقال : تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يتجنن؟ وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا؟ فقالوا : لا ، فقال : ما هو إلا

__________________

(١) الزنيم : الدعيّ.

(٢) المغدق : الكثير الماء.

(٣) أي خرج من دين آبائه.

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه ففرحوا به وتفرقوا مستعجبين منه ، فأنزل الله : « إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ » إلخ.

وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن عبد الرحيم بن كثير عن أبي عبد الله في قوله : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً » قال : الوحيد ولد الزنا وهو زفر ، وجعلت له مالا ممدودا قال : أجلا إلى مدة وبنين شهودا ، قال : أصحابه الذين شهدوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، ومهدت له تمهيدا ، ملكه الذي ملكته مهدت له ، ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا قال : لولاية أمير المؤمنين جاحدا عاندا لرسول الله فيها ، سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر ، فيما أمر به من الولاية قدر أن لا يسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام البيعة التي بايعه بها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ، قال : عذاب بعد عذاب يعذبه القائم ثم نظر إلى رسول الله وأمير المؤمنين ، فعبس وبسر مما أمر به ، ثم أدبر واستكبر ، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، قال زفر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر الناس لعلي « إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ » ليس هو بوحي من الله تعالى « سَأُصْلِيهِ سَقَرَ » إلى آخر الآيات فيه نزلت ، انتهى.

وأقول : قد عرفت مرارا أن الآية إذا نزلت في قوم فهي تجري في أمثالهم إلى يوم القيامة فظاهر تلك الآيات في الوليد وباطنها في الزنيم الشقي العنيد ، والأول كان معارضا في النبوة والثاني في الولاية ، وهما متلازمان ، ونفي كل منهما يستلزم نفي الأخرى فلا ينافي هذا التأويل كون السورة مكية ، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أول بعثته أظهر إمامة وصيه وقال : أول من يؤمن بي ويبايعني فهو الوصي بعدي وخليفتي في أمتي كما دلت عليه الأخبار الكثيرة الواردة في الطريقين ، فيحتمل أن يكون الكافر والمنافق معا نسباه إلى السحر لإظهار الولاية ، وأيضا نفي القرآن على أي وجه كان يستلزم نفي الولاية وإثباته إثباتها.

قوله : قلت : ما هذا الارتياب ، كان السائل جعل قوله عليه‌السلام : بولاية علي متعلقا بالمؤمنين فلا يعلم حينئذ أن متعلق الارتياب المنفي ما هو؟ فلذا سئل عنه

١٤٩

ما هذا الارتياب قال يعني بذلك أهل الكتاب والمؤمنين الذين ذكر الله فقال ولا يرتابون في الولاية قلت « وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ » قال نعم ولاية علي عليه‌السلام قلت « إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ » قال الولاية قلت : « لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ » قال من تقدم إلى ولايتنا أخر عن سقر ومن تأخر عنا تقدم إلى سقر « إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ » قال هم والله شيعتنا قلت : « لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ » قال إنا

______________________________________________________

فأجاب عليه‌السلام بأن الارتياب إنما هو في الولاية.

وقيل : السؤال مبني على توهم أن ذكر الارتياب بعد الاستيقان كاللغو إلا أن يكون المراد بالارتياب ارتياب قوم من أهل الكتاب والمؤمنين غير الذين ذكرهم سابقا وحاصل جواب الإمام عليه‌السلام أن المراد بهذا الارتياب ارتياب المذكورين سابقا وليس كاللغو لأنه لدفع احتمال الاستيقان بوجه ، والارتياب بوجه آخر نظير قوله تعالى : « جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » (١) فقوله عليه‌السلام : أهل الكتاب بتقدير ارتياب أهل الكتاب نظير : « وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى » (٢) انتهى.

وقوله عليه‌السلام : نعم ولاية علي كان المعنى التذكير لولايته عليه‌السلام ، ويحتمل في بطن القرآن إرجاع الضمير إلى الولاية لكون الآيات نازلة فيها ، وكذا قوله عليه‌السلام : الولاية ، يحتمل الوجهين.

وقوله عليه‌السلام : من تقدم إلى ولايتنا ، يحتمل وجهين : الأول : أن يكون المراد بالتقدم التقدم إلى الولاية ، وبالتأخير التأخر عن سقر ، فالترديد بحسب اللفظ وهما راجعان إلى أمر واحد ، الثاني : أن يكون كلاهما بالنظر إلى الولاية ، وأو للتقسيم كقولهم : الكلمة اسم أو فعل أو حرف ، والثالث : أن يكون المراد كليهما بحسب ظهر الآية وبطنها ، بأن يكون بحسب ظهر الآية المراد التقدم إلى سقر والتأخر عنها ، وبحسب بطنها التقدم إلى الولاية والتأخر عنها ، والشيعة أصحاب اليمين لأنهم

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

(٢) سورة البقرة : ١٨٩.

١٥٠

لم نتول وصي محمد والأوصياء من بعده ولا يصلون عليهم قلت : « فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ » قال عن الولاية معرضين قلت « كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ » قال الولاية.

قلت : قوله : « يُوفُونَ بِالنَّذْرِ » (١) قال يوفون لله بالنذر الذي أخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا قلت « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً » (٢) قال بولاية علي عليه‌السلام

______________________________________________________

يعطون كتابهم بيمينهم ، أو لأنهم في القيامة عن يمين العرش ، وتأويل المصلين بمن يصلي عليهم أحد تأويلات الآية وبطونها.

« كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ » أقول : في المدثر أنه تذكرة ، فيحتمل أن يكون في مصحفهم عليهم‌السلام « إنها » نعم في سورة عبس « كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ » ، فيحتمل أن يكون سؤال السائل عنها.

قال : « يوفون الله » أقول : قدر مر هذا الجزء في الرابع (٣) من الباب عن هذا الراوي باختلاف في أول السند ولم يكن هنا في الميثاق فكان يحتمل العهد في الدنيا وإن كان هيهنا أيضا يحتمل ذلك لكنه في غاية البعد « قال : بولاية علي » أي المراد بالقرآن ما نزل منه في الولاية ، أو هي العمدة فيه أو المعنى نزلنا عليك القرآن متلبسا بالولاية ، مشتملا عليها.

« قال نعم » ليس « نعم » في بعض النسخ وهو أظهر ، ورواه صاحب تأويل الآيات الظاهرة نقلا عن الكافي قال : لا تأويل ، ولا ندري كان في نسخته كذلك أو صححه ليستقيم المعنى ، وعلى ما في أكثر النسخ من وجود « نعم » فيمكن أن يكون مبنيا على أن سؤال السائل كان على وجه الإنكار والاستبعاد فاستعمل عليه‌السلام نعم مكان بلى ، وهو شائع في العرف ، أو يكون نعم فقط جوابا عن السؤال وذا إشارة إلى ما قال عليه‌السلام في الآية السابقة ، أي هذا تنزيل وذا تأويل وقرأ بعض الأفاضل

__________________

(١) سورة الدهر : ٧.

(٢) سورة الدهر : ٢٣.

(٣) أي في الحديث الرابع.

١٥١

تنزيلا قلت هذا تنزيل قال نعم ذا تأويل قلت « إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ » قال الولاية قلت « يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ » قال في ولايتنا قال « وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً » ألا ترى أن الله يقول « وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (١) قال إن الله أعز وأمنع من أن يظلم أو ينسب نفسه إلى ظلم ولكن الله خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال : « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (٢) قلت هذا تنزيل قال نعم.

______________________________________________________

يعم بالياء المثناة التحتانية وتشديد الميم بصيغة الفعل ، فذا مفعوله وتأويل فاعله ، أي هذا داخل في تأويل الخبر ، والقول بزيادة نعم من النساخ أولى من هذا التصحيف.

« إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ » أقول : المفسرون أرجعوا الإشارة إلى السورة أو الآيات القريبة ، ولما ذكر الخاصة والعامة في روايات كثيرة أن السورة نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام فتفسيره عليه‌السلام الإشارة بالولاية غير مناف لما ذكروه ، إذ السورة من حيث نزولها فيهم تذكرة لولايتهم ، والاعتقاد بفضلهم وجلالتهم وإمامتهم ، بل يحتمل أن يكون على تفسيره عليه‌السلام « هذه » إشارة إلى السورة أو الآيات ، ويكون قوله عليه‌السلام الولاية تفسيرا لمتعلق التذكرة أي ما يتذكر بها ، فلا يحتاج إلى تكلف أصلا « في ولايتنا » لا ريب أن الولاية من أعظم الرحمات الدنيوية والأخروية كما عرفت مرارا ولا ريب أن الظلم على أهل البيت عليهم‌السلام وغصب حقهم من أعظم الظلم ، فهم لا محالة داخلون في الآية إن لم تكن مخصوصة بهم بقرينة مورد نزول السورة.

ثم الظاهر من كلامه عليه‌السلام أن المراد بالظالمين من ظلم الله أي ظلم الأئمة وغصب حقهم وإنما عبر كذلك لبيان أن ظلمهم بمنزلة ظلم الرب تعالى شأنه ، والحاصل أن الله تعالى أجل من أن ينسب إليه أحد ظلما بالظالمية أو المظلومية حتى يحتاج إلى أن ينفي عن نفسه ذلك بل الله سبحانه خلط الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام بنفسه ونسب إلى نفسه كل ما يفعل بهم ، أو ينسب إليهم لبيان كرامتهم لديه وجلالتهم عنده ، فقوله تعالى : « وَما ظَلَمْناهُمْ » ليس الغرض نفي الظلم عن نفسه ، بل عن

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٧.

(٢) سورة النحل : ١١٣.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حججه بأنهم لا يظلمون الناس بقتلهم وجبرهم على الإسلام والاستقامة على الحق كما أنهم كانوا يطعنون على أمير المؤمنين عليه‌السلام بكثرة سفك الدماء وأشباهه ، بل هم يظلمون أنفسهم بترك متابعة الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم.

ثم أن تلك الآيات وردت في مواضع من القرآن المجيد ، ففي سورة البقرة « وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » وفي سورة الأعراف « وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ » إلى آخر ما مر بعينه ، وفي هود : « وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ » وفي النحل : « وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » وفي الزخرف « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ».

فالآية الأولى هي ما في البقرة والأعراف ، والثانية هي ما في النحل ، فقوله عليه‌السلام : نعم في جواب هذا تنزيل مشكل ، إذ كون الولاية مكان الرحمة بعيد ، وكون الآية : والظالمين آل محمد ، كما فهم ينافي ما حققه عليه‌السلام من قوله : خلطنا بنفسه « إلخ » إلا أن يقال المراد بالتنزيل ما مر أنه مدلوله المطابقي أو التضمني لا الالتزامي ، أو أنه قال جبرئيل عليه‌السلام عند نزول الآية وفي بعض النسخ : « وما ظلموناهم » في الأخير ليدل على أنه كان في النحل هكذا ، فضمير هم تأكيد ومضمونها مطابق لما في البقرة والأعراف وهو أظهر.

فإن قيل : هذه القراءة تنافي ما في صدر الآية إذ الظاهر أنه استدراك لما يتوهم من أن التحريم ظلم عليهم ، فبين أن هذا جزاء ظلمهم.

قلت : قد قال تعالى في سورة النساء : « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً » الآية ، فيحتمل أن يكون هذا لبيان أن ظلمهم الذي صار سببا لتحريم الطيبات عليهم لم يكن علينا أي على أنبيائنا

١٥٣

قلت : « وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ » قال يقول ويل للمكذبين يا محمد بما أوحيت إليك من ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ » قال الأولين الذين كذبوا الرسل في طاعة الأوصياء « كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » (١) قال من أجرم إلى آل محمد وركب من وصيه ما ركب قلت « إِنَّ الْمُتَّقِينَ » (٢) قال نحن والله وشيعتنا ليس على ملة إبراهيم غيرنا وسائر الناس منها

______________________________________________________

وحججنا ، بل كان على أنفسهم حيث حرموا بذلك طيبات الدنيا والآخرة ، ولعل هذا أفيد ، فخذ وكن من الشاكرين.

« وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ » الآية في سورة المرسلات قال : « وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ، وَيْلٌ » ( إلخ ) ويوم الفصل يوم القيامة يفصل فيه بين المحق والمبطل.

وقال البيضاوي : ويل في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعل ، عدل به إلى الرفع للدلالة على بيان الهلك للمدعو عليه ، ويومئذ ظرفه أو صفته « أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ » كقوم نوح وعاد وثمود « ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ » أي ثم نحن نتبعهم نظراءهم الكفار وقرأ بالجزم عطفا على نهلك ، فيكون الآخرين المتأخرين من المهلكين كقوم لوط وشعيب وموسى « كَذلِكَ » مثل ذلك الفعل « نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ » بكل من أجرم ، انتهى.

وفسر عليه‌السلام المكذبين بالذين كذبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أوحي إليه من ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام إما لأنه مورد نزول الآية أو لأن التكذيب في الولاية داخل فيه بل هو عمدته وأشد أفراده وأفظعها ، وكذا الآيات اللاحقة يجري فيها الوجهان ، والظاهر أنه عليه‌السلام فسر الآخرين بهذه الأمة على وفق القراءة المشهورة.

قيل : ليس هو من قبيل عطف الخبر على الإنشاء لأن الاستفهام الإنكاري خبر حقيقة ، ويقال : أجرم إليه إذا جنى عليه وقوله : ما ركب ، عبارة عن غصب الحق وإبطال الوصية ، ثم قال سبحانه في هذه السورة « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَواكِهَ مِمَّا

__________________

(١) و (٢) سورة المرسلات : ١٥ ـ ١٨ و ٤١.

١٥٤

برآء قلت « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ » (١) الآية قال نحن

______________________________________________________

يَشْتَهُونَ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ففسر عليه‌السلام المتقين بالأئمة عليهم‌السلام وشيعتهم ، لأنهم في مقابلة المكذبين الذين عرفت أنهم المنكرون للولاية أو من يعمهم ، ولا ريب أن الإقرار بالولاية مأخوذ في التقوى ، والمنكر للإمامة لم يتق عذاب الله بل استوجبه ، والإقرار بالإمامة داخل في الإيمان فكيف لا يدخل في التقوى الذي هو أخص منه ، وملة إبراهيم ، هي التوحيد الخالص المتضمن للإقرار بجميع ما جاء به الرسل وأصله وعمدته الولاية « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ » الآية في سورة النبإ ، وقال الطبرسي (ره) : اختلف في معنى الروح هنا على أقوال : أحدها أن الروح خلق من خلق الله تعالى على صورة بني آدم وليسوا بناس ولا بملائكة تقومون صفا والملائكة صفا ، قال الشعبي : هما سماطا (٢) رب العالمين يوم القيامة سماطا من الروح وسماطا من الملائكة.

وثانيها : أن الروح ملك من الملائكة وما خلق الله مخلوقا أعظم منه فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا فيكون عظم خلقه مثل صفهم عن ابن عباس وغيره.

وثالثها : أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح إلى الأجساد عن ابن عباس أيضا.

ورابعها : إنه جبرئيل عليه‌السلام قال وهب : إن جبرئيل واقف بين يدي الله عز وجل ترعد فرائصه يخلق الله عز وجل من كل رعدة مائة ألف ملك فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسوا رؤوسهم فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا الله « وَقالَ صَواباً » أي لا إله إلا الله ، وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : هو ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل.

وخامسها : أن الروح بنو آدم وقوله صفا صفا معناه مصطفين « لا يَتَكَلَّمُونَ

__________________

(١) سورة النبأ : ٣٨.

(٢) المساط ـ ككتاب ـ الصف من الناس وغيرهم.

١٥٥

والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صوابا قلت ما تقولون إذا تكلمتم قال نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا قلت « كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ » (١) قال هم الذين فجروا في حق الأئمة واعتدوا عليهم

______________________________________________________

إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » وهم المؤمنون والملائكة « وَقالَ » في الدنيا « صَواباً » أي شهد بالتوحيد وقال لا إله إلا الله ، وقيل : إن الكلام هيهنا الشفاعة ، أي لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن أن يشفع عن الحسن والكلبي ، وروى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن هذه الآية فقال : نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون صوابا ، قلت : جعلت فداك ما تقولون؟ قال : نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا ، رواه العياشي مرفوعا ، انتهى.

وأقول : قد مضى أن الروح خلق أعظم من الملائكة وهو الذي يسدد به الأئمة عليهم‌السلام ، والأخبار الدالة على أن هذه الآية في شفاعة النبي والأئمة صلوات الله عليهم للشيعة كثيرة ، أوردتها في الكتاب الكبير ، وروى محمد بن العباس بإسناده عن أبي خالد القماط عن الصادق عن أبيه عليهما‌السلام قال : إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق من الأولين والآخرين في صعيد واحد خلع قول لا إله إلا الله من جميع الخلائق إلا من أقر بولاية علي عليه‌السلام ، وهو قوله تعالى : « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ » الآية.

« إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ » الآيات في المطففين وقد مر تفسيره في باب خلق أبدان الأئمة قال البيضاوي (ره) أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم « لَفِي سِجِّينٍ » كتاب جامع لإعمال الفجرة من الثقلين ، كما قال : « وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ، كِتابٌ مَرْقُومٌ » ، أي مسطور بين الكتابة أو معلم بعلم من رآه أنه لا خير فيه فعيل من السجن لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس ، أو لأنه مطروح ـ كما قيل ـ تحت الأرضين في مكان وحش وقيل : هو اسم المكان والتقدير ما كتاب السجين أو محل كتاب مرقوم ، فحذف المضاف ، ثم قال سبحانه : « وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ، وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ

__________________

(١) سورة المطففين : ٧.

١٥٦

قلت ثم يقال : « هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » (١) قال يعني أمير المؤمنين قلت تنزيل قال نعم.

٩٢ ـ محمد بن يحيى ، عن سلمة بن الخطاب ، عن الحسين بن عبد الرحمن ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً » (٢) قال يعني به ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام

______________________________________________________

كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ » قالوا : يقول لهم الزبانية.

أقول : لا ريب أن الذين فجروا في حق الأئمة عليهم‌السلام هم أشد الفجار والكفار « يعني أمير المؤمنين » الظاهر منه أن هذا إشارة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو بطن الآية ، أو العذاب المشار إليه لترك الولاية ، أو القائل هو عليه‌السلام ، وكان في التنزيل هنا تأويلا نحوا مما مر في أمثاله ، ويحتمل أن يكون في قراءتهم عليهم‌السلام : هذا أمير المؤمنين الذي كنتم به تكذبون ، والله يعلم.

الحديث الثاني والتسعون : ضعيف وقد مر في التسعين الحسن بن عبد الرحمن والظاهر أن أحدهما تصحيف والحسين غير مذكور في كتب الرجال والحسن مذكور فيه لكن عدوه من رجال الصادق عليه‌السلام وكون هذا راويا عنه في غاية البعد.

« وَمَنْ أَعْرَضَ » الآيات في سورة طه ، حيث قال عند ذكر آدم وحواء عليهما‌السلام ونزولهما من الجنة « قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى » أي لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة « وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي » قال البيضاوي : أي عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي « فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً » ضيقا مصدر وصف به ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وذلك لأن مجامع همه ومطامح نظره يكون إلى أغراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر

__________________

(١) سورة المطففين : ١٦.

(٢) سورة الحجّ : ١٢٤.

١٥٧

قلت « وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى » قال يعني أعمى البصر في الآخرة أعمى القلب في الدنيا عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام قال وهو متحير في القيامة يقول : « لِمَ

______________________________________________________

ويوسع ببركة الإيمان كما قال : « وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ » (١) « وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ » (٢) « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا » (٣) وقيل : هو الضريع والزقوم في النار ، وقيل : عذاب القبر.

« وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى » أعمى البصر أو القلب ، ويؤيد الأول « قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ » أي مثل ذلك فعلت ثم فسره فقال : « أَتَتْكَ آياتُنا » واضحة نيرة « فَنَسِيتَها » فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها « وَكَذلِكَ » أي مثل تركك إياها « الْيَوْمَ تُنْسى » تترك في العمى والعذاب « وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ » بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الآيات « وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ » بل كذبها وخالفها « وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ » هو الحشر على العمى ، وقيل : عذاب النار أي وللنار بعد ذلك « أَشَدُّ وَأَبْقى » من ضنك العيش ، أو منه ومن العمى ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محله وماله أو مما فعله من ترك الآيات والكفر بها ، انتهى.

وفسر عليه‌السلام الذكر بالولاية لشموله لها وكونها عمدة أسباب التذكر والذكر المذكور في الآية شامل لجميع الأنبياء والأوصياء وولايتهم ومتابعتهم وشرائعهم وما أتوا به لكون الخطاب إلى آدم وحواء وأولادهما ، لكن أشرف الأنبياء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكرم الأوصياء وأفضل الشرائع شريعته فتخصيص أمير المؤمنين عليه‌السلام لكونه المتنازع فيه في هذه الأمة.

وروى علي بن إبراهيم بإسناده عن معاوية بن عمار [ الدهني ] قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عن قول الله : « فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً » قال : هي والله للنصاب ، قلت : جعلت فداك قد رأيتهم دهرهم الأطول في كفاية حتى ماتوا؟ قال : ذلك والله في الرجعة يأكلون العذرة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٦١.

(٢) سورة المائدة : ٦٦.

(٣) سورة الأعراف : ٩٦.

١٥٨

حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها » قال الآيات الأئمة عليهم‌السلام : « فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى » يعني تركتها وكذلك اليوم تترك في النار كما تركت الأئمة عليهم‌السلام فلم تطع أمرهم ولم تسمع قولهم قلت « وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى » قال يعني من أشرك بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام غيره ولم يؤمن بآيات ربه وترك الأئمة معاندة فلم يتبع آثارهم ولم يتولهم قلت « اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ » (١) قال ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام قلت « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ » قال معرفة أمير المؤمنين

______________________________________________________

وروى محمد بن العباس في تفسيره بإسناده عن عيسى بن داود النجار عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام أنه سأل أباه عن قول الله عز وجل : « فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى » (٢) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيها الناس اتبعوا هدى الله تهدوا وترشدوا وهو هداي وهداي بعدي علي بن أبي طالب ، فمن اتبع هداي في حياتي وبعد موتي فقد اتبع هداي ، ومن اتبع هداي فقد اتبع هدى الله ومن اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقي « وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ » في عداوة آل محمد.

قوله عليه‌السلام : الآيات الأئمة ، قد مر مرارا أو المراد الآيات النازلة فيهم أو هي عمدتها ، وفسر أكثر المفسرين الإسراف بالشرك بالله وفسر عليه‌السلام بالشرك في الولاية فإنه يتضمن الشرك بالله كما مر.

« اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ » الآيات في حم عسق ، قال البيضاوي : بربهم ، بصنوف من البر التي لا تبلغها الأفهام « يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ » أي يرزقه كما يشاء ، فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته ، وهو القوي الباهر القدرة العزيز المنيع الذي لا يغلب « مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ » ثوابها ، شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل الدنيا ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة ، والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض ، ويقال : للزرع الحاصل منه ( نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها « وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها » شيئا منها على

__________________

(١) سورة فصّلت : ١٨.

(٢) سورة طه : ١٢٣.

١٥٩

عليه‌السلام والأئمة « نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ » قال نزيده منها قال يستوفي نصيبه من دولتهم « وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » قال ليس له في دولة الحق مع القائم نصيب.

باب

فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية

١ ـ محمد بن يعقوب الكليني ، عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن بكير بن أعين قال كان أبو جعفر عليه‌السلام يقول إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية وهم ذر يوم أخذ الميثاق على الذر والإقرار

______________________________________________________

ما قسمنا له « وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ » إذ الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، انتهى.

وأقول : تفسير الرزق بالولاية تفسير للرزق بالرزق الروحاني أو بما يعمه وخص أشرفه وهو الولاية بالذكر لأنها الأصل والمادة لسائر العلوم والمعارف ، ولا يحصل شيء منها إلا بها ، وفسر زيادة الحرث بالمنافع الدنيوية أو الأعم منها ومن العلوم والمعارف التي يلقونها إليهم ، وفسر الآخرة بالرجعة ودولة القائم عليه‌السلام لما مر من أن أكثر آيات البعث والقيامة مؤولة بدولة القائم عليه‌السلام والرجعة فإنها من مباديها.

باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« ميثاق شيعتنا » إنما خص بالشيعة لأنهم قبلوها إذ ظاهر الأخبار أن الميثاق أخذ من جميع الخلق ، وقبلها الشيعة ولم يقبلها غيرهم « وهم ذر » قال الجوهري : الذر جمع ذرة وهي أصغر النمل ، انتهى.

وشبههم بالذر لصغر الأجزاء التي تعلقت بها الأرواح عند الميثاق ، وذلك عند

١٦٠